الفصل الحادي والثلاثون الأدب النبوي

الفصل الحادي والثلاثون

الأدب النبوي

عرف النتاج الأدبي خلال الحكم الفارسي اتجاهين إثنين. من جهة، برزت مؤلفات صغيرة هي مجموعات من وثائق تاريخيّة، هي كتب أنبياء، هي أسفار حكمة. ومن جهة ثانية، عرفت هذه الحقبة عمل "نشر" ما دوّن سابقاً، وجمعاً لتقاليد الماضي. وهكذا تكوّنت مجموعة الامثال والنسخة النهائية لسفر ارميا، وربما اشعيا، واسفار موسى الخمسة والمزامير.
نتحدّث في هذا الفصل عن الأدب النبوي مع حجاي وزكريا وعوبديا وملاخي ويوئيل. ونترك الى فصلين لاحقين الكلام على الأدب الحكمي وسفر المزامير.

أ- حجاي
يفهمنا سفر حجاي أن النبي تدخّل في حياة الشعب بين شهر آب وشهر كانون الاول سنة 520. فموت كمبيز سنة 522 ولّد عدم استقرار في السياسة، وحرّك. الأمل باستقلال وطني في يهوذا (حج 2: 6، 20- 22). وصل زربابل، وهو من أصل ملكي، ومعه قافلة من العائدين. أيكون هو داود الجديد؟ فأثار حجاي الحماس في الناس ليعيدوا بناء الهيكل بانتظار عودة ملكية داود (حج 2: 23). ولكن ذاك كان حلماً.

ب- زكريا
يبدو أن سفر زكريا مؤلّف من كتيبّين مستقلين جُمعا معاً فيما بعد.

1- زكريا الاول (ف 1- 8)
أخذ زكريا المشعل من حجاي في تشرين الاول سنة 520 (1: 1)، وامتد نشاطه حتى تشرين الثاني سنة 518 (7: 1). وجب عليه أن يواجه وضعاً سياسياً آخر: عاد الهدوء إلى البلاد بعد انتصارات داريوس (1: 11) فضاعت الآمال بالاستقلال، وحلّ محلّها اليأس وخيبة الأمل. فنتج عن ذلك في داخل الجماعة عودة إلى الظلم الاجتماعي والرشوة في المحاكم (5: 3-5؛ 8: 10- 17).
نُشر الكتاب بعد أن وضعت فيه اللمسات الاخيرة في الحقبة الهلينية، وزيدت عليه المقدمة (1- 2- 6). وهكذا اشتمل الكتاب على رؤى (1: 7- 6: 15) وخطب (ف 7- 8).

أولاً: الرؤى
تعود الرؤى إلى شهر شباط سنة 519 (1: 7)، وقد كانت في الاصل سبع رؤى. دوّنت الأولى (1: 7- 17؛ 2: 1- 4؛ 2: 5- 9) والأخيرة (5: 1- 4؛ 5: 5- 11؛ 6: 1- 8) لتشجّع الجماعة التي خاب أملها أمام الوضع الجديد. وهي تحيط برؤية 4: 1- 4 التي تتحدّث عن المسؤولين عن الشعب في زمن النبي: زربابل المتحدّر من نسل داود. ويشوع عظيم الكهنة. دُعي الاول لينال التكريس الملكي والثاني التكريس الكهنوتي. وهكذا تطلّع زكريا إلى حكم يشارك فيه الأمير والكاهن.
ولكن حين تبخّر حلم إعادة الملكية، صار رئيس الكهنة الرئيس الحقيقي للجماعة. حينئذ زيدت رؤية ثامنة (3: 1- 10) تدل على المكانة المتزايدة التي احتلها كهنة أوكلوا أولاً بادارة أمور الهيكل. ثم إن فعلة التتويج عنت أولاً زربابل، ثم انتقلت إلى يشوع، عظيم الكهنة (6: 9- 15). تدلّ هذه اللمسات على أن القول النبوي أوّن ليعطي صورة حقيقية عن الوضع الجديد.

ثانياً: الخطب
تبدو الخطب بشكل جواب يقدّمه النبي على سؤال طرح عليه: هل نحافظ على أيام الصوم التي تتذكر سقوط أورشليم ودمار الهيكل الاول سنة 587؟ أجاب زكريا: يجب ان تكون هذه الايام أيام عيد (8: 19). غير أن العيد لن يكون حقيقياً إلا إذا عمل كل واحد على بناء ظروف حياة إجتماعية عادلة في البلاد (8: 1- 17).

2- زكريا الثاني (ف 9- 14)
يبدو زكريا الثاني مرتبطاً بدخول الاسكندر الكبير على مسرح الشرق الأوسط.

أولاً: لو تدخّل الله
أثار وصول اليونانيّين وسقوط الفرس نفحة أمل لدى الشعب اليهودي: فقد رأوا في هذا التحوّل علامة على تدخل الله. وأمل زكريا هو أيضاً. إلا أن خبرة الأجيال القديمة علّمته أن لا ينتظر اصلاحاً يقوم به البشر. لهذا تطلّع إلى تبدّل كامل ونهائي تكون المبادرة فيه لله وحده.
إذن، أراد زكريا بكتابه أن يوجّه أمل شعبه، وهذه الامل اسمه "المسيحانية". فالله يفعل بواسطة شخص يختاره ويمسحه بالزيت فيكون مسيحه ومرسله.

ثانياً: أمل جديد
أنشد زكريا الثاني الأمل الجديد الذي يدغدخ الشعب اليهودي، بطريقة شعرية لا بشكل منطقي. ونحن نكتشف في كتابه قسمين:

* الأول، ف 9- 11
إن إعادة بناء يهوذا تمرّ بتنقية الشعوب المجاوة (9: 1- 8) وتحرير الأسرى (9: 11- 17؛ 15: 3- 12). وهذا البناء هو عمل يقوم به الله بواسطة مسيح ملك (9: 9- 10). ولكن رعاة أردياء جعلوا هذا "المسيح" يفشل، فلا يصل عمله إلى هدفه. لقد خاب الأمل (ف 11).

* الثاني، ف 12- 14
ساعة بدا كأن كل شيء ضاع، أعلن الرب تجديد العهد مع شعبه (3: 17- 9) بفضل مرسله الذي طعنه البشر (12: 1- 13: 1). حينئذ يُقام مُلكه (ف 14)، ملك عدالة وسلام، ملك يجمع كل الشعوب حول أورشليم. لقد تمّ الأمل.

ثالثاً: صرخة زكريا الثاني
أثار زكريا الثاني رجاء عظيماً: سيُولَد عالم جديد، ويكون عمل الله لا عمل البشر. يبدو وجه مرسل الله غامضاً. فيعطينا الكتاب عنه صوراً متعدّدة: صورة الملك المتواضع والمسالم (9: 9- 210). صورة الراعي الصالح (11: 4- 17؛ 13: 7- 9). صورة كائن يكون موته ينبوع حياة (12: 9- 14) على مثال عبد الله المتألم (أش 52: 13- 53: 12).
سيرى تلاميذ يسوع في هذه اللوحات المختلفة وجه معلّمهم وعمله. لهذا كان زكريا الثاني مهماً رغم ما فيه من روح وطنية ضيّقة لا ترى الخلاص إلا حول أورشليم.

ج- عوبديا
يهاجم النبي ادوم الذي خان أخاه يعقوب ساعة أخذت أورشليم سنة 587. قد يكون هذا السفر دوّن في زمن المنفى، أو بعد ذلك الوقت بقليل. ساعة بدا وكأن كل شيء ضاع، رأى النبي رؤية: الله يعلن مجيء يومه، إنه سيد التاريخ وهو يتدخّل ليقيم ملكه.

د- ملاخي
يبدو هذا الكتاب بشكل سلسلة من الجدالات بين النبي ومختلف أفراد الجماعة الذين يوبّخهم على تجاوزاتهم وبُعدهم عن العدالة.
بدأ ملاخي فندّد بإهمال الكهنة لواجباتهم خلال الاحتفالات، وتخاذلهم في تعليم الشعب (1: 6- 2: 9). ثم شجب الزواجات مع "غريبات"، لأنها ينبوع فتور في الايمان (2: 10- 12). كما شجب طلاقات تتم بخفّة وسرعة (2: 13- 16). ولام النبي المتأخرين عن دفع العشور الضرورية من أجل الهيكل (3: 6- 12). وقدّم النبي جواباً للذين يتّهمون الرب بأنه يترك الاشرار ينجحون، فأكّد أن يوم الرب قريب وهو سوف يجازي (2: 17- 3: 5؛ 3: 13- 21).
أما مرسل ذاك اليوم، فسيكون إيليا النبي الذي سيعود إلى الأرض (3: 22- 23). نجد صدى لهذا الرجاء في الأناجيل: فيوحنا المعمدان هو إيليا الجديد، وهو مرسل الرب (مر 1: 2؛ 9: 11- 13).
متى تدخّل ملاخي في حياة شعبه؟ قبل مجيء نحميا بزمن قليل (حوالي سنة 460). فردّة فعل نحميا ستكون قاسية ضدّ التجاوزات عينها التي ندّد بها النبي ملاخي.

هـ- يوئيل
عُرف النبي يوئيل خاصة بالفصل الثالث الذي يرد في خطبة العنصرة في أع 2: 17- 21.
يصوّر الكتاب أولاً هجمة جراد على البلاد (ف 1- 2). فهذه النكبة هي في نظر النبي علامة تسبّق على مجيء يوم الرب (1: 15، 2: 1- 11؛ 4: 14). وأمام الكارثة الاقتصادية، دُعيت الجماعة إلى ليتورجية توبة (1: 13- 14؛ 2: 15- 17). لا يلوم يوئيل الشعب على خطيئة محدّدة أو تجاوز معيّن، بل على اكتفائه بذاته، على اطمئنان مفرط أمام الوضع: أقام كل واحد في طمأنينة ترفة بعد العودة من المنفى، ورضي بشعائر عبادة تجدّدت على اثر اصلاحات نحميا وعزرا. ونسوا أن الله لم يقل بعد كلمته الاخيرة، وأن تدخّله قد يقلب التاريخ رأساً على عقب.
لهذا أعلن يوئيل أنه سيأتي يوم فيه يفيض الرب روحه على كل أعضاء شعبه فيصبحون أنبياء (3: 1- 5). في ذاك اليوم تتبدّل الأوضاع: فالأمم التي اضطهدت شعب الله سوف تُعاقب، وشعب الله يعرف ربّه ويعيش في الخير ووفرة الغلال (4: 1- 21).
متى دوّن سفر يوئيل؟ بعد اصلاحات نحميا وعزرا، أي بين سنة 400 وسنة 350. ما يدلّ على ذلك هو لغّة يوئيل وما أخذه من الانبياء سابقيه، وذكرُ طقوس دينيّة لم يُعمل بها قبل المنفى، ووضعُ جماعة يحكمها الكهنة والشيوخ

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM