الفصل الثامن:التاريخ الاشتراعيّ من الدخول إلى الأرض حتَّى الخروج منها

الفصل الثامن
التاريخ الاشتراعيّ
من الدخول إلى الأرض حتَّى الخروج منها

«الربُّ إلهكم أعطاكم هذه الأرض لتمتلكوها. أنتم المحاربون تعبرون أمام إخوتكم... أمّا نساؤكم وأطفالكم ومواشيكم فتمكث في مدنكم التي أعطيتكم». ذاك ما قال سفر التثنية (3: 18-20). فردَّد كلامَه سفرُ يشوع: «فاذكروا الكلام الذي قاله موسى: الربُّ إلهكم أعطاكم هذه الأرض. نساؤكم وأطفالكم ومواشيكم تمكث في الأرض وأنتم المحاربون تعبرون أمام إخوتكم» (يش 1: 13-14).
وقال سفر التثنية: «فاحترز لئلاَّ تنسى الربَّ الذي أخرجك من أرض مصر. الربَّ إلهك تتَّقي، وإيَّاه تعبد، وباسمه تحلف. لا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم، لأنَّ الربَّ إلهكم إلهٌ غيور في وسطكم، لئلاَّ يَحمى غضب الله إلهكم عليكم فيبيدكم عن وجه الأرض» (6: 12-15). هي صورة عمَّا عاشته القبائل في زمن القضاة: «تركوا الربَّ إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر، وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم، وسجدوا لها وأغاظوا الربَّ، فحميَ غضب الربّ» (قض 2: 2-4).
هذا عن الدخول إلى الأرض مع يشوع بن نون الذي قال له الربّ: «تشدَّد، تشجَّع، أكون معك لا أهملك ولا أتركك» (1: 5-6). أمّا عن الخروج من الأرض والذهاب إلى المنفى سنة 587/586 ق.م.، فقال سفر الملوك الثاني 25: 21: «فضربهم ملك بابل وقتلهم في ربلة، في أرض حماة، وسبى يهوذا من أرضه». هذا ما نقرأه في سفر التثنية: «كما سُرَّ الربُّ بأن يهتمَّ بكم ويجعلكم سعداء وكثيرين، كذلك يُسرُّ بأن يهتمَّ بكم ليفنيكم ويهلككم، فتُستأصلون من الأرض التي تدخلون إليها لتمتلكوها» (28: 63).
*  *  *
من أجل هذا دُعيَت أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك، التاريخَ الاشتراعيّ. هو «تاريخ» لأنَّه يذكر أحداثًا من حياة القبائل، سواء كانت على مستوى الأسرة، أو على مستوى القبيلة وصولاً إلى الملكيَّة مع داود وسليمان ومن خلَفهما، أو على المستوى الدوليّ مع مجيء المصريِّين أو الأشوريِّين والبابليِّين. ولكنَّ هذا التاريخ لا يُذكر من أجل التاريخ، بل من أجل العبرة الدينيَّة التي تُستخرج منه. فالكاتب الملهم ترك أمورًا عديدة تُوجَد في الأرشيف، واهتمَّ بالمعنى الدينيّ، بالمعنى الروحيّ.
قال سفر الملوك الأوَّل: «وفي السنة الخامسة لمُلك رحبعام (ابن سليمان)، صعد شيشق ملك مصر على أورشليم. وأخذ خزائن بيت الربّ وخزائن بيت الملك» (14: 25-26). فيسأل المؤرِّخ: كيف وصل إلى أورشليم، وأين مرّ؟ أما كانت مقاومة؟ هذا ما لا يهتمُّ له الكاتب الملهم. فنظرُه يتوقَّف فقط عند أورشليم، مع هيكلها وقصر مَلكها الذي هو إلى يمين الهيكل. إلى أيِّ درَكٍ وصل كلُّ هذا؟ كانت أغراض من ذهب، صارت من نحاس. هذا يدلُّ على الانحدار الذي وصل إليه الشعب بعد داود وسليمان. أمّا التفاصيل التاريخيَّة فتُقرأ على أحد جدران الكرنك في الأقصر، فيعدِّد الفرعون المدن والقلاع التي احتلَّها قبل الوصول إلى أورشليم.
ونعطي مثلاً آخر: لماذا سقطت أورشليم؟ هناك أسباب أقليميَّة. وهناك ضعف الملوك وافتقار الشعب. وهناك التزاحم بين مصر وبلاد الرافدين. وأخيرًا، غابت الحكمة عن المَلك وعن الذين حوله، فقال فيهم إشعيا: «ويل للحكماء في أعين أنفسهم، والفهماء عند ذواتهم» (5: 21). اعتبروا نفوسهم كذلك، فكانت الكارثة. واليوم ليس بعيدًا عن الأمس فكم مرَّة جاءت نصيحة إلى المَلك ولكنَّه رفض الأخذ بها. هذا على مستوى السياسة، والكتاب لا يهتمُّ بهذه الأمور إلاَّ من أجل هدفه.
السبب الحقيقيّ: لأنَّ الشعب ترك الربّ. هذا ما نقرأ في سفر الملوك الثاني: «وكان أنَّ بني إسرائيل خطئوا إلى الربِّ إلههم الذي أصعدهم من أرض مصر... واتَّقوا آلهة أخرى، وسلكوا بحسب فرائض الأمم» (17: 7ي). وعدَّد «المؤرِّخ» العبادات على المرتفعات، والأنصاب والتماثيل. ودعاهم الربّ: «ارجعوا عن طرقكم الرديئة، واحفظوا وصاياي وفرائضي... فلم يسمعوا... فسُبيَ إسرائيل من أرضه إلى أشور إلى هذا اليوم» (آ23).
«إلى هذا اليوم». ما معنى هذا؟ هو لا يزال في السبي، مهجَّرًا عن أرضه. هذا يعني أنَّ المؤمن ينطلق من الحاضر التعيس ويتطلَّع إلى الماضي، فيرى إحسان الربِّ من جهة وغياب عرفان الجميل من جهة أخرى، أمانة لدى الربِّ وخيانة لدى الشعب.
وهذا واضح منذ بداية سفر القضاة حيث المعادلة واضحة: «وفعل بنو إسرائيل الشرَّ في عيني الربّ، وعبدوا البعل وتركوا الربَّ إلههم... وساروا وراء آلهة أخرى... فحميَ غضب الربّ فدفعهم إلى الناهبين فنهبوهم» (2: 11ي). فالخطيئة تحمل العقاب في ذاتها. يبتعدون عن الربِّ فيصلون إلى أعماق الذلّ. كم يشبهون الابن الضالّ الذي انتهى به الأمر مع الخنازير (لو 15: 15-16)! ولكن حين عاد، أُقيمَتْ له الوليمة. وهذا ما يحصل للقبائل: يمرُّون في الضيق، فيتوبون ويرفعون الصلاة إلى الله. فيرسل الله «القاضي» الذي قد يفضُّ خلافاتهم. ولكن هو قبل كلِّ شيء من يقضي لهم، أي يهتمّ بأمورهم، وخصوصًا في وجه الأعداء الآتين للنهب والسلب: يزرع الشعب فيأتي المديانيُّون وبنو عماليق. تخيَّلوا أنَّ جدعون لم يكن يدرس القمح على البيدر، بل في المعصرة «لكي يهرِّبها من المديانيِّين» (قض 6: 11). جدعون خلَّص الناس من بني مديان، في الجنوب. ويفتاح من جلعاد في الشرق، وشمشون من الآتين الجدد من بلاد اليونان. أمّا دبُّورة وهي القاضية الوحيدة، فاستعانت بباراق لإبعاد يابين وقائد جنده سيسرا (قض 4: 1ي).
الربُّ يختار هؤلاء القضاة كما كان الأمر بالنسبة إلى جدعون، مثلاً. جاءه الملاك: «الربُّ معك أيُّها الجبّار» (6: 12). ويرسل إليه روحه فيعطيه القوَّة والشجاعة. عندئذٍ، لا حاجة إلى الجيش الكبير، ثلاثمئة شاب يكفون.
*  *  *
هو التاريخ والأخبار «الدينيَّة». مُلك سليمان وعظمته برزا حين بنى الهيكل ونظَّم البلاد وأقام العدالة، كما صنع مثلاً مع هاتين المرأتين الزانيتين (1 مل 3: 16ي)! اكتشف الأمَّ الحقيقيَّة ورذل الأمَّ المزيَّفة: «أعطوها الولد الحيَّ، ولا تميتوه فإنَّها أمُّه» (آ27). ولكنَّ الضعف بان عندما «أحبَّ نساء غريبات» وبنى لكلِّ امرأة قصرًا، وكلُّ هذا على حساب الشعب: السخرة، الضرائب الثقيلة، واستعباد الناس. أنعجب بعد ذلك أن تقوم الثورات عليه في أيَّامه، وينفجر الوضع في أيَّام ابنه، فتنقسم المملكة بين شمال وجنوب، بين السامرة وعلى رأسها أحد رجال سليمان، يربعام، وبين أورشليم عاصمة يهوذا التي صارت مملكة صغيرة جدًّا، وكأنَّها غير موجودة؟
لهذا دُعي هذا التاريخ «التاريخ الاشتراعيّ»، لأنَّه دُوِّن في شكله النهائيّ بعد العودة من السبي سنة 538 ق.م. وعلى ضوء ما يقوله سفر التثنية. فيتحدَّث عن واجبات المَلك دون أن يذكر اسمه: «لا يُكثر له الخيل... ولا يكثر له نساء لئلاَّ يزيغ قلبه. وفضَّة وذهبًا لا يكثر له كثيرًا» (تث 17: 16-17). وبماذا يستنير الملك؟ لا بآراء الملوك المجاورة، ولا بحكمة المستشارين الذين همُّهم الربح السريع والتسلُّط على الناس. فيقول له سفرُ التثنية: «وعندما يجلس الملك على كرسيِّ مملكته، يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة في كتاب، من عند الكهنة واللاويِّين، فتكون معه، ويَقرأ فيها كلَّ أيَّام حياته، لكي يتعلَّم أن يتَّقي الربَّ إلهه ويحفظ كلمات هذه الشريعة وهذه الفرائض ليعمل بها، لئلاَّ يرتفع قلبه على إخوته، ولئلاَّ يحيد عن الوصيَّة يمينًا أو شمالاً» (آ18-20).
عن أيِّ شريعة يتكلَّم؟ عن سفر تثنية الاشتراع الذي قيل عنه إنَّه وُجد في الهيكل. ففي سنة 622 ق.م.، قال حلقيا الكاهن العظيم: «وجدتُ سفر الشريعة في بيت الربّ» (2 مل 22: 8). وأخذه إلى الملك يوشيّا الذي مزَّق ثيابه حين عرف محتواه، وقام بإصلاح فنال التهنئة من لدن الربِّ بواسطة خلدة النبيَّة (آ14). فهذا الملك تواضع أمام الربّ وما ترفَّع قلبه. سمع ما قاله الربُّ وبدأ بإصلاح كبير وجدَّد العهد في خطِّ ما فعل موسى على جبل سيناء. أزال التماثيل والنصب. واحتفل بعيد الفصح بطريقة كان الشعب أضاعها منذ أيَّام القضاة (2 مل 23: 21ي). وأنهى سفر الملوك الثاني الكلام عنه: «لم يكن مثله ملك، رجع إلى الربِّ بكلِّ قلبه وكلِّ نفسه وكلِّ قوَّته، حسب كلِّ شريعة موسى» (آ25).
نحن هنا في صلاة يتلوها المؤمن كلَّ يوم: «اسمع، يا إسرائيل! الربُّ إلهنا ربٌّ واحد. فتحبَّ الربَّ إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ قوَّتك. ولتكن هذه الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك، واروِها على أولادك، وتكلَّم بها حين تجلس في بيتك، وحن تمشي في الطريق، وحين تنام وحين تقوم...» (تث 6: 4-7).
هكذا تعيش المملكة، هكذا تعيش كلُّ الجماعة، فينطلق تفكيرها وعملها وحياتها من محبَّة الله والعمل بوصاياه. أمَّا الملوك الذين تعاقبوا على إسرائيل ويهوذا، فحكمَ عليهم الكاتبُ الاشتراعيّ حكمًا قاسيًا: فبعد سليمان الذي أكثر من النساء «اللواتي أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الربِّ إلهه كقلب داود أبيه... بل عمل الشرّ» (1 مل 11: 3ي)، قيل عن ابنه رحبعام: «وعمل يهوذا الشرَّ في عيني الربِّ، وأغاروه أكثر من جميع ما عمل آباؤهم بخطاياهم التي خطئوا بها» (1 مل 14: 22). أمّا أبيام فلم يبتعد عن خطايا أبيه يربعام الذي صنع «عجلاً» في الشمال وفي الجنوب بحيث لا يمضي الشعب إلى أورشليم فيميل قلبهم عن الملك. ولم يكن ناداب أفضل من أبيه (1 مل 15: 25). وتتواصل السلسلة إلى منسَّى الذي قيل عنه إنَّه قتل النبيَّ إشعيا حين نشر الشجرة التي كان مختبئًا فيها ونشر إشعيا. فشابه هيرودُس حين قطع رأس يوحنّا كرامة هيرودية التي أخذها من أخيه. وكما لاحق منسَّى إشعيا، كذلك فعل أخاب وامرأته إيزابيل مع إيليّا، فهدَّدته بالقتل بسبب ما فعل مع أنبيائها وكهنتها على جبل الكرمل (1 مل 19: 1-2).
*  *  *
وهذا ما يقودنا إلى نظرة أخرى حول أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك. دعاها الذين كتبوها الأنبياء الأوَّلين، تجاه اللاحقين الذين هم إشعيا وإرميا وحزقيال والاثنا عشر. لماذا هذه التسمية؟ أوَّلاً بسبب الأنبياء المذكورين في هذه الأسفار سواء ذُكرت أسماؤهم أم أُغفلَتْ، سواء كان دورهم كبيرًا أم عابرًا.
نذكر مثلاً ميخا بن يملة الذي هو غير ميخا النبيّ الذي ترك لنا كتابًا بين كتب الأنبياء الاثني عشر. فميخا هذا كان في مملكة إسرائيل، في الشمال. أراد أخاب ورفيقه ملك يهوذا أن يسألا الربّ. أوَّلاً، أتى الأنبياء العديدون، وكلُّهم تنبَّأوا للملك بالنصر. وأتى ميخا بعد أن نبَّهوه: «هوذا كلام جميع الأنبياء بفم واحد، وهم يبشِّرون الملك بالخير. فليكن كلامك مثل كلام واحد منهم» (1 مل 22: 13). ماذا كان جواب ميخا؟ «ما يقوله لي الربّ، إيَّاه أقول». ولمّا قال الحقيقة، كان عقابه لطمة من أحد الأنبياء الكذبة، وحبسًا مع الخبز والماء.
في زمن داود، هناك أكثر من نبيّ. ومنهم ناتان. هذا نبَّه الملك أوَّلاً بأن يديه امتلأتا بالدماء، وبالتالي هو لا يستطيع أن يبني بيتًا لله (2 صم 7). ولما خطئ فزنى مع بتشابع وقتل لها زوجها أوريّا لكي يستطيع أن يتزوَّجها، جاء ناتان. أعطاه مثلاً، وفي النهاية بيَّن له أنَّه هو «هذا الرجل» الخاطئ، الذي يستحقُّ الموت لأنَّه فعل ما فعل (2 صم 12). وحين أراد داود أن يحصي الشعب وكأنَّ الشعب ملكه، جاءه نبيٌّ آخر اسمه جاد، ونبَّهه إلى العقاب الذي ينتظره. إذا كان لا يحقُّ لأحد أن ينبِّه الملك حين يتجاوز الشريعة، فالنبيّ هو هنا.
هكذا تدخَّل إيليّا حين ظلم أخاب وإيزابيل نابوتَ اليزرعيليّ: شهود الزور، الرجم، الاستيلاء على الكرم المحاذي لقصر الملك (1 مل 21). ومضى الملك بكلِّ افتخار بعد أن سمع من امرأته، خادمة البعل، لا من الله من خلال الشريعة. قالت له إيزابيل: «قُمْ رِثْ كرم نابوت اليزرعيليّ الذي أبى أن يعطيك إيَّاه بفضَّة، لأنَّ نابوت لم يَعُد حيًّا، بل مات» (آ15). ولكنَّ إيليّا سبق الملك إلى ذاك الحقل، بعد أن أرسله الربُّ. وقال لأخاب: «قتلتَ وورثتَ أيضًا؟ هكذا قال الربّ: "في الموضع الذي لحست فيه الكلابُ دم نابوت سوف تلحس أيضًا دمك"» (آ19). عندئذٍ اعتبر أخاب النبيَّ إيليّا عدوًّا له. فأجابه إيليّا: «بعتَ نفسك لعمل الشرِّ في عيني الربّ» (آ20). صار الملك عدوَّ نفسه. ولكنَّ من يجرؤ أن يقول اليوم أيَّ كلام لرئيس أو ملك أو زعيم! ربَّما يُقطع رأسه في أخفِّ الحالات. هذا إذا لم ينله العقاب بعد العقاب هو وأهل بيته وكلُّ من يكون صديقًا له. أما هكذا هرب باروك بعد أن هُدِّد إرميا. قيل له: امضِ واختبئ. ولكن في أيِّ حال، لا خوف على «الملوك» في أيَّامنا بعد أن صمت الأنبياء. ومن يجرؤ أن يقول للكتبة والفرِّيسيِّين في أيَّامنا: «الويل لكم!» فيسوع قال، فكان له الصلب بين لصَّين.
والنبيُّ لعب دورًا رائعًا حين أطلَّت الحرب الأهليَّة بين جماعة رحبعام بن سليمان ويربعام الذي قسم المملكة. واحتشدت الجيوش مع الأرقام المضخَّمة: مئة وثمانون ألف محارب! (1 مل 12: 21). هي طريقة رمزيَّة للكلام عن الخطر الذي يلي الانقسام في الجماعة الواحدة. «وكان كلام الله إلى شمعيا النبيّ، رجل الله، قائلاً: "... هكذا قال الربّ: لا تصعدوا ولا تحاربوا إخوتكم"» (1 مل 12: 24). الحمد لله أنَّهم «سمعوا لكلام الربّ» ومضى كلُّ واحد إلى بيته. وكان الربُّ قال: «من عندي كان هذا الأمر». أي هو سمح بأن تنقسم المملكة. فسفر الملوك الأوَّل يروي أنَّ النبيَّ أحيّا الشيلونيّ قام بفعلة رمزيَّة: مزَّق الرداء اثنتي عشرة قطعة، وأعطى يربعام عشر قطع (11: 3—31)، كعلامة بأنَّه يملك على عشر قبائل ولا يبقى لرحبعام بن سليمان سوى قبيلتين.
أجل، في نظر الأنبياء، الله سيِّد التاريخ، وهو يستبق كلَّ مبادرات البشر. عمليًّا، ظلمَ رحبعام شعبه. وإذ أراد هذا الشعبُ أن يخفِّف الملكُ الضرائب، أجابهم: «أبي أدَّبكم بالسياط وأنا أؤدِّبكم بالعقارب» (12: 11)، أي بالحزام المملوء مسامير. فكان جواب الناس الثورة: «أيُّ قسمة لنا مع داود!» (آ16).

الخاتمة
التاريخ نقرأه على ضوء كلام الله، لا بحسب ما يظنُّ البشر. فالمؤرِّخون العاديُّون يذكرون الحروب التي قام بها هذا البطل أو ذاك. ويحصون عدد الجنود والمركبات الحربيَّة، كما كان الأمر بالنسبة إلى أخاب، أو هم يوردون ما فعله سليمان حين بنى القلاع والحصون وأمَّن أمكنة للخيل التي كان يأتي بها من مصر. فهو أخذ بطرق الحياة في مصر، أمّا ملوك السامرة فراحوا في خطِّ الفينيقيِّين، بما فيه عباداتهم للبعل وعشتروت وإقامة الصلوات على المرتفعات، مع كلِّ ما في ذلك من فلتان.
مثل هذه الأخبار السريعة أو الأمور الضيِّقة، لا تستحقُّ أن تُوضَع في كتب التاريخ الواسعة. من يَذكر يفتاح أو شمشون في حوليّات مصر أو أشور؟ كلُّ هؤلاء الأشخاص هم كلا شيء. فما أراده الكاتب الملهم هو أن يرى يد الله الفاعلة في الكون. وكم يحزن حين يرى الملك يحيد عن طريق الوصايا، والشعب ينسى الربَّ الإله وبالتالي القريب. أمثلُ هؤلاء يستحقُّون أن يكونوا شعبًا يدعوهم الله «شعبي» وهم يدعون الله «إلهنا»؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. لهذا ذكَّر بما في سفر التثنية من أمور عديدة تحفظهم من العبادات الوثنيَّة التي تحيط بهم، وخصوصًا أرسل إليهم الأنبياء الواحد تلو الآخر. وسواء قبلوا أو لم يقبلوا بهذا الصوت الواصل إليهم، فهم يعرفون أنَّ بينهم نبيًّا وأنَّ الله لا يتخلَّى عن أبنائه وبناته. فهو يريد أن يجمعهم تحت جناحيه كما الدجاجة مع فراخها (مت 23: 37). فالله إله الخلاص، لا إله الهلاك. يقف في وجه الظلم من أيِّ جهة أتى، ويدعو إلى حياة من السلام. ولكنَّ الطريق طويلة. والله، ذاك الصبور والطويل الأناة، ينتظر متى نتجاوب معه. وكم فرح حين تلا سليمان صلاته عند تدشين الهيكل: «أيُّها الربُّ، إله إسرائيل، ليس إله مثلك في السماء من فوق، ولا على الأرض من أسفل، حافظ العهد والرحمة لعبيدك السالكين أمامك بكلِّ قلوبهم» (1 مل 8: 23). وبعد أن يطلب الغفران يعلن: «فاسمع أنت من السماء، مكان سكناك، واغفر واعمل، وأعطِ كلَّ إنسان حسب كلِّ طرقه، كما تعرف قلبه، لأنَّك وحدك تعرف قلوب البشر، لكي يخافوا كلَّ الأيَّام التي يحيون فيها على وجه الأرض» (آ39-40).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM