الفصل السابع عشر: السلام عليك يا مريم

الفصل السابع عشر
السلام عليك يا مريم

هكذا تبدأ في اللغة السريانيَّة وفي اللغة العربيَّة الصلاة التي نوجِّهها إلى مريم العذراء، وخصوصًا في صلاة المسبحة. معها نسبِّح الربَّ وننشده لأنَّه صنع فيها عظائم. أمّا النصُّ اليونانيّ فيقول: «افرحي يا من أنعم الله عليها» (لو 1: 28). لسنا فقط أمام تحيَّة عاديَّة، بل أمام نشيد أطلقه النبيّ صفنيا متوجِّهًا فيه إلى أورشليم التي مرَّت في صعوبات كثيرة: «ترنِّمي أيَّتها المدينة المصونة (صهيون)، افرحي وابتهجي بكلِّ قلبك يا بنت أورشليم» (3: 14). أي يا مدينة أورشليم. فالمرأة تمثِّل شعبها. انتهى زمن الخوف، وجاء زمن الغفران والحبّ، لأنَّ الربَّ في وسط مدينته كجبّار مخلِّص. هو يبتهج بك فرحًا وفي محبَّته يجدِّدك، يبتهج بك ويرنِّم» (آ15-17). أجل، هي فرحة الله بهذه العروس التي ستكون أمَّ ابنه، وهو الذي نظر إليها قبل إنشاء العالم وأعدَّها وكمَّلها بالروح القدس، ولمّا ناداها كان جوابها: «ها أنا أمة الربّ، فليكن لي بحسب قولك» (لو 1: 38).
ذاك هو الجوُّ الذي فيه نتكلَّم عن مريم العذراء في الكتاب المقدَّس. عند محطَّات ثلاث. في الأولى، نكتشف عداوة قديمة بين المرأة والحيَّة، فنقرأ وعد الربّ الذي يصل صداه إلى المجيء الثاني. قال الربّ: «أجعل عداوة بينك (أيَّتها الحيَّة) وبين المرأة. هي تسحق رأسك وأنت ترصدين عقبها» (تك 3: 15). وهذه الحيَّة التي هي التنِّين وإبليس، سوف تحارب المرأة، ولكنَّ «النصر والعزَّة والملك تكون لإلهنا، والسلطان لمسيحه» (رؤ 12: 10). في محطَّة ثانية، نشهد مع مريم انقلابًا للمفاهيم لا يمكن أن يتخيَّله إنسان: العذراء، البتول، تحبل وتلد ابنًا» (إش 7: 14). وهذه العذراء هي مريم التي ما عرفَتْ رجلاً، «فولدت ابنها البكر وقمَّطته وأضجعته في مذود» (لو 2: 7). وفي المحطَّة الثالثة، ننتقل من أمومة إلى أمومة. من أمومة بحسب الجسد حيث مريم مثَّلت شعبها في عرس قانا الجليل، وهي التي أتت قبل ابنها وتلاميذه (يو 2: 1)، إلى أمومة صارت فييها مريم أمَّ التلميذ الحبيب، أمَّ كلِّ واحد منّا يحبُّه يسوع وهو بدوره يحبُّ يسوع ويأخذ أمَّه إلى بيته (يو 19: 25).

1-    عداوة قديمة
منذ البداية، يوم جعل الله الرجل والمرأة في الجنَّة، الحيَّة هي هنا. ويتحدَّث عنها الكتاب أنَّها «كانت أحيل جميع حيوانات البرِّيَّة التي عملها الربُّ الإله» (تك 3: 1). فالعدوُّ سنعرف أنَّه إبليس الذي حسد الإنسان، وهو خليقة الله. وتقول التقاليد: بما أنَّ كلَّ ما خلقه الله كان حسنًا، فالشيطان كان «ملاكًا» تمرَّد على الله فصار عدوَّ الإنسان.
الحيَّة رمز بلا شكّ. وهي تحمل معها الموت. أتت إلى المرأة، وحوّاء ترمز إلى كلِّ امرأة، لأنَّها تعطي الحياة. أجل، أتت الحيَّة وحملت معها الموت، فصار آدم وحوّاء عريانين مثل جنديَّين انتصر عليهما العدوّ ومرَّغهما في التراب. ولكنَّ الإنسان لن يبقى في التراب، بل يرفعه الله. إذا كانت حوّاء تمثِّل البشريَّة في سقوطها، فمريم تمثِّل البشريَّة في صعودها. فتلك الممتلئة نعمة هي صورة عن النعمة التي ينالها المؤمنون بواسطة ابنها يسوع المسيح، على ما قال الإنجيل الرابع: «من فيض نِعمه (نِعم الإله) نلنا جميعًا نعمة على نعمة. لأنَّ الله بموسى أعطانا الشريعة، وأمّا بيسوع المسيح فوَهبنا النعمةَ والحقّ» (يو 1: 16-17).
تفوَّقت الحيَّة على حوّاء فترةً محدَّدة، ولكن مع مريم انقلبت الأمور. فمريم تسحق رأس الحيَّة. وكلُّ ما تستطيع الحيَّة أن تفعل هو أن تصل إلى رِجلها. لهذا اعتاد التصوير الدينيّ أن يجعل مريم تدوس الحيَّة. وهذا رمز إلى أنَّ الخطيئة لم تدخل في حياة مريم منذ حبلَتْ بها أمُّها، على ما أعلن قداسة البابا بيُّوس التاسع سنة 1854.
فمريم هي الممتلئة نعمة. وهذا يعني أنَّ لا مكان لشيء آخر في حياتها. لا مكان للشرّ، ولا للخطيئة. فكيف يرضى ابن الله أن تنتصر «الحيَّة»، ولو ثانية واحدة، على أمِّه؟! فهي التي حلَّ عليها الروح «وقدرة العليّ ظلَّلتها» (لو 1: 35). هكذا كان الله يظلِّل خيمة الشهادة في البرِّيَّة فيغطِّيها بحضوره. وكذا رافق مريم العذراء طوال حياتها على الأرض بانتظار أن تكون مع ابنها في مجد السماء.
هي عداوة طالت وطالت، وفي كلِّ مرَّة كانت تنتصر «المرأة»، لا انتصارًا نهائيًّا، بل انتصارًا موقَّتًا، على مثال كلِّ خلاص يتمُّ في شعب الله. هذا ما نكتشفه في نسب يسوع المسيح ابن إبراهيم ابن داود. مع تامار الكنعانيَّة الآتية من ممارسات البغاء المكرَّس، كان انتصار حين دخلت هذه المرأة في سلالة يسوع فكانت جدَّة من جدَّاته، وتحلَّت بالبرارة كما قال عنها يهوذا بن يعقوب (تك 38: 26). مع راحاب التي كانت زانية ولكنَّها انتقلت إلى الإيمان، فكأنَّها انتقلت من الخطيئة إلى النعمة. ومع راعوت بنت الشعب المغضوب عليه: عاشت الأمانة قبل أن تصبح من شعب الله وتأتي إلى بيت لحم لتكون جدَّة داود وبالتالي جدَّة المسيح ابن داود.
مع تامار جاء الشعب الكنعانيّ، ومع راحاب أريحا وجوارها، ومع راعوت المؤابيُّون. فحين يأتي شعب إلى الله، تكون المرأة انتصرت. تكون مريم انتصرت. ولنا مثلان في هذا المجال: يهوديت، أي المؤمنة المثاليَّة، كما نقول في لغتنا «مسيحيَّة». هي تمثِّل أورشليم بعيشها بحسب الشريعة. قطعت رأس أليفانا الذي هو شخص رمزيّ، يدلُّ على من جدَّف على اسم الله وحاول استعباد البشريَّة كلَّها. لهذا أُنشد لها: «أنت مجدُ أورشليم... أنت فخرُ نسلنا العظيم... باركك الربُّ القدير أبدَ الدهور» (يه 15: 9-10).
وتواصلت الحرب فحدَّثنا عنها سفر الرؤيا. مريم هي هنا، آية، علامة تدلُّ على حضور الله. هي آية عجيبة في السماء. بعد أن صارت أمَّ الكنيسة، كما سوف نرى هنا. «امرأة» تلبس الشمس. والشمس هو يسوع المسيح. القمر تحت قدميها، لأنَّه علامة التحوُّل والتبدُّل فلا يثبت على حال. «وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا» (12: 1) أي 12 رسولاً يمثِّلون انطلاقة الإنجيل إلى أقاصي الأرض. هذه المرأة هي «حبلى». ولدت المسيح أوَّلاً: «فولدت ولدًا ذكرًا، وهو الذي سيحكم الأمم كلَّها بعصًا من حديد (كما قال المزمور الثاني). ولكنَّ «ولدها اختُطف إلى الله وعرشه» (رؤ 12: 5)، أي صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب.
وهنا بدأت الحرب بين المرأة والتنِّين الذي صُوِّر بشكل مريع. لم نعد أمام الحيَّة بل أمام التنِّين. هو عظيم. لونه أحمر علامة الدم. له سبعة رؤوس. لا رأس واحد، لكي يوجِّه حربه في كلِّ الجهات. وله عشرة قرون، والقرن علامة القوَّة. فنتخيَّل أيَّ قوَّة في يده. بدأ فحارب نجوم السماء وها هو يأتي على الأرض. أراد هذا التنِّين أن يبتلع الطفل الإلهيّ في الموت، ولكنَّ يسوع على الصليب قتل الموت. وانطلقت الحرب مع أولاد المرأة. من حارب عنهم؟ الله في شخص ميخائيل (من هو مثل الله) وملائكته، وكان النصر... ولكنَّ الحرب تتواصل. قال سفر الرؤيا: «الويل للبرِّ والبحر، لأنَّ إبليس نزل إليكما وكلُّه غضبٌ لعلمه أنَّ أيَّامه قصيرة» (12: 12). هذا يعني أنَّ العداوة لم تتوقَّف، ومريم تواصل الحرب مع أولادها، كما قال سفر الرؤيا أيضًا: «فغضب التنِّين على المرأة (لأنَّها انتصرت عليه) وذهب يقاتل باقي نسلها الذين يعملون بوصايا الله وعندهم شهادة يسوع» (آ17).

2-    انقلاب في المفاهيم
في مجتمعاتنا الشرقيَّة وفي منطق الكتاب المقدَّس، المرأة الولود أعظم من المرأة العاقر. سواء كانت حرَّة أو أمة. من تفوَّق، سارة أم هاجر؟ فهاجر حين حبلت، صارت سارة صغيرة في عينيها (تك 16: 4). وحنَّة أمُّ صموئيل (قبل أن يُولَد صموئيل) كانت كلا شيء تجاه فنَّنة التي كان لها الأولاد (1 صم 1: 2). وراحيل قالت ليعقوب: «أعطني ولدًا وإلاَّ أموت!» (تك 30: 1). أمّا إليصابات زوجة زكريّا، فاعتبرت نفسها في العار إلى أن حبلت بيوحنّا المعمدان (لو 1: 25).
ولكنَّ الأمور لن تبقى هكذا. فهناك نسمات آتية في العهد القديم حيث تُمدَح المرأة إذا كان أولادها يُرضون الله بحياتهم. فما قيمة أبناء عالي «الأشرار» (1 صم 2: 12ي) تجاه صموئيل. فيا ليت أمَّهم لم تلدهم! وأولاد ليئة زوجة يعقوب، هل يساوون يوسف ابن راحيل «مخلِّص إخوته؟!» لهذا أنشدت حنّة: «العاقر ولدت سبعة (رقم الكمال) وكثيرة البنين ذبلت» (1 صم 2: 5). أمّا إشعيا فهتف: «ترنِّمي أيَّتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنيم...» (54: 1).
ففي الكتاب، تُرزَق المرأة والرجل أولادًا من عند الربّ. ولكن حين تتأخَّر المرأة ولا تحبل، ماذا يحصل؟ هي تخاف كما خافت سارة فقدَّمت جاريتها إلى إبراهيم، فأخطأت في عملها خطأ كبيرًا ونالت عقابها سريعا. فإسحاق ابن سارة، لم يكن فقط ابن العلاقات البشريَّة، بل ابن الوعد، لأنَّ إيمان إبراهيم سوف يمرُّ فيه. ويوسف ابن راحيل ستكون له رسالة حين يرسله الله أمام إخوته إلى مصر. وصموئيل كان ذاك الرائي والنبيّ الذي مسحَ أوَّلَ ملك في شعبه.
وفي بداية الإنجيل، يوحنّا ابن العاقر، كانَ  آخر الأنبياء فقال فيه يسوع: «ما ظهر في الناس أعظم من يوحنّا المعمدان» (مت 11: 11). فانتظار زكريّا وإليصابات له معناه. ولكن ماذا يكون يوحنّا تجاه «الصغير في ملكوت السماوات؟!» وما تكون العاقر تجاه البتول؟ وإليصابات أحسَّت أنَّها صغيرة صغيرة تجاه «المباركة بين النساء» (لو 1: 42).
صبيَّة، بتول وهي حُبلى! هذا ما لا يتصوَّره عقل بشريّ. لهذا تحدَّث اليهود عن «زنى» مع جنديّ رومانيّ، في تقاليدهم. ويوسف نفسه تحيَّر في خطوة أولى قبل أن يستنير بنور الإيمان، ويعود إلى الكتب المقدَّسة كما حصل لبطرس ورفيقه أمام القبر الفارغ (يو 20: 9). عاد الإنجيليّ إلى إشعيا: «ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابنًا ويُدعى اسمه عمانوئيل» (7: 14). أجل، انقلبت المفاهيم كلُّها. هذه المرأة لا تشبه أيَّ امرأة من النساء، لا اللواتي جئن قبلها ولا اللواتي يجئْنَ بعدها. ولهذا عاد آباء الكنيسة إلى الكتب المقدَّسة يستقرئونها. ففي سفر القضاة، طلب جدعون علامتين. الأولى، أن يكون ندى على جزَّة الصوف وأن يكون جفاف في ما حولها. الثانية، أن تبقى جزَّة الصوف جافَّة ويكون الندى حولها. وهكذا كان، ففهم جدعون أنَّ الله معه وأنَّه سينتصر. اعتبر أوريجان أنَّ هذا الندى يدلُّ على تجسُّد الابن، وأشار آخرون إلى أنَّ ما نالته مريم لم تنلْه امرأة على الأرض.
ويقابل أفرام بين مريم وراحيل. هذه قالت: «أعطني بنين». أمّا مريم، «وهي ما سألت، حملت في حضنها بقداسة». وبين مريم وحنَّة التي سألت ولدًا بدموع مرَّة. «طوبى لمريم... ببتوليَّتها حبلت وولدت سيِّد الكلّ...».

3-    من أمومة إلى أمومة
مريم أمُّ يسوع. هذه العقيدة جعلت من أفسس مدينة مريم. امتدحتها إليصابات: «مبارك ثمرة  بطنك! من أنا حتّى تأتي إليَّ أمُّ ربِّي» (لو 1: 42-43). ومرَّة من المرّات، كان يسوع يتكلَّم، فرفعتِ امرأة من الجموع صوتها وقالت له: «طوبى للمرأة التي ولدتك وأرضعتك» (لو 11: 27).
مرتَّين تحدَّث إنجيل يوحنّا عن «أمِّ يسوع». مرَّة أولى في عرس قانا الجليل. «وفي اليوم الثالث كان عرسٌ في قانا الجليل، وكانت أمُّ يسوع هناك» (2: 1). ومرَّة ثانية عند الصليب: «وهناك عند صليب يسوع وقفت أمُّه، وأخت أمِّه (سالومة، والدة يعقوب ويوحنّا ابني زبدى) ومريم زوجة كلاوبا (ووالدة إخوة يسوع: يعقوب، ويهوذا وسمعان ويوسي، رج مر 15: 47: مريم أمّ يوسي؛ 16: 1: مريم أمّ يعقوب) ومريم المجدليَّة. ورأى يسوع أمَّه وإلى جانبها التلميذ الحبيب، فقال لأمِّه: يا امرأة هذا ابنك. وقال للتلميذ: هذه أمّك. فأخذها التلميذ إلى بيته من تلك الساعة» (19: 25-27).
الأمُّ لها دور كبير في الكتاب المقدَّس. نبدأ فنذكر أمَّ سليمان ودورها في حياة ابنها الملك. وما نلاحظ في الكلام عن الملوك، هو أنَّ الكتاب يذكر دائمًا الأمّ (1 مل 11: 26، أم يربعام؛ 14: 21، أمّ رحبعام). نقرأ في 1 مل 2: 19: «فدخلت بتشابع إلى الملك سليمان... فقام الملك للقائها وسجد لها وجلس على كرسيِّه، ووضع كرسيًّا لأمِّه الملكة، فجلسَتْ عن يمينه». وكانت تُدعى الكبيرة فيستأنس ابنها بمشورتها. وكانت أمَّهات في المعنى الواسع. فسارة مثلاً هي أمُّ المؤمنين بقرب إبراهيم: «انظروا إلى إبراهيم أبيكم وإلى سارة التي ولدتكم» (إش 51: 2). أمّا دبُّورة التي خلَّصت شعبها فدعيَتْ «الأمّ» (قض 5: 7). فكأنَّها ولدتهم من جديد.
هذا ما يعود بنا إلى مريم أمِّ يسوع. في عرس قانا، جاءت قبل ابنها. فهي تمثِّل شعبها في عرس نقصت فيه الخمر. لهذا، كانت «هوَّة» بينها وبين ابنها، فقال لها: «ما لي ولك، يا امرأة، ما جاءت ساعتي بعد» (يو 2: 4). هي أمومة محصورة في شعب من الشعوب وفي فئة من الفئات. ومتى تصبح مريم أمَّ الجميع؟ لا بدَّ من المرور في الصليب. وقبل هذا، تكون تلميذة ابنها. فبعد المديح الذي أطلقته تلك المرأة، أجاب يسوع: «بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه» (لو 11: 28).
وفي الواقع، بعد أن تمَّت المعجزة في عرس قانا، ينهي الإنجيليّ المشهد: «ونزل يسوع بعد ذلك ومعه أمُّه وإخوته وتلاميذه...» (يو 2: 12). في هذا الإطار، نفهم جواب يسوع للذين أخبروه: «هوذا أمُّك وإخوتك خارجًا يطلبونك» (مر 3: 32). قال: «من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمِّي» (آ35).
وراحت مريم في إثر يسوع. هو قال: «ما جئتُ لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني». ومريم التي أعلنت أنَّها الخادمة وأنَّها تعمل ما يقول لها الله، وصلت عند الصليب. هناك كانت واقفة، وقفة القيامة. فهي آمنت بالقيامة عند الصليب، وما انتظرت أن ترى القبر الفارغ مثل الرسل، ولا أن تضع إصبعها حيث المسامير ويدها حيث طعنة الحربة. فتلك التي آمنت بما قيل لها من الربّ (لو 1: 45)، مع أنَّ الأمر لم يكن بالسهل، تؤمن الآن لأنَّها فهمت أقوال يسوع حين أعلن أكثر من مرَّة المصير الذي ينتظره: «كان يعلِّم تلاميذه ويقول لهم: إنَّ ابن الإنسان يُسلَم إلى أيدي الناس فيقتلونه. وبعدَ أن يُقتَل يقوم في اليوم الثالث» (مر 9: 31). دخلت مريم في هذا السرّ. والتلاميذ؟ يواصل الإنجيليّ: «وأمّا هم فلم يفهموا القول، وخافوا أن يسألوه» (آ32).
هناك، عند الصليب ستصير أمُّ يسوع أمَّ جميع التلاميذ. فهي «المرأة»، وبالتالي تجمع في شخصها كلَّ الذين يحبُّهم يسوع. قال يسوع: «ما من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه» (يو 15: 13). وصلَّى قبل ذهابه إلى الموت: «ولستُ أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم» (يو 17: 20). أجل، صلاة يسوع لا تقف عند حدود. ومريم أمُّه لا تقف أمومتها عند حدود. قالوا: التلميذ الحبيب هو يوحنّا. لا بأس. وشرح آخرون: لعازر، الذي كان يسوع يحبُّه (يو 11: 36). وبطرس أعلن حبَّه للربِّ ثلاث مرَّات، وأعلن أنَّه يحبُّه «أكثر من هؤلاء» (يو 21: 15). إذًا انفتح الباب. وصارت مريم أمَّ البشريَّة كلِّها، أمَّ كلِّ من يحبُّه يسوع. وإذا نحن نحبُّ يسوع، فلا يمكن إلاَّ أن نحبَّ أمَّه. ومن لا يأخذ مريم إلى بيته، ويكرمها إكرامًا خاصًّا، لا يمكن أن يكون «التلميذ الحبيب».

الخاتمة
أطلَّت مريم العذراء في خطِّ حوّاء، أمِّ الأحياء، فرفعتها ورفعَتْ معها كلَّ امرأة، وفي خطِّ سارة ورفقة وراحيل. ثمَّ النساء اللواتي حسبهنَّ الإنجيليّ من جدَّات المسيح. فإذا كان يسوع جاء من أجل الخطأة، أتُرى أمُّه تختلف عنه. لهذا نقول: «صلِّي لأجلنا نحن الخطأة». ففي سلسلة نسب يسوع نجد الخطأة أكثر من الأبرار. وهي في خطِّ دبُّورة وبتشابع ويهوديت وأستير. فكما رفعت مريمُ تامار وراحاب وراعوت إلى مستوى إيمانها، كذلك هي ترفع اليوم كلَّ أمٍّ على الأرض. كما ترفع البتولات، وهي التي فهمت حالاً أنَّ الله يطلب منها أن تكون بتولاً لأنَّها أمُّ المسيح. فهي لمَّا أجابت: «كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟»، لم تكن تسأل كما سأل زكريّا، بل كانت تعلن استعدادها لأن تكون أمَّ المسيح. وإن سألت فلكي تعرف كيف تكون أمًّا وبتولاً في الوقت عينه. وعندما قال لها الملاك: «الروح يحلُّ عليك...». اختفت الأسئلة وأعلنت موافقتها: أنا الخادمة.
ها هي أمُّ يسوع رفيقة ابنها. وإذا كان التجسُّد، في المعنى اللاهوتيّ، قبل الخلق لأنَّ يسوع بكر كلِّ خليقة، فمريم هي في فكر الله منذ البداية، وعليها ينطبق ما قال سفر الأمثال: «لمّا ثبَّتَ السماوات كنتُ هناك. لمّا ثبَّتَ السحب، لمّا وضع للبحر حدًّا... كنت عنده، موضوع فرحه كلَّ يوم، وأجد لذَّتي في وسط البشر» (8: 27ي). تلك هي مريم العذراء.








Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM