الفصل الأول: الربُّ يعطيكم آية

الفصل الأول

الربُّ يعطيكم آية

حين سيطر الخوف في مملكة يهوذا وفي أورشليم بالذات، مضى الملك آحاز (736-716) إلى الملك الأشوريّ يطلب منه العون. فالخطر يداهم العاصمة الداوديَّة: تحالفَ ملكُ إسرائيل، فقح بن رمليا (737-732)، مع ملك أرام رصين (أو: رصون) وعدد من الرؤساء، وطلبوا من آحاز أن يدخل في حلفٍ يقف سدًّا في وجه الأشوريِّين. ماذا يفعل هذا الملك الضعيف الذي لا يعرف أن يتَّخذ القرار، بحيث جُعل معه ابنه حزقيّا (716-687) سنة 728، ليسانده في قراراته؟ عندئذٍ أرسل الربُّ إليه إشعيا، وكان يتفقَّد مياه البُركة العليا (إش 7: 3) إن كانت كافية لو وَقع الحصار على المدينة. قال النبيّ: «أطلب لنفسك آية من الربِّ إلهك، عمِّقْ طلبك أو رفِّعه إلى فوق» (آ10). وفي معنى آخر: أطلب الآية في أعماق البحار أو في أعالي السماء. رفض آحاز أن يطلُب، واختبأ وراء ما يقول سفر التثنية: «لا أطلب ولا أجرِّب الربّ» (آ12). فضَّل حماية ملك أشور على حماية الربِّ الإله: «أنا عبدك وابنك، اصعد وخلِّصني من يد ملك أرام ومن يد ملك إسرائيل القائمَين عليَّ» (2 مل 16: 7). رفض الملك حماية الله، ومع ذلك قال له النبيّ: «لكن يعطيكم السيِّد آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل» (آ14).

قبل الكلام عن الآية، نودُّ أن نورد شرح تيودوريه القورشيّ [1]

أيضًا عزم الربُّ أن يتوجَّه إلى آحاز[2] ويقول له: «اطلبْ لك آية آتية من عند ربِّك، في اللجة أو في الأعالي» (إش 7: 11). قال: «بما أنَّك تشكُّ بأقوالي، وتعتبر وعدي كذبًا، أمنحُ كلامي قوَّة بواسطة عمل عجيب. فاطلُب الآية التي تريد، في السماوات أو على الأرض – ذاك هو معنى الكلمات "في اللجَّة أو في الأعالي". والحال أنَّه منح هذه الآية وتلك لابنه الملك حزقيّا[3]: في السماء، أمرَ الشمس أن تعود إلى الوراء[4]. على الأرض، عاقب الأشوريِّين[5]. وأكثر من ذلك، قدَّم هديَّة لحزقيّا حين شفى له جسده[6]. فقال آحاز: "لا أطلبُ ولا أجرِّب الربّ"[7]. فإن هو قدَّم هذا الجواب، فليس لأنَّه آمن، ولو بغياب الآية، بل لأنَّه دلَّ على رفضه» [8].

1-  معنى الآية

«الآية» هي علامة تدعو إلى الإيمان. هي شيء منظور أو حاضر يشير إلى حقيقة خفيَّة أو آتية فيما بعد. وها نحن نقرأها أوَّلاً كما وردت في نبوءة إشعيا.

•  8: 18: «هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الربُّ آيات وعجائب في إسرائيل من عند ربِّ الجنود الساكن في جبل صهيون»[9]. شعب لا يؤمن، وبالتالي لا يقدر أن يبلغ إلى التعليم المختوم للتلاميذ. لهذا يبقى النبيُّ نفسه وأولاده الذين أسماؤهم معروفة. «إشعيا» يعني: الربُّ يخلِّص. أو: خلاص الربّ. ابنه: «شآر ياشوب»يعني: بقيَّة تعود أو تتوب (هو الرجاء والأمل بالمستقبل). ويبقى «أسرعْ إلى السلب، بادرْ إلى النهب». هؤلاء هم «آيات» (في صيغة الجمع) للإيمان الذي طلبه إشعيا، وعجائب أعلن عنها النبيُّ قبل حصولها. فأقوال نبيّ (من الأنبياء) وأعماله هي آيات وعلامات، كذلك حياته كلُّها وأحداث حياته العائليَّة كما كان الأمر بالنسبة إلى هوشع (ف 1-3) وإلى إرميا (16: 1-8) وإلى حزقيال (24: 15-24).

في شرح هذه الآية، قال أوريجان:

وبعد ذلك تنبَّأ المخلِّص بفم النبيّ قائلاً إنه حين ينال هؤلاء الأولادَ، تظهر آيات وعجائب في إسرائيل. وهذا هو النصّ: «تكون آيات وعجائب في إسرائيل من قبل ربِّ القوَّات الذي يسكن على جبل صهيون». فالذي يقيم في هذا «المرقب» الذي منه يستطيع أن يرى حقيقة كلِّ نفس، يصنع آياتٍ وعجائب بفضل المخلِّص، وبعد المخلِّص بفضل الرسل. وفي كلِّ نفس تكون قادرة على خدمة الآيات والعجائب، إمّا بشكل خدمة روحيَّة، وإمّا بشكل خدمة ناجعة، بواسطة إرشاد موجَّه إلى الذين يأتون إلى الإيمان، فالله الذي صنع في ذلك الوقت هذه الآيات والعجائب، لا يبقى جامدًا، بل يعملها اليوم أيضًا[10].

•  20: 3: «فقال الربُّ: كما مشى عبدي إشعيا معرًّى وحافيًا ثلاث سنين، آية وأعجوبة على مصر وعلى كوش»[11]... وتتواصل المقابلة مع ما يحصل لمصر وكوش بيد الأشوريِّين، أجل صار النبيُّ «آية» لمصر التي انهزمت أمام أشور، فقام بفعلة نبويَّة، هي العري، تُبرز تتمَّة الكلمة. وما فعله إشعيا، إنَّما فعله بأمر من الربّ: يُقاد المصريُّون والأحباش أسرى وهم عراة، حفاة. هذا ما حصل سنة 714 ق.م.

•  37: 30: «وهذه لك العلامة (أو: الآية): تأكلون هذه السنة زريعًا، وفي السنة الثانية خلفًا، وأمّا السنة الثالثة ففيها تزرعون وتحصدون، وتغرسون كرومًا وتأكلون أثمارها». الزمن هو هو. ثلاث سنوات. والعدد ثلاثة يدلُّ على ثبات كلام الله. تحلُّ الفوضى في البلاد فلا يستطيع الناس أن يزرعوا ولا أن يحصدوا. ومن أين تأتي الفوضى؟ من المجتاح الأشوريّ. نلاحظ منذ الآن أنَّ لفظ אות يرتبط في إشعيا بالعالم الأشوريّ. فالحالة تعيسة جدًّا، وأكبر آثارها سقوط السامرة سنة 722-721. الأفق مسدود. والمؤمن لا يرى سوى الظلمة والدمار. ومع ذلك تطلُّ الآية وكأنَّها نور في قلب العتمة، فتعيد الأمل إلى أورشليم وإلى سكّانها. بالإيمان نرى ما لا يُرى، على ما قال النبيّ: «إن كنتم لا تؤمنون فأنتم لا تفهمون» مقاصد الله في النهاية.

•  38: 7: «وهذه لك العلامة (الآية) من قِبل الربِّ على أنَّ الربَّ يفعل هذا الأمر الذي تكلَّم به». فالملك حزقيّا الذي قيل له هذا الكلام، يرى موته قريبًا. ومع ذلك يقول له النبيّ: ستعود إليك الصحَّة وتمتدُّ أيَّامك خمسَ عشرة سنة (آ5). هنا تأتي الآية من خلال ساعة شمسيَّة: رجعت الدرجات إلى الوراء. ما يمكن أن يكون بعيدًا، صار قريبًا، وما يمكن أن يكون خفيًّا صار ظاهرًا. وهكذا انتعش الإيمان في قلب الملك.

صلَّى حزقيّا فسمع الربُّ صلاته: «رأى دموعَه وتقبَّل طلبته ووعده بخمس عشرة سنة يعيش فيها، وسلامًا صافيًا وعناية متواصلة. وأعطاه أيضًا لكي يثبِّت مواعيده علامة shmeion ترتدي يقينًا عظيمًا لجميع البشر... ذاك ما قاله الله وحقَّقه. (تيودوريه القورشيّ).

•  38: 22: «وحزقيّا قال: "ما هي العلامة أنِّي أصعد إلى بيت الربّ؟"». ذاك هو النصُّ اليونانيّ touto to shmeion. فلا أثر فيه للسؤال كما في النصِّ العبريّ. ومعنى كلام البنيّ: «أنا واثق بأنِّي أنال الصحَّة، وأنِّي سأمضي وأسجد في هيكل الله، أمام إله الكون».

•  19: 20: «فتكون علامة وشهادة لربّ الجنود في أرض مصر، لأنَّهم يصرخون إلى الربِّ بسبب المضايقين، فيُرسل لهم مخلِّصًا ومحاميًا وينقذهم»[12]. هذه الفقرة الكتابيَّة هي ذروة في نبوءة إشعيا. ففي قلب الخطر الخطير، تأتي الأعجوبة، فتكون آية وعلامة للمصريِّين الذين حلَّ بهم اليأس. صرخوا إلى الربِّ فسمع الربُّ صراخهم، كما سبق له وسمع صراخ العبرانيِّين حين عرفوا الضيق في مصر (خر 3: 9). فالله ليس مع شعب ضدَّ شعب، ولا يقوِّي فئة على فئة. بل هو مع الضعفاء والمضايَقين. صرخ المصريُّون فأرسل إليهم «مخلِّصًا»، كما سبق له وأرسل موسى «مخلِّصًا» للذين كانوا مستعبَدين في مصر. وعملُ هذا المخلِّص عملان: يحامي، ينقذ. وحين يحسُّ سكّان مصر بالحماية والخلاص، يكون ما فعله الله لهم «آية، علامة» تشهد على حضوره. ليس هو الإله الغائب، الذي يشبه الأصنام. إنَّه حاضر، فاعل. ويواصل إشعيا كلامه بحيث نفهم معنى «الآية»: الله لا يُرى. ولكنَّ الناس يرونه الآن بعد أن نالوا خيرًا ما كانوا يتوقَّعونه: «فيُعرَف الربُّ في مصر، ويَعرف المصريُّون الربَّ في ذلك اليوم» (إش 19: 21). فهو لا يَعرف فقط بني إسرائيل، بل يَعرف جميع البشر من خلال أعماله وعجائبه من أجلهم. وأعظم ما نسمع بعد هذه المعرفة المتبادلة أنَّ الربَّ يقول: «مبارك شعبي، مصر» (آ25). أجل، صار المصريُّون شعب الربِّ والربُّ صار إلههم، «فقدَّموا له الذبائح والتقادم، ونذروا له النذور» (آ21)، وكأنَّهم نسوا آلهتهم. وسبق النبيُّ فقال: «في ذلك اليوم، يكون مذبحٌ للربِّ في أرض مصر، وعمود للربِّ عند تخمها».

ويتحدَّث النصُّ عن مصر التي يكون فيها «خمس مدن تتكلَّم بلغة كنعان» (آ18)، أي اللغة العبريَّة، وهي اللغة التي فيها يكلِّم الله شعبه. وإحدى المدن تسمَّت עיר החרב. المعنى الأوَّل: مدينة الخراب. ذاك ما حصل لهذه المدينة ولغيرها بعد مرور الأشوريِّين. ولكنَّ الاسم تبدَّل. صارت: «مدينة الشمس». أمّا نصُّ السبعينيَّة فقرأ قراءة جديدة بحيث إن «مدينةُ الخراب» صارت «مدينةَ الصدق» على مثال أورشليم mian de polin asedek kaloumenhn toutetai polin dikaiosunhς. هكذا صارت مدينة مصر «الله برّنا». هنا نقرأ ما قيل عن أورشليم: «في تلك الأيَّام يخلُص يهوذا، وتُسكَن أورشليم آمنة (أي: تعيش في أمان)، وهذا ما تتسمَّى به: الربُّ برُّنا»: (إر 33: 16): יהוה צדקנו. ونورد هنا أيضًا تفسير تيودوريه القورشيّ: من إش 19: 18ي:

في ذلك اليوم، يكون في مصر خمس مدن... مدينة واحدة تُدعى «مدينة أصدق» أي مدينة البرّ. في الواقع، ملكيصادق أيضًا تسمَّى ملك البرّ، بحسب قول الرسول الإلهيّ (عب 7: 2). ودعا «لغة كنعان» اللغة العبريَّة، لأنَّ العبرانيِّين أتوا وأقاموا في كنعان... ها هي إذًا إنباءات وَجدت تتمَّتها بعد تجلِّي ربِّنا ومخلِّصنا. ثمَّ هو لا يعطي (رقم) «خمس مدن» كأنَّه رقم محدَّد، بل على أنَّه رقم كامل أعلنه بهذا الشكل... قليلين كانوا أولئك الذين تقبَّلوا، في البداية، كرازة الخلاص، ولكنَّ بذور التقوى نمت شيئًا فشيئًا. بواسطة مدينة واحدة مسمَّاة «أصدَق» – أي مدينة البرّ – ما أراد أن يقول إنَّه اختار مدينة واحدة، بل «واحدة» تعني «كلَّ واحدة»[13].

2-  السيِّدُ يعطيكم آية

وها نحن نعود إلى الفصل السابع من نبوءة إشعيا: «ثمَّ عاد الربَّ فكلَّم آحاز قائلاً: "اطلب لنفسك آية من الربِّ إلهك"...» (آ11). ولمّا رفض الملك الآية، تواصل كلام النبيّ: «ولكن يعطيكم السيِّد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل» (آ14). فالصبيَّة، زوجة الملك آحاز، لم تُعطه بعدُ ولدًا يواصل السلالة الداوديَّة. وها هو الربُّ يعد الملك بفم النبيّ. وهذا الولد يكون عهدُه عهدَ خير. قيل عنه: «يأكل زبدًا وعسلاً» (آ15). هو طعام العظماء، الذي كان يقدَّم للآلهة في الطقوس البابليَّة. كما هو أيضًا طعام الرعاة، ممّا يذكِّر المؤمنين بحياة البركة في البرِّيَّة بقيادة موسى. ثمَّ إنَّ الحياة في البرِّيَّة، بحسب نبوءة هوشع، هي زمان القرب من الله: «ولكن هأنذا أعلِّقها (أو: أجتذبها) وأذهب بها إلى البرِّيَّة، وألاطفها (حرفيًّا أكلِّمها على قلبها)... أخطبك لنفسي إلى الأبد (أي: تكونين خطِّيبتي، عروسي)، أخطبك لنفسي بالعدل والحقّ باللطف والرحمة» (هو 2: 16، 21).

في هذا المعنى يتحدَّث النبيّ إشعيا عن الابن الذي يُولَد: «يَرفض الشرَّ ويختار الخير». مثل هذا التمييز مؤشِّر السعادة. ولهذا يواصل النبيّ: «يجلب الربُّ عليك وعلى شعبك وعلى بيت أبيك، أيَّامًا لم تأتِ منذ يوم اعتزال أفرايم عن يهوذا» (آ17). هذا ما يعيدنا إلى زمن داود وسليمان، يوم كان أفرايم ويهوذا موحَّدين تحت إمرة ملك واحد. وأين هو اليوم الشعب الواحد، وأين هو الآن الملك الواحد؟ كلُّ هذا يقودنا إلى البعيد، إلى ما وراء العهد القديم، إلى ذلك الذي تلده العذراء، بل مريم العذراء، يسوع المسيح. في هذا المجال، قال أوريجان في عظته الثانية حول نبوءة عمانوئيل:

هذه الآية التي تُقدَّم (لنا) هي ربُّنا يسوع المسيح. فها هي الآية التي أُمر بأن يطلبها لنفسه «في الأعماق أو في الأعالي». في الأعماق، من جهة، لأنَّ ذلك الذي نزل هو ذاته. وفي الأعالي، من جهة ثانية، لأنَّ الذي صعد فوق جميع السماوات، هو أيضًا ذاته. ولكنَّ ربَّنا يسوع المسيح، هذه الآية التي تُقدَّم لي في الأعماق أو في الأعالي، لا تفيدني في شيء إن لم أمتلكُ مفتاح رمزيَّة هذه «الأعالي» وهذه «الأعماق» حيث هو موجود. حين أمتلكُ هذا المفتاح، بالنسبة إلى يسوع المسيح، (مفتاح) هذه الأعماق وهذه الأعالي، عندئذٍ أدركُ هذه الآية بحسب وصيَّة الربّ. أسمعهُ يقول لي: أنا من فيه، نوعًا ما، في ذاته، هذه الأعماق وهذه الأعالي: «لا تقل في قلبك، من يصعد إلى السماء؟ أي ليُحدر المسيح. أو: من يهبط إلى الهاوية؟ أي ليُصعد المسيح من بين الأموات. لكن ماذا يقول؟ الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك» (رو 10: 6).

إذًا، فُرضَ علينا جميعًا أن نطلب لنفسنا هذه الآية. لكي تكون لنا هذه الآية مفيدة، تلك التي يعطيها الربُّ الإله «في الأعماق وفي الأعالي»... أمّا عبارة «في الأعماق وفي الأعالي» فلا تعني اختيارًا بحيث تستبعد الواحدة الأخرى. ما يعنيه هو أنَّ الاثنتين ممكنتان[14].

أين هي الآية وهل تتوقَّف عند الملك آحاز؟ كم تكون عند ذاك قصيرة النظر. لهذا نعود إلى بداية العظة:

بقدر ما هذا يتعلَّق بهذه الأقوال، تَحفَّظَ آحاز كما هو لائق، حين أُمر بأن يطلب آية «في الأعماق» أو «في الأعالي». وشرحَ لماذا لم يرغب في أن يطلب. قال: «لا أطلب شيئًا ولا أجرِّب الربِّ» (7: 12). ومع ذلك اتُّهم بسبب هذه الأقوال، وسمع من يقول له: «فاسمعوا إذًا، يا بيت داود! هل هو قليل أن تُضجروا الناس حتَّى تضجروا ربِّي أيضًا؟» ثمَّ سمع من يوجِّه إليه هذا الوعد: «لهذا يعطيك الربُّ نفسُه...» (آ14). لنشرح هذا فنرى الباقي. ولكنَّنا نحتاج إلى نعمة الله ليصبح كلامُنا واضحًا. أمرَ بأن يطلب آية، لا بكلِّ بساطة، بل «لنفسه»[15].

الصبيَّة التي وُعدَت بولد، صارت آية للبتول التي ستلد يسوع المسيح – كان قريبًا بالنسبة إلى إشعيا – قاد المؤمنين إلى البعيد البعيد، إلى ثمانية قرون من الزمن، يوم رأى متَّى في ما قاله إشعيا حوالي سنة 740 تتمَّة لكلام الربِّ الذي يعلو الزمان والمكان. قال إشعيا «الصبيَّة» وما سمّاها باسمها. قالت الشروح: هي زوجة الملك آحاز. هي עלמה. نحن نملك ما يقابلها في العربيَّة «غلامة» والمذكَّر «غلام». يعني: «الطارّ الشارب» يعني من هو في عمر الزواج. وهكذا نقول عن עלמה.

هي الصبيَّة بامتياز، لا أيَّ صبيَّة كانت. هي في بيت الملك، ولا تضاهيها صبيَّة أخرى. أمّا الترجمة الحرفيَّة لهذا اللفظ في اليونانيَّة فهي neaniς: الفتاة. والمذكَّر neaniaς. هكذا كان النقل عند أكيلا والتقليد اليهوديّ، بحيث يبتعد العهدُ القديم كلَّ البعد عن العهد الجديد. أمّا السبعينيَّة فما اكتفت بأن تنقل النصَّ الإشعيائيّ نقلاً حرفيًّا، لأنَّها لم تَرَ آيةً ولا أعجوبةً في أن تلد صبيَّةٌ متزوِّجة ولدًا. هو أمر عاديّ. ولكن أن تلد «بتول» ولدًا، فهذا يتجاوز المنطق البشريّ ويحيِّر العقول. لهذا كانت الكلمةُ parqenoς التي تدلّ في معنى أوَّل، على العذراء، البتول. ثمَّ الصبيَّة والصبيَّة غير المتزوِّجة [16]. ويشرح تيودوريه إش 7: 14 مبرزًا الحبل البتوليّ[17].

ها إنَّ العذراء تحبل في حشاها en gastri وتلد ابنًا وتدعوه باسم to onomaعمانوئيل. ها هي في الحقيقة آية «في اللجَّة وفي العلاء». ترجم تيودوسيون وأكيلا هذا المقطع كما يلي: «أطلبْ في الجحيم adhς وأرتفعْ إلى الأعالي». فإنَّ عمانوئيل نزل إلى الجحيم وصعد إلى السماء وأصعد إلى السماوات آدم الذي كان مُلقًى في الجحيم...

أعجبُ من جهتي من وقاحة اليهود الذين لا يقبلون بالإنباء حول العذراء. فأكيلا وتيودوسيون وسيماك لم يترجموا «عذراء» parqenon لكن «صبيَّة» neanin. ومع ذلك يجب أن يفهموا أوَّلاً أنَّ شهادة سبعين[18] رجلاً أكثر صدقًا من شهادة تصدر عن ثلاثة رجال، ولاسيَّما حين تقطف هذه الشهادةُ التوافق الإجماعيّ لحفل بهذه الكثرة. ثمَّ إنَّ لهم أيضًا برهانًا جديرًا بالتصديق تقدِّمه كرونولوجيا أو تسلسل الأحداث: فالسبعينيَّة ترجمت، قبل تجسُّد مخلِّصنا، الكتابَ الإلهيّ إلى اللغة اليونانيَّة. وما كان عندهم أيَّ سبب للتحريف[19] kakourgiaς. علاوة على ذلك، هنا واقع يقول إنَّ نعمة الله أعانتهم ليبلغوا إلى توافق إجماعيّ. مقابل هذا، ترجم تيودوسيون وأكيلا وسيماك الكتاب الإلهيّ بعد تجلِّي المعلِّم. تشيَّعوا لليهود فرذلوا بمكر الإنباءات التي تعني المعلِّم[20]. ومع ذلك، هذا لم يكن كافيًا ليخفي الحقيقة. فلنا برهان بأنَّ موسى، المشترع، استعمل اسم «صبيَّة» بدل[21] تسمية «عذراء»، قال: «إن وَجد رجلٌ صبيَّة في الحقل واضطجع معها» (تث 22: 25) تصنعون كذا وكذا. ولو قبلنا بأنَّ المشترع لم يقل هذا، فتسمية «آية» تكفي لكي تقدِّم البرهان. فهذه الولادة دعيَت «آية» shmeion وآية عظيمة جدًّا shmeion megiston. والحال، ما من إنسان يدعو «آية» ما يحصل كلَّ يوم. فإذا لم تكن هذه الولادة ولادة من بتول، لا من امرأة متزوِّجة[22]، فكيف نعطي اسمًا لمسيرة عاديَّة من لدن الطبيعة؟

ما اعتاد تيودوريه أن يطيل شروحه. ولكنَّ الجدال كان حاميًا في ذلك الزمان، مع ظهور تلمود أورشليم في القرن الخامس ثمَّ تلمود بابل في القرن السادس، ورَفْض بتوليَّة مريم. استند اليهود إلى ترجمة עלמה ترجمة حرفيَّة. والكتّاب المسيحيُّون فهموا إشعيا في معنى حرفيّ مسيحانيّ. واستندوا إلى السبعينيَّة. أمّا تيودوريه فقدَّم أربعة براهين، على التوالي. الأوَّل، على مستوى العدد: ماذا يشكِّل ثلاثة أشخاص، هم أكيلا وسيماك وتيودوسيون، تجاه سبعين أو اثنين وسبعين شخصًا. هم أصحاب ترجمة اتَّفقوا عليها بالإجماع. البرهان الثاني، أخذه تيودوريه من الكرونولوجيا: مترجمو السبعينيَّة قاموا بالترجمة قبل التجسُّد وما أطاعوا سوى الروح. أمّا أكيلا وسيماك وتيودوسيون فخضعوا لنظريّات معادية للمسيحيَّة. وقدَّم البرهان الثالث تث 22: 25-26 حيث لا تعارض بين nianiς وبين parqenoς. وهذا يلغي التفسير اليهوديّ المؤسَّس على neaniς. ورابعًا وأخيرًا، مفهوم «آية» يفترض أمرًا غير عاديّ، ويليق كلَّ اللياقة بإعلان هذا الحبل البتوليّ.

لم يكن تيودوريه وحده في هذا الخطّ. فنذكر الذهبيّ الفم بانتظار العودة إليه: شدَّد مطوَّلاً على مفهوم «آية» الذي يزول إذا لم تكن هذه الولادة في البتوليَّة. وأضاف: «لم يوضح النبيّ طريقة الحبل، حسب الروح القدس، خوفًا من أن يدمِّر اليهود سفر إشعيا». وقدَّم كيرلُّس، بابا الإسكندريَّة، الاختلافة neaniς ليرذل التفسير الذي رفضه بعضهم: «لا شيء يتيح لنا القول بأنَّ neaniς ليست عذراء. ففي نظره، "الآية" الخارقة هي آية مريم العذراء».

فالقدِّيس كيرلُّس ردَّ على اعتراض بعض الهراطقة:

أوَّلاً، يجب على هذا الذي شرع بالبحث في الكتب المقدَّسة أن يفحص الزمن الذي قيلت فيه هذه الأقوال، والشخص الذي قيلت عنه، أو بواسطته قيلَتْ، أو عمَّن قيلت. لأنَّ بهذه الطريقة يكتسب أولئك الذين يريدون أن يفهموا هذه الأقوال فهمًا صحيحًا، ثبات الفكر... وضرورة ألاَّ نجهل هذا الموضوع، تتَّضح من الآتي: عندما تنبَّأ الأنبياء عن المخلِّص، وواحد يقول: «وهل العذراء تحبل» (إش 7: 14)، وآخر أيضًا: «كشاةٍ تُساقُ إلى الذبح» (إش 53: 7). فإن لم تُفهَم هذه الأقوال على أنَّها تخصُّ المسيح، فإنَّ ذهننا سوف يذهب بعيدًا عن الحقّ، وسوف يبعد عن المفاهيم التقويَّة[23].

وإذا توجَّهنا إلى العالم السريانيّ، نُدرك حالاً المفهوم المسيحانيّ للآية الإشعيائيَّة: ؤـا بةولةا بطنا ويلدا برا: «ها البتول تحمل في بطنها وتلد ابنًا». قال أفرام السريانيّ في هذا المجال: عميَ هيرودسُ فسأل... وعرف اليهود أنَّ أسرة يسوع تكون من بيت داود، كما قال يعقوب (تك 40: 10)، وأمُّه تكون عذراء، بحسب إشعيا (7: 14). وقريته تكون بيت لحم، بحسب ميخا (5: 1). وأمام مشهد المجوس حيث أحسَّ هيرودس بأنَّ المجوس هزئوا منه (مت 2: 16)، شرح أفرام:

يا بني إسرائيل! أنتم عميان لأنَّكم لا تفهمون، وصُمٌّ لأنَّكم لا تسمعون، والآن أيضًا لا يُوقظكم صوتُ إشعيا: «الربُّ الإله يعطيكم آية». هذه الآية أُعطيَت للجميع في ذاك الذي وُلد من عذراء. لا شكَّ في أنَّ آية أعطيَت لموسى (خر 3: 1-6؛ 4: 1-9)، لكي يقتنع كما في سرّ، هو وحده، وبمعزل عن الآخرين. وأعطيَتْ آية لجدعون (قض 6: 17-21، 36-40) وأخرى لحزقيّا (2 مل 20: 8-11؛ إش 38: 7-8). غير أنَّ هذه الآيات كانت خاصَّة (بشخص فرد)... فكيف لم تفهموا أنَّ زمن الفداء جاء؟ كيف لم تؤمنوا بولادة ولد من عذراء؟...

وفي موضع آخر يقول أفرام وكأنَّه يريد أن يُقنع يوسف، خطِّيب مريم:

وإذا كنتَ تشكُّ بحبل بدون علاقات لحميَّة لدى العذراء، اسمع كلام إشعيا: «ها إنَّ العذراء تحبل». وكلام دانيال: «قُطع حجرٌ لا بيدين» (دا 2: 45). ليس هذا حسب كلمة أخرى: «انظر الجبل والبئر» (إش 51: 1 حسب السريانيَّة البسيطة). فالحديث هنا عن الرجل والمرأة. أمّا هناك فقيل: «لا بيدين». وكما بالنسبة إلى حوّاء، أتمَّ آدم دور الأب والأمّ، وهكذا مريم بالنسبة إلى ربِّنا[24].

فهمَ يوسف، وهو الرجل البارّ، أنَّ هذا الحبل كان فريدًا، وأنَّه حدثٌ غريب عن نواميس الحياة البشريَّة، التي هي ثمرة الزواج. كلُّ هذه الآيات دفعته لكي يرى أنَّ الأمر يأتي من الله. ونودُّ أن نذكر في هذا التراث السريانيّ العلاَّمة مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي مطران مدينة آمد، في كتابه الدرّ الفريد في تفسير العهد الجديد

هوذا العذراء (أو: البتول، في السريانيَّة: بةولةا) تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا. يقول بعض المفسِّرين اليهود: «إنَّ النبيَّ لم يذكرها بتولاً، بل شابَّة وصبيَّة». فنقول: «إنَّ هذا الزعم باطل، لأنَّه لا يوافق ترجمة الاثنين وسبعين شيخًا، التي هي أصحُّ الترجمات. أوَّلاً، لكثرة مترجميها ومطابقة آياتهم. ثانيًا، لأنَّهم ترجموها قبل المسيح بمدَّة، على أنَّ قوله «هوذا العذراء تحبل» هو علامة كان قد أعطاها الربُّ لآحاز. فإن كانت شابَّة مزمعة أن تلد من زواج، فكيف تكون آية أو علامة، لأنَّ «الآية» هي فعل فوق الطبيعة[25].

3-  عمانوئيل

قبل أن نشرح النصَّ الكتابيّ، نورد أيضًا من القدِّيس كيرلُّس في كتاب الكنوز في الثالوث (ص 490) ما يلي، تحت عنوان «شاهد آخر»:

إذا لم يكن الابن هو الله بحسب الطبيعة، كما سُمِّي «الله معنا» وهو الأمر الذي صار بالطبع عندما وُلد من امرأة آخذًا شكلنا. إنَّ اسم عمانوئيل ليس لقبًا أُسبغ عليه من قِبَل ملاك أو أيِّ أحد آخر من المخلوقات، بل الآب نفسه هو من سَّمى الابن هكذا، وهو ما سوف «يعيِّنه فمُ الربّ» (إش 62: 2). فعمانوئيل هو اسم جديد حقًّا للابن، أي الله معنا، لأنَّه قبل المجيء إلى العالم بالجسد كان يُدعى الله. لكن بعد ولادته من العذراء، لم يكُن يُدعى الله فقط، بل الله معنا، أي الله الذي صار إنسانًا. إذًا، فبما أنَّ الآب يسمِّي ابنَه، الله، فليت وجوه الهراطقة تحمرُّ خجلاً، هؤلاء الذين عن جهل وكفر، يقولون إنَّه قد خُلق، لأنَّ الله بحسب الطبيعة ليس مخلوقًا.

وفي الخطِّ عينه، حدَّثنا ابن الصليبي، فنفهم لدى قراءته، كم التقليد متواصل في هذا الشرق بين العالمين اليونانيّ والسريانيّ. والعنوان: ويُدعى عمانوئيل:

لم يَقُل: «وتدعوه أنت»، لكن «يُدعى» من الناس، أي من أعماله العجيبة، ومعجزاته الخارقة الطبيعة، يعرفون أنَّ الله جاء إلينا، ليتردَّد معنا على الأرض بالجسد. ودُعيَ «عمانوئيل» من المعلِّمين المشهورين من بني البشر. فمن الأفعال، صار معروفًا أنَّه نور وشعاع أشرق للجالسين في الظلمة (إش 9: 1)، وليس بالكنية والتسمية دُعيَ هكذا. وإن قال اليهود: «إنَّ المسيح لم يُدعَ من الناس "عمانوئيل"»، فنسألهم: «متى دعي اسم ابن إشعيا "يستعجل يسبي ويزحم ينهب"» (إش 8: 2) فلا يمكنهم بيان ذلك. وإن كان من أجل السبي والنهب الذي صار في أيَّامه، سمّاه بالفعل. ومكتوب عن أورشليم أنَّها تُدعى مدينة البرِّ والعدل ومدينة الإيمان، فلم نرَ أنَّها قد دُعيَتْ هكذا، لكنَّها إلى الآن لا تزال تُسمَّى أورشليم. ولكن من الأفعال، دُعيَتْ مدينة البرّ والعدل. كذلك عمانوئيل، من الفعل قد سمّاه النبيّ بهذا الاسم، يعني لأنَّه قد تردَّد معنا بالجسد. فقد جرت عادةُ الكتاب أن يُسمِّي الحوادث بدل الاسم. وعمانوئيل معناه «الله معنا» فإن قالوا: «إنَّه (أي الله) مع الصالحين قد تردَّدَ، كقوله ليشوع بن نون: "مثلما كنت مع موسى أكون معك" (يش 1: 5) بطريق المعونة، ولم يُدعَ عمانوئيل هناك». فنقول: لأجل المولد في الجسد قيل لنا لمّا صار إنسانًا وتردَّد معنا على الأرض. أيضًا، فقد قال عمانوئيل، يعني الله معنا، وليس معه حسب زعم النساطرة الفاسد. فإنَّ الكلمة ما اتّحد مع إنسان واحد مخلوق ومميَّز، لكنَّه اتَّحد بطبيعتنا وجذبنا إلى الله... (ص 60-61).

ونعود إلى النصِّ الكتابيّ. ونبدأ بفعل دعا. في العبريَّة וקראת: هي تدعو. ما يقابل في اليونانيَّة kalesei. ولكن هناك اختلافات عديدة: «أنتِ تدعين» kalesei. هكذا عند أكيلا وسيماك وتيودوسيون. أو: «يدعونه» kalesousi. هكذا نقرأ في العهد الجديد (نقرون) وعند أوريجان وإبيفان والذهبيّ الفم. وفي مخطوطات قمران: «ويُدعى» (וקרא). هو المجهول الإلهيّ، أي الله يدعوه. في هذا الخطّ، راح ترتليان ثمَّ الشعبيَّة (فولغاتا) اللاتينيَّة et vocabitur. والسريانيَّة قدَّمت أيضًا المجهول الإلهيّ: نةقرا: يُدعى.

من يدعو الصبيّ؟ أو «آحاز»، أنت تدعو. أو «الصبيَّة»، هي تدعو. أو الله الذي لم يُذكر اسمه. ولكنَّه هو الذي أعطى اسمًا لابن إشعيا في 8: 3، فجاء الاسم رمزًا إلى الوضع الذي يحلُّ بالبلاد بعد مرور الجيوش الأشوريَّة. واسم عمانوئيل يدلُّ هو أيضًا على انقلاب في الوضع: حسبَ الشعبُ أنَّ الله تخلَّى عنهم إذ تنطفئ السلالة الداوديَّة. ولكن لا. سيكون للملك ولد، فيدلُّ اسمه  على أنَّ «الله معنا». فلا حاجة لكي نبحث عن «إله» آخر «يخلِّصنا»: فرعون أو ملك أشور. فمعونتنا هي باسم الربِّ فقط، وهو الذي صنع السماوات والأرض.

امرأة صبيَّة (עלמא)، يعرفها آحاز والذين حوله، هي حبلى. والولد الذي تلده (أو: سوف تلده) يكون علامة تَكفل تحقيق المواعيد. وأعظم من هذا. فاسمه يُعلَن: עמנו אל: معنا إيل، معنا الله. هو اسم انتقل كما هو في الترجمات السريانيَّة واليونانيَّة واللاتينيَّة... هذا الاسم يبيِّن أنَّ هناك علاقة بين الآية والوعد. فهذا الولد يمثِّل الخلاص باسمه (أي: بشخصه)، كما يكفل هذا الخلاص ويحقِّقه. هذا يعني أنَّنا لا نلبث على مستوى العهد القديم، بل ننتقل إلى الأناجيل وإلى العهد الجديد كلِّه. فالآية هي قريبة، نسبيًّا، مع آحاز وحزقيّا. ولكنَّها بعيدة بين «الصبيَّة» والعذراء مريم. ما كان خفيًّا، صار ظاهرًا، وما كان ناقصًا صار تامًّا. فنحن لا ننتظر بعدُ شيئًا، بعد أن أخذ متَّى الآية الإشعيائيَّة وأرانا إيَّاها حاضرة في يسوع المسيح المولود من مريم العذراء.

بعد أن تنبَّأ إشعيا عن الحبل البتوليّ والولادة العجائبيَّة، أضاف أيضًا اسم الولد: دعا المولود الجديد: «عمانوئيل». هذا الاسم يعني الله معنا، صورة الله وصورة العبد (فل 2: 6ي)[26]. وهكذا نعود إلى تيودوريه القورشيّ:

ثمَّ أعلن في الوقت عينه أمورًا بشريَّة وأمورًا إلهيَّة. «يأكل زبدًا وعسلاً». ذاك هو أمرٌ بشريّ anqrwpeion. قبل أن يعرف الشرَّ... (آ15-16). ليس هذا من طبيعة الإنسان، بل هو يتجاوز الإنسان[27]، لأنَّ الطبيعة البشريَّة لا تتلقَّى منذ الولادة ملكة التمييز بين الخير والشرّ: فعليها أن (تنتظر) سنوات وتنمو في العمر قبل أن تتعلَّم ما هو خير وما هو شرّ. أمّا عمانوئيل فأُبعد عنه، منذ القمط، خيارُ الشرّ.

يستحيل أن نعيد كلَّ ألفاظ النبوءة إلى إنسان عاديّ، وهذا ما يُثبت التفسير الكرستولوجيّ لما في آ14: وحده المسيح، بالنظر إلى طبيعته، يستطيع أن يعطي فكرة عن النبوءة. ذاك ما قاله أوسيب القيصريّ والذهبيّ الفم. وفي الوقت عينه، ترك تيودوريه بشكل لامباشر تفسير بعض اليهود الذين يريدون أن يروا في نبوءة عمانوئيل ولادة الملك حزقيّا. فإلى هذه الآية يستند بشكل خاصّ ردُّ كيرلُّس الإسكندرانيّ على مثل هذا التفكير. وأخيرًا، كلُّ هذا المقطع يتيح لتيودوريه أن يبيِّن بهدوء أساس طروح أنطاكية في الكلام عن الطبيعتين في المسيح.

ابتعد تيودوريه عن تفاصيل قدَّمها تيودور المصّيصيّ ونسطور، كما ابتعد عن تفاصيل قدَّمها كيرلُّس، فلبث في لاتحديد قريب من عبارات نيقية مستعملاً فقط enwsiς التي أقرَّ كيرلُّس، في رسالته إلى أقاق، أنَّها كافية للكلام عن اتِّحاد حقيقيّ. بل سيمضي كيرلُّس إلى القول بأنَّ هذا الاتِّحاد لا يمكن أن يحدَّد (الرسالة الرابعة).

ونشير أيضًا إلى أنَّ كيرلُّس رفض دومًا الحقَّ للأنطاكيِّين بأن يوزِّعوا التعابير الكتابيَّة بين الطبيعتين في المسيح. من أجل هذا تحدَّث عن تجديف نسطور (رسالة 17، رسالتان كرستولوجيَّتان). وإذ وافق مع «فعل الاتِّحاد» على القول بأنَّ هذا التوزيع يتمتَّع باستقامة الإيمان، فهو لا يأخذ أبدًا بهذه الطريقة، وإن هو برَّر استعمالها (الرسالة إلى أقاق)، معتبرًا إيَّاها أمورًا دقيقة رقيقة[28].

هنا نقرأ الذهبيّ الفم في شرح إنجيل متّى 2: 22-23: «وهذا كلُّه كان ليتمَّ ما قيل من الربِّ بالنبيِّ القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره "الله معنا"».

بلسان مستحقّ التعجُّب، بكلِّ قدرته أطلق صوته: «هذا كلُّه كان». إذ عندما رأى بحر محبَّة الله ولُجَّتها تجاه الإنسان، وأنَّ ذلك قد حصل فعلاً وهو ما لم يتمَّ التطلُّع إليه، ونواميس الطبيعة محطَّمة، والمصالحات معقودة، والسيِّد الذي هو فوق الجميع قد نزل إلى الإنسان الذي هو أوضع الجميع، و«نقض حائط السياج المتوسِّط» (أف 2: 14). ورأى الحواجز مزالة وأمورًا أخرى كثيرة، وضع متّى أمامنا بكلمة واحدة الأعجوبة قائلاً:

«هذا كلُّه كان ليتمَّ ما قيل من الربّ». إذ يقول: لا تظنُّوا أنَّ هذه الأمور قد تقرَّرت الآن، لقد صُوِّرت قبل حدوثها منذ القدم...

ويحيل الملاكُ يوسف إلى إشعيا، حتّى إذا نسيَ كلماته عندما يصحو، لكونها قد قيلَتْ حديثًا، يحافظ على جوهر ما قاله بتذكيره بكلمات النبيّ التي منها كان يوسف يتغذَّى باستمرار. ولم يذكر الملاك للعذراء أيًّا من هذه الأمور لكونها فتاة غير خبيرة بها، بل ذكرَها للزوج لكونه صدِّيقًا وقد درس الأنبياء.

«هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل». قد يقول قائل: كيف كان إذَن أنَّ اسمه لم يُدعَ عمانوئيل، بل يسوع المسيح؟ لأنَّه لم يقُل «ستدعو»، بل «يدعون» أي الشعب وسياق الحوادث، لأنَّه هنا يضع الحدث كاسم، وهي عادة في الكتاب، أن تحلَّ الحوادث الحادثة بدل الأسماء. لهذا فقوله «يدعونه عمانوئيل» لا يعني شيئًا آخر سوى أنَّهم سيرون الله بين البشر. لأنَّه كان دائمًا، حقًّا، بين البشر، إنَّما لم يكن قطُّ بوضوح كما هو الآن[29].

ويعود النبيّ فيدعو «عمانوئيل» تجاه إيمان الشعب الذي يرذل المواعيد الإلهيَّة والسلالة المختارة ممّا يجرُّ العقاب إلى الأرض التي استعدَّ عمانوئيل أن يحمل إليها الازدهار، كما كان الأمر في الفردوس. فالشعب والملك رفضا الآن وبشكل نهائيّ الوعد الذي قيل في 7: 14-17. غير أنَّ هذا الوعد لم يُلغَ، وبفضل عمانوئيل لا يمرُّ النهر (نهر الفرات) في يهوذا، ولا يصل إلى العنق بحيث يخنقه. ولماذا يتمُّ الخلاص يوم اجتاحت الحرب الأشوريَّة كلَّ مكان؟ «لأنَّ الله معنا» (إش 8: 10). كلُّ هذا يعني أنَّ سلطان عمانوئيل يشمل المسكونة كلَّها.

الله معنا! اعلموا أيُّها الأمم وانهزموا. اسمعوا كلُّكم حتّى أقاصي الأرض ورغم قوَّتكم، انهزموا (إش 8: 9). فعبارة «الله معنا»[30] توجَد في النصِّ العبريّ في شكل «عمانوئيل». بما أنَّ النبيَّ تنبَّأ عن حَبَله وولادته، يفتخر به، بحقّ، ويفتخر في وجه الأعداء ويعلن لإسرائيل (مملكة الشمال بعاصمتها السامرة) ولسورية (أرام بعاصمتها دمشق) الذين نالوا النصر من قبل: فإن كنتم أيضًا أقوياء، فسوف تُهزَمون أيضًا. كلُّ مشروع تقومون به يحطِّمه الربّ، وكلُّ تصميم تتصوَّرونه لا يثبت فيكم، لأنَّ الله معنا (إش 8: 10).

إذًا ينبغي أن نفهم هذا بحسب المعنى الواضح وفي علاقة مع الشروح السابقة. ولكن بما أنَّ النبيَّ أطلق نداءه إلى الذين يقيمون في أقاصي الأرض، وأعلن لهم الهزيمة، نستطيع وبحقّ أن نطبِّق هذا الكلام على الرسل القدِّيسين. فهم الذين جالوا حول العالم دون أن يتوقَّفوا عن الهتاف: الله معنا! فاعلموا، أيُّها الأمم، وانهزموا! اقبلوا الهزيمة الخلاصيَّة، واخضعوا للربِّ وتعالوا توسَّلوا إليه. اهربوا من سلطة الشياطين المستبدَّة وانضمُّوا إلى عبوديَّة الربِّ الصالحة![31]

ذاك ما قاله تيودوريه، فانتقل من حزقيّا إلى يسوع والرسل، ومن العالم القديم إلى العالم الجديد، حيث الناس يفرحون، وإن غُلبوا، لأنَّهم شعروا أنَّ الربَّ معهم في وجه إبليس وإغراءاته. عندئذٍ يتمُّ الاسم الذي أعطيَ لابن العذراء: الله معنا، حقًّا معنا. وننهي كلامنا بمقطع من الذهبيّ الفم في شرح سفر إشعيا حول عمانوئيل:

فيجب أن نقول الشيء عينه عن المسيح: عيَّن له اسمًا يصدر عن الواقع. فالله هو خصوصًا معنا، حين رأيناه على الأرض، عائشًا مع البشر، دالاًّ على عناية كبيرة بنا. لم يكن ملاكًا ولا رئيسَ ملائكة، بل السيِّد نفسه نزل لكي يقوم بكلِّ إصلاح. ويتحدَّث مع الزواني، ويأخذ طعامه مع العشّارين، ويدخل في بيوت الخطأة، ويعطي اللصوص حرِّيَّة الكلام، ويجتذب المجوس، ويجول في كلِّ مكان ويقوِّم كلَّ إنسان ويتَّحد بالطبيعة نفسها. كلُّ هذا أعلنه النبيّ حين تكلَّم عن هذه الولادة، وعن خير هذا الإنجاب الذي لا يُوصَف ولا يُحَدّ. فحين يكون الله مع البشر، يجب أن لا نخاف شيئًا بعد الآن، يجب ألاَّ نرتجف، بل تكون ثقتنا حاضرة في كلِّ شيء. وهذا في الواقع ما حصل. فالشرور الماضية واللامتحرِّكة تبعثرت، وأُلغيَ الحكمُ الذي أُطلق على جنسنا البشريّ وقُطعت أعصاب الخطيئة، وانقلب استبداد إبليس، والفردوس الذي لا دخول إليه للجميع، فُتح أوَّل ما فُتح لقاتل ولصّ. وانفتحت قبب السماء، وامتزج الإنسان بالملائكة، وارتفعت طبيعتنا إلى العرش الملكيّ. صار سجن جهنَّم بدون فائدة، ولم يعُد الموت سوى اسم محروم من الواقع. وأجواق الشهداء والنساء حطَّموا شوكة الجحيم. إنَّ ترتُّب جميع هذه الأحداث، جعل النبيّ يبتهج ويرقص، فدلَّنا عليها بلفظ واحد وهو ينبئنا بعمانوئيل[32].

الخاتمة

انطلقنا من إشعيا النبيِّ فوصلنا إلى إنجيل متّى، وانطلقنا من حزقيّا بن أحزيا فوصلنا إلى يسوع المسيح ابن الله الآب. أمّا اللفظ الذي أضاء على فكرنا فهو «الآية»، ذاك الأمر الذي يُرى فيدلُّ على ما لا يُرى. فالآية أساسًا تنقلنا من الحاضر وتدفعنا إلى المستقبل فتجعل القلوب تعمر بالرجاء. قرأنا النصّ الكتابيّ ورافقناه بشرح الآباء، لأنَّنا من خلال تيودوريه وكيرلُّس وأفرام والذهبيّ الفم، ربطنا أيَّامنا الحاضرة بالماضي حيث مشروع الله هو هو، لأنَّه الأمين الذي يعمل اليوم، كما عمل في الماضي. وإذ نحن نضع يدنا بيده نكتشف عظائمه في العالم وحضوره في تاريخ الكون. إنَّه عمانوئيل، إلهنا معنا، ذاك الذي وُلد من مريم العذراء التي صارت بدورها آية للعالمين. فمن خلالها نكتشف ذاك الذي صار إنسانًا فشابهنا في كلِّ شيء لكي يجعلنا شبيهين به.

 


[1] سيرة تيودوريه القورشيّ ترافق تاريخ الكنيسة في القرن الخامس، ولاسيَّما بين مجمع أفسس (431) ومجمع خلقيدونية (451). ترك الآثار الكثيرة على مستوى التاريخ الكسنيّ كما على مستوى التفسير الكتابيّ. فهو أفضل من مثَّل «مدرسة أنطاكية». أمّا «تفسير إشعيا» فوُجد سنة 1899، ونُشر مرَّة أولى سنة 1932 بيد A. Möhle ثمَّ في مجموعة Sources Chrétiennes رقم 276، 295، 315 بيد Jean Noël Guinot مع ترجمة فرنسيَّة.

[2] ملكَ في يهوذا بعاصمتها أورشليم ستَّ سنوات (740-735)، ورافقه ابنه حزقيّا حتّى سنة 716، ممّا يعني 20 سنة.

[3] ملك بعد آحاز سنة 716-687. حاول أن يستقلّ عن أشوريا، فاتَّصل ببابل ثمَّ بمصر. قوَّى أسوار أورشليم وقام بإصلاح دينيّ.

[4] إشارة إلى مرض حزقيّا وشفائه (2 مل 20: 1-11). قال حزقيّا لإشعيا: «ما العلامة أنَّ الربَّ يشفيني فأصعد في اليوم الثالث إلى بيت الربّ؟» فقال إشعيا: «هذه لك علامة من قبل الربّ...» (آ8-9). وإذ صلَّى إشعيا، رجع الظلّ عشر درجات (آ11). اللفظ العبريّ «אות» تُرجم هنا «علامة» في اليونانيَّة shmeion

[5] سنة 701 ق.م.، حاصر الأشوريُّون أورشليم. وقال سفر الملوك الثاني، مضخِّمًا الأرقام ليدلَّ على عظمة عمل الله: «وكان في تلك الليلة أنَّ ملاك الربِّ خرجَ وضربَ من جيش أشور 185,000... فانصرف سنحاريب، ملكُ أشور، وذهبَ راجعًا» (19: 35-36).

[6] راجع حاشية 4.

[7] إش 7: 12. نتذكَّر أنَّ أوسيب القيصريّ أورد سلسلة من الآيات «على الأرض وفي السماء». راجع GCS 47, 6-15. منها ضربات مصر، يونان والحوت.

[8] الينابيع المسيحيَّة 276، ص 285.

[9] John D. W. WATTS, Isaiah 1-33 (WBC, 24), 1985, p. 183-184.

[10] Isaïe expliqué par les Pères, coll. Les Pères dans la foi, DDB, Paris, .1983, p. 74

[11] Gilbert BRUNET, Essai sur l’Isaïe de l’Histoire, Paris, Picard, 1975, p. 145-153; A. SPALINGER, « The Year 712 BC and its Implications for Egyptian History », in Journal of the American Research Center in Egypt, 10 (1973) 95-101.

[12] André FEUILLET, « Un sommet religieux de l’Ancien Testament. L’oracle d’Isa 19, 19-25 sur la conversion de l’Egypte », Recherches de Science Religieuse, 30 (1951) 65-87; Walter VOGELS, « Egypte mon Peuple : l’Universalisme d’Isa 19 : 16-25 », Biblica, 57 (1976) 494-515; I. WILSON, « In that day. From the text to sermon on Isaiah 19, 23-25 », Interpretation, 22 (1967) 66-86.

[13] THEODORIT DE CYR

Commutaire sur Isaïe, sc 295, p.141.

[14] حاشية 210 ص 30-29

[15] المرجع السابق، ص 29

[16] G. BRUNET, Essai, p. 35-100 ثمَّ J. COPPENS, «La Prophétie de la ‘almah‘», Ephemerides Theologicae Lovanienses, 28 (1952) 648-678; G. DELLING, “parqenoò” in Theological Dictionary of the New Testament, V (1954) 826-837

[17] THEODORET DE CYR, Commutaire sur Isaïe sc 276, p. 287-289

[18] هم السبعون الذين نقلوا التوراة من العبريَّة إلى اليونانيَّة بحسب رواية Aristée

A. PELLETIER, Lettre d’Aristée à Philocrate (SC. 89, 1962); B.S.J. ISSERLIN, « The names of the 72 translators of the Septuagint » in .Journal of the Ancient Near Eastern Society, 5 (1973) 191-197

[19] في نظر تيودوريه، السبعينيَّة تنعم بنعمة الإلهام، شأنها شأن النصِّ العبريّ. ذاك ما يقوله في شرحه للمزامير. لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ عددًا من الباحثين المعاصرين ينطلقون من آراء الآباء فيعتقدون بأنَّ السبعينيَّة نصٌّ ملهم.

[20] نتذكَّر أنَّ أكيلا وسيماك كانا مسيحيِّين تركا إيمانهما وانتقلا إلى الديانة اليهوديَّة. أمّا تيودوسيون فكان من جماعة مرقيون الهرطوقيّ. فهل نستطيع أن نستند إلى صدقيَّتهم العلميَّة وفيها ما فيها من نقاط استفهام؟

[21] في اليونانيَّة anti (ضدّ)

[22] نقرأ gamikoò تجاه parqenikoò.

[23] كتاب الكنوز في الثالوث، القدِّيس كيرلُّس الإسكندريّ (نصوص آبائيَّة، 163).

[24] EPHREM de NISIBE (306-373), Commentaire de l’Évangile concordant ou Diatessaron (SC 121), Paris, Cerf, 1966, p. 81, 84, 67.

[25] الجزء الأوَّل، اهتمام الراهب عبد المسيح دولبانيّ السريانيّ الأرثوذكسيّ، ص 59.

[26] SC 276, p. 291-293

[27] kata anqrwpon - uper anqrwpon

[28] eiò touto prohqon iscuojwniaò

[29] شرح إنجيل متّى للقدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، ترجمة الدكتور عدنان طرابلسي، 1996، ص 75-76.

[30] to meq' umwn o qeoò

[31] SC 276, p. 305-307

[32] JEAN CHRYSOSTOME, Commentaire sur Isaïe (SC 304), Cerf, Paris, 1983, p. 319-321

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM