الفصل الثامن عشر: مجد لبنان يأتي إليك

الفصل الثامن عشر
مجد لبنان يأتي إليك

في انطلاقة رائعة يرسلها إشعيا النبيّ باتِّجاه أورشليم، يدعو المدينة المقدَّسة: «قومي بعد أن كنتِ نائمة. قفي، بعد أن كنتِ مرميَّة. النور وصلَ. استنيري وأنيري الذين حولك، فعليك أشرق مجد الربّ. الظلمة في كلِّ مكان. تُغطِّي الأرض. الظلام الدامس يجلِّل الأمم. أمّا عليك فيشرق الربُّ ويَرى الجميع مجده عليك. عندئذٍ تسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك» (إش 60: 1-3).
هكذا ينشد إشعيا المدينة المقدَّسة. كانت «غاطسة» في الظلام، فإذا هي اليوم يغمرها النور. ويصل في النشيد فيقول: «مجدُ لبنان إليك يأتي، السروُ والسنديان والشربين معًا لزينة بيت مقدسي» (آ13). وما تكون النتيجة؟ «الصغير يصير ألفًا والحقير أمَّة تُعَدُّ بعشرات الآلاف. أنا الربُّ أفعل هذا في وقته» (آ22).
مجد أورشليم ومجد لبنان يسيران معًا. من يزيِّن أورشليم؟ لبنان. ما الذي يجمِّل هيكلها؟ أرز لبنان. ومعه الأشجار الحلوة. السرو الذي عُرف بصلابته ولمعان خشبه. والشربين أحد أشجار لبنان الذي ينبتُ في البرِّيَّة في الزمن المسيحانيّ ويزيِّن الهيكل.
ولماذا التوافق بين أورشليم ولبنان؟ لأنَّ المكانين تقدَّسا. أورشليم بشكل خاصّ، والجليل والسامرة ويهودا تقدَّست لأنَّها أرض الربّ. وعلى ترابها سار المسيح، وكذلك لبنان. وفي قسمه الجنوبيّ أقام بعض شعب الله ومن قبائله أشير حيث قانا الجليل التي هي إلى الشمال الشرقيّ من صور. وزبولون الذي أقام على الشاطئ بين فينيقية وجبل الكرمل. ويسَّاكر الذي ارتبط اسمه بالإجارة والكراء. كان عاملاً حين كان الازدهار الفينيقيّ في أوجّه كما قال سفر التثنية (33: 18-19).

1-    أرض لبنان أرض الربّ
منذ القديم، أراد الشعب العبرانيّ أن تكون حدوده من دان إلى بئر سبع. دان كان اسمها لائيش (ل ي ش في العبريَّة) أي الليث والأسد. كانت مدينة صيدونيَّة وادعة، فاحتلَّتها قبيلة دان وبدَّلت لها اسمها، ولكنَّها ستكون أوَّل مدينة يجتاحها المدُّ الأشوريّ. وقربها بانياس، مدينة بان، إله الرعاة والقطعان. هي اليوم «تل القاضي». هناك قيصريَّة فيلبُّس التي منها «صعد يسوع إلى جبل عالٍ، وتغيَّرت هيئته قدَّام تلاميذه وصارت ثيابه تلمع بيضاء جدًّا كالثلج» (مر 9: 3). حرمون الذي يشكِّل الحدود الجنوبيَّة الشرقيَّة للبنان، هو الجبل المقدَّس بالنسبة لما سوف يكون فلسطين، لأنَّه يقع إلى الشمال حيث الدبُّ الأكبر. هو الجبل الذي يحرَّم الصعود إليه لأنَّه مقدَّس. ومع ذلك داسه يسوع برجليه ومعه موسى وإيليّا، وكان الرسل عند سفحه، كما الشعب عند سفح جبل سيناء يوم صعده موسى وتسلَّم من هناك لوحي الوصايا. هذا الجبل الذي أشرف على سهل البقاع اللبنانيّ بحيث أنَّ يسوع حين ارتقائه بارك المنطقة اللبنانيَّة الواقعة بين السلسلة الغربيَّة والسلسلة الشرقيَّة، فمنحها الثلوج، فغذَّت نهر العاصي في سورية ونهر الأردنّ في فلسطين، وأبانة (أو: أمانة، نش 4: 8) والفرفر اللذين يسقيان دمشق (2 مل 5: 12).
إلى لبنان، أرض الربّ، مضى إيليّا. رفضَه أهلُه، لاحقوه، اضطهدوه، فمضى إلى العرب المقيمين شرقيّ نهر الأردنّ فأولموا له وليمة ونحروا له الخراف، فكانوا يحملون إليه الخبز واللحم في الصباح وفي المساء. ثمَّ ترك مضيفيه وطلب مضيفًا آخر، أو بالأحرى مضيفة أخرى. هي أرملة. قال له الربّ: «قمِ اذهب إلى صرفَت التي لصيدون وأقمْ هناك. هناك أمرتُ امرأة أرملة أن تعولك» (1 مل 17: 9). كلمة الله تصل إلى أبعد من أرض بني إسرائيل، «إلى أرض لبنان» وأفقر الفقراء وأفقر الفقيرات تؤمِّن الطعام والشراب للنبيّ: «هاتي لي بعض الماء لأشرب» (آ10). وأتبع قوله هذا: «هاتي لي كسرة خبز في يدك» (آ11). ولكن من أين لها الخبز والجوع يحلُّ بالأرض؟ كلُّ ما عندها: «ملء كفِّ اليد من الدقيق والقليل من الزيت» (آ12). كان بالإمكان أن تُخفي ما عندها، لها ولابنها، على مثال ذاك الصبيّ الذي كان معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان صغيرتان (يو 6: 9). كلُّ هذا أعطاه ليسوع. فالسخاء لا يفرض المال الكثير. فالسخيّ يعطي القليل الذي عنده ويعطي ذاته. هكذا فعلت الأرملة. أطاعت إيليّا. وكانت المعجزة: لا الدقيق ينقص ولا الزيت.
صرفتٌ مدينةٌ فينيقيَّة قديمة. ذكرتها نصوص أيبلا، أو تلّ المرديخ الواقع جنوب حلب في سورية منذ الألف الثالث. هي اليوم بلدة الصرفند القريبة من صيدا. معجزة إيليّا في هذه البلدة ذكرها يسوع حين كان في الناصرة موطنه: «أرامل كثيرات كُنَّ في إسرائيل في أيَّام إيليّا حين أُغلقت السماء مدَّة ثلاث سنين وستَّة أشهر، لمّا كان جوع عظيم في الأرض، ولم يرسَل إيليّا إلى واحدة منهنَّ سوى إلى امرأة أرملة، إلى صرفت صيدا» (لو 4: 24-26).
أجل، امتدَّت أرض الربِّ إلى أبعد من دان، في سفح جبل حرمون. هناك ميروم التي يماهيها بعض العلماء مع مارون الراس. ذُكرَت ميروم مرَّتين في سفر يشوع في 11: 5: «فاجتمع كلُّ هؤلاء الملوك، أتوا ونزلوا معًا على مياه ميروم». وكذا في آ7 حيث الكلام عن يشوع وجميع رجال الحرب معه. ميروم هذه اعتُبرت «ميرون» التي تبعد 5 كلم إلى الشمال الغربيّ من صفد (في فلسطين الحاليَّة). لهذا يبدو أنَّ مارون الراس قد تكون «شمرون مرأون» المذكورة أيضًا في يش 11: 1. هي مدينة كنعانيَّة قديمة. حُسبَت في يش 19: 15 في قبيلة زبولون.
ونذكر في الجنوب اللبنانيّ القرى والبلدان التي تحمل لفظ «إ ب ل» الذي يعني المرعى: إبل السقي. ثمَّ عين إبل التي تقابل إبل بيت معكة تلك القلعة الواقعة في أقصى الشمال من فلسطين، والقريبة من دان حيث يوآب قائد جيش داود وضع حدًّا لثورة شبع بن بكري (2 صم 20: 14-22). احتلَّها بن هدد، ملك أرام، كما احتلَّ عيُّون ودان (1 مل 15: 20) ثمَّ تغلت فلاسر الملك الأشوريّ (2 مل 15: 29)، أجل، إبل بيت معكة هي على ما يبدو عين إبل. هنا نتذكَّر كيف كانت قرى عديدة في أرض فينيقية أقامت فيها القبائل العبرانيَّة. فحين أراد سليمان أن يبني الهيكل والقصور في عاصمته، احتاج إلى خشب الأرز وإلى الحجارة. فطلبها من لبنان. كما طلب المهندسين والبنّائين والعاملين في أدوات النحاس. ولكن كيف يدفع ثمن كلِّ هذا الخشب (من الأرز والسرو، 1 مل 5: 10) وأجور البنّائين بمن فيهم حيرام واسمه على اسم الملك الفينيقيّ. هو من صور وأبوه رجل صوريّ..... وكان ممتلئًا حكمة وفهمًا ومعرفة لعمل كلِّ عمل في النحاس...» (1 مل 7: 13-14). ويفصِّل الكتاب كلَّ ما عمله: عمودا النحاس، التاجان... وعمل حوض الاغتسال الذي دُعيَ البحر لاتِّساعه...
ماذا فعل سليمان أمام هذه المدفوعات لحيرام؟ أعطاه عشرين ضيعة. نقرأ في 1 مل 9: 10-14 ما يلي: «وبعد نهاية عشرين سنة بعدما بنى سليمان البيتين، بيت الربّ وبيت الملك، وكان حيرام ملك صور أوصل إلى سليمان خشب أرز وخشب سرو وذهب حسب كلِّ مسرَّته (أو: قدر ما أراد)، أعطى حينئذٍ الملكُ سليمان لحيرام عشرين مدينة في أرض الجليل... وأرسل حيرام للملك مئة وعشرين وزنة ذهب».
هي علاقات رائعة بين صور والشعب العبرانيّ، منذ داود وسليمان، مدَّة خمسة قرون، وهكذا نقلت هذه المدينةُ العامرة الحضارة إلى من كانوا في عالم البداوة والفلاحة. ونشير هنا إلى دور إيزابل ابنة أتوبعل التي كانت «الحاكمة» في مملكة إسرائيل، في الشمال. وإلى عثليا ابنتها التي كانت «الحاكم» المطلق في مملكة يهوذا في الجنوب. أمّا إشعيا فسوف يبكي على صور، هذه المدينة العظيمة: «ولولي، يا سفن ترشيش، لأنَّها (المدينة) خربت. لم يبقَ بيتٌ واحد» (23: 1).

2-    أرض لبنان أرض المسيح
منذ بداية الرسالة، امتدَّ تأثير يسوع إلى أبعد من أرض إسرائيل. فأتى العديدون من المدن الفينيقيَّة. تحدَّث إنجيل متّى بشكل عامّ عن سورية فقال: «وكان يسوع يطوف كلَّ الجليل يعلِّم في مجامعهم...» (4: 23). فإلى أين يصل الجليل؟ أبعد من حدود فلسطين الحاليَّة، وصولاً إلى لبنان. ويواصل القدِّيس متّى: «فذاع خبرُه في جميع سورية، فأحضروا إليه جميع السقماء...» (آ24). أمّا سورية المذكورة هنا، فكانت ولاية رومانيَّة تضمُّ في ما تضمُّ فينيقية. وهكذا يُقال عن المرأة الفينيقيَّة مع تحديد. قال متَّى: «ثمَّ خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا. وإذا امرأة كنعانيَّة» (15: 21). نحن لا ننسى أنَّ صيدا هي بكر كنعان، كما قال تك 10: 15. وتحدَّث مر 7: 24-30 عن تخوم صور وصيدا. إلى هناك وصل يسوع، لا من أجل سياحة، بل من أجل الرسالة التي سوف يشارك فيها المسيحيُّون في هاتين المدينتين اللتين اقتبلتا الإنجيل باكرًا. فبولس، في صعوده إلى أورشليم، وفي مضيِّه إلى رومة، يقول عنه لوقا (أع 21: 2-3): «وجدنا سفينة عابرة إلى فينيقية، فصعدنا إليها وأقلعْنا. ولمّا وصلنا مقابل قبرص، تركناها يسرة وسافرنا إلى سورية (في المعنى الواسع) ونزلنا في صور (ذاك المرفأ الذي لبث ناشطًا في فينيقية وإن خسر الكثير من أهمِّيَّته) لأنَّ هناك كانت السفينة تضع حمولتها». ويتابع لوقا في صيغة المتكلِّم الجمع وكأنَّه كان رفيق بولس في هذه السفرة: «ولبثنا هناك سبعة أيَّام إذ وجدنا هناك التلاميذ. دفعهم الروح فكانوا يقولون لبولس أن لا يصعد إلى أورشليم. ولمّا انتهى زمن إقامتنا هناك خرجنا ذاهبين وهم جميعًا يتبعوننا، من النساء والأولاد إلى خارج المدينة. فجثونا على ركبنا على الشاطئ وصلَّينا. ولمّا ودَّعنا بعضنا بعضًا صعدنا إلى السفينة. وأمّا هم فرجعوا إلى بيوتهم» (آ4-6). مشهد مؤثِّر. بولس ماضٍ إلى السجن وأبعد من السجن، وهؤلاء المسيحيُّون في صور يركعون، يصلُّون معه. وربَّما بكوا كما بكى أهل عكّا. وسيكون لبولس أن يمرَّ في صيدون، وهو ماضٍ كأسير إلى رومة. هناك أذنَ يوليوس لبولس «أن يذهب إلى أصدقائه ويستفيد من استقبالهم» (أع 27: 3).
وقبل العودة إلى الإنجيل، يهمُّنا أن نعرف كيف استَقبلت فينيقية أولئك الذين أصابهم الاضطهاد على أثر مقتل إسطفانس. قال سفر الأعمال: «أمّا الذين تشتَّتوا على أثر الضيق الذي حصل بسبب إسطفانس فاجتازوا إلى فينيقية...» (أع 11: 19). كما نعرف أنَّ مدن فينيقية كانت محطَّة يرتاح فيها الرسل في رواحهم ومجيئهم. مثلاً، قبل مجمع أورشليم سنة 49-50، انطلق بولس وبرنابا والفريق المرافق إلى لقاء الرسل. هنا قال أع 15: 3: «فهؤلاء بعدما شيَّعتهم الكنيسة في أورشليم، اجتازوا في فينيقية والسامرة يخبرونهم برجوع الأمم؛ وكانوا يسبِّبون سرورًا عظيمًا لجميع الإخوة». فالإخوة في المسيح عديدون في مدن الساحل: طرابلس، جبيل، بيروت، صيدا، صور. كلُّها محطّات «مسيحيَّة» بين أنطاكية وأورشليم.
هؤلاء المسيحيُّون أتوا إلى يسوع حين كان بعدُ في الجليل، فقال فيهم مر 3: 7-12: «فانصرف يسوع مع تلاميذه إلى البحر (أي: بحيرة طبريّا) وتبعه جمع كبير من الجليل ومن اليهوديَّة» (آ7) هم اليهود. وراح الإنجيليّ يَعدُّ الشعوب الوثنيَّة المحيطة بالعالم اليهوديّ. وهكذا وصل «إلى صور وصيدا» (آ8). جمعٌ كثير. سمعوا بما صنع فأتوا إليه.
وفي الخطِّ عينه تحدَّث لوقا. فبعد أن اختار يسوع الاثني عشر، «نزل معهم ووقف في موضع سهل (مفتوح على العالم الوثنيّ، لا محصور في الجبل كما في مت 5: 1ي)... وجمهور كثير من الشعب من جميع اليهوديَّة وأورشليم، وساحل صور وصيدا الذين جاؤوا ليسمعوه ويُشفَوا من أمراضهم» (لو 6: 17). كما أهل أورشليم سمعوا يسوع، كذلك أهل صور وصيدا. وكما اليهوديَّة طلبت الشفاء لمرضاها، كذلك فينيقية. وسيأتي وقت يكون أهل صور وصيدا أفضل من سامعي يسوع في الجليل، وأوَّل المستفيدين منه في أمراضهم وأسقامهم.
«حينئذٍ بدأ يسوع يوبِّخ المدن التي صُنعَتْ فيها أكثر قوّاته لأنَّها رفضَتْ أن تتوب: ويل لك يا كورزين (تبعد 3 كلم عن كفرناحوم)، ويل لك يا بيت صيدا (على مصبِّ الأردنَّ إلى الشمال من بحيرة طبريّا)، لأنَّه لو صُنعَتْ في صور وصيدا القوّات المصنوعة فيكما، لتابتا من زمان قديم في المسوح والرماد. ولكن أقول لكم: إنَّ صور وصيدا ستُعاملان بقساوة أقلَّ منكما في يوم الدينونة» (مت 11: 20-22).
*  *  *
ويسوع يختار ثلاثة مواضع مرتبطة بالعالم الفينيقيّ. أوَّلاً: نواحي صور وصيدا. هناك شفى ابنة المرأة الكنعانيَّة. ثانيًا، قانا حيث حوَّل الربُّ الماء خمرًا في أحد الأعراس وهناك أظهر مجده فآمن به تلاميذه، مع مريم التلميذة الأولى التي عرفت كيف تسمع كلمة الله وتعمل بها، وعلَّمت الخدم كيف يفعلون كلَّ ما يقول لهم يسوع. ثالثًا: قيصريَّة فيلبُّس التي هي في سفح حرمون.
تكلَّمنا عن حرمون. وها نحن نتوقَّف عند عرس قانا. قال الإنجيل الرابع: «وفي اليوم الثالث، كان عرس في قانا الجليل، وكانت أمُّ يسوع هناك» (2: 1). مرَّ يومان قبل ذلك، ويسوع يتنقَّل من منطقة إلى منطقة. اختار «في الغد» (يو 1: 35) أندراوس والتلميذ الآخر، قبل أن يدعو أندراوس أخاه. «وفي الغد» (آ43) اختار فيلبُّس ونتنائيل. وها هو اليوم الثالث، حيث يُجري المعجزة الأولى بحسب إنجيل يوحنّا.
ويُطرَح السؤال: أين تقع قانا الجليل؟ وكالات السياحة تجعلها في كفركنَّة التي لا يمكن بحسب كلِّ شارحي الكتاب المقدَّس أن تكون الموضع الذي فيه حوَّل يسوع الماء خمرًا. واقترح البعض أن يكون الموضع خربة قانا لقربها من الناصرة. فيبقى تلك الواقعة في لبنان الجنوبيّ. فالمؤرِّخ فلافيوس يوسيفس، الكاتب في القرن الأوَّل المسيحيّ تحدَّث عن قرية في الجليل تُدعى قانا. وأضاف: هذه القرية تبعد مسيرة ليلة عن طبريَّة. أمّا أوسيب القيصريّ الذي تحدَّث عن أسماء الأماكن في الكتاب المقدَّس فقال: «قانا حتّى صيدون الكبرى كانت في ميراث أشير. فهناك ربُّنا وإلهنا يسوع المسيح حوَّل الماء خمرًا، ومن هناك كان نتنائيل». فهذا الكاتب الذي توفِّي سنة 339، عرف المواقع وهو القريب منها. وتبع القدِّيس جيرومُ أوسيبَ وأضاف: «هذه قانا اليوم قرية صغيرة في جليل الأمم».
سنة 1926، زار الأب إبراهيم حرفوش المرسل اللبنانيّ المارونيّ قانا، وكان يُلقي فيها رياضة روحيَّة. ثلث السكّان هم من الروم الكاثوليك وفيها كنيسة بيزنطيَّة. قام الفرنسيُّون، خلال الانتداب الذي امتدَّ من بعد الحرب العالميَّة الأولى حتّى سنة 1943، بحفريّات في المنطقة، فعثروا على كنيسة بيزنطيَّة من القرن الخامس ونقلوا فسيفساءها الجميلة الصنع إلى باريس...
ما أحلى أن تكون قانا نعمت بزيارة يسوع، فأجرى فيها معجزة أولى. ثمَّ معجزة ثانية حين شفى ابن خادم الملك. قال يو 4: 46: «فجاء يسوع أيضًا إلى قانا الجليل حيث صنع الماء خمرًا وكان لخادم الملك ابن مريض في كفرناحوم». شفاه يسوع عن بُعد: «اذهب، فابنك حيّ» (آ50).
ويبقى الموقع الهامّ: نواحي صور وصيدا. في مت 10: 5، أرسل يسوع تلاميذه وأوصاهم قائلاً: «إلى طريق الأمم الوثنيَّة لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريِّين لا تدخلوا». ما هذا التحذير؟ هل هناك من خطر على الكنيسة الأولى؟ بل هناك أفضليَّة: «اذهبوا بالحريّ إلى الخراف الضالَّة في بيت إسرائيل» (آ9). هل وحدهم يستحقُّون سماع الإنجيل؟ أمرٌ محيِّر. ففي اتِّجاه الشرق، حاول يسوع أن يمضي مع تلاميذه إلى المدن العشر، التي أسَّسها الإسكندر وخلفاؤه كسدٍّ منيع في وجه الامتداد اليهوديّ. من هذه المدن، جرش، عمان، دمشق وغيرها. رأى اليهود في أهلها «خنازير». ووقفت الريح والبحر تجابه السفينة (التي تدلُّ على الكنيسة) وكأنَّها تسعى إلى تحطيمها. ولكنَّ يسوع أسكت الريح والبحر. ومضى يسوع إلى جهة صور وصيدا الذين يدعوهم اليهود «الكلاب». فهل يستحقُّون أن يلتفت إليهم؟
وجاء الكلام قاسيًا، بعد صمت طويل. صرخت المرأة قائلة: «يا سيِّد، يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدًّا». كيف تصرَّف يسوع؟ «لم يجبْها بكلمة». ولولا توسُّل الرسل الذين أحسُّوا بالإزعاج، لما كان تبدَّل موقفه. ويا ليته لبث صامتًا. ولكنَّه «أجاب وقال: «لم أُرسَل إلاَّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالَّة». أنتِ لستِ من بيت إسرائيل. إذًا لا مكان لك في عملي ولكنَّ هذه المرأة الكنعانيَّة أصرَّت. وقفَتْ في طريقه. «أتت وسجدت له قائلة: «يا سيِّد، أعِنِّي!». فأتى جواب يسوع كالصاعقة القاتلة: «لا يَحسن أن يُؤخَذ خبز البنين ويُطرَح للكلاب». البنون هم شعب إسرائيل. والكلاب هم الكنعانيُّون. وهكذا انقسمت البشريَّة بين يهوديّ ويونانيّ، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة. محنة قاسية. ولكنَّ المرأة قاومت. فرح التلاميذ لمثل هذا الجواب من يسوع: هكذا يعرف الوثنيُّون أنَّهم لن يكونوا على مائدة واحدة مع اليهود. أما كانت تلك المشكلة حاضرة في بدايات الكنيسة؟ أما خاف بطرس من الآتين من عند يعقوب، فترك المائدة المشتركة؟ (غل 11:2ي)
لا شيء يوقف هذه المرأة في مسيرتها نحو يسوع. وهي صورة عن صعوبة دخول الوثنيِّين في الكنيسة حيث قيل لهم: «إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا». إذًا لا خلاص لهذه المرأة ولا خلاص لابنتها. هي ليست ابنة إبراهيم. هي خارج الموعد! لم تقبل المرأة بهذا الوضع «فقالت: نعم، أنت على حقّ. والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط عن مائدة أربابها». نحن بالإيمان نقترب من الله، لا بالختان. فهذه الكنعانيَّة رفضت هذا الموقف المنغلق. قالت: أنا بنتُ إبراهيم كما اليهود هم أبناء إبراهيم. هم بالختان وأنا بالإيمان.
وهكذا انتصرت بنت صور وصيدا على كلِّ العقبات. وكيف نعرف ذلك؟ من جواب يسوع: «عظيم إيمانك أيَّتها المرأة!» مثلها فعل قائدُ المئة. هي نالت المديح، وهو أيضًا حيث قال يسوع: «لم أجد مثل هذا الإيمان حتّى في إسرائيل» (مت 11:8). وتبدَّل الوضع كلِّيًّا. عادة يتصرَّف يسوع كما هو يريد. سأله الأبرص: إن أردتَ أنت قادر. فأجاب يسوع: أنا أريد. أمّا هنا فإرادة المرأة هي التي تغلَّبت على كلِّ الصعوبات: «ليكن لك، أيَّتها المرأة، كما تريدين أنت». وما الذي أرادته هذه المرأة؟ أن يُفتَح الباب للوثنيِّين. وها هو فُتح ولن يغلقه أحد بعد اليوم.
أجل، في نواحي صور وصيدا، تمَّ انقلاب هائل. لم يعد الوثنيُّون «أولئك الكلاب»، صاروا البنين والبنات. وهذا ما حصل في الحال مع تكثير الأرغفة للعالم الوثنيّ بعد أن وُزِّع للعالم اليهوديّ. ففي مت 14: 13ي، كان الآكلون من العالم اليهوديّ، وهذا ما يدلُّ عليه الرقم خمسة آلاف. فالرقم خمسة يدلُّ على العالم اليهوديّ المنتشر في العالم والعابد الإله الواحد. أمّا العالم الوثنيّ، فعدده الرمزيّ أربعة آلاف. ثمَّ هم أتوا «من بعيد» (مر 8: 3). أمّا اليهود فهم القريبون. فالمائدة واحدة بعد اليوم للبعيدين والقريبين، للوثنيِّين واليهود. من حرَّك هذه الثورة؟ المرأة الكنعانيَّة المقيمة على سواحل لبنان. وهكذا لم يعد اليهود وحدهم شعب الله، بل الكنعانيُّون أيضًا. وإنجيل متّى يورد وصيَّة يسوع الأخيرة: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم» (28: 19). لا أمَّة واحدة. وقال مر 16: 15 موردًا كلام الربّ: «اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلِّها».

الخاتمة
استقبل لبنانُ النبيَّ إيليّا وسمع صوت عاموس يدعو صور إلى التوبة. كما فتح أبوابه ليسوع المسيح. والكنيسة الأولى التي بدأت ولجأت إلى لبنان (كما سوف يلجأ الكثيرون الى هذا الجبل) بسبب الاضطهاد، سوف تنطلق من صور وصيدا وغيرها من المدن، كما من أنطاكية، لتوصل الإنجيل إلى أقاصي الأرض (كما في بلاد الحبشة). لا، لن تبقى عظة يسوع الأولى على الجبل، كما قال متّى في البداية، ولن تتوجَّه فقط إلى اليهود فتبقى مرتبطة بتعاليم الشريعة، بل هي ستكون «في السهل»، في العالم اليونانيّ الذي بدايته شمالي فلسطين، صور وصيدا وبيروت وجبيل وطرابلس، وصولاً إلى تسالونيكي وأثينة وكورنتوس وسائر المدن، التي وصلت إليها البشارة، لا في أراميَّة فلسطين، بل في اللغة اليونانيَّة التي كانت لغة الحضارة في حوض البحر المتوسِّط وخصوصًا في رومة عاصمة الإمبراطوريَّة الرومانيَّة. كانت البداية مجيء مجد لبنان إلى أورشليم. والآن إلى لبنان يأتي مجد الكنيسة فلا يبقى سوى نشيد المزامير: «ارفع أبوابك يا لبنان، وليفرح الأرز والسرو في استقبال الآتي إليك».

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM