الفصل الثلاثون الحكم الفارسي

الفصل الثلاثون

الحكم الفارسي

أتاحت انتصارات كورش لليهود المنفيّين في بابلونية أن يعودوا إلى بلادهم. فالذين استفادوا من القرار المحرّر الذي أعلن سنة 538، سيحاولون أن يخلقوا جماعة "وطنية" في فلسطين. ولكن الأمور لم تعد كما في السابق. فالاستقلال ضاع. وفلسطين صارت كلها مقاطعة صغيرة في امبراطورية واسعة، وعلى الجماعة اليهوذاوية أن تعيش في هذا الاطار السياسي الجديد: تحافظ على حقوقها المدنية والدينية، تحمي إيمانها وتقاليدها، وتتعامل مع إدارة نظمها الفرس شيئاً فشيئاً حتى سيطرت على كل مقاطعات الامبراطورية.
سمّي هذا المنعطف في تاريخ شعب الله: الحقبة الفارسية، وهو سيمتد من سنة 538 إلى سنة 332 (أي: 200 سنة ونيّف). شكّلت فلسطين بموقعها الجغرافي منطقة حدودية بين مصر والامبراطورية الفارسية. حاول الفرس مراراً أن يحتلّوا مصر، وهذا ما ساعد شعوب فلسطين الصغيرة أن تلعب دوراً لا يتناسب وصغر حجمها.

أ- حكم كورش (551- 530) والعودة من المنفى
بعد أن انتصر كورش على بابل (سنة 539)، ورث من دون حرب مناطق سيطر عليها البابليون في غربي الفرات، أي سورية وفلسطين، حتى حدود مصر التي أقاموا معها علاقات ودية. أما في الشرق فوصلت جيوش الفرس إلى البنجاب على نهر الهندوس.
إستفاد اليهود من قرار كورش سنة 538، فانطلقت قافلة أولى إلى اليهودية بقيادة ششبصّر المتحدّر من سلالة داود، وتبعتها قوافل أخرى. ممّن تألّفت هذه المجموعات؟ إذا عدنا إلى اللوائح المحفوظة في سفرَيْ عزرا ونحميا، لاحظنا أن عدد الكهنة الذين عادوا الى البلاد كان كبيراً جداً (عز 2: 36- 39؛ نح 7: 39- 42)، فاهتموا بإعادة بناء الهيكل وتنظيم الخدمة الليتورجية التي توقّفت بسبب المنفى. أما اللاويون الذين جعلهم إصلاح حزقيال (44: 10- 14) في الدرجة الثانية بالنسبة إلى الكهنة، فلم يهتموا بالعودة (عز 2: 40؛ نح 7: 43). ورجع عدد كبير من العبيد والخدم او النتينيم (يعملون في تنظيم الهيكل، عز 8: 20). فلا خسارة لهم في مغامرة العودة (عز 2: 43- 58؛ نح 7: 46- 60). إذن، لعبت المنافع الاقتصادية دوراً في العودة لم يلعبه المثال الديني. فكم من عائلة غنيّة ظلّت في أرض المنفى واكتفت بأن ترسل إلى فلسطين العون المالي.
إصطدم اليهود العائدون بصعوبات عديدة. فاليهودية تابعة للسامرة من الناحية الادارية. والناس الذين ظلوا في البلاد خافوا أن يطردهم الواصلون من أرض وضعوا أيديهم عليها. لهذا، سعوا بكل الوسائل أن يمنعوا محاولات إعادة بناء الهيكل وتنظيم الجماعة. تألّف السكان المحلّيون ("أهل الارض") من اسرائيليّين قدماء إمتزجوا بمستوطنين جاء بهم في الماضي الملوك الاشوريون. حافظ هؤلاء المستوطنون على عباداتهم القديمة وتبنّوا التعبّد للرب. لهذا أرادوا أن يشاركوا في إعادة بناء الهيكل. ولكن أحس العائدون أن ديانتهم هي مزيج وخليط، وهي بالتالي تشكّل خطراً على الشعب، فرفضوا عونهم. ثم إن أهل البلاد عارضوا مشاريع إعادة بناء اورشليم (عز 4: 1- 5).
تلك كانت الصعوبات السياسية. أما الصعوبات الاقتصادية التي واجهها العائدون، فقد كانت هي أيضاً عديدة جداً: لا مال، لا امكانيات مادية، جفاف ونقص في المواد الغذائية. أعاد المؤمنون بناء المذبح ومهّدوا موضع الهيكل، ولكنهم توقفوا عن العمل حتى سنة 520 (عز 4: 5- 24). وهكذا تبدّل حماس العودة إلى يأس وخيبة أمل.

