الفصل التاسع والعشرون التاريخ الاشتراعي

الفصل التاسع والعشرون

التاريخ الاشتراعي

وتكوّن في زمن المنفى كتاب تاريخ كبير يسمّى "التاريخ الاشتراعي" (نسبة الى تثنية الاشتراع)، وهو يتضمّن أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك. كيف ظهرت هذه المجموعة وبأي روح كُتبت؟

أ- تأثير تثنية الاشتراع
ما إن اكتُشف سفر التثنية على أيام يوشيا سنة 622، حتى كان تأثيره حاسماً. فقد تحوّلت حياة الشعب الدينية تحوّلاً عميقاً: ألغِيت المعابد المحلّية وتركزت كل شعائر العبادة في هيكل أورشليم. وحاول سفر التثنية أيضاً أن ينظر إلى حياة الشعب وإلى علاقته مع الله. يجب أن لا ننسى كل ما فعله الله لشعبه، وأن ندلّ على عرفاننا بالجميل، وعلى ثقتنا بالله متتبعين بالتفصيل كل وصاياه. وهكذا ينال الشعب السعادة والسلام.
وجاءت الكارثة. فظنّ الذين انطبعوا بسفر التثنية أنه لا بدّ من فحص ضمير للشعب. لهذا عادوا إلى حياة الجماعة، وما اكتفوا بالأحداث القريبة. تأمّلوا في كل ما حصل منذ الخروج والإقامة في فلسطين. وألقى سفر التثنية ضوءه على هذه العودة إلى الذات.
إذن، ألّفوا خبراً كبيراً إنطلق من وصية موسى وامتد حتى المنفى (تسعمائة سنة ونيّف). جمعوا عدداً كبيراً من الوثائق (بعضها كان قد دوّن، والبعض الآخر كان شفهياً) وزادوا عليها عدداً من اللمسات والاعتبارات ليوجّهوا القارىء في استعادة الأحداث التي قادت الشعب إلى كارثة المنفى.
وهكذا تكوّنت مجموعة واسعة توزعت على أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك. كيف تبدو هذه الأسفار، وما الذي وجّه اعتبارات أولئك الذين دوّنوها؟

ب- من وثائق منعزلة إلى كتاب نهائي
كيف عمل الكاتب الاشتراعي؟ إستعمل ذكريات وأخباراً تتردّد في الشعب، كما استعمل وثائق مكتوبة حملها الناس معهم خوفاً عليها من الضياع. وتختلف هذه الوثائق بعضها عن بعض حسب الفترة التي تُعنى بها: مثلاً، لا نجد أرشيفاً رسمياً إلا في زمن الملوك وساعة بدأت الادارة تنتظم. ثم إن هناك رجالاً عظاماً مثل داود وايليا وأليشاع الذين وُجد من يكتب عنهم، إن لم يكن في حياتهم فحالاً بعد موتهم، أقلّه ذكريات متقطّعة. وكانت ذكريات محدودة حول بعض الملوك مثل عمري أو يربعام الثاني رغم شهرتهم السياسية. وأخيراً كانت أخبار شعبية حية في سفر القضاة (شمشون مثلاً). وقد يكون الكاتب وجد عدّة أخبار ووثائق عن الشخص الواحد. فما اختار، بل وضع الخبر بإزاء الآخر، أو دمج الخبرين فانتفى التماسك، أو ظهر التناقض في المعلومات. هذا ما يزعجنا. أما صاحب التوراة فاهتم بأن لا يضيع شيء من إرث الشعب.
وهكذا بنى المؤلف الاشتراعي عملاً يتوزّع على مراحل سوف نتجوّل فيها.

1- وصية موسى
بدأ الكاتب مع وصية موسى أي سفر التثنية. تضمّن الكتاب في البداية ف 5- 26، 28. زاد عليه الكاتب مقدمة (ف 1- 3) تروي المحطات الأخيرة في عبور الصحراء، كما زاد ف 4، 27، 29، 30. وتحدّث في البداية عن وصايا الرب وحدّث الشعب عن معنى مصيره.

2- إحتلال أرض كنعان
بعد هذا، إنتقل الكاتب إلى احتلال أرض كنعان حول يشوع: ضمّ هنا أخباراً عن عمل الله العجيب من أجل احتلال الأرض (يش 1- 12)، وصورة عن اقتسام الأرض بين الاسباط الاثني عشر (يش 13- 21). ونصوصاً تدل على وحدة الشعب وإيمانه المشترك بالله المخلّص (يش 22- 24).

3- حقبة القضاة
وبدأت حقبة القضاة، فقرأ المؤمنون أخباراً قديمة عن أبطال ذاك الزمان المضطرب؟ وزاد الكاتب النظرة اللاهوتية والاعتبار الايماني. هذا ما يمثّل سفر القضاة وخبر صموئيل آخر "القضاة" (1 صم 1- 7).

4- تأسيس الملكية
وكفف صموئيل بتأسيس الملكية مع شاول. إستعاد الكاتب هنا تقاليد عديدة رافقتها تفاسير مختلفة للأحداث (1 صم 8- 15).

5- داود
هنا دخل على المسرح داود، ذاك الملك المهيب والبطل الوطني، ورافقته أخبار مختلفة عن بداية حياته وصراعه مع شاول ووصوله إلى الحكم ووعد الله له. ثم سياسته الداخلية والخارجية، أو مغامراته الشخصية والعائلية، وإيرادته الاخيرة بأن يكون سليمان خلفاً له. هذه المجموعة الغنية والمتنوّعة تحتل 1 صم 16- 31؛ 2 صم كله؛ 1 مل 1: 1- 2: 11.

6- سليمان
وجاء سليمان فأنشد الشعب مجده وعظمته. لم تكن الوثائق كثيرة ولا مفصّلة، اللّهمّ فيما يتعلّق بالعمل الديني الذي هو بناء الهيكل، وهذا فعل مهم في خط سفر التثنية (معبد واحد). نقرأ خبر سليمان في 1 مل 2: 12- 11: 43.

7- حقبة الملوك
تغطّي حقبة الملوك ثلاثة قرون ونصف قرن من الزمن، مع خبر المملكتين المنفصلتين حتى سنة 721 (يرد خبر مملكة بموازاة خبر مملكة أخرى)، ثم مع خبر مملكة يهوذا وحدها. استعان الكاتب بالأرشيف الرسمي وبعدد من الوثائق الأخرى، فأعطى عن كل ملك لمحة موسعة أو مقتضبة مع التوسّع في بعض الأحداث.
وأدخل في هذه المجموعة (1 مل 12- 2 مل 24) ثلاث وثائق عن ثلاثة أنبياء تداخل عملهم مع عمل الملوك: إيليا (1 مل 18، 19، 21)، أليشاع (2 مل 1- 8. بداية أليشاع هي في الوقت نهاية ايليا)، أشعيا (2 مل 18- 20).

8- الهزيمة والمنفى
ويروي الفصل الاخير (2 مل 25) خبر الهزيمة والمنفى، ويُنهي كلامه بحدث قصير هو في الوقت عينه علامة رجاء. بعد 37 سنة من المنفى (إذن سنة 561)، خرج الملك يوياكين من السجن ونال بعض الاكرام لدى ملك بابل (2 مل 25: 27- 30). هنا ينتهي التاريخ الاشتراعي. فالكاتب دوّن ما دوّن قبل صعود كورش والعودة من المنفى. غير أنه ترك الباب مفتوحاً أمام تدخّلات الله من أجل شعبه.

ج- الأفكار التي وجّهت الكاتب الاشتراعي
إجتمعت هذه الوثائق، فقدّمت للمنفيين لوحة شبه كاملة من تاريخهم. فمن الاهمية بمكان أن لا ينسوا الحاضر، ويتذكّروا كل الذين بنوا الجماعة الوطنية والدينية على مرّ العصور. غير أننا نعلم أن الكاتب الاشتراعي طمح إلى شيء آخر: إنطلق من تذكر الماضي ليصل الى فحص ضمير جماعي يقوم به في شعبه: نظرة إلى الوراء، حُكم على الماضي، موقف من أجل المستقبل. ولكي يدرك الكاتب هذا الهدف، زاد على وثائقه الاساسية سلسلة من المقاطع ألّفها (أو استعادها من الذين سبقوه في هذا الخط). مرة هي ملاحظة قصيرة تُقحم في مسيرة النص (مثلا، 1 مل 14: 22- 24). ومرة اخرى نجد تفسيراً طويلاً لمحطة مهمة في التاريخ (2 مل 17: 7- 23). ومرة ثالثة نقرأ خطبة وضعت في فم شخص من الاشخاص (1 مل 2: 2- 4).
إذن، ننطلق من هذه المقاطع التي "دوّنها" الكاتب الاشتراعي، فنستعيد الخطوط الكبرى لفكر لاهوتي يقدّمه لشعبه.

1- موسى وداود
نلاحظ أولاً شخصين أساسيين هما موسى وداود.

أولاً: موسى
يحتل موسى بداية التاريخ الاشتراعي لأنه هو الذي يتكلّم في سفر التثنية. هو المشترع الذي ينقل إلى الشعب من قبل الله وصايا يجب أن يتبعوها لكي يحصلوا على السعادة. وفي ولْي التاريخ، ستُذكر "شريعة موسى" هذه عدداً من المرات. مثلاً، حين يعطي داود سليمان برنامج حكم (وهو برنامج يسري على الملوك اللاحقين) فهو يقول له: "إعمل بشرائع الرب إلهك، واسلك طريقه، تملك بفرائضه ووصاياه وأحكامه وإرشاداته، على ما هو مكتوب في شريعة موسى، لتنجح في كل ما تعمل وحيثما تتوجّه" (1 مل 2: 3؛ رج 2 مل 23: 25).
وهناك شريعة مهمّه بين هذه الشرائع: شريعة تث 12 التي تمنع وجود أي معبد محلي، وتركّز شعائر العبادة في موضع واحد (هيكل اورشليم). ويلوم التاريخ الاشتراعي الملوك العديدين الذين لم يحفظوا هذه الشريعة. في الواقع، كانت هذه المعابد أمراً عادياً حتى يوشيا، الذي اكتشف سفر التثنية وقرّر تطبيقه فدمّر المشارف (معابد مشرفة على المدينة، 2 مل 23: 1- 10). ولكن الكاتب الاشتراعي يعتبر أن هذه الفريضة تعود إلى موسى، ولهذا فهو يخطّىء كل الذين عبدوا الرب في هذه المعابد منذ زمن موسى. كانت هذه المعابد في نظره موضع عبادة الأوثان وسبباً للكارثة التي حلّت بالشعب: لقد عوقب اسرائيل لأنه لم يعبد الرب كما طلب منه الرب بلسان موسى.

ثانياً: داود
داود هو مثال الملوك. إليك أجمل مديح يقال في ملك: "عمل ما هو قويم في عيني الرب كما فعل داود أبوه" (2 مل 18: 3؛ رج 1 مل 15: 11). ومقابل هذا، إذا أراد الكاتب ان يحكم على ملك قال فيه: "لم يصنع ما هو قويم أمام الرب مثل داود ابيه" (2 مل 16: 2؛ رج 1 مل 15: 12). بالاضافة إلى ذلك، إن أمانة داود جعلت المملكة تثبت في بيته رغم الملوك الاردياء. "إرتكب أبيام خطايا أبيه (رحبعام) جميعها ولم يكن قلبه للرب مخلصاً كقلب داود جده. إلا أن الرب رزقه إبناً إكراما لداود يخلفه في اورشليم ويوطّد سلامها، لأن داود عمل ما هو قويم في نظر الرب" (1 مل 15: 3- 5).
ويتوقّف الكاتب عند مشهد مهمّ، قد لا يعود إلى التقاليد القديمة؛ إن داود الذي اختاره الرب منذ صغره وكرّسه بيد صموئيل، قد نال بواسطة ناتان النبي مواعيد له ولنسله (1 صم 7). ولكن هل تدوم هذه المواعديد إلى ما لا نهاية له حين تتكاثر خيانات الملوك والشعب؟

2- تاريخ اسرائيل تاريخ خطيئة
في النهاية، كل تاريخ اسرائيل هو تاريخ خطيئة تجلب غضب الله. هذا ما يشدّد عليه الكاتب الاشتراعي بصورة خاصة في مقطعين مهمّين:

أولاً: مقدمة سفر القضاة
قبل أن يروي الكاتب خبر القضاة الاثني عشر، يعطي في مقدّمة تعليميّة (قض 2: 11- 17) الأفكار العامة التي ستتكرّر مع كل "قاضٍ" اهتم بشأن قبيلته. يبدو التاريخ بشكل حلقة تبدأ دوماً من جديد: ترك بنو اسرائيل الرب، جاءهم العقاب شقاء وهزيمة (نسبوها إلى الرب الذي منه كل شيء). وجدوا نفوسهم في طريق مسدود "فصرخوا إلى الرب" (3: 9؛ 10: 10...). حينئذ أرسل اليهم مخلصاً ينجّيهم. ولكنهم لا يعتّمون أن يسقطوا في الخطيئة من جديد، فتعود الأحوال إلى البداية.

ثانياً: دمار مملكة الشمال
يقدّم الكاتب اعتباراته حول دمار ملكة الشمال (2 مل 17: 7- 23). كان الشعب عبداً في مصر فنجّاه الرب. ولكن هذا الشعب لم يحافظ على الأمانة، بل ترك الرب وعبد الآلهة الكاذبة رغم نداءات الأنبياء المتكرّرة. لهذا غضب الرب فترك مملكة اسرائيل تُسحق بيد العدو. ولكن مملكة يهوذا لم تختلف عن اختها، وسيصيبها عقاب مماثل (2 مل 21: 10- 15).

3- إلى الزوال
وقاد كل هذا إلى نتائج خطيرة: تكرّرت الخطيئة وتكرّرت فوصلت بمملكة يهوذا الى الزوال. كان يوشياً ملكاً أميناً، ولكنه لم يستطع الن يهدىء غضب الله الذي أثاره بصورة خاصة جدّه منسّى الذي تجاوز كل الحدود في عمل الشر (2 مل 23: 25- 27).
ومع هذا، لا يجب أن نيأس. ففي التاريخ الاشتراعي سلسلة من النصوص تؤكد أن المنفى ليس نهاية كل شيء. قال موسى منذ البداية: "فإذا نزلت بكم كل هذه... وكنتم فيما بين الامم حيث رماكم الرب الهكم وعدتم إلى نفوسكم وتبتم إلى الرب إلهكم وسمعتم كلامه... يردّكم الرب من سبيكم (يحوّل الرب مصيركم) ويرحمكم ويعود فيجمع شملكم من بين جميع الأمم حيث شتّتكم، ولو كان الرب إلهكم شرّدكم إلى أطراف السماء" (تث 30، 1- 14).
والصلاة التي وُضعت على شفتي سليمان ساعة تدشين الهيكل، تستعيد المواضيع عينها: "إذا غضبتَ عليهم وهزمتهم أمام أعدائهم فسبوهم إلى بلاد بعيدة أو قريبة... إن صلّوا إليك، فاسمع من السماء صلاتهم واستجب لهم... فأنت اخترتهم لك شعباً حين أخرجت آباءنا من مصر" (1 مل 8: 46- 53). لا شكّ في أن الوضع خطير، ولكن هناك وسيلة لعودة الأمور إلى ما كانت عليه: صلاة إلى الرب وعزم على تبديل الحياة في المستقبل. وفي النهاية، خرج الملك المنفي من سجنه. فخروجه هو علامة خير لشعبه (2 مل 25: 27- 30).

خاتمة
هذا هو فحص الضمير الذي قام به الكاتب الاشتراعي لشعب اسرائيل. فالشقاء جاء من البعيد ولم يأتِ بالصدفة. إنه نتيجة خيانات متكرّرة على مرّ العصور. ومع هذا، فالإله الذي عاقب يستعدّ ليغفر ويعيد السعادة إلى لشعبه. فالعهد باقٍ كما هو، ويستطيع الشعب أن ينعم به إن هو شاء. هذا ما قاله ارميا النبي.
قد يبدو لنا هذا الكلام بسيطاً حتى الغباوة. فهل نقول إن الله يقود الأحداث السياسية فيعاقب ويجازي؟ نودّ أن نعبّر عن الامور بشكل آخر. سبب دمار اسرائيل ويهوذا عناصر موضوعوية: نصت امبراطورية اشورية ثم بابلونية، برزت قوة اقتصادية وعسكرية فسحقت الشعوب الصغيرة في فلسطين، وفي البلدان المجاورة. ولكن قد تقف شعوب صغيرة بوجه جيران أقوياء. وذلك بتضامن قوي وبعزم على الدفاع عن حضارتهم وبقوّاد يلتقون مع رغبات الشعب وآماله. هذا ما نقص لشعوب الشرق الاوسط. وضعف ايمان شعب الله، فما عادت له قوّة للمقاومة. أما المنفى فجعله يستعيد هذا الايمان.
ودلّ التاريخ الاشتراعي أن هذا المجهود قد بدأ. وانتشرت أفكار هذا الكتاب، فساندت مجهود الأفراد، وأنمت الوعي لدى الجماعة، وهيّأت المنفتين لتقبّل الأحداث التي تعلن نهاية منفاهم. هذه الأحداث تقبّلها أشعيا الثاني وفكرها، فكانت نوراً للعائدين في طريق يشبه إلى حدّ بعيد طريق الخروج من مصر والانتقال من عبودية البشر إلى الحرية مع الله

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM