الفصل الثاني
سفر إشعيا إنجيل خامس
أمام أسفار العهد القديم موقفان في هذه الأيَّام. موقف أوَّل يرفضه كلِّيًّا لأنَّه يربطه بدولة إسرائيل وما تحمل من قتل وظلم في شعب سحقته وأبعدته عن أرضه، فاستحقَّت حكم عاموس: «لأنَّهم طاردوا بالسيف إخوتهم، من دون رحمة، وجعلوا غضبهم يفترس إلى الأبد، وحفظوا حقدهم على الدوام» (1: 11-12). وفي أيِّ حال، تفسير اليهود اليوم للكتاب المقدَّس لا يصل إلى هدفه الذي هو يسوع المسيح، لهذا يبقى ناقصًا إن لم نقل مشوَّهًا، فيمزجون الحاضر بالماضي، ويشرِّعون ما يعملون اليوم باسم القوَّة الغاشمة. وأخيرًا يعتبرون «نفوسهم» المسيح، وبخلاصهم يخلص الكون. أمّا الكتاب المقدَّس فينبِّههم مرارًا أنَّ الأرض لهم إن هم حافظوا على وصايا الله، وإلاَّ تكون آخرتهم تعيسة. هو موقف نرفضه.
والموقف الثاني يرى في الأنبياء أشخاصًا يعرفون الغيب، وأنَّه ينبغي علينا أن نقرأ كلام الله قراءة حرفيَّة. ثمَّ إنَّ النبيَّ تكلَّم مسبقًا وبشكل دقيق عمّا نجد في العهد الجديد. هل نعرف أوَّلاً أنَّ العهد القديم لم يصل به الوحي إلى الحياة الأخرى، بل لبث يعتبر بركة الله محصورة في هذا العالم، مع المال الوفير والبنين العديدين والصحَّة والعمر الطويل؟ مثل هذه العقيدة ستكون واضحة مع دانيال (12: 2). فالكتاب المقدَّس هو كلام إنسان، كلام إشعيا أو إرميا، وبالتالي هو محدود في الزمان والمكان. فإشعيا العائش حوالي سنة 740 ق.م.، يكلِّم «أحاز بن يوتام بن عزيّا ملك يهوذا» (7: 1). والخطر محدَّد: «الحرب الأراميَّة (آرام بعاصمتها دمشق، مع ملكها رصين) الإفرائيميَّة (مملكة إسرائيل، عاصمتها السامرة، وملكها فقح بن رمليا). أمّا المسألة الأساسيَّة فهي: هل يكون للملك وارث بعده؟ والجواب: نعم. لا تخافوا «يا بيت داود» (آ13). وهذا الموقف نرفضه أيضًا.
فالكتاب المقدَّس، كلام البشر، هو في الوقت عينه كلام الله، بإلهام الروح القدس، ولهذا فهو يتعدَّى الزمان والمكان. استطاع أن يقرأه العهدُ الجديد ويطبِّقه على يسوع المسيح، لأنَّ كلَّ ما في العهد القديم، من أشخاص وأعمال وأقوال، يجب أن ينتهي مع المسيح والكنيسة، وإلاَّ نستغني عنها نحن المسيحيِّين. فما قيمة الذبائح التي يتحدَّث عنها سفر اللاويِّين؟ حتّى اليهود لم يعودوا يمارسونها، فماذا تنفع المسيحيِّين؟ هي من بقايا عادات تجاوزها الزمن.
هكذا سوف نقرأ إشعيا، الذي دُعيَ «نبيَّ المسيح»، والذي سُمِّيت نبوءته «الإنجيل الخامس». هذا لا يعني أنَّ النبوءة في ذاتها توصل إلى يسوع المسيح. فلو كان الأمر كذلك لصار اليهود كلُّهم مسيحيِّين. بل هي تستضيء بالعهد الجديد فتصل بنا إلى الإنجيل. ونتذكَّر هنا كلام المجمع الفاتيكانيّ الثاني: العهد الجديد يجد جذوره في العهد القديم. فما قيمة شجرة لا جذور لها. والعهد القديم يجد كماله في العهد الجديد، على ما قال الربُّ في الإنجيل: «ما جئت لأنقض بل لأتمِّم» (مت 5: 16).
وانطلاقًا من هنا، نقرأ حياة يسوع، منذ الطفولة حتّى الصليب، في العهد الجديد، على أن نعود إلى الجذور في نبوءة إشعيا، مع ثلاث محطّات: طفولة يسوع، حياته العلنيَّة، آلامه وصلبه وموته وقيامته.
1- طفولة يسوع
إذا انطلقنا من العهد الجديد، يستوقفنا مشهدان. الأوَّل، الحبل الإلهيّ كما يرويه القدِّيس متّى (1: 18-25)، والذي فيه يرى الإنجيليّ تحقيقًا لكلام إشعيا (7: 14): «ها هي العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل». أمّا المشهد الثاني فيقودنا إلى بيت لحم مع ولادة يسوع (لو 2: 1-21): «فولدت ابنها البكر، فلفَّته وأضجعته في مذود لأنَّه لم يكن لهما موضع في المنزل». هنا نعود إلى إشعيا مع الفرح الذي يملأ القلوب (9: 2)، والتأمُّل في هذا «الولد» الذي تُعطى له صفات إلهيَّة إذ هو «يوطِّد عرش داود»، ثمَّ يكون ذاك «الإله القدير» التي تتوطَّد «أركان مملكته»، من الآن وإلى الأبد. ومشهد الميلاد ينقلنا إلى الهيكل حيث نسمع سمعان الشيخ يتحدَّث عن الطفل الذي يكون «نورًا للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل». كلُّ هذا يعيدنا إلى التعارض التامّ بين زمن الحرب والدمار وبين السلام والبناء: «الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في أرض الموت وظلاله أشرق عليهم نور» (إش 9: 1).
أ- ها إنَّ العذراء
خطب يوسف مريم، ولكن ها هي هذه الصبيَّة حبلى قبل أن «يعرفها» خطِّيبُها، قبل أن يسكن معها تحت سقف واحد. أمرٌ غير معقول على المستوى البشريّ، فكيف يسَع يوسف أن يتقبَّل هذا الواقع؟ هل هي زانية؟ هذا مستحيل. فالطهر يعبق منها. والقداسة التي جعلت الطفل يوحنّا يتحرَّك في حشا أمِّه إليصابات، أثَّرت بيوسف تأثيرًا عميقًا. لم يفهم يوسف شيئًا، فأراد بكلِّ بساطة أن يهرب من هذه «النار» الآكلة. قال متّى: «أراد أن يتركها، أن يبتعد عنها سرًّا». هكذا لا يعرف به أحد. فالأمر فوق مقدوره.
عندئذٍ جاءه الملاك في الحلم. اعتاد الله أن يكلِّم الناس في هدأة الليل، كما مع صموئيل (1 صم 3: 10ي)، أو في الحلم حيث لا يُرى الله، بل يُسمَع فقط. والله يكلِّم المؤمن أيضًا بواسطة الملاك. هكذا يكون عازلٌ بين الله والإنسان، لأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يرى الله أو يلمسه دون أن يعرِّض حياته للموت. ذاك ما حصل لموسى أمام العلَّيقة الملتهبة: «تراءى له ملاك الربّ» (خر 3: 2). وبعد ذلك كان الحديث مع الله: «فقال له الربّ...» (آ7).
أمّا يوسف، خطِّيب مريم، فنال الاثنين معًا. كلَّمه الملاك في الليل: «تراءى له في الحلم قائلاً: يا يوسف» (مت 1: 21). تقبَّلَ يوسفُ كلام الله، لا كما من فم البشر، بل في تحريك باطنيّ. ولكنَّه ما زال يحتاج إلى النور. لهذا جاءت الآية الكتابيَّة من إشعيا النبيّ: «ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابنًا». كلام الله ينير حياتنا ويقدِّم الحلَّ لصعوباتنا. كلام الله كان سلاحًا في يد يسوع تجاه حربه مع إبليس: «لا يحيا الإنسان بالخبز وحده» (مت 4: 4؛ رج تث 8: 3). ثمَّ: «لا تجرِّبِ الربَّ إلهك» (مت 4: 7؛ رج تث 6: 16). وأخيرًا، «للربِّ إلهك تسجد وإيَّاه وحده تعبد» (مت 4: 11؛ رج تث 6: 13).
وهكذا جاء كلام الربِّ، فتقبَّل يوسف ما طلب منه الملاك: «ما إن نهض من نومه حتّى صنع كما أمره ملاك الربّ، فأخذ امرأته ولم يعرفها حتّى ولدت ابنها البكر وسمّاه يسوع». حبلٌ في البتوليَّة. ولادة في البتوليَّة. قرأ يوسف الإنجيل قبل الإنجيل، أو بالأحرى سمع الإنجيل الآتي من عند إشعيا بواسطة الملاك. وهكذا كانت له البشرى والخبر الطيِّب.
* * *
وها نحن نعود إلى «الإنجيل الخامس»، إلى نبوءة إشعيا. لو قابلناها بما حصل للعذراء لبقيت ناقصة. فالعهد القديم يحتاج دومًا إلى ضوء العهد الجديد. وهكذا يتبدَّل معنى الأمور كلِّيًّا. وها نحن نقرأ النبوءة بشكل حرفيّ، فنتعرَّف إلى العذراء، إلى عمانوئيل. «لذلك يعطي أدوناي (أي السيِّد) هو لكم آية (عملاً عجيبًا، يدعوكم إلى الإيمان): ها الصبيَّة (هـ. ع ل م ه، غلامة. الفتاة في عمر الزواج، تجاه الغلام، الطار الشارب، أي الذي طلع شاربه فدخل في عمر الزواج) حبلى ووالدة (أي: تلد، هو اسم الفاعل) ابنًا وتدعو اسمه معنا (ع م ن و) إيل (أو: الله)». ذاك ما نقرأ في إش 7: 14. والصبيَّة لفظٌ محدَّد مع «هـ» (أي أل) التعريف. هي صبيَّة محدَّدة، عروس الملك.
تحوَّل النصُّ تحوُّلاً أوَّل، وذلك في الترجمة السبعينيَّة. فإنَّ «ع ل م ه» يجب أن تترجَم neaniς (صبيَّة)، كما فعل أكيلا مترجم الكتاب ترجمة حرفيَّة في القرن الأوَّل المسيحيّ. وهكذا نفهم أنَّه على المستوى اليهوديّ، لا يمكن أن يدلَّ نصُّ إشعيا على المسيح. ولكنَّ السبعينيَّة ترجمت «ع ل م ه» parqenoς التي تعني العذراء والبتول. لماذا؟ لكي تشرح لفظ «آية» (أ و ت في العبريَّة). ما هذه العلامة التي تقود إلى الإيمان، إن كانت صبيَّة، إن كانت زوجة الملك حبلت، ولدَتْ ابنًا؟ لا عجب في ذلك، وإشعيا يدعو الشعب إلى الإيمان، إلى الارتفاع فوق المفهوم البشريّ: «إن لم تؤمنوا (ت أ م ي ن و) لن تأمنوا (ت أ م ن و) (إش 7: 9). أي إن لم يكن عندكم إيمان لن تعرفوا الأمان الحقيقيّ والسلام. بما أنَّ هناك علامة shmeion من عند الله، فالأية تكون «إلهيَّة» وتتجاوز مفهوم البشر.
وإذ عرف الإنجيل أنَّ يسوع وُلد من بتول، بفعل الروح القدس، رأى أنَّ الآية الإشعيائيَّة تنطبق على العذراء، والعذراء تعطي كلام النبيّ كامل معناه: «ها إنَّ (مريم) العذراء حبلت وولدت ابنًا ودعت اسمه يسوع». ومن هو هذا المولود؟ قال إشعيا في 7: 14: عمانوئيل emmanouhl. ماذا عنى هذا الكلام على مستوى الملك أحاز؟ أنَّ الله لا يتركنا. والسلالة الملكيَّة تتواصل ولا تنقطع. وفي الواقع، كان للملكة الصبيَّة ابنٌ هو حزقيّا الذي انضمَّ إلى العرش سنة 728 ق.م. غير أنَّنا نبقى بعيدين جدًّا عمّا وصل إليه هذا الاسم في العهد الجديد: لم نعد أمام تمنٍّ ونداء، بل صرنا أمام حقيقة وواقع. حقًّا هذا الطفل هو «الله معنا». وما بدأ به إنجيل متّى سوف ينهيه. فالمسيح الذي دعا تلاميذه على الجبل، بعد القيامة، قال لهم: «... ها أنا معكم طوال الأيّام إلى انقضاء الدهر» (28: 2). تلك هي أوَّل آية إنجيليَّة في نبوءة إشعيا.
ب- وُلد لنا وَلد
ونواصل قراءة إنجيل متّى (2: آ1): «ولمّا وُلد يسوع». فهذا الولد لن يكون طفلاً عاديًّا مثل سائر الأطفال. قابله إنجيل لوقا مع الطفل يوحنّا بن زكريّا. ولكن شتّان ما بين الإنسان والله. ويوحنّا نفسه فهم أنَّه وإن جاء بعده فهو أعظم منه، لأنَّه كان قبله «ومن فيض نعمه نلنا نعمة على نعمة» (يو 1: 15). وقال يوحنّا أيضًا: «هو الذي يجيء بعدي، ويكون أعظم منِّي، وما أنا أهلٌ لأحلَّ رباط حذائه» (آ27). وأضاف في موقع آخر: «ما أنا المسيح، بل رسول قدَّامه» (يو 3: 28).
هذا الولد الذي لم يعرف بمولده سوى بعض الرعاة، حرَّك الأرض بأقطارها الأربعة، فجاء إليه الملوك : من آسيا حاملين اللبان أو البخور، ومن أفريقيا حاملين المرّ الذي هو المادَّة الأساسيَّة في تحنيط الأجساد. فإذا كان يسوع ابن الله وله وحده يُرفَع البخور، فهو إنسان شبيهًا بنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة. والهديَّة الثالثة هي الذهب وقد حملوه من أوروبّا، من ترشيش في بلاد إسبانيا. هكذا تحدَّث عنهم آباء الكنيسة، ولاسيَّما الآباء السريان ورأوا فيهم أبناء نوح: سام في آسيا، حام في أفريقيا، ويافث في أوروبّا. هؤلاء «أتوا إلى البيت فوجدوا الصبيّ مع أمِّه، فخرُّوا ساجدين له، وقدَّموا له هدايا من ذهب ولبان ومرّ» (مت 2: 11).
وهكذا تمَّ كلام إشعيا الذي يتوجَّه إلى أورشليم موضع الهيكل، فنُقِل الآن إلى بيت لحم حيث «هيكل الله» الذي لم تصنعه أيدي البشر (يو 2: 21): «ثروة البحار تنتقل إليك، وغنى الشعوب إليك يعود وقوافل الجمال تملأ أرضك... حاملين الذهب والبخور ومبشِّرين بأمجاد الربّ» (إش 60: 5-6). والسبب؟ لأنَّه «وُلد لنا ولد».
* * *
قرأنا مت 1-2، ونستطيع أن نقرأ لو 2 ونحن نتأمَّل في النصِّ الإشعيائيّ الذي يتمحور أيضًا حول شخص عمانوئيل: إنجيل، بشارة تعلن حقبة جديدة. كان الناس في الذلّ، صاروا في المجد. كانوا في الظلام، صاروا في النور، كانوا في ظلال الموت، صاروا في عالم الحياة. كانوا في الحزن والكآبة، غمر قلبَهم الفرح:
«الشعب السالك في الظلمة رأى نورًا ساطعًا، والجالسون في أرض الموت وظلاله أشرق عليهم نور، منحتَهم ابتهاجًا على ابتهاج، وزدتَهم فرحًا يا ربّ» (9: 1-2). هذا ما بشَّر به الملاك الرعاة: «فرحٌ عظيم يكون لجميع الشعب: وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الربّ» (لو 2: 10-11). ولماذا هذا الفرح؟ «لأنَّ الله تمجَّد في السماء، ولأنَّ السلام حلَّ على الأرض» (آ14). كانت حروب عديدة تركت الآلاف بل عشرات آلاف القتلى إلى أن هدأت الأمور مع أوكتافيوس الذي هو أوغسطس قيصر (آ1). تلك هي الحالة التي عاشها الشعب في زمن إشعيا مع المدِّ الأشوريّ. ولكن تبدَّلت الأمور.
في الماضي، كانت الشدَّة، والآن وجد الشعبُ الراحة. في الماضي، الظلمة والسواد. فهل تبقى الحالة كما كانت؟ كلاّ. «ينظر إلى الأرض فإذا الشدَّة والظلمة، وسواد الضيق الذي لا ضياء فيه» (إش 8: 22-23). لماذا مثل هذا الوضع المؤلم؟ بسبب الحرب والذهاب إلى السبي والنير على الأكتاف وقضيب المسخِّر: «لأنَّ النير الذي أثقلهم، والخشبة التي بين أكتافهم (لئلاَّ يستطيعوا الهرب) كسَّرتَها (يا ربّ) مع قضيب مسخِّريهم... نِعالُ العدوّ في المعركة مع كلِّ ثوب ملطَّخ بالدماء أحرقتَها مأكلاً للنار» (9: 3-4).
وما سبب هذا التبديل في المجتمع؟ «لأنَّه وُلد لنا ولد، أعطيَ لنا ابن» (آ5). له ملء السلطان (الرئاسة على كتفه)، هو مَلك المسكونة (لو 2: 1)، لا أوغسطس الذي انحصر ملكه في حوض البحر الأبيض المتوسِّط. هو عمانوئيل، إلهنا معنا. وأُعطيَ له عددٌ من الأسماء لا يمكن أن تنطبق على ملك بشريّ مهما اتَّسع ملكه. فهذه الأسماء لا يمكن أن تليق إلاَّ بالله.
- «اسمه عجيب» (ف ل ا). معجزة. ليس بالاسم العاديّ. ونتذكَّر هنا اسم الله، أو الاسم. يكفي أن نقول «الاسم» لكي نعرف أنَّنا نتحدَّث عن الله. ونتذكَّر أنَّنا لا نستطيع أن نعطي لله اسمًا، كما الوالد يعطي اسمًا لولده. اسم هذا الولد يتعدَّى مفهوم البشر. فكما لا نفهم كيف تمَّت المعجزة إلاَّ بالإيمان، كذلك لا نستطيع أن نعرف هذا «الاسم العجيب» إلاَّ بالإيمان، إلاَّ بالارتفاع عن مستوى الأرض. على ما قال الربُّ يسوع لنيقوديمس فميَّز بين «أمور الدنيا» و«أمور السماء» (يو 3: 12). فهذا الولد ليس من الأرض، بل من السماء. لهذا أكمل يسوع كلامه: «ما صعد أحد إلى السماء إلاَّ ابن الإنسان الذي نزل من السماء» (آ13).
- هو المشير والواعظ (ي و ع ص). نحن هنا أمام صفة إلهيَّة تخرج منها المشاريع الكبيرة. فنقرأ مثلاً في 14: 24: «وحلف الربُّ القدير: "ما نويتُه سيكون، وما قضيتُ به سيتمّ"»، وفي 28: 29: «هذه الحكمة ومثيلاتها جاءت من عند الربِّ القدير، وهو عجيب المشورة، عظيم الفهم».
- والتسمية الثالثة: هذا الولد هو «إيل»، أي إله، الله. هو الإله القويّ، الإله الجبّار. نقرأ في هذا المجال تث 10: 17: «لأنَّ الربَّ إلهكم هو إله الآلهة وربُّ الأرباب، الإله العظيم الجبّار (ج ب و ر، في العبريَّة) الرهيب». ويعلن إرميا في صلاته: «أيُّها الإله العظيم الجبّار، الذي الربُّ القدير اسمه، عظيمٌ أنت في المشورة، وقدير في العمل...» (32: 18-19).
- وُلد لنا ولد هو «أب»، وليس بأبٍ موقَّت، بل هو «أبٌ أبديّ»، «أب إلى الأبد، لا نهاية لأبوَّته. وهذا الولد، أخيرًا، هو «رئيس السلام»، على ما نقرأ في زك 9: 10؛ مز 72: 3، 7. وإذا عدنا إلى قض 6: 24 (يهوه شلوم، أو الله سلام) نرى أنَّ السلام يدلُّ على الله. فالله لا يمنح السلام فقط، بل هو السلام. وهنا نفهم نشيد الملائكة: على الأرض السلام. أي نزل الله، ومعه نزل السلام على الأرض حين وُلد الطفل الإلهيّ في مذود، في بيت لحم مدينة داود.
هذا هو إنجيل الطفولة كما نكتشفه في نبوءة إشعيا. وهذا الولد الآتي هو نور الأمم كما أنشده سمعان الشيخ. وفي ميلاده الذي نعيِّده في نصف الليل، نؤمن أنَّ الظلام يزول شيئًا فشيئًا. وعيد الميلاد الذي عُيِّن في مدار الشتاء، يفهمنا أنَّ يسوع، شمس العالم، بدأ يطلع شيئًا فشيئًا، فنستطيع أن ننشد مع أورشليم: «قومي استنيري، فنورك جاء ومجد الربِّ أشرق عليك... فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء إشراقك» (60: 1، 3).
قلنا هذا الكلام في يسوع، فوصلنا إلى المعنى الكامل. ولكنَّ كلَّ هذه التسميات تنطبق على الملك الذي ينال المشورة بواسطة روح المشورة (11: 2؛ رج مز 20: 5). والإله الجبّار ينطبق على الملك (حز 32: 21؛ دا 11: 3) الذي ينال من الله روح القوَّة (11: 2). وأخيرًا، الملك هو أبو شعبه (1 صم 24: 12) ليس فقط في أرض إسرائيل، بل في مصر أيضًا حيث يُدعى الفرعون أبًا للملوك الخاضعين له.
فمتى تصبح نبوءة إشعيا «الإنجيل الخامس»؟ حين تصبُّ في إنجيل الربِّ يسوع المسيح، وإلاَّ تبقى أقوالاً تنطبق على ملوك الأرض وعلى شعب من الشعوب ولا تخرج من أرض فلسطين.
2- حياة يسوع العلنيَّة
قرأنا «الإنجيل الخامس» في الكلام عن طفولة يسوع، وها نحن ننطلق في حياة يسوع العلنيَّة، فنكتشف بداية الرسالة مع يوحنّا المعمدان، والمعجزات التي أجراها الربُّ حيث جعل الصمَّ يسمعون والبرص يطهرون والموتى يقومون، والطريقةَ التي بها مارس الربُّ رسالته في الخفاء وبدون أيِّ عنف. فهمُّه أن يعطي الراحة للمتعبين والثقيلي الأحمال، وأن ينزع النير عن كتف الذين هم في عبوديَّة الشيطان.
أ- يوحنّا المعمدان
حين أراد الرسل أن يملأوا الفراغ الذي تركه يهوذا، طلبوا شخصًا رافق يسوع «منذ معموديَّة يوحنّا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنّا» (أع 1: 22). هنا تبدأ رسالة يسوع في الأناجيل الأربعة. قال متّى: «في تلك الأيّام جاء يوحنّا المعمدان يبشِّر» (يكرز، ينادي) (3: 1). وكيف يعرِّفون عن يوحنّا؟ ذاك الذي تحدَّث عنه إشعيا: «صوت صارخ في البرِّيَّة، هيِّئوا طريق الربّ واجعلوا سبيله مستقيمًا» (آ3).
في الواقع، مضى يوحنّا إلى البرِّيَّة، كما تحدَّث عنه لو 1: 80: «إلى يوم ظهوره لإسرائيل»، سبق المسيح. جاء «قبله» ينادي كما سوف ينادي يسوع: «توبوا، لأنَّ ملكوت السماوات اقترب» (مت 3: 2؛ 4: 17).
يوحنّا هو النبيّ القريب جدًّا من يسوع، ومعه ينتهي العهد القديم ويبدأ العهد الجديد. معه ينطلق الإنجيل على ما قال إنجيل متّى (11: 12). ولكنَّنا نقول: مع إشعيا انطلق «الإنجيل». سنة 586 مضى شعب يهوذا وأورشليم إلى السبي، إلى بابل. فهل يلبثون هناك أم يعودون إلى أرض الربّ؟ كلاّ. فالنبيّ أطلَّ لكي يحرِّر شعبه من العبوديَّة. عزّاه، شجَّعه. قالوا له: الطريق صعبة. هي برِّيَّة شاسعة برِّيَّة الشام فكيف الوصول إلى حيث يقيم الله؟ قال لهم: «صوت منادٍ (هو يقرأ، يدعو الناس واحدًا بعد واحد) في البرِّيَّة (ومن يسمع في البرِّيَّة؟ ولكنَّ هذه البرِّيَّة مثل برِّيَّة سيناء، ويبدو هذا النبيّ مثل موسى جديد، في خروج جديد): وجِّهوا (أديروا وجهكم، لا ظهركم كما كنتم حين تركتم أورشليم. الآن أديروا وجهكم إلى مقام الربّ) طريق يهوه (تطلَّعوا أين هي طريق الربّ) قوِّموا (كانت الطريق معوجَّة. لا اعوجاج مع الربّ، فكلامنا يكون نعم نعم، ولا لا، وما زاد على ذلك يكون من الشرِّير) في البادية (بادية الشام) مسلكًا لإلهنا» (إش 40: 3). فإلهنا لا يمكن أن يتركنا، فهو يأتي إلينا. أمّا نحن فنُزيل الغشّ والكذب من قلوبنا. عندئذٍ يأتي ذاك الذي يدعونا شعبه ونحن ندعوه «إلهنا»، ذاك الذي يهتمُّ بكلِّ واحد منّا.
هنا توقَّف نصُّ إشعيا الوارد في إنجيل متّى: «كلُّ وادٍ يمتلئ، وكلُّ جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجَّات مستقيمة، والشعاب طرقًا سهلة، ويبصر كلُّ بشر خلاص الله» (3: 5-6). وفي آ4: «كما هو مكتوب في سفر أقوال إشعيا النبيّ». فهذا الآتي من العالم الوثنيّ، لوقا الإنجيليّ، قرأ العهد القديم وقرأه في الترجمة السبعينيَّة واستلهمه مرارًا لكي يتكلَّم عن البشارة الجديدة بمجيء يسوع.
كيف انتقل النصُّ الإشعيائيّ إلى اللغة اليونانيَّة، كما أورده لوقا؟ «صوتٌ منادٍ (ق و ل. ق و ر ا)، كانت تعني «صوت ينادي»، فصارت «صوت (إنسان) ينادي» أي صيغة المضاف والمضاف إليه، لا صيغة الحاضر: ينادي الآن. وهكذا التقى اليونانيّ مع ما ورد في مت 3: 3 jwnh bowntoς. واعتبر بعض الشرّاح أنَّ ما نقله اليونانيّ هو الشكل الأصليّ. وهكذا تبعه السريانيّ واللاتينيّ. أمّا «طريق الربّ» فقدَّمها الترجوم الأراميّ: «طريق شعب الله». ثمَّ صار النصّ «سبله لجماعة إلهنا»، وهكذا ابتعدت الصورة التشبيهيَّة حين يكون الله مثل الإنسان. فالطريق ليست للربّ، بل لشعب الربّ. أمّا العهد الجديد، فيرى أنَّ الطريق هي الكلمة المتجسِّد، وهو الذي سار على طرقات الجليل والسامرة واليهوديَّة (أع 10: 38). ويواصل العبريّ مع «مسلك» (م س ل ه) في صيغة المفرد. فطريق يسوع واحدة. ولكنَّ الترجمات وأوَّلها اليونانيَّة جعلت صيغة الجمع tribouς (سبل، مسالك). فالشعب مشتَّت في أماكن عديدة ولهذا فهو يحتاج إلى أكثر من «مسلك» وسبيل.
ونقرأ إش 40: 4 مع «وادٍ» (ج ي ا). هكذا في مخطوط قمران. ما نلاحظ هنا، أبعد من المعنى المادّيّ، المعنى الروحيّ. صارت الجبال والتلال رمزًا إلى الكبرياء (إش 2: 2-14؛ مز 68: 16-17)، ويجب أن تتواضع أمام المسيح الآتي. في السريانيَّة نقرأ الفعل «ن ت م ك ك و ن» الذي هو من جذر «م ك ي ك ا» (المتواضع). الرفيع يتواضع، والمعوجُّ يصبح مستقيمًا. هنا توافق السريانيّ (ع م ر ا، مكان وعر، متنافر) مع العبريّ (ع ق ب، الذي يشكِّل عقبة، ما يكون فيه التواء).
وجاءت آ5 ملخَّصة عند القدِّيس لوقا. ماذا نقرأ في العبريّ؟ «يتجلَّى (ج ل ه) مجد يهوه (الربّ) ويرون (أو: يرى هذا المجدَ) كلُّ بشر معًا، لأنَّ فم يهوه (الربُّ) تكلَّم». حوَّل اليونانيّ «يتجلَّى» إلى «يُرى» (ون ر ا ه)، وتكرَّر فعل «رأى» في صيغة أخرى ojetai. ولكن حيث لا نجد المفعول به في العبريَّة، قالت اليونانيَّة: «خلاص الله». فصارت العبارة: «فيَرى كلُّ بشر خلاص الله». ولكن غابت «ي ح د و» (معًا، كأنَّهم شخص واحد) من اليونانيّ. أمّا النصُّ السريانيّ فجاء مطابقًا كلَّ المطابقة للعبريّ. وأغفل اليونانيّ لفظ «فم» (ف ي، في العبريَّة، في السريانيَّة: ف و م ا) وقال فقط: «لأنَّ الربَّ تكلَّم». أمّـــا إنجيل لوقــا فقال: «فيرى كـلُّ بشر (ب ش ر في العبريَّة، وفي السريانيَّـة: ب س ر ا) sarx (لحم ودم) خلاص الله» (لو 3: 6). هكذا كان الإنجيل في خطِّ السبعينيَّة. أمّا الترجوم الأراميّ فقال: «يرى كلام (م ا م ر ا) الله».
لا شكَّ في أنَّ الله يتمجَّد حين يخلص شعبُه من الأسر البابليّ، وتتوقَّف الأمور هنا. ولكنَّ السبعينيَّة دفعتنا لأن نرى في هذا التدخُّل «الخلاص» swthrian الذي ينتظره المؤمنون، مع يسوع الذي يعني اسمه: «الربُّ يخلِّص». أما هذا هو الإنجيل، ذاك الخبر الطيِّب؟
ب- روح الربِّ عليَّ
تهيَّأت الطريق وها هو الربُّ يأتي. من حدَّثنا عن مجيئه دون أن يدري؟ إشعيا النبيّ. هو نصٌّ قرأه يسوع حين كان في مجمع الناصرة. إليك رواية لوقا: «وجاء (يسوع) إلى الناصرة حيث تربَّى. ودخل المجمع يوم السبت، حسب عادته، وقام ليقرأ» (14: 16). نتذكَّر أنَّ اجتماع السبت يتضمَّن قراءة أولى، وهي القراءة الأساسيَّة، من أسفار موسى الخمسة. والقراءة الثانية تُتلى من الأنبياء. أمّا الكنيسة الأولى فشدَّدت على الأنبياء، لأنَّها رأت عندهم ما يقرِّب العهد القديم من شخص يسوع المسيح ومن العهد الجديد بشكل إجماليّ.
«دُفع إلى يسوع سفر إشعيا النبيّ. ولمّا فتح السفر وجد الموضع المكتوب فيه: روح الربِّ عليَّ، لأنَّه مسحني لأبشِّر المساكين. أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرِّيَّة، وأكرز بسَنَة الربِّ المقبولة» (آ17-19). أيُّ خبر أطيب من هذا الخبر، الذي قيل منذ مئات السنين، أيُّ إنجيل مثل هذا الإنجيل الذي قال فيه يسوع: «اليوم تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم» (آ21)؟
منذ سنوات والناس ينتظرون، وما أجمل الانتظار المليء بالإيمان لدى أناس عرفوا حياة من الشقاء لا يضاهيها شقاء. هم في المنفى خسروا كلَّ شيء. فقراء مساكين. والفعل الذي قرأنا هنا (أبشِّر)، يرتبط بالإنجيل euaggelion. أمّا الفعل فنستطيع أن نترجمه: أنجلَ، حمل الإنجيل إلى المساكين euaggelisasqai. وفي الواقع، أخذ لوقا هذا الفعل بشكله وصيغته كما قرأه في سفر إشعيا (61: 1). بعد هذا، لا نحتاج البرهان بأنَّ نبوءة إشعيا هي إنجيل قبل الإنجيل. ونقرأ نصَّ إشعيا.
61: 1: «روح أدوناي (السيِّد) يهوه (الربّ) عليَّ، لأنَّ يهوه (الربّ) مسح إيَّاي (أو: مسحني) لتبشير (ب ش ر، أو: بشَّر) المساكين، أرسلني لجبر (لأَجبر) منكسريّ قلب، لدعوة (لأدعو) للمسبيِّين عتقًا وللمأسورين فتح كوخ (في العبريَّة: ق ق ح. ق و ح. في السريانيَّة: و ش ر ي ا. ل ا س ي ر ا: اعتاق للأسرى)». ترك قمرانُ وعددٌ من المخطوطات العبرية والسبعينيَّة واللاتينيَّة «أدوناي» (السيِّد)، وقالوا فقط: «روح يهوه (الربّ) عليَّ. أمّا «ف ق ح. ق و ح» فاعتبرت تكرارًا للفظ واحد هو «ف ق ح» أي فتح. أمّا الترجوم فأسهب في الكلام وقال: «تجلَّى إلى النور». وقالت السبعينيَّة: tufloiς: استعاد النظر. فتبعها لو 4: 18. وأخيرًا، تحدَّث العبريّ عن «الأسرى» (ا س و ر ي م). فقالت السبعينيَّة anableyin (العميان). وتبعها لو 4: 18 حين رأى يسوع يشفي الذين فقدوا البصر، وربَّما لا يريدون أن يبصروا مع أنَّ عيونهم مفتوحة (لو 8: 10). فئات عديدة تنتظر الخلاص، اليوم وكلَّ يوم. يُؤخذ الرجال إلى الأعمال الشاقَّة، وتُباع النساء والأولاد، ويُهجَّر السكّان من بلاد إلى بلاد، أين هي البشرى التي تُعيد الفرح إلى القلوب؟ تمنَّى شعب أورشليم الذين كانوا في بابل، فقدَّم لهم إشعيا «إنجيلاً». وعدَهم، ولكنَّ الواقع جاء عكس ما انتظروا: وجدوا بيوتهم مهدَّمة، وأرضهم وُضعت عليها الأيدي. الظلم في كلِّ مكان. الأغنياء يستعبدون الفقراء، والأقوياء يدوسون الضعفاء. في زمن إشعيا لم يحصل شيء. فالإنجيل الذي بشَّر به لا يجد كماله إلاَّ في يسوع: «اليوم تمَّ هذا الكلام المكتوب والذي قرأتُه على مسامعكم».
61: 2 «لدعوة (لأدعو، لأنادي) سنة رضى ليهوه (للربّ) ويوم انتقام لإلهنا، تعزية (لأعزِّي) كلَّ النائحين (الباكين)». نلاحظ أنَّ قمران ترك الواو أمام «يوم»، معتبرًا أنَّ «سنة رضى» تعني «يوم الانتقام». حافظت السريانيَّة والترجوم والسبعينيَّة على هذه الواو واعتبروا «سنة الرضى" غير «يوم الانتقام». أمّا إنجيل لوقا، فتوقَّف عند «سنة الرضى» وترك الباقي. فالإنجيل هو نداء إلى الرحمة والغفران، لا إلى الانتقام من الأشرار، لأنَّ الربَّ جاء من أجل المرضى، لا من أجل الأصحّاء. جاء من أجل الخطأة لا من أجل الأبرار، وهي ناحية يشدِّد عليها لوقا كثيرًا سواء في مثَل الابن الضالّ (ف 15) أو زكّا العشّار (ف 19) أو الخاطئة (ف 7).
ج- العمي يبصرون والعرج يمشون
في قراءتنا إشعيا، لاحظنا كم عرف القدِّيس لوقا هذا النبيّ. وأشار إليه أكثر من مرَّة. فكأنَّه رأى فيه «خبرًا سارًّا» للوثنيِّين الذين يكتب إليهم، وإنجيلاً لجميع المهمَّشين الذين يحتقرهم العالم: العشّار، الخاطئ، الأبرص، السامريّ... هذا عدا المرضى والجرحى الذين لا يهتمُّ بهم أحد (السامريّ الصالح، ف 10). وفي الفصل السابع من هذا الإنجيل، نقرأ عن شفاء «عبدٍ لقائد مئة» (آ2). هو رومانيّ، وثنيّ، لا يحقُّ ليهوديّ أن يدخل بيته لئلاَّ يتنجَّس (آ6). ثمَّ عن شفاء ابن أرملة وحيد لها. يقول الإنجيل: «تحرَّكت أحشاء يسوع عليها» (تحنَّن عليها، آ13). وينتهي لو 7 مع تلك الخاطئة التي لا اسم لها سوى هذا «اللقب» بحيث لا تستحقُّ أن تدخل بيت الفرِّيسيّ، وبالأحرى يجب أن تُبعَد عن هذا «النبيّ» (آ39) الذي كُشف وهو يعمل في خطِّ إيليّا (آ16).
إذًا عاد لوقا إلى نبوءة إشعيا وقرأ فيها ملخَّصًا عن حياة يسوع وأعماله. أمّا المناسبة، فهي إرسال يوحنّا المعمدان تلاميذه ليسألوا يسوع: «هل أنت هو الآتي أم ننتظرآخر؟» في الواقع، تعجَّب المعمدان: أهكذا يعامل يسوعُ «أولاد الأفاعي»؟ أين هو «الغضب الآتي»؟ أهؤلاء الخطأة، الأشرار هم «أولاد إبراهيم»؟ فأين هي «الفأس» الموضوعة «على أصل الشجرة» والتي ننتظر أن تفعل؟ (لو 3: 7-9)؟
ماذا كان جواب يسوع؟ عاد إلى إشعيا وجمع آيات عديدة في آية واحدة، فجعل من أرسلهم يوحنّا يمضون بعد أن عرفوا أنَّ يسوع هو حقًّا المسيح. «اذهبا وأخبرا يوحنّا بما رأيتما وسمعتما: العميُ يبصرون، العرج يمشون، البرص يطهرون، الصمُّ يسمعون، الموتى يقومون، المساكين يبشَّرون» (لو 7: 22). ماذا ينتظر الناس بعد ذلك؟ لا شيء. ولاسيَّما إذا قال لهم يسوع كما قال بعد قراءة إشعيا في مجمع الناصرة: «اليوم تمَّ هذا الكلام الذي قرأتُه في مسامعكم». ونعود إلى النبوءة الإشعيائيَّة.
35: 5-6. هو كلام يدعو المفديِّين إلى الفرح: «تفرح البرِّيَّةُ والأرضُ اليابسة، ويبتهج القفر ويُزهر النرجس» (35: 1) هذا على مستوى الطبيعة. وعلى مستوى البشر، يواصل النبيّ كلامه: «حينئذٍ تتفقَّع عيون العميان، وآذان الصمّ تتفتَّح. حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيِّل، ويترنَّم لسان الأخرس». كان وعد عند إشعيا، فصار حقيقة في الإنجيل، ولا مجال لذكر معجزات يسوع في هذا المجال ولا لمقابلة الألفاظ التي أخذها إنجيل لوقا وإنجيل متّى (11: 5) من إشعيا.
وتحدَّث إشعيا مرَّة أخرى عن الصمِّ والعميان في 29: 18-19: «ويسمع في ذلك اليوم الصمُّ أقوال الكتاب، وتنظر من العتمة والظلمة عيونُ العميان، ويزداد البائسون فرحًا بالربّ، ويهتف مساكين الناس بقدُّوس إسرائيل». خبر سارّ، لهذا يملأ الفرحُ القلوب. ومتى تتمُّ معجزة الربِّ هذه؟ في قلب الويل الذي يصيب مدينة داود (ف 29). بعد أن أصاب أفرائيم أي مملكة إسرائيل (ف 28) وبانتظار أن يصيب الأمَّة المتمرِّدة (ف 30) والمتَّكلين على الآلهة والبشر لا على الربّ (ف 31).
سبق النبيّ فقال بفم الربّ: «لأنَّ هذا الشعب اقترب إليَّ بفمه وأكرمني بشفتيه، وأمّا قلبه فبعيد عنِّي... لذلك ها أنا أعود وأصنع عجبًا عجيبًا، فتبيد حكمة حكمائه، ويختفي فهم فهمائه» (آ13-14). من لا يقرأ هنا إنجيل متّى (15: 8-9) وإنجيل مرقس (7: 7) في إطار التمسُّك الأعمى بالتقاليد؟ وهكذا نكون مع النبوءة في خطِّ الإنجيل حيث عمى الجسد صورة عن عمى آخر، وصمُّ الأذن صورة عن صمٍّ آخر. وهنا نتذكَّر كلام الربِّ لإشعيا في رؤيا الهيكل، وهو كلام سوف يرد في الأناجيل الأربعة: «مهما سمعتم لا تفهمون، ومهما نظرتم لا تبصرون... أجعل قلب هذا الشعب قاسيًا... لئلاَّ يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع إليَّ» (إش 6: 9-10). ردَّد يسوع هذا الكلام (يو 12: 37-41) حين رأى أنَّ اليهود يرفضون الإيمان بيسوع: «ومع أنَّ يسوع عمل لهم كلَّ هذه الآيات، فما آمنوا به، ليتمَّ ما قال النبيُّ إشعيا: "يا ربّ، من الذي آمن بكلامنا، ولمن ظهرت يد الربّ" (إش 53: 1). وما قدروا أن يؤمنوا به، لأنَّ إشعيا قال أيضًا: "أعمى الله عيونهم وقسَّى قلوبهم، لئلاَّ يبصروا بعيونهم ويفهموا بقلوبهم ويتوبوا فأشفيهم"» (إش 6: 9-10). نشير هنا إلى أنَّ النصَّ الإنجيليّ قرأ إشعيا في السبعينيَّة اليونانيَّة.
وبعد هذه المعجزات تبقى قيامة الموتى: «يحيا موتاك وجثثُهم تقوم. استيقظوا، ترنَّموا يا سكّان التراب، لأنَّ نداك ندى النور، والأرض تعيد الراقدين إلى ضوء النهار» (إش 26: 19). هكذا قام ابن أرملة نائين (لو 7)، ولعازر بعد أربعة أيَّام على دفنه (يو 11). واستطاع يسوع أن يقول: «أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي وإن مات سيحيا» (يو 11: 25).
صنع يسوع كلَّ هذه المعجزات، فما استطاع أن يعرف أنَّه المسيح سوى الذين عرفوا أن يقرأوا الأسفار المقدَّسة. وفي أيِّ حال، ما أراد يسوع أن تُعرَف حقيقته قبل الآلام (مر 14: 61-62)، لئلاَّ يضلَّ الناس وهم ينتظرون مسيحًا منتصرًا، منتقمًا، يطرد الرومان، يحطِّم الخطأة، ويبعد الوثنيِّين عن الهيكل المقدَّس. وبيَّن لنا إشعيا كيف تصرَّف يسوع، لأنَّه «عبد» الربّ (أي: ملتصق بالربّ) وعابده، وهمُّه أن يعمل مشيئة الآب الذي أرسله. ونقرأ إش 42:
آ1. «ها عبدي (ع ب د ي) أتمسَّك به (أعضده)، مختاري رضَيْتْ نفسي (عنه). جعلتُ روحي عليه، يخرج قضاء (عادلاً) للأمم.
آ2. لا يصرخ ولا يرفع (صوته) ولا يُسمَع في الخارج صوته».
أين هي العدالة التي يقيمها؟ حين يعيد الحقَّ إلى نصابه. حتّى على مستوى الصحَّة: الأعمى يصير بصيرًا، والأصمّ يسمع، والأعرج يقفز كالأيِّل. لا مجال للعنف عنده ولا للدينونة القاسية. «فابن الإنسان جاء ليخلِّص ما هلك» (مت 18: 11؛ لو 19: 10). ويتواصل كلام إشعيا الذي يورده متّى (12: 17-21) في طريقة تختلف عن العبريّ كما عن اليونانيّ، فتأتي في قلب جماعة قرأت حياة يسوع وأعماله التي لم تتوقَّف عند شعب إسرائيل، فوصلت إلى الشعوب والأمم (إش 53: 3-4).
آ3. «قصبة مرضوضة لا يكسر (ربَّما يستطيع أن يجبرها)، وفتيلة خامدة لا يطفئ (ربَّما عاد النور إليها) حتَّى يخرج القضاء إلى الحقّ (أو: الأمان. أي تصبح العدالة آمنة).
آ4. لا يخمد (أو: يكلّ) ولا ينسحق حتَّى يضع في الأرض القضاء (العادل)، والجزرُ (البعيدة) تنتظر شريعته».
«عبدي»، صار «فتــاي» في خطِّ الأراميّ «ط ل ي ا». أمّا الحقُّ الـــذي يتكلَّم عنـه فيشير إلى توصيــات الله من أجــل علاقته بالبشر. وأخيرًا، «الجزر» (أ ي ي م، في العبريَّة، في السريانيَّة: ج ز ر ت ا) صارت في اليونانيَّة eqnh أي الأمم (الوثنيَّة) وهو اللفظ الذي سوف يستعمل مرارًا في العهد الجديد، للكلام عن غير اليهود تجاه اليهود. وهكذا لا يتوقَّف الإنجيل عند شعب من الشعوب، بل يصل إلى الشعوب كلِّها.
3- حاش يسوع وآلامه
في إشعيا نقرأ أربعة أناشيد اعتُبرت مسيحانيَّة منذ القديم فتأمَّل فيها الآباء، وقرأوا فيها الإنجيل قبل الإنجيل. النشيد الأوَّل (42: 1ي) ذكرناه، وهو يحمل العزاء إلى شعب معذَّب ينتظر العودة من الضيق. والنشيد الثاني (49: 2ي) يأتي في إطار عودة المنفيِّين وتجمُّعهم في أورشليم. هو يكون «نورًا للأمم وخلاصًا إلى أقاصي الأرض» (رج أع 13: 47؛ ثمَّ لو 2: 32 وكلام سمعان الشيخ). النشيد الثالث (50: 4ي) يرينا «عبد يهوه» مطيعًا للربّ بالرغم من الآلام التي تحمَّل:
آ4. «أدوناي (السيِّد) يهوه (الربّ) أعطاني لسان تلاميذ (ل م و د ي م) لمعرفة (لأعرف) إغاثة (كيف أغيث) المسبيّ (المتعب) بكلمة. في الصباح، في الصباح ينبِّه لي إذنًا للسماع (لكي أسمع) كالتلاميذ».
في البداية قالت السبعينيَّة: الربّ، الربّ kurioς, kurioς. أي الربُّ لا غيره. فعابد الربِّ لا يسمع للبشر ولا يسير بحسب طرقهم. التلميذ هو من يتعلَّم. ولكنَّ «اللسان» يحتاج إليه من يعلِّم. لهذا قال الترجوم: «لأعلِّم». صار «عبد الربّ» معلِّمًا، وسوف يقول كلمة الحقّ، وإن ضُرب على فمه كما نقرأ في يو 18: 22. يجب على من دعاه الله أن يتكلَّم «ليغيث» التعبين الذين وصل بهم اليأس إلى حافَّة الموت. أما هكذا يكون النبيّ: يساند، يساعد، يسير مع جماعة العائدين إلى مدينة الربّ.
اللفظ «كلمة» يرد وحده. فالكلمة تحمل قوَّتها في ذاتها، لأنَّها كلمة الربّ. قال الترجوم الأراميّ: «كيف يعلِّم الحكمة للأبرار الذين يتوقون إلى أقوال شريعته (شريعة الربّ)». أمّا السبعينيَّة فقرأت «ل ع و ت» (لغوث) على أنَّها «ع ت» (وقت، زمن) فقالت: «وحين يكون من الضروريّ أن أقول كلمة» hnika dei eipein logon.
ويتردَّد لفظ «الصباح» (ب ب ق ر، باكرًا) مرَّتين، للدلالة على الاستعداد الكبير. في الصباح الباكر. وربَّما يكون المعنى: صباحًا بعد صباح. كلَّ يوم يوقظ الله «عابده»، ينبِّهه لئلاَّ يتراخى. تركَت السبعينيَّة مرَّة واحدة لفظ «صباح» prwi. هو «تلميذ» مثل التلاميذ (ك ل م و د ي م). هنا نتذكَّر علاقة المعرفة بين الآب والابن كما يشدِّد عليها يوحنّا في الفصل الخامس وفي الفصل الثامن.
آ5. «أدوناي (السيِّد) يهوه (الربّ) فتحَ لي أذنًا، ما تمرَّدت ولا عدتُ (تراجعت) إلى الوراء». هنا نتذكَّر صعود يسوع إلى أورشليم في لو 9: 51: «صلَّب وجهه»، جعله صلبًا كالصوَّان، وصعد لا يهاب شيئًا. هنا نقرأ إش 50: 7: «أدوناي يهوه يساعد إيَّاي (= يساعدني)، لذلك ما أُخجلت (لم أخضع للخجل). لذلك جعلت وجهي كالصوَّان وعرفتُ أنِّي لا أُخزى». نجد وصفًا لشخص يتعذَّب بين أيدي جلاّديه ويُحتقر. فرأت الأناجيل في هذا الكلام صورة عن يسوع.
آ6. «أعطيتُ ظهري للضاربين، لحيتي (ل ح ي ي) للناتفين، وجهيَ ما سترتُ من العار والبصاق». قال مت 26: 67: «حينئذٍ بصقوا في وجهه ولكموه، وآخرون لطموه». وقالَ في 27: 30 وز: «وبصقوا عليه، وأخذوا القصبة وضربوه على رأسه».
* * *
ويبقى النشيد الرابع والأخير (52: 13-53: 12): «عابد الربِّ» يُضطهد بيد البشر، ولكنَّ الله يعظِّمه ويرفعه، ليكون ينبوع سلام للذين رفضوا نداء الربّ.
في البداية يتكلَّم الله (52: 13-15) فيعلن كم يرتفع «عابده» بعد أن نال الذلّ من قبل: «هوذا عبدي ينجح، يتعالى، يرتقي، يتسامى». لهذا كانت الدهشة مسيطرة بحيث إنَّ الملوك أنفسهم صمتوا «سدُّوا أفواههم، لأنَّهم أبصروا ما لم يُخبَروا به. ورأوا ما لم يَسمعوا عنه». ماذا أخبروهم، ماذا سمعوا؟ «لم يعد منظره منظر إنسان». كان مشوَّهًا. قال العبريّ: «ذُعروا». ثمَّ «مرآه لم يكن مثل مرأى ابن آدم». فابن آدم ليس كذلك، لم يعد «معروفًا». هذا في الماضي. أمّا الآن فبدا مشعًّا كما قال خبرُ التجلِّي (مت 17: 2).
في 53: 1-6، تكلَّم الجموع فعبَّروا عن دهشتهم: «لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنطلبه» (آ2). ثمَّ: «محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع اختبر الحزن. سترنا عنه وجوهنا (لئلاَّ نراه)، واحتقرناه فما حسبناه شيئًا. لكنَّه رفع أحزاننا وحمل أوجاعنا فحسبناه مصابًا، مضروبًا بيد الله ومذلولاً. أمّا هو فهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. التأديب الذي يمنحنا السلام جاء عليه (لم نؤدَّب نحن، بل أُدِّب هو)، وفي جراحه وَجدنا الشفاء. كلُّنا كنّا ضالِّين كالغنم، ومال كلُّ واحد إلى طريقه (إذ خطئنا، أثمنا)، والربُّ وضع عليه إثم جميعنا».
من هو هذا «العابد» الذي وصلَتْ به الأمور إلى هذا الحدّ؟ لا يمكن أن يكون إنسانًا من الناس. وحده ذاك الذي دعاه يوحنّا المعمدان «الحمل الذي يَرفع خطايا العالم» (يو 1: 29)، يمكن أن يكون هذا الإنسان الذي «من أجلنا ومن أجل خلاصنا، تألَّم ومات وقُبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب» على ما يقول قانون الإيمان.
قال مت 8: 17 مردِّدًا كلام إشعيا: «أخذ أمراضنا وحمل أوجاعنا». جاءه الأبرص فطهَّره (8: 3)، وقائدُ المئة فشفى له خادمه (آ13)، وحماة بطرس «لمس يدها فتركتها الحمّى» (آ15). فانطبقت عليه كلمة إشعيا. وراح بطرس الرسول في الخطِّ عينه فقال: «لأنَّ المسيح تألَّم من أجلنا... وكان يُشتَم ولا يَردُّ الشتم... وحمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة... وبجراحه شُفيتم» (1 بط 2: 23-24).
ويتواصل الكلام عن آلام المسيح في أع 8: 32: «كشاة سيق إلى الذبح» بحسب إش 53: 7. وهذا الذي يُقدَّم للصليب، كان بارًّا لا عيب فيه. فقال بطرس أيضًا: «الذي لم يصنع خطيئة ولم يوجَد في فمه مكر» (1 بط 2: 22؛ رج 1 يو 3: 5). والنهاية تكون مع مرقس (15: 28) ولوقا (22: 37): «أُحصيَ مع الأثمة».
ذاك ما قاله إشعيا في نشيد «عبد يهوه» الرابع: «ظُلم (عاملوه بعنف) فاتَّضع (وقبل الذلّ). ولكنَّه لم يفتح فاه (هكذا بدا في المحاكمة، مر 15: 4)، كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام من يجزُّها، لم يفتح فاه» (إش 53: 7).
الخاتمة
وهكذا قرأنا إشعيا في رفقة الأناجيل الأربعة، ففهمنا حقًّا أنَّ ما كُتب قبل المسيح بمئات السنين، وجدَ كماله في حياة يسوع. لا شكَّ في أنَّه قيل في أشخاص محدَّدين عاصروا النبيّ. ولكنَّ كلام الله يتجاوز الزمان الذي قيل فيه، كما يتجاوز الأشخاص. والعهد القديم هو نهر لا بدَّ أن يصبَّ في البحر، وإلاَّ بقي بشكل مستنقعات كما كان الأمر بالنسبة إلى نهر العاصي، الذي لا يصل إلى البحار، فتغور مياهه ولا تصل إلى مبتغاها. في هذا المعنى نستطيع القول إنَّ سفر إشعيا هو «الإنجيل الخامس»، أو الإنجيل الذي أعدَّ الطريق للأناجيل، فتكلَّم عن يسوع قبل أن يُولَد يسوع. مثلُ هذا الكلام لا يفهمه قارئ الكتب المقدَّسة قراءة حرفيَّة، بل من ينفحه الروح القدس. ولا يفهمه «اليهوديّ» الذي لا يخرج من العهد القديم، بل فقط المسيحيّ الذي يعرف أنَّ العهد الجديد يُعطي أشخاص الكتاب المقدَّس كامل مداها. في مثل هذا الكلام رافقنا آباءنا في الإيمان ولاسيَّما أفرام ويعقوب السروجيّ وغيرهما وغيرهما. بعد القراءة الحرفيَّة أو التاريخيَّة (هي تقرأ الكتاب داخل الكتاب)، تأتي القراءة الروحيَّة التي تستنتج لنا درسًا من أجل حياتنا. وتبقى القراءة الأسمى القراءة السرِّيَّة، تلك التي تدخلنا في سرِّ المسيح والكنيسة. على هذا المستوى فقط نستطيع أن نتكلَّم عن نبوءة إشعيا على أنَّها الإنجيل الخامس.