ب- كمبيز وداريوس الأول
ترك كورش لابنه كمبيز (530- 522) مجموعة من الشعوب والأعراق والألسن. وحاول كمبيز أن يوسّع الامبراطورية باحتلاله مصر. إنتصر سنة 525. ولما أراد أن يضمّ الحبشة وواحات ليبيا، فشل. حينذاك إندلعت ثورة في ايران. دماذا كان كمبيز عائداً إلى بلاده، مات في سورية.
وعلى أثر موت كمبيز، اندلعت حرب أهلية قمعها داريوس الأول (522- 486) خلال سنتين. ثم اهتم بتنظيم الإدارة، فقسم الامبراطورية إلى 20 مقاطعة، يحكم كل واحدة مرزبان يعاونه سكرتير للأمور الادارية وضابط للأمور العسكرية. إستقلّ هؤلاء الاشخاص الثلاثة الواحد عن الآخر، وتسلّموا أوامرهم مباشرة من القصر، فوجب عليهم أن يراقب الواحد الآخر. وكلّف موظفون آخرون بالتحقّق في فترات معيّنة من أعماله الارادة وولاء المرزابة. يهمنا في هذا التقسيم المقاطعة الخامسة التي شملت سورية وفينيقية وفلسطين بما فيها اليهودية.
وشرع داريوس الأول في بناء طرق تؤمّن الاتصالات السريعة في امبراطوريته الواسعة وتساعد على نموّ التجارة بتخفيض مصاريف النقل. فالطريق الملكية التي كان طولها 2700 كلم والتي كان قسم منها مبلّطاً، ربطت العاصمة شوش بسرديس ثم بأفسس على المتوسط. كانت القوافل تقطع هذه المسافة في 90 يوماً، والبريد الملكي في تسعة أيام. وزّعت المحطات على طول الطريق، والحاميات العسكرية في المواضع الستراتيجية، وبنيت الجسور العديدة. وأمّنت نقاط المياه على الطريق التي تربط بابل بمصر عبر شمال الامبراطورية. وتنظّمت الملاحة على الأنهر: أرسل سيلاخ ليتعرّف إلى منابع الهندوس. ونمت التجارة البحرية بين مصر والخليج الفارسي والهند. وبدأ داريوس بحفر قنال يربط المتوسط بخليج السويس، ولكن الأعمال توقّفت.
فُرضت جزية منتظمة على كل مقاطعة، من أجل تمويل هذه المشاريع، من أجل مصاريف الجيش والقصر الملكي، من أجل بناء قصر في شوش. كانت تدفع هذه الجزية مالاً ومواد فتصل مثلاً بالنسبة إلى فينيقية وفلسطين وقبرص إلى ما يقابل 50 مليون دولاراً. ولكن هذه الضرائب الفاحشة أفقرت المقاطعات وخلقت تضخّماً مالياً في كل مكان: من كورش إلى داريوس الأول زاد سعر الأراضي المزروعة خمسين في المئة، وأجار البيوت 25 في المئة. ولن يتوقّف التضخّم عند هذا الحدّ. وهكذا تكوّنت بورجوازية اغتنت وزاد غناها بفضل التسهيلات التي تحدّثنا عنها، وعرف الشعب فقراً وصل إلى العوز والفاقة. وهذا ما تشهد عليه صفحات بيبلية: نح 5: 1- 5؛ أش 58: 1- 12؛ أي 24: 1- 11.
ووسّع داريوس الأول امبراطوريته، فضمّ اليها تراقية ومملكة مكدونية. ولكن الحملة على اليونان فشلت في مراتون سنة 490.
في أيام داريوس أعيد بناء هيكل اورشليم. فقاد زربابل (من نسل داود) ويشوع (الكاهن الأعظم) قافلة جديدة من العائدين. وساندهما نبيان هما حجاي وزكريا. ورغم مقاومة حاكم السامرة، ثبّت داريوس قرار كورش. وبدأ العمل في الهيكل سنة 520 وانتهى سنة 515 (عز 5- 6). سمّي الهيكل الثاني. بدا حقيراً بالنسبة إلى الهيكل الذي بناه سليمان (حج 2: 3). سيكبّره هيرودس الكبير منذ سنة 19 ق. م. ولن تنتهي الاعمال إلا سنة 64 ب. م. (يو 2: 20).
خلال قلاقل اندلعت على اثر موت كمبيز، حلمت مجموعة من اليهود المتشيّعة لسلالة داود، بتكوين وطن مستقل (حج 2: 20- 23). ولكن تبخّر هذا الأمل مع انتصارات داريوس. وأخذ الكهنة يديرون الجماعة وعلى رأسهم عظيم كهنة (زك 3: 1- 10؛ 6: 9- 13).

ج- أحشويرش وأرتحششتا الأول
مات داريوس الأول فاندلعت قلاقل جديدة في الامبراطورية ولا سيما في مصر وفي بابل. وثارت بعض المقاطعات في أيام أحشويرش (486- 465)، فدلّت انها لم تعد تتحمّل أعباء المملكة. تغلّب أحشويرش على كل هذه الثورات، ولكنه لم ينجح في احتلال اليونان. هزم في سلامين وبلاتيس سنة 479 وعلى نهر اوريميدون سنة 469.
وبعد أن اعتلى ارتحششتا الأول (464- 424) العرش، ثارت مصر سنة 460 بمساندة أسطول أثينة. أعاد الملك الهدوء الى مصر ولكن بعد حرب دامت ست سنين.
حاول اليهود أن يعيدوا بناء أسوار أورشليم. إشتكت عليهم سلطات السامرة وأظهرت هذا العمل وكأنه محاولة تمرّد واستقلال، فأمر أرتحششتا بتوقيف الأعمال (عز 4: 7- 23؛ نح 1: 1- 3).
وأراد البلاط الفارسي أن يتأكد من ولاء هذه المنطقة المحاذية لمصر. فكلّف الملك سنة 445، أحد موظفيه (نحميا اليهودي) بمهمة رسمية. عليه أولاً أن يعيد تنظيم اليهودية وجعلها ولاية يحكمها والٍ مستقل عن إدارة السامرة. وثانياً أن يعيد بناء أسوار أورشليم (نح 2: 1- 8). سارت الأعمال على أحسن ما يرام رغم معارضة السلطات في المناطق المجاوة (نح 1: 11- 4: 17). واستفاد نحميا من إقامته في اليهودية فمنع القروض بالفائدة، لأنها كانت تجعل المديونين الذين لا يدفعون عبيداً للكبار (نح 5: 1- 13). أين العدالة الاجتماعية بعد روح الاخوة لدى العائدين من المنفى!
وأوكل نحميا سنة 433 بمهمة ثانية في اليهودية. فاصطدم من جديد بسلطات المناطق المجاورة كما اصطدم برئيس الكهنة في أورشليم الذي ارتبط بهذه السلطات بمنافع مادية وزواجات (نح 6: 17- 19؛ 13: 4- 30). بدأ نحميا بعدد من الاصلاحات فطرد الغرباء، ومنهم طوبيا، حاكم السامرة وضيف عظيم الكهنة (نح 13: 1- 9). وأمّن دخلاً للاويين الخادمين في الهيكل (نح 13: 10- 17)، وفرض احترام السبت (نح 13: 15- 22)، وسعى لإيقاف الزواج من الغرباء (نح 13: 23- 28).
كان نحميا مؤمناً لا يعرف المساومة. كان من العوام (غير كاهن) فلم يخف من توبيخ الكهنة مستنداً إلى شرائع سفر التثنية. فالتقى في هذا المجال مع ملاخي الذي لاحظ في الوقت عينه حالة الانحطاط. لدى الكهنة (ملا 2: 1- 9). وهكذا نفهم معارضة الكهنة لنحميا (تهمهم سلطتهم بعد أن تلوّثت سمعتهم في التعامل مع طوبيا) الذي أعلن أنه لم ينتفع من وظيفته كحاكم ليغتني على حساب الشعب (نح 5: 14- 18).

د- داريوس الثاني، أرتحششتا الثاني وآخر ملوك الفرس
وتمرّدت مصر من جديد. حاول داريوس الثاني (424- 404) أن يقمع التمرّد، ولكن محاولته باءت بالفشل. وهكذا تحرّرت هذه المقاطعة تدريجيّاً من سلطة الامبراطورية. وكانت مستوطنة عسكرية مؤلفة من مرتزقة يهود أقاموا على النيل في الفنتين (جزيرة الفيلة)، فدمّر الشعب هيكلها لأنها أرادت أن تبقى على ولائها للملك الفارسي. وقد اكتشفت في هذا المكان وثائق تعطينا معلومات عن هذه الحقبة المضطربة.
ما استطاع ارتحششتا الثاني (404- 359) أن يمنع مصر من إستعادة استقلالها حوالي سنة 400. لهذا، حاول أن يعيد تنظيم فلسطين. ففي السنة السابعة لملكه (أي سنة 398) أرسل سكرتيره الرسمي (عزرا الكاهن اليهودي) وأوكله بمهمة توحيد السامرة واليهودية على أساس وحدة دينيّة. فاليهود والسامريون يعبدون الرب الذي يسمّيه الفرس "إله السماء". ومنحهم أرتحششتا وضعاً خاصّاً شرط أن يتّحدوا حول معبد أورشليم وعظيم الكهنة فيه. هذا الوضع الجديد الذي سمّي "شريعة إله السماء" (عز 7: 21) يهدف إلى إعادة تنظيم شعائر العبادة (عز 7: 15- 23) تحت امرة الكهنة وخدّام الهيكل المعفَين من الضرائب (عز 7: 24).
وشريعة الدولة هذه جاءت تكفل نصوصاً قديمة وتزيد شرائع عبادية عُمل بها في الهيكل الثاني. فهي تؤمّن الحقوق عينها للمواطنين والغرباء المقيمين في فلسطين (لا 22:24) عكس شرائع تث 23: 3- 8 التي اتّبعها نحميا.
كان باستطاعة عزرا أن يصالح اليهود والسامرين برئاسة كهنوت اورشليم. قبل الكهنة بهذا الاصلاح لانه يعود لصالحهم. ولكن جاءت المعارضة من اللاويين والعوام (عز 10: 5). فاللاويون صاروا خدّام الكهنة لا مساوين لهم. لهذا لم يرافق عزرا أحد من بني لاوي (عز 8: 15- 20). ومع ذلك، سيطر عظماء الكهنة على الحياة الدينيّة في الجماعة اليهودية. والسامريون الذين تصالحوا فترة وجيزة مع اليهود أخذوا بتشريع عزرا وأسفار موسى الخمسة كما "نشُرت".
ووجب على أرتحششتا الثالث (359- 337) أن يقمع ثورات مقاطعتي سورية وآسية الصغرى. واستعاد مصر سنة 343. وقامت المنازعات على السلطة بعد موته. وما ان اعتلى داريوس الثالث (335- 331) العرش، حتى سقط أمام الاسكندر الكبير الذي اجتاح الامبراطورية الفارسية.

هـ- تحوّلات في العالم اليهودي
إن هذا التاريخ القلق الذي عاشه الشعب اليهودي خلال الحقبة الفارسية يتيح لنا أن نفهم التحوّلات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية في الجماعة اليهودية، وهي تحوّلات أثّرت على كتابات بيبلية ظهرت في تلك الحقبة.

1- انتظار ملك مسيح
أعلن أشعيا الثاني أن كورش، الملك الوثني، هو "مسيح مخلّص" (إختاره الله ليخلّص شعبه)، فلمِ يعد الناس يثقون بانتظار ملك مسيح يتحدّر من داود. وُضعت بعض الامال في ششبصر ثم زربابل اللذين هما من نسل داود، ولكن هذه الامال انطفأت بسبب التسلّط الفارسي الذي لم يترك للشعب اليهودي أي حظ ياستعادة الاستقلال الوطني. فكل محاولة في هذا الخط كانت موضع شك حتى عند شخص من العوام هو نحميا (نح 6: 5- 7). غير أن غياب السلطة المدنية جعلت المجال مفتوحاً أمام كل المحاولات.
2- سلطة الكهنة
فشهدنا حينئذ صعوداً بطيئاً لسلطة الكهنة. كانوا كثيرين في قوافل العائدين، فاستفادوا من القوى التي عملت في بناء الهيكل ليدعموا سلطتهم بشكل متصاعد. حلّوا محل السلطة المدنية الغائبة، فأتاحوا للشعب أن يحافظ على استقلال ذاتي في ظل سلطة أجنبية، وأن يمارس إيماناً لا تسنده بُنى دولة مستقلّة.
فلولا الكهنة والهيكل والتقاليد الدينية، لكانت الجماعة ضاعت وذابت. فسلطة الكهنة مع رئيسهم لم تكن فقط سلطة روحية. فمعاهداتهم مع سلطات السامرة والمناطق المجاورة دلّت على تأثيرهم في الحياة الاقتصادية والسياسية. وسيندّد الانبياء بانغمالس الكهنة في مثل هذه لا السياسة" (أش 56: 9- 12؛ ملا 1: 6- 2: 9)، كما ندّد سابقوهم بأعمال الملوك والعظماء قبل المنفى.

3- وضع الشعب
لم يكن وضع صغار القوم في ظلّ هذه السلطة الجديدة أفضل مما كان عليه في السابق. فالضرائب القاسية التي فرضها ملوك الفرس، والبحث عن الغنى السريع لدى البورجوازية منذ أيام داريوس الأول، والتضخم المتصاعد، كل هذا جعل الشعب في حالة سيّئة جداً. فالآلة الادارية الضخمة التي نظّمتها السلطة الفارسية لم تكن تتسامح مع أحد. ولهذا سنرى اناساً يدافعون عن المساكين مثل نحميا (نح 5: 1- 13) واشعيا الثالث (أش 57: 1؛ 58: 1- 12؛ 61: 1- 2)، وحكيم مثل صاحب سفر أيوب (أي 24: 1- 11).

4- تأثير الايمان
وتبع هذا الوضع خيبة أمل ولّدت الشكّ بفاعلية الايمان وبأهمية الثقة بالله. هذه التساؤلات نجدها عند الانبياء (ملا 2: 17؛ 3: 13- 15؛ أش 59: 1؛ 66: 5)، في مزامير ألّفت في تلك الحقبة فأشارت إلى قلق وطني (مز 86: 5- 8؛ 94: 1- 7) أو إلى ضياع لدى الأفراد (مز 10: 1- 13؛ 14: 1- 4؛ 72: 2- 13).
عاش الشعب وضعاً من الفقر والذلّ، فتساءل عن سرّ الامل. وحاول ان يفهم نتيجة خيانات الشعب: حينئذ توسّعت صلوات وليتورجيات التوبة (عز 9: 1- 15؛ نح 1: 4- 11؛ 9: 1- 37؛ أش 59: 1- 20؛ 63: 7- 64: 11؛ يوء 2: 15- 17).
ووُلدت مجموعات من الأتقياء سمّت نفسها "مساكين الرب". قبلوا الألم والفقر لقاء حياة حميمة مع الله لا يحطّمها حتى الموت (مز 37؛ 49؛ 73). وسيرفع أيوب صوته أمام الله حين يرى آلام الأبرياء.
5- الشمولية
ضاع اليهود في هذه الامبراطورية الفارسية، إلا أنه كان لهذا الوضع حسنات: فتحهم على الشمولية ومنعهم من الانغلاق على ذواتهم. فأهلهم يقيمون في بابلونية أو في مصر. وتمّ بين هذين القطبين تبادل، فارتسمت الوحدة في قلب الشتات لا على مستوى الأرض، بل على مستوى الايمان الواحد والتقاليد والعادات الواحدة، بانتظار الاسفار البيبلية الواحدة. غير أن أرض الآباء والهيكل ظلاّ حتى لليهود البعيدين عن فلسطين نقطة يعودون إليها ليحيوا إيمانهم. واعتاد المؤمنون فيما بعد أن يحجّوا إلى الارض المقدسة وأن ينهوا حياتهم في أورشليم (أع 2: 5- 11).
هذه الشمولية هي أساس بعض مؤلفات تلك الحقبة: يونان، راعوت، أيوب، بعض مجموعات سفر الامثال. وسيظهر تأثير الديانة الفارسية في الدور الذي أعطي للملائكة والشياطين في الأدب البيبلي في ذاك الوقت. والأرامية التي كانت لغة الامبراطورية الرسمية، صارت شيئاً فشيئاً اللغة المحكية في فلسطين. بل سيطرت على عبرية بعض الاسفار البيبلية، وهذا ما يساعدنا على تحديد الزمن الذي كتبت فيه. ولا ننسى أن يسوع نفسه حدّث الناس بالارامية.

6- الكتابات البيبلية
وأحسّ الشعب بضرورة تماسكه بتعلّقه بالإيمان، بأمانته للتقاليد الدينية بعد أن غاب كل سند سياسي أو وطني. لهذا برزت الكتابات البيبلية. فقام نشاط أدبي كبير فجمع أسفار الشريعة في البنتاتوكس، ثم أسفار الانبياء والمزامير. أعيدت قراءة هذه الكتب وأوّنت بالنظر إلى المسائل المستجدّة التي طرحت على الجماعة. ويبدو أن عزرا الكاهن والكاتب لعب دوراً كبيراً في هذا المجهود لجمع ما سيُسمّى فيما بعد: بيبليا أي الكتب (المقدسة) والكتاب المقدس.
وقراءة التوراة مع الشروح والصلوات والمباركات ستصبح نواة الليتورجيا في المجامع. فالمجمع هو في الوقت عينه جماعة الصلاة والمكان الذي فيه تلتئم هذه الجماعة. ولنا مثال عن هذا الاجتماع للصلاة في نح 8: 1- 8. وستنتشر "بيوت" الصلاة في أيام الفرس، وتصبح ضرورية ليهود الشتات البعيدين عن الهيكل، بل لليهود العائشين في فلسطين نفسها. فكلمة الله التي يقرأها الشعب ويتأمل فيها صارت قلب التقوى اليهودية التي يعبّر الشعب عنها في مزامير تنشد في ذاك الزمان جمال شريعة الله (مز 1؛ 19: 8- 15؛ 111؛ 112؛ 119).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM