الفصل الثامن والعشرون التاريخ الكهنوتي

الفصل الثامن والعشرون

التاريخ الكهنوتي

ويعود الشعب إلى أصوله يقرأها ويتأمّل فيها. فبعد اليهوهي وحديثه عن بركة الله، والالوهيمي وتشديده على مخافة الله، جعلنا الاشتراعي في اطار عهد وميثاق مع الرب. وها نحن نصل إلى التقليد الرابع، الذي وُلد في محيط الكهنة. فشدّد على كلمة الله التي تفعل في العالم فتجعله جميلاً. وتعمل في الانسان فتجعله على صورة الله. تجعله قديساً على صورة القدوس الذي خلقه.

أ- جذور التقليد الكهنوتي
قرأ "الكاتب" الاحداث بالنظر إلى معطية محدّدة، هي معطية المنفى كما تعرّف إليها كهنة أُرسلوا بعيداً عن الهيكل.
رجال من قبيلة لاوي كانوا يؤمّنون شعائر العبادة في هيكل أورشليم. وتوقّف كل شيء خلال المنفى. إلا أن الكهنة أملوا أن يعودوا إلى هذه الشعائر حالما ينتهي زمن المنفى. ثم إنه كانت لهم وظيفة أخرى، هي حماية الشريعة (تت 33: 10): فهم الذين ينقلون إلى الشعب الوصايا والأحكام التي تعينه في حياته اليومية (هذا لم يكن مكتوباً. وما كتب لم يكن بتصرف الجميع). وبصورة عامة، كانوا المحامين عن التقاليد القديمة وعن تذكّرات الماضي الكبرى.
ففي المنفى، وبعد زوال الأطر السياسية في البلاد، كان الكهنة المجموعة الوحيدة المبنيّة بناء محكماً. وهذا ما أعطاهم تأثيراً كبيراً سيحتفظون به حتى زمن المسيح (عظيم الكهنة هو السلطة العليا لدى اليهود).
ودور الكهنة هذا يفسرّ لنا موضوع "التاريخ الكهنوتي".
* هو خبر الاحداث الماضية. تُقرأ بالنظر إلى حياة المنفيين. فتجعلهم يفتخرون بالماضي، ويتكلون على الله؛ ويجعلون رجاءهم في المستقبل؛ وكل هذا يعطيهم قواعد تساعدهم في حياتهم كجماعة.
* هو تبرير سلطة الكهنة وشعائر العبادة في الهيكل. هذا ما يضعونه موضع العمل حين يعودون إلى أرض الآباء.
* هو مجموعة شرائع تتعلّق بمختلف مجالات الحياة. وسيزيد عليها الكهنة شرائع اخرى قبل المنفى أو بعده، فتؤلّف بصورة خاصة سفر اللاويين.
* انطبع هذا "التاريخ" بعقلية أناس عاشوا في عالم العبادة، فشدّد على التفاصيل وابتعد بعض الشيء عن الحياة. لهذا جاءت الأخبار مملّة ولا تعجّ بالحياة كما في التقليد اليهوهى. وامتلأت بالأرقام والاعمار والسنين. إحتلّ الله المكان كله، فلم يبق للبشر إلا أن يتأملوا بما يفعله الله، أن يسمعوا ما يقوله. ولكن هل يبني الله الكون من دون الانسان؟
ونبدأ تجوالنا في التاريخ الكهنوتي، منذ البدايات وابراهيم، إلى موسى والخروج.

ب- خبر البدايات
1- الكون والانسان
كان الناس يعلنون في بابل كل سنة خبر بداية العالم اكراماً للإله مردوك. فينظرون إلى المواجهة بين الآلهة الصالحين والآلهة الاشرار. وبدا الانسان في تلك الحالة عبداً للآلهة بعد أن خُلق من دم إله شرير.
فكّر الكاتب الكهنوتي بكل هذا حين دوّن نشيد الخلق في سبعة ايام (تك 1: 1- 2: 4). ولكن الله يتدخّل وحده هنا (لا وجود لآلهة متعدّدة). إنه صالح وكل ما صنعه هو صالح. ليست الشمس والقمر آلهة، بل منارتان ثبّتهما الله قي قبة السماء. والانسان هو على صورة الله، فهو إذن صالح في الأساس. اختاره الله لا ليكون له عبداً، بل ليسود على الخلائق. كل هذا يعطي شعب الله ثقة بهذا الاله القدير والصالح. حتى لو كنا في المنفى، نستطيع أن ننظر إلى المستقبل بدون خوف.
تمّ الخلق في ستة أيام. واستراح الله في السابع. هذا هو أساس شريعة السبت التي كانت جد مهمة للعائشين في أرض المنفى.

2- الأنساب
نقرأ في ف 5 سلسلة الانساب من آدم إلى نوح. وسنجد على مدّ التاريخ الكهنوتي أنساباً أخرى. ولائحة عائلات وبيوت. وقبائل وشعوباً. لقد أراد الكاتب الملهم أن يبيّن الوحدة والتواصل في البشرية: فكل الشعوب تكوّن عبر الأجيال عائلة واحدة تخرج من الله ويقودها الله. وحين يورد أنساب بني إسرائيل، فهمّه أن يبيّن ان كل قبيلة وكل عشيرة تعود إلى ابراهيم، ابي الشعب المختار، واننا ما زلنا في خط البداية كما قرّره الله.

3- الطوفان
نجد في تك 6- 9 نصوصاً كهنوتية ممزوجة مع نصوص يهوهية. كلّها تصوّر كارثة مريعة (7: 11، 18- 21): عاد كل شيء إلى الفوضى الأولى. فالله يستطيع أن يدمّر هذا العالم الذي خلقه، كما يمكنه أن يعيد كل شيء إلى النظام السابق. ولقد وعد نوح بأن العالم سيسير مسيرته بطريقة منتظمة.
أقام الله عهداً مع نوح الذي نجا من الطوفان، وبالتالي مع البشريّة المتحدّرة منه. وفرض لقاء هذا أن يحترم الانسان الدم، دم الحيوان ودم الانسان. وقوس قزح الموضوعة على الغيوم كقوس محارب رمى سلاحه، هي علامة هذا العهد، علامة ارادة الله بأن يحلّ السلام على الأرض (9: 1- 17).
إذن، الله يسيرّ العالم كله. وهو لن يدمّره بل يريد أن يجعله في أمان. وهو يفرض على جميع البشر متطلّبات أساسية: فويل للناس الدمويين (مثل البابليين) الذين لا يحترمون هذه المتطلّبات.

ج- ابراهيم والآباء
هنا ندخل في تاريخ الشعب الذي اختاره الله من وسط البشرية. حدّثنا التقليدان اليهوهي والالوهيمي عن مسيرة ابراهيم الطويلة، عن إيمانه الشجاع. وقدّم لنا التقليد الكهنوتي مشهدين: مشهد العهد ومشهد مغارة المكفيلة.

1- العهد
يبدو العهد (تك 17) موهبة مجانية من الله القدير إلى ابراهيم. تكلّم الرب، فسجد ابراهيم إلى الأرض وما عاد يتكلّم. فوعده الله بالخصب وبنسل كبير، كما سبق له ووعد آدم. وأعطاه الختان كعلامة لهذا العهد. ووعده بأن نسله يمتلك أرض كنعان. كل هذا مهمّ بالنسبة إلى المنفيين: لا يستطيع الشعب أن يموت، لأن الله وعده بأن يكثّره. ولا يستطيع ابراهيم أن يبقى في المنفى، لأن الله أعطاه أرض كنعان. وسيكون الختان علامة رباطه بالله.

2- مغارة المكفيلة
ومشهد شراء مغارة المكفيلة (ف 23) مهم على طوله بالنسبة إلى المنفيين: فعائلة ابراهيم تملك قطعة أرض في كنعان. ففي كنعان نجد قبر الآباء؛ اذن سيعودون إلى هناك.

3- يعقوب ويوسف
لم يتحدّث التقليد الكهنوتي كثيراً عن يعقوب ويوسف. غير ان الوعد بالخصب وبامتلاك الارض يتكرّر مراراً (تك 28: 1- 4؛ 35: 11- 12؛ 47: 27؛ 48: 3- 4). ثم إن يعقوب أبا الاسباط الاثني عشر قد دُفن في مغارة المكفيلة (تك 49: 29- 32؛ 50: 12- 13). وقبل هذا هاجرت عائلته إلى مصر في ظروف لا يفسّرها التقليد الكهنوتي.
د- موسى والخروج
نحن أمام خبر طويل جداً. سنكتفي بتقديم بعض الخطوط الهامة:

1- عبودية وتحرّر
إن خبر العبودية في مصر والتحرّر مهمّ جداً بالنسبة إلى المنفيين. فهو يدلّ أنها ليست المرة الأولى التي فيها يعرف الشعب الضيق بعيداً غن أرضه. خلّص الله شعبه من مصر، وهو يقدر أن يخلّصه من بابلونية. ويشدّد الخبر الكهنوتي على قدرة الرب التي تسحق الأعداء مهما كان عددهم. وعيد الفصح يذكّر المؤمنين كل سنة بانتصار عظيم في الماضي ومليء بالمواعيد من أجل المستقبل.

2- المنّ
يذكّر المنّ (خر 16) الشعب أن الله لا يترك شعبه يموت جوعاً. وتُعلن مرة ثانية شريعة اليوم السابع (خر 16: 22- 26): نستطيع أن نتوقّف عن العمل اكراماً للرب ولا نخاف ان ينقصنا ما هو ضروري لحياتنا.

3- في سيناء
لا يحدّثنا التقليد الكهنوتي عن احتفال بالعهد في سيناء. فالرباط بين الله وشعبه قد تمّ مع ابراهيم، فلا حاجة إلى إعادته. ولكن الرب يتلفّظ هنا بأقوال مهمّة (خر 19: 5- 6): "تكونون شعبي الخاص بين جميع الشعوب، فالأرض كلها لي. تكونون لي مملكة كهنة وأمّة مقدسة".
الله هو سيّد الكون كله. ولكنه اختار شعباً صغيراً من بين الشعوب:
هذا يذكّر المنفيين أن الله يهتم به أكثر من أي شعب آخر. وقد جعل منهم أمة "مقدسة" ومملكة كهنة. في شعب اسرائيل الكهنة هم ملوك. وهذا ما يوافق الوضع الذي عاشه العبرانيون وقت المنفى وبعده. فلا نتحسّر على وقت كان لنا فيه ملك كما لسائر الشعوب. فالله يريد لشعبه نظاماً خاصاً تكون السلطة بموجبه في يد الكهنة.
دوّن الكهنة هذه النصوص ليسندوا سلطانهم. وسيتحدّثون أيضاً عن شعائر العبادة التي تلعب دوراً أساسياً في حياة الجماعة. فما أوحاه الله أولاً لموسى على سيناء ليس الوصايا العشر أو دستور الشرائع، بل مشروع بناء معبد (خر 25- 31) سيقوم الشعب كله بتحقيقه (خر 35- 40). وبعد هذا نشهد رسامة الكهنة الأولين (هارون وابناؤه) واحتفالاتهم الأولى في المعبد (لا 8- 10). ولكن لا معبد للشعب في المنفى. غير أن النص يدلّ على أنهم سيعودون إلى البلاد ويبنون هيكلاً آخر يكون في قلب حياتهم. نحن هنا في خطّ سفر حزقيال.
4- التجارب في البرية
ليست تجارب البرية تجارب شرك وعبادة أوثان كما في التقليديين اليهوهي والالوهيمي حول العجل الذهبي: فجماعة المنفيين لا تحسّ بانجاذبات إلى آلهة الوثنيين. أنهّا أقوى من أن تسحرها هذه الآلهة. فالتجربة الكبرى هي رفض السير نحو الارض التي أعطاها الله: فإن أعطى الرب لشعبه فرصة العودة، فالويل لمن يثبّط عزيمة الشعب من الانطلاق في هذه المغامرة! وهناك تجربة أخرى، تقوم بأن يحتفل كل واحد على طريقته بشعائر العبادة (عد 16- 17: يدافع الكهنة عن حقهم في تنظيم كل شيء).
وينتهي التاريخ الكهنوتي بموت موسى (تت 34: 7- 9). توفيّ الرئيس العظيم، ولكن خَلفَه يشوع. فالرب لا يتخلىّ عن شعبه. والتاريخ يتابع مسيرته.

خاتمة
إنطبع التاريخ الكهنوتي بالظروف التي فيها دوّن. إنه عمل سياسي: فهو يثبّت سلطة الكهنة. وهو ايضاً عمل من أجل الشعب: يسند عزيمة المنفيين وثقتهم بالمستقبل، ويدعوهم إلى تركيز كل قواهم على نداء الرب يجيبون إليه حين تدقّ ساعة العودة. فالله يهمّه شعبه وهو سيردّ له الارض التي أخذت منه. وهو اخيراً عمل لاهوتي دوّن لمجد الله الواحد. يؤكد هذا التاريخ أن الله يقود الكون كله، وأنه اختار بصورة مجانية شعباً يمثّله في هذا الكون

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM