الفصل العاشر: بقيَّة شعب الله في قلب الويلات

الفصل العاشر

بقيَّة شعب الله في قلب الويلات

بدت الإمبراطوريَّة الأشوريَّة (وبعدها البابليَّة) كأنَّها أداة بيد الله لكي يعاقب شعبه. ولكنَّها تكبَّرت وتشامخت بسبب انتصاراتها. وتجاوزت كلَّ حدٍّ في العنف الذي مارسته، فجاء دورها لأن تنال العقاب، ساعة تنطلق البقيَّة من الناجين من أجل بناء شعب جديد يتوكَّل على الربِّ ولا يعود يتوكَّل على الدول الكبرى. وهكذا نقرأ الفصل العاشر. بعد ويل سابع يصيب يهوذا (10: 1-4)، يرد الويل الكبير على أشور (آ5-19) بهذا الاجتياح الذي يأتي مثل البرق فلا يترك شيئًا في طريقه (آ28-34)، ولكنَّ المجتاح يسقط سريعًا.

10: 1-4 ويل على رؤساء يهوذا

في الفصل السابق، عرفنا أنَّ أفرايم ومنسّى كانتا معًا على يهوذا (8: 20). أهي بقايا الحرب الأرامية الأفرايميَّة؟ ربَّما. ولكن يبقى أنَّ الدمار والسلب وضعف المسؤولين وتقاتل الإخوة، يهيِّئ الدرب للهجمة الأشوريَّة. وهكذا تعاقب يهوذا كما نالت إسرائيل عقابها. والردَّة التي قرأناها في 8: 11، 16، 20 نقرأها في 9: 4: "مع كلِّ هذا لم يرتدَّ غضبه".

غير أنَّ آ1-4 تبدأ مع "ويل" فتذكِّرنا بويلات ستَّة قرأناها في 5: 8-24. هي تكون السابعة والرقم سبعة رقم الكمال والتمام. يعني لا يمكن أن يصيب يهوذا كارثة أكبر من الحاصلة الآن.

من هم الذين ينتظرهم العقاب؟ القضاة أو بالأحرى "المشترعون" (ح ق ق ي م). هم يضعون الشرائع التي تحمل الإثم (أ و ن) والشرّ. ثمَّ "الكتّاب" الذين "يكتبون" (ك ت ب و) الجور والظلم. أربع خطايا: يبعدون صغار القوم عن المحكمة، الأذلاّء، الوضعاء (د ل ي م)، الذين لا سند لهم. الخطيئة الثانية هي السلب. ومن يسلبون؟ "المعنّين" (ع ن ي)، المقهورين. صار اللفظ في اللاهوت الكتابيّ "المساكين" الذين ينحصر انتظارهم في ما يعطيهم الربّ. ومن أين يأخذون "الغنيمة"؟ من الأرامل. ومن ينهبون أخيرًا؟ اليتامى. هل من خطايا أفظع من هذه يقترفها وجهاء القوم في الشعب. فهل يسكت الله، وهل يسكت نبيُّه؟

العقاب آتٍ مثل العاصفة (آ3). لا سبيل للهرب. وخصوصًا، أين تضعون هذه الثروة المغتصبة والتي اعتبرتموها مجدكم؟ حين يأتي العدوّ، أو تمضون "بين الأسرى" فتركعون للفاتح، أو تكونون بين القتلى (آ4). تحذير رهيب! هل يرجعون؟ يبدو أنَّ الجواب هو كلاّ. لهذا "لم يرتدَّ غضبه".

10: 5-19 الويل الكبير على أشور

امتلأ النصف الثاني من القرن الثامن ق.م. بالتهديد الأشوريّ. تغلت فلاسَّر الثالث (747-727). شلمنصَّر الخامس (726-722)، سرجون الثاني (722-705)، سنحاريب (704-681).

نقرأ هنا ثلاث قطع. الأولى (آ5-11) تتحدَّث عن ملك أشور "قضيب غضبي". به أعاقب أوَّل من أعاقب شعبي. الثانية (آ12-15) تبرز العقاب الذي يناله ملك أشور بسبب كبريائه. اعتبر أنَّه صنع كلَّ هذه الأعمال بحكمته وقدرة يده ونسيَ أنَّه فأس في يد الله. القطعة الثالثة (آ16-19): النار في الغابة.

من هو ملك أشور؟ هو قضيب وعصا في يد الله. يستعمله من أجل التأديب. أيُّ ملك هو؟ لا يمكن أن يكون سرجون لأنَّ آحاز لبث خاضعًا للأشوريّين حتّى نهاية عهده (716-715). هذا يعني أنَّنا بعد سنة 717 ق.م. ومهمَّة هذا الملك محدَّدة: عقاب "أمَّة منافقة" (آ6)، فاجرة (ح ن ف). إسرائيل في الدرجة الأولى، ثمَّ يهوذا (آ11): السلب والنهب والإذلال. غير أنَّ الأشوريّ تجاوز ما طُلب منه: أراد أن يبيد جميع الأمم.

وتُذكَر مدنٌ أخذت: كلنو (الشمال السوريّ)، كركميش (على الفرات) حماة (على العاصي)، أرفاد (قريبة من كلنو). وأخيرًا السامرة التي سقطت سنة 722-721، ودمشق التي احتلَّها تغلت فلاسَّر الثالث سنة 732. استندت هذه المدن إلى الأصنام، فهل تكون أورشليم أفضل منها؟

تحدَّى ملك أشور الربَّ، وها هو جواب الربِّ المقيم "في جبل صهيون، في أورشليم" (آ2). أوَّل عمل يقوم به، الدمار الذي به يعاقب المدن الخاطئة (5: 12؛ 28: 21-22). والعمل الثاني: "أعاقب" تكبُّر الأشوريّ بفهمه وسرعة عمله وسيطرته على الملوك ونهب الثروات. قال مثلاً: أزلت (ا س ي ر) الحدود (آ13). صارت البلدان كلُّها مملكة واحدة بسلطة[RK1] واحدة. ثمَّ إذ سبى الشعوب من هنا وأحلَّها محلَّ شعوب أخرى، لم يعد من شعب يستطيع أن يقول إنَّه يقيم في أرضه. وماذا كان الملوك؟ مثل عصافير هربت فأخذ لها الفاتحُ بيضها. أمّا حزقيّا، ملك يهوذا المحاصر في أورشليم، فكان مثل عصفور في قفص، كما قالت حوليّات سنحاريب[RK2] .

وتدخَّل النبيّ فذكَّر الملك بأنَّه أداة. وحدَّد له: أنت فأس، أنت منشار، أنت قضيب. أنت عصا. اعرف اليد التي تمسك بك. فهذا الملك يقلب الأدوار: هل العصا ترفع اليد التي ليست خشبًا (ع ص)؟

ونصل إلى النار في الغابة (آ16-19). الغابة تدلُّ على أشورية التي تبقى منها بقيَّة على غرار ما حصل لشعب الله. أجل، لن يزول شعبٌ كلِّيًّا عن الأرض، بالرغم ممَّا يستحقُّه من عقاب. أمّا العقاب فيأتي من الربّ، الذي هو نار محرقة. وتكون أداته "إسرائيل". هو نور يتحوَّل إلى نار تُحرِق ولا تُبقي إلاَّ القليل.

10: 20-27 بقيَّة تعود

"في ذلك اليوم" (آ20). هو يوم يأتي والربُّ وحده يعرف متى. المهمّ أن يبقى الأمل في القلوب بالرغم من المناخ الذي يعيشون فيه. وهكذا تكون آ20-23 قول تعزية وخلاص. في الماضي، أراد ملوك يهوذا (وخصوصًا آحاز) أن يستندوا إلى "ضاربهم" (م ك ه و)، أي إلى الأشوريّين الذين هم "قضيب وعصا" في يد الربّ (آ5-6). أمّا الآن فالوضع تبدَّل. وشعب يهوذا يتوكَّلون على الربِّ الذي يحامي عنهم. ولكن لا كلّهم، بل بقيَّة من الناجين. مرَّتين يعود اسم ابن إشعيا: ش ا ر. ي ش و ب: بقيَّة ترجع (آ21، 22). فابن إشعيا هو "آية" لها دورها في وضع سياسيّ محدَّد. واسمه يدلُّ على "ناجين"، على "عائدين"، على "تائبين". وهكذا لن تكون المحنة قاتلة، بل نداء إلى التوبة.

من جهة، مهما سادَ الخراب والفناء، فبقيَّة تنجو وتستند إلى الربّ. ومن جهة ثانية، ولو صار عددُ الشعب مثل الرمل على البحر (تك 22: 17)، فبقيَّة فقط تعود. فالعدل يفيض مثل النهر في الربيع فيعاقب العديدين. ولكنَّ الله هو في النهاية إله الخلاص.

"ولكن... لا تخف" (آ24). فالشعب ما زال خائفًا ممّا يمكن أن يحصل له من تهديد أشوريّ: القضيب، العصا. وذلك كما كان للعبرانيّين خلال عبوديَّة مصر. لا مجال بعد للخوف. أوَّلاً، الله تكلَّم وحين يتكلَّم يفعل. وهنا يزيل الخوف من قلب شعبه "الساكن في صهيون"، يعني في حماية الربّ. أمّا الغضب فانتقل من على شعب الله إلى الشعب الأشوريّ. ضرب الأشوريُّ بالقضيب، والآن الله هو الذي يضرب الأشوريّ بعد أن يحطِّم له قضيبه. يضرب بالسوط (ش و ط). والضربة تكون قاتلة كما حصل لحوريب بعد حرب مديان (قض 7: 25). رفع المحتلُّ عصاه على الشعب، أمّا الله فرفع "عصاه على البحر". لم تعد العصا عصا العبوديَّة والضيق، بل عصا الحرِّيَّة. لا مكان بعد لحمل القفَّة في أعمال السخرة. زال النير عن الكتف (9: 3). بل إنَّ هذا النير "يُتلَف" أمام ذاك الذي سمن (ش م ن) في الماضي حين سلب الأرض، وصار الآن هزيلاً (آ16) بعد أن زال مجده وغناه.

10: 28-34 اجتياح وسقوط

يصوِّر النبيّ الاجتياح الأشوريّ السريع كالبرق، غير أنَّ كلَّ هذه الكبرياء تسقط بيد الله القدير. في آ28-32 تصوَّر المسيرة التي ابتدأت إلى الشمال من أورشليم فعبرت في الوديان ودارت حول المواقع الدفاعيَّة إلى أن جاءت تهدِّد "أكمة أورشليم".

ذكر "عيَّاث" التي هي العاي أو التلّ، القريبة من بيت إيل. ثمَّ "مجرون" الواقعة بين جبع ومخماش (التي تُدعى اليوم مخماس). المعبر هو وادي سوينيط... وتتواصل الأماكن: جبع، الرامة، جبعة شاول، بنت جليم، ليشة، عناتوت (موطن النبيّ إرميا) التي تبعد فقط 5 كلم إلى الشمال الشرقيّ من أورشليم. وأخيرًا "جبل بنت صهيون".

سرعة كبيرة. ينادي المدينة فتسقط... فأين مصير أورشليم. ونستطيع أن نفكِّر بحصار المدينة سنة 701. ولكن جاء الربُّ (يهوه). هو السيِّد (ه أ د و ن) مع جيشه (ص ب أ و ت). الغصن العالي قضَّبه، قطعه. الطوال القامة "جُدعوا" (ج د ع). قُطع منهم الأنف والرأس. وأخيرًا، المتعالون انحطّوا، صاروا إلى أسفل (ش ف ل). صاروا مثل الحطب الذي تقطعه الفأس، يقطعه الحديد (ب ر ز ل). فماذا بقي من جبل لبنان وأرزه؟ هكذا لم يبقَ من الأشوريّين إلاَّ القليل. صاروا شعبًا مثل سائر الشعوب، فيمكن أن يهتمَّ بهم الربّ اهتمامه بشعبه (19: 26: هم مباركون أيضًا).

نال العقاب إسرائيل ومثله يهوذا. والأشوريّون أيضًا لم يسلموا من يد الربِّ لأنَّهم تجاوزوا الحدود. في النهاية، بقيت بقيَّة من إسرائيل مهما هدَّد الأشوريّون، وأورشليم نجت مع أن سرعة الجيش الأشوريّ فاقت كلَّ تقدير. فالربُّ هو الذي فعل، والربُّ يفعل. وفي النهاية، ماذا يستطيع البشر؟

 


[RK1]أو تحت سلطة...

[RK2]مرجع؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM