الفصل السابع:قراءة أسفار الأنبياء

الفصل السابع
قراءة أسفار الأنبياء

حين جاء يسوع إلى الناصرة ودخل المجمع مع الداخلين للصلاة يوم السبت، دُفع إليه الكتاب فقام وقرأ من سفر إشعيا: «روح الربِّ عليَّ، لأنَّه مسحني لأبشِّر المساكين...» (لو 4: 16-19؛ إش 61: 1-2). عادة، تبدأ القراءات من أسفار الشريعة الخمسة التي يشدِّد عليها العالم اليهوديّ، وتعليمُ الأطفال يكون في سفر اللاويِّين أو الأحبار. أمّا في العالم المسيحيّ، فالأنبياء يمثِّلون المكانة الأولى لأنَّ نصوصهم توصل إلى يسوع المسيح. ولهذا وُجدت مجموعات من الشواهد تحمل نصوص الأنبياء من هنا وهناك، وهي تساعد المتحاورين على اكتشاف العهد الجديد في العهد القديم.
أنبياء عديدون عرفهم الكتاب المقدَّس، بدءًا بناتان الذي أرسله الربُّ إلى داود لكي يوبِّخه على خطيئته (2 صم 12: 1) إلى جاد الذي كان قرب داود وقت الإحصاء (2 صم 24: 11-17)، إلى أحيّا الذي عارض سياسة سليمان الظالمة بحقِّ الشعب وأعلن له انقسام المملكة (1 مل 11: 29-39). ونذكر إيليّا ودوره الكبير في محاربة عباد البعل ولاسيَّما على جبل الكرمل (1 مل 18). ثمَّ تلميذه إليشع وسائر الأنبياء. هؤلاء ذُكرت أعمالهم.
أمّا الذين تركوا لنا الكتابات الطويلة فهم إشعيا، ذاك الذي دعاه الربُّ حين كان يصلِّي في الهيكل (إش 6: 1ي). وإرميا العائش في الطبيعة ووسط الأحداث القاسية، سمع الربَّ يقول له: «انطلق إلى من أرسلك» (1: 7). أمّا حزقيال فذهب مع الذاهبين إلى المنفى البابليّ سنة 597 ق.م. والاثنا عشر دُعوا الصغار، لأنَّ ما تركوه من أثر كتابٌ قصير: هوشع نبيّ الحبِّ الإلهيّ، عاموس المدافع عن الفقراء ضدَّ الأغنياء خلال حكم عمري الذي بنى السامرة. ويوئيل المتحدِّث عن مجيء الربِّ، استعاد بطرس كلامه في خطبة العنصرة: «في الأيّام الأخيرة، أفيض روحي على جميع البشر فيتنبَّأ بنوكم وبناتكم ويرى شبّانكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلامًا» (أع 2: 17؛ يوء 3: 1-5)... فمن هو النبيّ؟

1-    معنى اسم النبيّ
يعود هذا الاسم إلى جذر «نبأ» القريب من «نبع»، «نبت»، «نبغ»... يدلُّ على الخروج من السرِّ إلى العلن. فالنبيّ أوَّلاً هو من يدخل في سرِّ الله ويخرجه إلى العلن. هو لا يقول إلاَّ ما يقوله له الله. ذاك كان جواب ميخا بن يملة الذي أتوا به لكي ينصح ملكَيْ يهوذا وإسرائيل، ويتكلَّم كما يتكلَّم أنبياء الملك. هم وعدوا الملك بالنصر. أمّا ميخا فاختلف عنهم وقال: «أرى شعب إسرائيل مبعثرين على الجبال» (1 مل 22: 17).
النبيّ يمضي إلى «النبع» كما قال إرميا بلسان الله: «تركوني أنا ينبوع الماء الحيّ وحفروا لهم آبارًا مشقَّقة لا تمسك الماء» (2: 13). ورأى البعض في تفجُّر النبع وغليان الماء فيه صورة عن الانخطاف الذي حدث مثلاً لإليشع، أو لاشتعال إرميا بكلمة الربِّ التي يجب أن يقولها لأنَّها تحرق أحشاءه.
وقيل النبيّ هو ذاك الذي «يتكلَّم» أو يجعله الربُّ يتكلَّم. «هكذا قال الربّ» ويبقى المعنى الأخير: ذاك الذي يدعوه الربّ. فالإنسان لا يكون نبيًّا ابن نبيّ، بل نتيجة نداء خاصّ من لدن الله. حسِبَ أمصيا، كاهن بيت إيل معبد ملك السامرة، أنَّ عاموس هو ابن أحد الأنبياء، جاء يعتاش ويخبر الناس «بالمستقبل». فكان جواب عاموس قاطعًا: «ما أنا نبيّ ولا ابن نبيّ»، كما نفكِّر اليوم: كاهن ابن كاهن. في الأصل «أنا راعي غنم وقاطف جمَّيز». وما فكَّرتُ يومًا بأن أترك عملي في الجنوب وأنطلق إلى الشمال، «في المجهول» على المستوى البشريّ. ولكنَّ الله «أخذني من وراء الغنم، وقال لي: "اذهب تنبَّأ"» (عا 7: 24-25). فأنا لا أحمل كلمتي «بل كلمة الربّ» (آ26). أنت تقول لي: لا تتنبَّأ، والربُّ يرسلني لكي أتنبَّأ، فمن يجب أن أطيع؟ وقال عاموس في هذا المجال: «زأر الأسد فمن لا يخاف؟ تكلَّم الربُّ فمن لا يتنبَّأ؟» (3: 8). أي أمرَ الله، فمن يستطيع أن يقاوم نداءه. حاول موسى، حاول إرميا. ولكنَّ الله حين يضع يده على أحد من الناس، فهذا لا يستطيع أن يفلت. في هذا قال النبيّ حزقيال: «فقال لي: يا ابن البشر، قفْ على قدميك فأتكلَّم معك» (2: 1). ونقرأ في 8: 3: «أخذني بشعر رأسي ورفعني». ولا، يأخذ هذه الكرامة «إلاَّ من دعاه الله» (عب 5: 4).
وجُعل مع النبيّ «الرائي» كما نقرأ في صموئيل الأوَّل (9: 11). فالنبيّ يرى ما لا يراه الآخرون، لا بعين الجسد، بل بعين الإيمان. هو الروح يحلُّ عليه ويمنحه «النظر الإلهيّ». فحين جاء يوسف ومريم بالطفل إلى الهيكل، اعتبر الناس أنَّ هذا الطفل لا يتميَّز في شيء عن سائر الأطفال. أمّا سمعان الشيخ فرأى فيه ابن الله: «يا ربّ، أطلق عبدك بسلام، لأنَّ عينيَّ رأتا خلاصك» (لو 2: 29-30). هل الخلاص يُرى بالعين المجرّدة؟ كلا. ولكن الرب هو الذي جعل سمعان يرى في هذا الطفل من يكون مخلّص العالم. وإشعيا، خاف الجميع من سنحاريب الذي يحيط بالمدينة. أمّا إشعيا فقال بفم الربّ: «تزدريك وتسخر منك البكر الابنة المصونة (= صهيون)، تميل برأسها عنك ابنةُ (مدينة) أورشليم. من عيَّرتَ وعلى من جدَّفت؟» (37: 22-23). وحزقيال، مضى إلى تلك البقعة، إلى السهل. فرأى العظام اليابسة. هي تشبه الشعب في المنفى. هل يعيش الشعب بعد أن «مات»؟ وهل يستطيع العودة إلى أرضه ومدينته؟ مستحيل. هكذا يقول الناس. أمّا النبيُّ فرأى بعيني الربِّ «كيف تتقارب العظام... والعصب واللحم يأتي عليها والجلد فوقها» (37: 7-8). وطبَّق النبيّ الكلام على المنفيِّين اليائسين. قالوا: «يبسَتْ عظامنا وخاب رجاؤنا وانقطعنا» (آ11). فجاء الجواب: «سأفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي، فتعلمون أنِّي أنا هو الربّ، وأجعل روحي فيكم فتحيون» (آ12-14).
في هذا الإطار جاءت الكلمة اليونانيَّة التي تترجم «نبيّ». «pro» ثمَّ «phaino». ذاك الذي يرى قبل الوقت. فإن عرفت المدينة الشرَّ والقتل والظلم، فماذا سوف تكون آخرتها؟ الناس يقولون: «لنأكل ونشرب لأنَّنا غدًا نموت». فلماذا نهتمُّ بالغد ونحن عائشون في البذخ والترف؟ أمّا عاموس فنبَّه «بقرات باشان»: «ستأتي عليكنَّ أيَّام يرفعكنَّ العدوُّ فيها بالكلاليب، ويأخذ أعقابكنَّ أخذًا بالصنانير» (4: 2).
وهناك من رأى في اللفظ اليونانيّ ذاك الذي يتكلَّم باسم آخر، يقف محلَّه. هكذا كان هارون بالنسبة إلى موسى. هذا خاف أن يتكلَّم لأنَّه اعتبر نفسه ثقيل اللسان. فقال له الربّ: أخوك «يخاطب الشعب عنك وينطق باسمك، وأنت تكون له كأنَّه الله يوحي إليه» (خر 4: 16). فالنبيّ ينادي باسم الربّ. هو حامل كلمته. بما أنَّ الله لا يمتلك فمًا مثل أفواهنا، فهو يأخذ فم النبيّ ويملأه بالكلام ويرسله: «اذهبْ وقلْ لهذا الشعب» (إش 6: 9). ومرَّات لا نعرف من يتكلَّم، الله أو النبيّ.

2-    موقع الأنبياء
نقرأ أسفار صموئيل والملوك، فنجد قرب «السلطة السياسيَّة» سلطة أخرى هي أقوى من الملوك والرؤساء. هي «السلطة الروحيَّة». أو «سلطة الأنبياء». نتخيَّل هيرودس الملك، الحاكم المستبدّ الذي سوف يقطع رأس يوحنّا المعمدان، نتخيَّله «يخاف» من يوحنّا لأنَّه يُعتبَر نبيًّا (مت 14: 5). بل حين سمع يسوع يبشِّر، قال: «هذا يوحنّا المعمدان قام من بين الأموات» (آ2). فالملك يخاف من النبيّ حيًّا أو ميتًا. والنبيّ لا يترك الناس «مرتاحين» في شرِّهم وخطيئتهم. أحبَّ هيرودس هيرودية امرأة أخيه وأخذها له. كلُّ الحاشية صفَّقت له أو بالأحرى ما قالت شيئًا. المهمّ رضى الملك. وحده يوحنّا تدخَّل: «لا يحلُّ لك أن تأخذ امرأة أخيك» (مر 6: 18). فنقمت عليه هيرودية، لأنَّه يتدخَّل في حياتها الخاصَّة. ولكن أين شريعة الله ووصاياه؟ إنما قال الإنجيل عن هيرودس إنَّه «كان يهاب يوحنّا ويحميه لعلمه أنَّه رجل صالح قدِّيس، وكان يسرُّه أن يستمع إليه مع أنَّه كان حائرًا في أمره» (آ20). ويطرح عليه الأسئلة العديدة. لعلَّ هذا النبيّ يلين! بالوعد والوعيد، بالتملُّق والتهديد. ولكنَّ النبيَّ لا يتراجع.
ويكفي أن نتذكَّر إرميا الذي هدَّد أورشليم بالدمار والملك بالذهاب إلى المنفى مسبيًّا مع أسرته والأشراف. جُعل في السجن، لأنَّه قال هذا الكلام. ناشده الملك بأن يقول كلام «كذب». فكان الجواب من النبيّ: «لا تخدعوا أنفسكم» (إر 37: 9)، مهما حصل. ولو أتى المصريُّون إلى مساعدتكم، فالبابليُّون «يقومون ويُحرقون هذه المدينة بالنار» (آ10). وعاد إرميا إلى سجنه. ومثله يوحنّا المعمدان. وقبله ميخا بن يملة الذي قال الحقيقة، نال لطمة على وجهه وإقامة في السجن مع الخبز والماء (1 مل 22: 27). ليته بقيَ في منزله! ليته لم يتكلَّم! ليته هرب من الخطر، كما كان بإمكان ناتان أن يفعل. ولكنَّ الربَّ هو من أرسل ناتان (2 صم 12: 1)، الذي ما مضى من عنده إلى الملك. ونتخيَّله بشريًّا كيف يخاف من قول الحقيقة. ولكن الحمد لله أنَّ داود اقتبل التوبيخ وأقرَّ بخطيئته. وإلاَّ كانت النتيجة قطع رأسِ من يقول الحقيقة للملك.
من هو النبيّ؟ دعاه أخاب «مصدر ويلات إسرائيل» (1 مل 18: 17). فأجاب إيليّا الملك: «بل أنت وبيت أبيك، لأنَّكم تركتم وصايا الربِّ وعبدتم البعل» (آ18). فالنبيُّ هو من يزعج الملك أوَّلاً والعظماء ثانيًا لأنَّهم يجورون على الناس ولاسيَّما الفقراء منهم. قال إشعيا: «ويل للذين يضمُّون بيتًا إلى بيت ويصِلون حقلاً بحقل حتّى لا يبقى مكان لأحد» (5: 8). وأضاف: «ويل للمبكرين صباحًا في طلب المسكر والساهرين الليل كلَّه والخمر تلهبهم. ولائمهم الكنّارة والعود والدفّ والمزمار. والخمر شرابهم. لا يلتفتون إلى عمل الربّ ولا يتأمَّلون ما صنعت يداه» (آ11-12). هم عميان أو هم لا يريدون أن يروا. والشرّ الذي يقومون به؟ أما يتساءلون؟ بل هم يقلبون الأمور. قال النبي: «ويل للذين يدعون الشرَّ خيرًا والخيرَ شرًّا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين الحلو مرًّا، والمرَّ حلوًا» (آ20). ويهدِّدهم إشعيا: «كما تأكل ألسنة النار القشّ، وكما يفنى الحشيش اليابس في اللهيب، يذهب كالعود النخر أصلُهم ويتناثر كالغبار زهرهم» (آ24).
أتريدون أن يرضى الكبار عن النبيّ؟ لا. فأخاب ما كان راضيًا، ولكن خاف. وبَّخه إيليّا حين أمر برجم نابوت اليزرعيليّ وأخذ له كرمه. عندئذٍ «مزَّق الملك ثيابه ولبس مسحًا ونام فيه وصام منكَّس الرأس» (1 مل 21: 27). أمّا إيزابيل الملكة فهدَّدت إيليّا بعد مقتل كهنة البعل: «ويل لي من الآلهة إن لم أجعلك في مثل هذه الساعة غدًا كواحد منهم» (1 مل 19: 2). والسبب؟ لأنَّ النبيَّ أراد المحافظة على عبادة الله ضدَّ العبادات الوثنيَّة.
جمعَ الملكُ الناس على جبل الكرمل. فقال النبيّ: «إلى متى تعرجون بين هذا الفريق وذاك؟ إن كان الربُّ هو الإله فاتبعوه. وإن كان البعل هو الإله فاتبعوه» (1 مل 18: 21). وكانت المبارزة على جبل الكرمل: كهنة البعل أعدُّوا ذبيحتهم ولم يشعلوا نارًا. صرخوا إلى البعل «فلم يكن صوت ولا مجيب ولا مصغٍ» (آ29). لمّا فشل كهنة إيزابيل، اقترب إيليّا واقترب الشعب معه، «فرمَّموا مذبح الربِّ الذي تهدَّم» (آ30). نتخيَّل؟ مذبح الربِّ مهدَّم. ومذبح البعل بألف خير. ها هنا دور النبيّ. العودة إلى الله. «أخذ اثني عشر حجرًا» وبنى المذبح ثمَّ وضع الحطب وصبَّ الماء أكثر من مرَّة. ما إن هتف «استجب لي يا ربّ، استجب لي، وليعلم هذا الشعب أنَّك إله في إسرائيل» (آ37) حتّى «نزلت النار والتهمت المحرقة والحطب والحجارة والتراب وحتّى الماء الذي في الخندق» (آ38). عندئذٍ فهم الشعب خطأه وضلاله، فهتف ساجدًا وقال: «الربُّ هو الإله، الربُّ هو الإله» (آ39).
كان إيليّا قد أوقف المطر ثلاث سنين وستَّة أشهر، لأنَّ الناس حسبوا أنَّ البعل هو الذي يرسل المطر. ولكن حين هتف الشعب للربّ، قال إيليّا للملك: «اذهب الآن، ها دويّ صوت المطر» (آ41). والنتيجة: «فلم يمضِ وقت حتّى اسودَّت السماء بالغيوم، وهبَّت الرياح وسقط مطرٌ غزير» (آ45).
فالنبيّ هو من يعيد الشعب إلى العهد مع الله. منذ سيناء، اتَّخذ الربُّ القبائل العبرانيَّة شعبًا له، وهم نادوا بالربِّ إلههم. أنتم شعبي وأنا إلهكم. ولكنَّ الشعب ترك هذا العهد مع الله وأقام عهدًا مع الآلهة وأوَّلهم البعل. قالوا: يهوه هو إله الصحراء. لا شكَّ أعطانا المنَّ والسلوى وأعطانا الماء من الصخر. ولكنَّه لا يقدر أن يفعل شيئًا في الأرض المزروعة. فكلُّ إله له منطقة يعمل فيها. لهذا، فالله عاجز هنا. وهكذا كانت تمارَس طقوس البغاء المكرَّس حيث يكون الملك مع إحدى العذارى في الهيكل، وهكذا تلتحم السماء بالأرض. ويأتي المطر ومعه الخصب. هنا أطلَّ هوشع وتحدَّث عن شعب زانٍ، لأنَّه خان الربَّ الذي هو عريس شعبه واتَّحد، في شخص النبيّ، بجومر التي تمثِّل العبادات الكنعانيَّة. لهذا فالأولاد اتَّخذوا اسمًا يعاكس الماضي. كان شعب إسرائيل لله، فقال الربُّ لهوشع: «سمِّه لاشعبي، لأنَّ شعب إسرائيل ليس لي ولا أنا له» (1: 9). ولا مجال بعدُ للرحمة، لأنّ العقاب ينتظر مملكة إسرائيل بعاصمتها السامرة، في يزرعيل. وكان كلام النبيّ قاسيًا:
«حاكموا أمَّكم، حاكموها. فما هي امرأتي ولا أنا رجلها. ليتها تزيح زناها عن وجهها وفسقها من بين ثدييها لئلاَّ أفضَح عريها وأردَّها إلى أصلها كما كانت يوم ميلادها... ولا أرحم بنيها، فهم بنو زنى لأنَّ أمَّهم زنت» (2: 4ي). نتذكَّر أنَّ الربَّ هو عريس شعبه، زوجه. وأنَّ الشعب هو العروس، الزوجة. والزنى هو خيانة. وهذا يحصل حين يمضي الشعب فيكون له «عريس» آخر يهتمُّ به وأيَّ اهتمام!
من يعطي العروس، الشعب، الخيرات؟ البعل؟ يا للتعاسة! «هي لا تعرف أنِّي أنا أعطيتُها القمح والخمر والزيت، وأكثرتُ له الفضَّة والذهب فصنعتْ منها تمثالاً للبعل. فلذلك أستعيد منها قمحي في وقته وخمري في موعده، وأنزع عنها صوفي وكتّاني اللذين تكسو بهما عورتها... وأبطل كلَّ سرورها... وأدمِّر كرمها وتينها وأصيِّرهما وعرًا وأعاقبها على الأيّام التي كانت تبخِّر فيها للبعل... وتنساني» (2: 10-15، نصّ متقطِّع).
ولكنَّ الربَّ يغفر كما طلب من هوشع أن يغفر ويستعيد زوجته التي عادت وخانته: «لذلك سأفتنُها وأجيء بها إلى البرِّيَّة وأخاطب قلبها. وهناك أعيد إليها كرومها... في ذلك اليوم تدعوني زوجي... وأقطع لها عهدًا... وأجعلها تنام في أمان» (آ16-20). وماذا يفعل الله في النهاية لعروسه؟ «أتزوَّجك بالصدق والعدل والرأفة والرحمة، أتزوَّجك بكلِّ أمانة فتعرفين أنِّي أنا الربّ» (آ21-22).

3-    كيف يتكلَّم الأنبياء؟
الربُّ يتكلَّم في النبيّ، يملأ قلبه من الروح. والنبيّ يتكلَّم بأسلوبه الخاصّ، بحيث إنَّ إشعيا يختلف عن إرميا، وعاموس عن هوشع. ويكون حزقيال ذا أسلوب خاصّ. أمّا الفنون الأدبيَّة التي استُعملت فهي كثيرة، لاسيَّما وأنَّ تلاميذ الأنبياء هم الذين جمعوا أقوالهم ونسَّقوها بين أقوال لشعب إسرائيل ويهوذا وأقوال للأمم. هناك الإرشاد والحضُّ على التوبة. والمثَل الذي يستخلص قائلُه الدرس. ثمَّ الخبر والحوار والقول النبويّ والنشيد والصلاة... أمّا نحن فنتوقَّف هنا عند ثلاثة أمور: القول النبويّ، الحضّ والإرشاد والأعمال الرمزيَّة.
أ‌-    القول النبويّ
هذا الفنّ الأدبيّ يبدأ بالعبارة التالية: «هذا ما يقول الربّ». وينتهي بعبارة «نأمة يهوه» (حرفيًّا: صوت الله الخافت) التي تُترجم بأكثر من طريقة، منها «قال الربّ»، أو «يقول الربّ».
«ولهذا، هكذا تكلَّم الربّ، إله بيت يعقوب، وهو الذي افتدى إبراهيم» (إش 29: 22). وفي 30: 1: «الويل. هم بنون متمرِّدون، نأمة يهوه، أي يقول الربّ». ونقرأ أيضًا من إشعيا: «لأنَّه هكذا قال الربُّ الإله، قدُّوس إسرائيل: "في التوبة والطاعة (أو: الراحة) خلاصكم، وفي الأمانة والثقة قوّتكم، لكنَّكم رفضتم"» (30: 15).
وطريقة إرميا في هذا المجال لا تختلف عن طريقة إشعيا: «وقال لي الربُّ القدير: "أقطف، كما تُقطف لقاطة الكرمة، ما تبقَّى من شعب إسرائيل..."» (إر 6: 9). وينتهي هذا التنبُّه بعبارة «نأمة يهوه»، أي «يقول الربّ» (آ15). في 16: 1، صار كلام الله كأنَّه شخص حيّ: «وتوجَّهت إليَّ كلمة الربّ». أو: «وكانت إليَّ كلمة الربّ». ثمَّ في آ5: «وقال لي الربّ: "لا تدخل بيتًا فيه مناحة..."».
في حزقيال نقرأ: «لذلك تنبَّأْ عليهم، تنبَّأ يا ابن الإنسان» (11: 4). أي: قُل قولاً نبويًّا. هو الربُّ يجعل روحه في النبيّ فيجعله يتكلَّم فيقول: «يا بيت إسرائيل...». وفي 13: 1-2: «وكانت كلمة يهوه إليَّ قائلاً: "يا ابن البشر، تنبَّأ (أو: قلْ قولاً) على أنبياء إسرائيل المتنبِّئين (يقولون الأقوال النبويَّة) قل للذين يتنبَّأون (يقولون أقوالاً) من قلبهم: اسمعوا كلمة يهوه. هكذا قال أدوناي يهوه"».
هي الكلمة تصل إلى الشعب ولاسيَّما إلى الرؤساء، كما إلى الكهنة الذين تُطلَب من فمهم الشريعة (ملا 2: 8). وهي لا تنسى الأنبياء الكذبة الذين ندَّد بهم إرميا بشكل خاصّ لأنَّهم يُضلُّون الشعب: «وقال الربُّ القدير على الأنبياء: "سأطعم أنبياء أورشليم علقمًا وأسقيهم سمًّا، فمنهم خرج الكفر إلى كلِّ الأرض"» (إر 23: 15). فما العمل؟ «وقال الربُّ القدير: "لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبَّأون لكم ويخدعونكم. هم يتكلَّمون بما يتراءى لهم، لا بما أقول أنا الربّ"» (آ16). ويُطرَح السؤال القاسي بالنسبة إلى هؤلاء «الكاذبين»: «من منهم وقف في مجلس الربّ ورأى وسمع كلمته؟ من منهم أصغى إلى كلمته واستمع لها؟» (آ18). هناك فرق بين الذين يحلمون الأحلام والذين عندهم كلمة الربّ. «ما شأن التبن مع الحنطة؟ كلمتي هي كالنار، كالمطرقة التي تحطِّم الصخر. فأنا خصم الأنبياء الذين يسرقون الكلام، بعضهم من بعض، ويزعمون أنَّه كلامي. فأنا خصم الأنبياء الذين يختلقون الكلام ويقولون: قال الربّ» (آ28-31).

ب‌-    الإرشاد والحثُّ على الأمانة للربّ
الإرشاد كلام يتوجَّه إلى القلب، فيدعو الشعب لكي يرجعوا إلى الله فينالوا منه كلَّ خير. وإذا بدأت النبوءة بالتهديد والوعيد، فهي تنتهي بالنداء والعودة. «توبوا، يا بني يعقوب، وتمسَّكوا بالرحمة والعدل. تقوَّوا بإلهكم في كلِّ حين» (هو 12: 7). هو نداء إلى الأمانة والاستقامة، ودعوة لأن يضعوا رجاءهم في الربّ. ويعود هوشع: «توبوا يا بني إسرائيل، إلى الربِّ إلهكم. فأنتم بإثمكم عثرتم» (14: 2). فلماذا تلبثون في آثامكم، ولماذا لا تبدِّلون حياتكم؟ «ارجعوا إلى الربِّ وخذوا معكم كلامًا» (آ3). اعتادوا أن يؤدُّوا العبادات ويذبحوا الذبائح دون أن يهتمَّ لها قلبهم. ما يطلبه الربُّ من الشعب الكلمة الصادقة، مثل هذه: «ارفع عنّا كلَّ إثم، اقبلْ خيرَ ما عندنا، أبرئْنا من أكاذيب شفاهنا (أو: نقدِّم ثمرة شفاهنا ذبيحة)... ما لكم وللأوثان يا بيت أفرائيم، عانيتُكم وراعيتكم كشجرة خضراء وأنتم لي تثمرون» (آ9).
وفي نبوءة عاموس، يتكرَّر فعل «اسمعوا». «اسمعوا يا بني إسرائيل هذه الكلمة التي أتكلَّم بها...» (3: 1). «اسمعوا وأنذروا بيت يعقوب...» (آ13). ويحاول النبيُّ أن يُقنع السامعين من خلال عدد من الصور: زئير الأسد، سقوط العصفور، النفخ في البوق. وينهي كلَّ هذا فيقول: «السيِّد الربُّ لا يفعل شيئًا إلاَّ إذا كشف سرَّه لعبيده الأنبياء» (آ7).
«اسمعوا هذه الكلمة التي أنادي بها...» (5: 1). «أطلبوا الربَّ فتحيوا» (آ9). أتعرفون من هو الذي يكلِّمكم؟ «ذاك الذي خلق الثريّا والجوزاء، ويحوِّل الظلمات صباحًا والنهار ليلاً مظلمًا، ويدعو مياه البحر فيفيضها على وجه الأرض. إسمه الربّ» (آ8).
ونسمع كلامًا يحثُّ فيه إرميا الآتين إلى الهيكل ليلجأوا إليه: «اسمعوا كلمة الربّ، يا جميع رجال يهوذا الداخلين في هذه الأبواب ليسجدوا للربّ. هذا ما قال الربُّ القدير إله إسرائيل: أصلحوا طرقكم وأعمالكم فأُسكنكم في هذا الموضع (أو: أسكن معكم). لا تتَّكلوا على قولكم: هيكل الربّ! هيكل الربّ! هيكل الربّ! فتخدعوا أنفسكم. بل بالأولى أَصلحوا طرقَكم وأعمالكم واقضوا بالعدل بين الواحد والآخر. ولا تجوروا على الغريب واليتيم والأرملة، ولا تسفكوا الدم البريء في هذا الموضع، ولا تتبعوا آلهة أخرى. فتضرُّون نفوسكم. فإن فعلتم هذا أسكنُ معكم في الأرض التي أعطيتها قديمًا لآبائكم إلى الأبد» (7: 2-7).
ج- الأعمال الرمزيَّة
ما اكتفى النبيّ أن يتكلَّم بفمه، بل بيديه، بجسمه، بحياته كلِّها. هذا ما ندعوه الأعمال الرمزيَّة. أراد الله أن يبيِّن فساد يهوذا وأورشليم، فطلب من إرميا أن يضع حزام كتّان في الوادي، بحيث يفسُد (13: 1ي). وحسِب أهل يهوذا أنَّهم «مخلَّصون»، فمضى إرميا إلى بيت الخزَّاف ورآه يرمي الوعاء من يده ويستعمل الطين ليعمل إناء آخر (18: 1ي). وهناك الجرَّة المكسورة التي تدلُّ على أنَّ الله «يكسر» شعبه (19: 1ي). أمّا إشعيا فأراد أن يخبر مصر بالحالة التي ستصير إليها، فسار في الشارع حافيًا عريانًا. وأعطى الدرس بفم الربّ: «كما مشى عبدي إشعيا عاريًا حافيًا مدَّة ثلاث سنين... كذلك يسوق ملك أشور سبايا مصر وأسرى كوش، صغارًا وكبارًا، عراة حفاة...» (20: 3-4). أمّا هوشع، فكانت حياته كلُّها، ولاسيَّما زواجه، عملاً رمزيًّا دلَّ به على علاقة الربِّ مع شعبه.
ونجد في هذه النصوص الصلوات، مثل هذه في فم إشعيا: «أيُّها الربّ، أنت إلهي! أعظِّمك وأحمد اسمك، لأنَّك صنعتَ عجبًا، وتمَّمتَ بحقٍّ وصدق ما شئته من قديم الزمان» (25: 1). ويتابع: «أنت ملاذ الفقراء، وموئل للبائس في ضيقه. وأنت ملجأ من العواصف، وفيء من شدَّة الحرّ...» (آ4).
وهناك النشيد: «لنا مدينة منيعة! حصَّنها الربُّ لخلاصنا بأسوار ومتاريس. افتحوا الأبواب لتدخل الأمّة الوفيَّة للربّ، الأمّة التي تحفظ الأمانة...» (إش 26: 1-2). ولا ننسَ ما قال النبيّ عن الكرمة: «دعوني أنشد لحبيبي نشيد حبِّي لكرمه: كان لحبيبي كرم في رابية خصيبة...» (5: 1).
ونقرأ في أسفار الأنبياء الحكم والأمثال: «ملعون من يتَّكل على الإنسان ويجعل البشر سندًا له... مبارك من يحتمي بالربّ ويجعل الربَّ مأمنًا له... القلب أخدع الأشياء وأخبثها، فمن يعرفه... جامعُ الغنى بغير حقٍّ كالحجلة تحضن بيض غيرها» (أو: كالدجاجة تحضن بيض البطَّة) (إر 7: 5ي).

الخاتمة
عالم الأنبياء عالم واسع. امتدَّ على مدى أربعة أو خمسة قرون من الزمن. قالوا أقوالهم في مناسبات مختلفة، فحملوا كلمة الله في وقتها. فالله يعيش في الحاضر، ويدعو النبيّ لكي يتكلَّم في وقت محدَّد. ولكن نحن لا ننسى: إن كان كلام النبيّ كلامًا بشريًّا، أي يتوجَّه إلى الناس في حاضرهم، إلاَّ أنَّه كلام الله وبالتالي يمكن أن يقرأه المؤمنون في كلِّ مكان وزمان. هناك أقوال استعادها العهد الجديد وأعطاها معنى جديدًا على مستوى حدث التجسُّد والفداء وحياة الكنيسة، وأخرى نقرأها اليوم فنجد لها الغذاء في حياتنا. نؤوِّلها، نشرحها، نجعلها في الإطار الذي كُتبت فيه. ثمّ نؤوِّنها، أي نقرأها الآن وكأنَّها تتوجَّه إلى كلِّ واحد منّا فيسمعها ويحفظها ويعمل بها. فالنبيّ الذي دخل في سرِّ الله يدعونا لأن نسمع كلامه فنعيش الخبرة التي عاشها ونصل إلى الصلاة التي تلاها، فيكون الله في حياتنا كما في حياة آبائنا الذين آمنوا ونقلوا إلينا الإيمان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM