الفصل السادس:يونان تلك الحمامة الطائشة

الفصل السادس
يونان تلك الحمامة الطائشة

طير الحمام. ذاك معنى اسم يونان، ذاك النبيّ الخاصّ الذي حمل بلاغًا جاء في خمس كلمات: «بعد أربعين يومًا تدمَّر نينوى» (3: 4). كم يشبه شعبه كما قال النبيّ هوشع: «صار بيت أفرائيم (أي مملكة الشمال بعاصمتها السامرة) كحمامة طائشة لا لبَّ لهم» ولا فهم (هو 7: 11). هو يعمل كلِّيًّا ضدَّ إرادة الله. أرسله الربُّ إلى الشرق، إلى أقصى الشرق، إلى نينوى التي تقابل الموصل الحاليَّة في العراق، فمضى إلى الغرب، إلى أقصى الغرب، إلى ترشيش التي تدلُّ على Cadix، ذاك المرفأ الذي أسَّسه الفينيقيُّون في الجهة المقابلة لمضيق جبل طارق. مسافة طويلة جدًّا وفيها ما فيها من مخاطر... المهمّ الهرب من وجه الربّ. كم شابَه قايين بعد أن قتل أخاه. أورد كلامه الكتاب: «أكون تائهًا وهاربًا عن وجه الأرض، فأَختفي من وجهك» (تك 4: 14).
مسكين الإنسان الذي يظنُّ أنَّه يستطيع أن يهرب من وجه الربّ. فيقول باسمه المزمور 139: 7-10: «أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدتُ إلى السماوات فأنت هناك، وإن جعلتُ فراشي في الهاوية فها أنت. إن أخذتُ جناحَيْ الصبح، وسكنتُ في أقاصي البحر، فهناك أيضًا تهديني يدك وتمسكني يمينك».
ومع ذلك أراد يونان أن يهرب على إحدى السفن المقلعة من يافا، التي كانت مرفأ فينيقيًّا، ولم ترتبط بأورشليم إلاَّ في القرن الثاني ق.م.، مع سمعان المكابيّ (1 مك 12: 33-34). في يافا، المدينة «الوثنيَّة»، يتحرَّر من حضور الله. ثمَّ في المرفأ، يضيع هذا «النبيّ» بين الناس الآتين من كلِّ حدب وصوب. ولكنَّ هذا لا يكفي ليصبح بعيدًا عن قبضة الله. راح في البحر الذي «يفصل» في منطق الفكر العبرانيّ. ولكن آجلاً أو عاجلاً، يهيج البحر وتضرب الأمواجُ السفينة. ربَّما تتحطَّم. في الواقع، وُجدت حطام سفن عديدة: تلك الماضية من فينيقية وهي محمَّلة بالنحاس والبرونز القبرصيّ، فغرقت حوالي سنة 1200 عند رأس جليدونيا، في الشمال الغربيّ من تركيّا. وقبلها سفينة أخرى غرقت في القرن الرابع عشر، في أولوبورون، التي تبعد عن جليدونيا 70 كلم إلى الغرب منها. كُشفت سنة 1982 التي كانت محمَّلة بالنحاس والقصدير والزجاج والعاج وحتّى الزيتون والتين...
*  *  *
أجل، أراد يونان أن يهرب من وجه الله. الله يدعوه وهو لا يريد أن يسمع. وهكذا بانت الحمامة التي أرسلها نوح أفضل منه. قال الكتاب: «ثمَّ أرسل نوح الحمامة من عنده ليرى هل قلَّت المياه على وجه الأرض. فلم تجد مستقَرًّا لرجلها، فرجعت إلى نوح في السفينة» (تك 8: 8). هي الوداعة بالذات. أرسلها مرَّة ثانية، فعادت وهي «تحمل في فمها ورقة زيتون خضراء» (آ18). أمّا يونان فشابه الغراب «الذي أخذ يروح ويجيء إلى أن جفَّت المياه على الأرض» (آ7). فلا بدَّ من تعليمه. وهذا ما سوف يفعل الربّ، لا مع يونان فقط، بل مع كلِّ واحد منّا. إنَّه يصبر ويصبر إلى أن نرى نفوسنا في وجه الحائط. والأسلوب هو «التنكُّت» ironie التي اشتهر بها الإنجيل اليوحنّاويّ. نيقوديمس يقول ليسوع: «كيف يستطيع أن يدخل الإنسان إلى بطن أمِّه من جديد؟» ويردُّ عليه يسوع: «أنت معلِّم ولا تعرف!». فالنكتة لغةً، هي «الجملة اللطيفة التي تترك في النفس انبساطًا»، وفي النهاية تعيد الإنسان إلى ذاته فيعرف خطأه.
والقارئ يبتسم. أما نبتسم نحن حين نرى البحّارة يصلُّون ويونان وحده لا يصلِّي، كأنَّه لا يريد أن يستحضر الله ولا أن يرى وجهه أو يسمع صوته. أما نبتسم حين نرى يونان منزعجًا لأنَّ الربَّ لم يدمِّر نينوى؟ هو توعَّدها، وكأنَّه الله، أنَّه سوف يدمِّرها. فلماذا لم تدمَّر؟! ولكنَّ نداء الله لم يكن حكمًا مبرمًا، بل تهديدًا لإدخال الخوف إلى القلوب فتعود إلى الله. وها هي تعود. أمّا يونان فما عاد بعدُ إلى الله. ماذا يقول الكتاب؟ «غضبَ». تتخيَّلون الإنسان يغضب على الله! ثمَّ «صلَّى»، فجاءت صلاته احتجاجًا على الله لكي يبرِّر كسله وتقاعسه. وأعلن هو نفسه الجواب: «أعرف أنَّك إله حنون، رحوم، بطيء عن الغضب، كثير الرحمة ونادم على فعل الشرّ» (4: 1-2).
ونكتشف الله مثل أب حنون، يشبه والد الابن الضالّ الذي جاء يتوسَّل إلى ابنه الأكبر. فهذا حين علم بالعيد والفرح «غضب ورفض أن يدخل» (لو 15: 28). كم يعجِّل الإنسان في الغضب، ويكون هو الخاسر الأكبر. وهذا ما يؤلم قلب الله. فيواصل الإنجيل: «فخرج إليه أبوه يتوسَّل إليه أن يَدخل». ثمَّ أعطاه البرهان: «أنت معي في كلِّ حين، وكلُّ ما لي هو لك» (آ31). أتُراه اقتنع أم لبثَ في الخارج؟ لا يعطينا الإنجيل الجواب النهائيّ، وكأنَّه يتوجَّه إلينا: إذا تصرَّف الله هكذا مع إنسان أساء إلينا، إذا رحمه وغفر له خطيئته، هل نكون «راضين» على الله؟! أترك الجواب للقارئ. أما «نبتسم» حين نريد أن «نرضى» عن الله بدلاً من أن نطلب رضاه! أمَّا يسوع فحين اعتمد في الأردنّ، ومع أنَّه ابن الله، ففرح بأن يسمع من الآب السماويّ: «هذا هو ابني الحبيب، عنه رضيت» (مت 3: 17). وفي صيغة المخاطب: «أنت ابني الحبيب، عنك رضيت» (مر 1: 11).
*  *  *
وفي النهاية، هل «رضيَ» يونان على الربّ وهل قبِل تصرُّفاته؟ يا يونان، هل تعرف عدد سكّان نينوى؟ «أكثر من 12 ربوة من الناس» وفي لغتنا الحديثة، مئة وعشرون ألفًا. هو رقم رمزيّ. اثنا عشر ربوة. كما نقول: اثنا عشر سبطًا من أسباط إسرائيل. هل أنت مستعدّ، يا يونان، أن تضحِّي بشعبك كلِّه، بقبائله الاثنتي عشرة؟ وجوابه الأكيد يكون كلاّ. والآن، هنا 12 ربوة من الناس تريد أن تضحِّي بهم لكي تبدو أنَّك «على حقّ» في وجه الله. كم «نبتسم» حين نريد أن «يتغيَّر» الله ونحن لا نتغيَّر! موقف يونان هو هو منذ البداية: الرفض والرفض. الرفض بأن يمضي إلى نينوى المدينة الوثنيَّة. هي تعبد الأوثان فلا تستحقُّ الحياة. وخصوصًا هي المدينة الظالمة، القاسية التي تركت وراءها الدمار والتعذيب والقتل وتشتيت الشعوب.
أين هو إله العدالة لا يعاقبها بحسب شريعة «سنّ بسنّ وعين بعين»؟ هي قتلت الناس، فعلى الله أن يقتل ناسها. هي دمَّرت المدن، وعلى الله أن يدمِّر مدينتها. هي عذَّبت، فلتذُقْ طعم العذاب. ما هذا المنطق وكأنَّ الربَّ «إنسان» لا «إله». ذاك ما قال للنبيّ هوشع: «أنا إله لا إنسان، أنا القدُّوس في وسطكم» (هو 2: 9). «لا أعود أغضب... لن أعاقبكم في شدَّة غضبي... لن أدمِّركم». فقلبُ الله قلبُ أمٍّ، فيقول في هوشع أيضًا: «كيف أتخلَّى عنكم؟ كيف أهجركم؟ كيف أعاملكم؟» والجواب: «قلبي يضطرم في صدري وكلُّ مراحمي تتَّقد» (هو 11: 8).
الغضب عند الربِّ ألمٌ في صدره. هو أمٌّ ترى ابنها مريضًا، فتغضب على المرض لا على ابنها. وتنزعج خصوصًا عندما ترى ابنها يعمل لكي يزداد مرضه مرضًا ووجعُه وجعًا. وكم يفرح الله حين يرانا نشفى، نعود إليه، نتوب عن طريقنا الشرِّيرة. تلك كانت فرحة الأب حين عاد الابن من البعيد: «لنفرح ونمرح». وتلك كانت فرحة الله حين عادت نينوى، لا بالبشر فقط، بل بالبهائم أيضًا (4: 11). فهو لا يريد موت الخاطئ، بل أن يعود إلى الله ويحيا. فأيُّ فرح للأب بأن يموت ابنه أو ابنته؟ أمّا الإنسان فيسكن في قلبه روحُ الانتقام. كما فعل بي يجب أن أفعل به. وماذا تستفيد؟ إذا اقتلع لك عينك فاقتلعتَ له عينه، هل عادت إليك عينك؟ وإن قتلتَ له ابنه بعد أن قتل ابنك، هل تظنُّ أنَّ ابنك عاد إلى الحياة؟ وإذا كنتُ لا أقدرُ أن أفعل، أفرض على الله أن يفعل فيرتاح غيظي!
*  *  *
أراد يونان أن يصبح الله مثله، أن يتشبَّه به! لهذا نتعرَّف إلى هذا «النبيّ»: هذا كان من «جتّ حافر» أي من «معصرة البئر»، وهي بلدة تقع على حدود زبولون (يش 19: 13)، وتبعد 5 كلم إلى الشمال الشرقيّ من الناصرة. اسمه «يونان بن أمتاي»، ويرتبط بالحقّ والأمانة (ا م ت، في العبريَّة). هو عاش في زمن يربعام الثاني (783-743)، الملك الثالث عشر في مملكة الشمال التي دعيَت إسرائيل وكانت عاصمتها السامرة. هذا الملك أعاد البلاد إلى حدودها السابقة، ففرح النبيّ بذلك. ولكنَّه نسيَ الظلم الاجتماعيّ الذي سيطر وسط ازدهار موقَّت، فندَّد به النبيّ عاموس (6: 13-14).
هذا «النبيّ» المرتبط بأرضه وبمَلكه وبنجاح شعبه، أُرسل إلى عالم وثنيّ زرعَ الموت والدمار في كلِّ مكان. هذا غير معقول. نحن في الواقع لسنا أمام سفر نبويّ مثل سفر إشعيا أو هوشع أو عاموس، بل أمام خبر تعليميّ. يُقتلَع النبيّ من أرضه ويُرسَل إلى أرض أخرى. ذاك ما حصل لعاموس، الذي كان من الجنوب، من تقوع، الواقعة في جبال يهوذا، فأرسله الربُّ إلى الشمال «يحمل» (وهذا معنى اسمه) كلام الله. دفعه كلامُ الله فمضى. هو لم يستطع أن يقاوم فقال: «زأر الأسد فمن لا يخاف، تكلَّم الربُّ فمن لا يتنبَّأ؟» (عا 3: 8). الأسد يرمز إلى الله. والمخافة هي عاطفة الإنسان. أيرسله الربُّ ولا يمضي؟ هذا مستحيل. ومع ذلك صار الأمر ممكنًا مع يونان.
أراد الربُّ أن «يقتلعه» ويرسله، كما اعتاد أن يفعل. إلى أين؟ إلى البعيد البعيد! رفض الذهاب لا بسبب البعد، بل بسبب الأمر الذي استشفَّه حين عرف إلى أين يرسله الربّ. الصعوبات موجودة أمام كلِّ نبيّ. فعاموس الذي أتى إلى «بيت إيل» معبد الملك القريب من السامرة عاصمته، طُرد من هناك بعد أن هُدِّد: «اذهب، اهرب إلى أرض يهوذا (موطنك الأصليّ)، وهناك تنبَّأ وكُلْ خبزك» (عا 7: 12). أنتَ لست بالنبيّ الحقيقيّ، لأنَّك لا تعيش بحسب إرادة الملك. أنت جئت تعتاش هنا وتريد أن «تهاجم الملك»! أنت «ترى رؤى» هي من عالم الخيال، فالذين مثلك هم عديدون!
ذاك ما قال لعاموس أمصيا كاهن معبد بيت إيل. ثم طرده لأنَّه «نبيّ الله». أمّا بيت إيل في نظر هذا الكاهن فهي «معبد الملك وبيت ملكه». وقفت الصعوبات في وجه عاموس، كما في وجه إرميا وإيليّا وإليشع وغيرهم. هي صعوبة من البشر. أمّا بالنسبة إلى يونان، فالصعوبة هي من الله: سوف يتعب هذا «النبيّ» إذ يمضي إلى بلد بعيد جدًّا ويهدِّد المدينة باسم الربّ. ولكنَّ الربَّ يتراجع، فما الفائدة؟ ثمَّ، لا حاجة للذهاب إلى الأراضي الوثنيَّة، بل «نبقى» بين الخراف الضالَّة من أورشليم؟ فهموا أوَّلاً كلام الربِّ بشكل منغلق: «لا تقصدوا أرضًا وثنيَّة، ولا تدخلوا مدينة سامريَّة، بل اذهبوا إلى الخراف الضالَّة من بني إسرائيل» (مت 10: 5-6).
*  *  *
ولكنَّهم سوف يفهمون شيئًا فشيئًا أهمِّيَّة الرسالة إلى البعيد، لئلاَّ يصبحوا جماعة مثل الجماعات التي تحيط بهم: مثل الفرِّيسيِّين والصدّوقيِّين والغيورين. حزب كسائر الأحزاب في أرض فلسطين. أو طائفة من الطوائف كما هي الحال في وطننا، حيث يحافظ رئيس كلِّ طائفة على «جماعته» ولا ينظر إلى الآخرين، بل يخاف منهم لأنَّهم «يزاحمونه»، ويأخذون بعضًا من قطيعه. هذا هو منطق الدفاع الذي يقتل الكنيسة ويجعل الفتور في القلوب ويُحلُّ السياسة محلَّ الإيمان. وبعد ذلك نتساءل عمّا يحصل في جماعاتنا المسيحيَّة. بقيَتْ قشرة خارجيَّة من الممارسات والعادات، أمّا القلب فابتعد عن الله.
هكذا كانت جماعة متّى، ولكنَّها فهمت في النهاية توصية المسيح قبل صعوده إلى السماء: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم» (مت 28: 19). أو كما قال مرقس: «اذهبوا إلى العالم كلِّه، وأعلنوا البشارة إلى الناس أجمعين» (16: 15). هذا ما طلب الربُّ من يونان قبل المسيح بخمسة قرون من الزمن. فسفر يونان دُوِّن على ما يبدو في القرن الخامس ق.م.، وكانت نينوى قد دُمِّرت على يد البابليِّين منذ قرنين من الزمن، أي سنة 612 ق.م.
دُمِّرت نينوى. ولو مضى إليها نبيٌّ يعظها لكانت نجت من الدمار. ويأتي التطبيق على أورشليم التي دُمِّرت سنة 586 ق.م. على يد نبوخذ نصَّر البابليّ. لو هي سمعت صوت الأنبياء الذين أُرسلوا إليها، لكانت نجَتْ من الكارثة. وكذا نقول عن السامرة التي دُمِّرت هي أيضًا على يد الأشوريِّين سنة 721 ق.م. نبيٌّ واحد كان كافيًا لكي تتوب نينوى، المدينة الشرِّيرة، أمّا السامرة فرفضت أن تتوب، ومثلها أورشليم، ولكنَّ الطريق لا تزال مفتوحة.
قال الكتاب: «وبلغ الخبر ملك نينوى، فقام عن عرشه، وخلع عنه رداءه، ولبس مسحًا وجلس على الرماد» (3: 6). لم يكلِّم يونان الملك مباشرة، بل راح يجول في المدينة. وقيل: «كانت نينوى مدينة عظيمة جدًّا، يستغرق اجتيازها ثلاثة أيَّام» (آ3). هل احتاج يونان ثلاثة أيَّام ليرى ثمرة «بشارته»؟ كلاّ. بل نحن نعلم أنَّه «سار فيها يومًا واحدًا وهو ينادي» (آ4).  هو لم يصل بعد إلى أطرافها، ولا إلى قلبها حيث يقيم الملك. ما إن بدأ «ينادي» حتّى «آمن أهل نينوى... من كبيرهم إلى صغيرهم» (آ5).
يوم واحد كان كافيًا لنينوى. وأورشليم؟ كرز فيها إشعيا عشرات السنين ومثله إرميا وميخا. ويبدو أنَّها ما تابت، لأنَّها لو تابت لما كانت عرفت الدمار ومضى شعبُها إلى السبيّ. أمّا الآن وقد عاد من عاد من السبي، فلم تزل طريق التوبة مفتوحة.
إشعيا ذاك المعروف في أورشليم. إرميا ابن عناتوت. كلُّ نبيّ في أورشليم عرف الرفض والعذاب، كما قال الربُّ في معرض دعوته إلى التوبة والرجوع إلى الله: «يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها. كم مرَّة أردتُ أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا» (مت 23: 37).
أمّا نينوى، فجاءها نبيّ «غريب»، لا تكاد تعرف اسمه ولا بلده. يكفي أنَّه يحمل كلام الله. ولا حاجة إلى تكرار الكلام «مرَّات عديدة»، ولا إلى إرسال النبيّ وراء النبيّ كما قال الربُّ أيضًا: «لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء ومعلِّمين، فمنهم من تقتلون وتصلبون، ومنهم من تجلدون في مجامعكم وتطاردون من مدينة إلى مدينة» (مت 23: 34).
هو حكمَ على أهل أورشليم: «كم من مرَّة». أمّا نينوى، فيوم واحد كان كافيًا. أُرسل إلى نينوى نبيٌّ واحد قال خمس كلمات. وفي الحال، «آمن أهل نينوى بالله» (3: 5) الوثنيُّون آمنوا. أمّا الذين كانوا حول يسوع فاكتفوا بالقول إنَّهم أبناء إبراهيم وبالتالي أفضل من الآخرين. اعتبروا أنَّ الطقوس والممارسات والانتماءات تجعلهم قريبين من الله. ولكنَّهم أخطأوا خطأً فظيعًا. ونحن أيضًا مثلهم. ويسوع نفسه يحكم علينا جميعًا نحن أبناء هذه الديانة أو تلك، هذه الطائفة أو تلك.
ضابط وثنيّ. قائد المئة الرومانيّ. طلب من يسوع أن يأتي ويشفي له خادمه، الذي «لا يقدر أن يتحرَّك» (مت 8: 6)، وإلاَّ كان أتى به إليه. ولكنَّه استلحق حاله وعرف أنَّه لم يتصرَّف بلياقة. فقال: «أنا لا أستحقُّ أن تدخل تحت سقف بيتي. ولكن يكفي أن تقول كلمة واحدة فيُشفى خادمي» (آ8). ودلَّ على إيمانه انطلاقًا من واقعه: هو مرؤوس. يدعوه رئيسه فيأتي في الحال. هو رئيس. يدعو خادمَه فيلبِّيه. والمرض تحت أمر الربّ. كلمة واحدة تكفي. فأظهر يسوع الإعجاب الكبير: «الحقَّ أقول لكم: ما وجدتُ مثل هذا الإيمان عند أحد في إسرائيل» (آ11).
وما حصل مع قائد المئة حصل مع المرأة الكنعانيَّة، التي يحسبها اليهود «من الكلاب» هي وشعبها. أمّا يسوع فقال لها: «عظيم إيمانك أيَّتها المرأة! فليكن لك ما تريدين» (مت 15: 28). والذين معه من اليهود، أين هو إيمانهم؟! وهو ما قال لها كما قال للأبرص: «شئتُ فكنْ طاهرًا». بل قال لها: «ما تريدين أنتِ، ما تشائين». ماذا يفعل الإيمان من عجائب! بالإيمان، الله يعمل مشيئتنا، يعطينا ما نطلب، لأنَّنا نلتصق به فتصبح صلاتنا صلاته ومشيئتنا مشيئته وحاجتنا حاجته.
*  *  *
«آمن أهل نينوى». والإيمان لا يكون بالكلام، بل بالعمل. بدأوا «فنادوا»، وكان نداؤهم امتدادًا لنداء يونان، فوصل إلى الملك. ثمَّ «لبسوا مسوحًا»، علامة التوبة والحزن والبكاء على الخطيئة. من تاب؟ الصغار وحدهم؟ كلاّ. بل الجميع، بدءًا بالكبار. نينوى ذاتها، لا فقط القرى والضواحي المحيطة بها. ووصلت التوبة إلى الملك. ترك العرش ونام على التراب، على الرماد، على الأرض. وهذه علامة التواضع. ترك رداء الملك الأرجوانيّ اللون، ولبس المسح المصنوع من شعر الماعز. ترك الرفاهيَّة والتنعُّم وأخذ بالحياة الصعبة. هل هذا ما فعله يربعام؟ هل هذا ما فعله العظماء في أورشليم؟ يا ليتهم فعلوا. ولكنَّهم حتّى الآن لا يريدون أن يسمعوا كلام النبيّ كما قال فيهم إشعيا: قلب قاسٍ، أذنان ثقيلتان، عينان مغمضتان. وهكذا «لا يبصرون بعيونهم ولا يسمعون بآذانهم ولا يفهمون بقلوبهم بحيث يرجعون إلى الربِّ فيشفيهم» (إش 6: 10).
نادى يونان، والشعب نادى. وها هو الملك ينادي. آذان مفتوحة، قلوب فاهمة. «يأمرُ الملك وعظماؤه أن لا يذوق بشر ولا بهيمة شيئًا، وأن لا يرعى بقر ولا غنم شيئًا، ولا يشرب ماء. وأن يلبس البشر مسوحًا، ويصرخوا إلى الله بشدَّة ويرجعوا عن طريقهم، وعن العنف الذي فعلتْه أيديهم» (3: 7-8). مع الصراخ والبكاء هو تبديل حياة. ومع الامتناع عن الأكل والشرب، هو امتناع عن الشرِّ والعنف وهو ندامة عمّا صدر منهم.
«عودوا إليَّ فأعود إليكم» (ملا 3: 7). ذاك ما قال النبيّ ملاخي. وذاك ما فعل أهل نينوى: رجعوا إلى الله فرجع الله إليهم. ندموا على خطيئتهم فندم الله وتراجع عن «الدمار الذي قال إنَّه ينزله بهم» (آ10). عزم أن يفعل إن لم يتوبوا. ولكن حين تابوا هو «لم يفعل». ولهذا غضب يونان: ما هذا التراجع عند الله؟ أمَا كلمته كلمة أم هو يتراجع لأنَّه ضعيف، لأنَّه متردِّد بحيث لا يمكن الركون إليه؟
بدا الله بطيئًا عن الغضب (4: 2)، أمّا يونان «فغضب وصلَّى إلى الربّ» (آ1) وكأنَّه يريد أن يعاقبه أو «يوبِّخه»، كما فعل بطرس حين تحدَّث يسوع عن آلامه الآتية: «حاشا لك يا ربّ» (مت 16: 22). ما أجمل الإنسان يعطي النصائح لله!
عادةً النبيّ هو الذي يطلب من الربّ أن لا يغضب، أن لا يعاقب. هكذا تصرَّف عاموس حين رأى الجراد آتيًا. «أيُّها الربُّ، عفوك! كيف يقوم لبني يعقوب قائمة؟ فهُم شعب صغير». وكانت النتيجة أنَّ «الربَّ ندم على ذلك وقال: هذا لا يكون» (آ3). وكذلك فعل هذا النبيّ حين أطلَّت النار: «أيُّها السيِّد الربّ، توقَّفْ"... فندم الربّ» (عا 7: 5-6). وموسى استعدَّ أن يموت عن شعبه ليوقف غضب الربِّ (خر 32: 11). أمّا يونان فلا يريد أن يوقف غضب الربّ، بل أن يُشعله. وإذا الله لا يفعل، فالنبيّ يفضِّل الموت على الحياة: «فالآن أيُّها الربُّ، خذ حياتي منِّي. فخير لي أن أموت من أن أحيا» (4: 3). أما مع يونان فوجب على الله أن يُخفض غضب نبيِّه: «أيحقُّ لك أن تغضب؟» (آ4).
لم يتعلَّم ذاك «الأنانيّ» بالكلام، فوجب أن يتعلَّم بالمثل والصورة. جلس يونان «شرقيّ المدينة» (آ5)، كما الربُّ جلس شرقيّ أورشليم (حز 10: 19)، قبل أن يدمِّرها البابليُّون، لكي يرافق شعبه في طريق المنفى. وهدفه أن يخلِّص البقيَّة الباقية. أمّا يونان فاهتمَّ فقط بنفسه: الشمس تلفحه! فأرسل الربُّ له شجرة «عربيشة» فظلَّلته. «ففرح يونان فرحًا عظيمًا بهذه اليقطينة» (آ6). ولكن أطلَّت دودة فيبست اليقطينة، «فضربت الشمس على رأس يونان فأغميَ عليه وطلب الموت لنفسه» (آ8). هو مثل طفل! يغضب سريعًا لأنَّ الأمور لا تسير بحسب إرادته. فيهدِّئ الربُّ من روعه: «أيحقُّ لك أن تغضب من أجل اليقطينة؟» وكان جواب النبيّ سريعًا: «يحقُّ لي أن أغضب حتّى الموت» (آ9).
وهنا جاءت العبرة: حزن يونان على اليقطينة، وما تحرَّك قلبه أمام مدينة كبيرة يجب أن تدمَّر مع أنَّها تابت ورجعت إلى الربّ. يا يونان، «أشفقتَ على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربَّيتها» (آ10). هو فعل «ع م ل» الذي يعني العمل والتعب اللذين يقوم بهما الوالدون لكي يجعلوا أولادهم يربون ويكبرون («ج د ل» في العبريَّة). أجل، مدينة نينوى يحبُّها الله كما يحبُّ شعبه الخاصّ، وهذا ما لا يريده يونان. الله تعب وجعل هذه المدينة تنمو. فكيف يهدمها في دقيقة واحدة؟ كيف يقلبها كما قلب سدوم وعمورة، حيث الخطيئة بدت عظيمة جدًّا؟ (تك 18: 20). بحث إبراهيم عن بعض الأبرار الذين يصلُّون لكي يصفح الربّ، فلم يوجَد حتّى عشرة أبرار.
نشير هنا إلى معنى خراب سدوم وعمورة. في الواقع، كان بركان دمَّر المكان فكان البحر الميت، أو بحر الملح. فأتى مؤمن يتساءل: لماذا حصل ما حصل؟ وأعاد هذا الأمر كما اعتاد أن يعيد كلَّ شيء إلى الله. هي خطيئة الزنى، الذكَّر مع الذكر، بل حاول السكّان أن يزنوا مع الملائكة (تك 19: 5). كانت دعوة بعد دعوة من أجل التوبة، ولكن لاموضع لسماع كلام الله. فكانت النار التي ترمز إلى حضور الربّ وغضبه.
وهكذا صارت سدوم مَثلاً ومعها عمورة. يرتبط اسم «سدوم» بالسديم أو الضباب الذي يغطِّي المدينة، وعمورة بالسكن. لم يبقَ شيء من هاتين المدينتين. وربَّما تصبح أورشليم مثلهما بسبب كثرة شرورها. قال إشعيا لشعبه: «لو أنَّ ربَّ الأكوان لم يُبقِ لنا بقيَّة صغيرة، لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة». في مثل هذا الكلام تهديد ودعوة إلى المخافة للعودة إلى الله. ويتواصل الكلام والدعوة إلى الاستماع: «اسمعوا كلام الربِّ، يا عظماء سدوم، أصغوا إلى شريعة إلهنا، يا شعب عمورة!» (آ10). وذكَّر إشعيا بما حصل لهاتين المدينتين وما يمكن أن يحصل لبابل «التي تنقلب فلا يسكن فيها أحدٌ إلى الأبد» (إش 13: 19-20).
أيريد يونان أن يحصل لنينوى ما حصل لسدوم؟ ولكنَّ الربَّ لا يريد. فهو إله الرحمة. ولهذا أرسل إليها نبيًّا، كما أرسل إلى شعبه وإلى مدينته. في مرحلة أولى، رفض يونان أن يطيع الربّ. وفضَّل أن يموت ولا يمضي إلى حيث يرسله الربّ. ارتضى أن يُرمى في البحر، بحيث تبتلعه الأمواج. ولكنَّ الربَّ أرسل سمكة كبيرة. «و ي م ن» (2: 1)، أي جعل الله ثقته في سمكة. استند إليها لكي تعمل مشيئته، فصارت أفضل من يونان. هنا نتذكَّر جحشة بلعام التي عرفَتْ بوجود الملاك والنبيّ لم يعرف (عد 22: 31ي).
والسمكة أمَّنت الخلاص ليونان. ابتلعته وحفظته في الحياة لكي يقوم برسالته. وما أن أنهى النبيّ صلاته، حتّى قذفته السمكة إلى البرّ (2: 11). كدت أقول: علَّمته الطاعة للربّ. اعتبر يونان نفسه قويًّا، فإذا هو ضعيف. لهذا، توسَّل إلى الربّ: «إليك يا ربُّ صرختُ، فاستجبتَ لي في ضيقي. من جوف الموت أستغيثُ، فسمعتَ يا ربُّ صوتي» (2: 3). طلب الموت أكثر من مرَّة، وهو أمر يحدثُ مرارًا في حياتنا، وها هو يشكر الربَّ لأنَّه نجّاه من الموت. ماذا يستفيد الله من موت نبيِّه؟ لا شيء. والمؤمن الذي يموت يصبح مثل الظلِّ والخيال، فلا يستطيع بعد أن يسبِّح الله ويعيش في حضرته، كما قال المزمور: «ليس الأموات يسبِّحون الربَّ ولا الهابطون إلى الجحيم كافَّة» (115: 17). أمّا نحن الأحياء «فنبارك الربَّ من الآن وإلى الأبد» (آ18). فماذا تفضِّل يا يونان؟ وماذا يفضِّل كلُّ واحد منّا؟
سمكة كبيرة. قيل: الحوت، العنبر. وبعضهم قال: الدينوصور. أمور لا تهمُّ الراوي. بل النتيجة هي الأساس. نجا يونان من الموت. والربُّ الذي لا يتراجع، يدعو يونان مرَّة ثانية. ولكنَّه لا يحدِّد له الكلمات التي يجب أن يقولها. «نادِ بما أقوله لك» (3: 1). ولكن، ماذا يجب أن أقول، يا ربّ؟ والجواب: هذا لا يعنيك. فسوف تعرف ذلك في الوقت المناسب. أما هذا الذي حصل لإبراهيم؟ «أترك أرضك... إلى المكان الذي أريك» (تك 12: 1). أين الهدف؟ ولماذا السير في الظلام؟ ولكنَّ المؤمن يحسُّ بيد الله تمسك يده. ويحسُّ بأنَّ الله هو الذي يتكلَّم فيه: «لستم أنتم المتكلِّمين، لكنَّ روح أبيكم هو من يتكلَّم فيكم» (لو 12: 12).
وهكذا انطلق يونان. أطاع. هل كان راضيًا أم أحسَّ أنَّه مُجبَر لأنَّه لم يستطع أن يُفلت من يد الربّ؟ المهمّ أنَّه خضع ومضى يحمل كلام الله. إلى نينوى المدينة الكبيرة: هي ترمز إلى القوَّة المتعاظمة والإمبراطوريّات التوتاليتاريَّة التي لا تشبع من التوسُّع والاحتلالات. هي معاداة شعب الله والشعوب الصغيرة المجاورة، بل هي تعادي الله وتودُّ أن تعارض مشروعه... وها هو الربُّ يرسل نبيَّه إلى قلب هذه المدينة! مهمَّة خطرة تشبه مهمَّة موسى الذي أُرسل إلى فرعون. أو مهمَّة إيليّا في وجه الملك أخاب. ولكن ينبغي على النبيّ ألاَّ يخاف بعد أن جعله الله «عمودًا من حديد وسورًا من نحاس» (إر 1: 18).
نينوى مدينة كبيرة جدًّا. مدينة مهمَّة. ولهذا يلحُّ الله على نبيِّه: اذهب، نادِ، أدعُ إلى التوبة. ولا يبقى النبيّ عند الأطراف. بل هو يصل إلى «القلب»، إلى القصر الملكيّ. وأعطى الله المدينة «أربعين يومًا». هي مهلة رمزيَّة تدلُّ على توبة المؤمنين، حتّى في أيَّامنا، مع الصيام الأربعينيّ الذي يسبق عيد الفصح. استفاد أهل نينوى من هذه المهلة، بل بدأوا مسيرة التوبة منذُ اليوم الأوَّل.
*  *  *
تبدَّل أهل نينوى. ولكن هل تبدَّل يونان؟ هل فهم أنَّ الله هو ربُّ البشريَّة كلِّها، لا ربّ فئة من الفئات مهما عظم شعبها. تاب أهل نينوى، ولكنَّ سامعي يسوع رفضوا أن يتوبوا بحيث يقول لهم: «كما كان يونان النبيّ آية (وعلامة) لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الإنسان آية لهذا الجيل... أهل نينوى يقومون للحساب مع هذا الجيل ويحكمون عليه، لأنَّهم تابوا بإنذار يونان وها هنا أعظم من يونان» (لو 11: 30، 32).
إقامة يونان ثلاثة أيَّام وثلاث ليالٍ في بطن الحوت، هي تلميح إلى إقامة يسوع في القبر. حين يرى اليهود مجيء الوثنيِّين إلى الإنجيل، هل يفهمون من هو يسوع؟ وحين يعرفون أنَّ «ها هنا أعظم من يونان»، هل يستعدون لأن يحسبوا يسوع أكثر من نبي من الأنبياء. فما لبثوا هم وغيرهم يرفضون أن يكون هذا الآتي إليهم كلمةَ الله، أن يكون المسيحَ ابن الله. وهم لا يستطيعون أن يكونوا من خاصته، لأنهم لا يتركون الآب يجتذبهم إليه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM