الفصل السادس عشر:موقع الروح القدس في الكنيسة

الفصل السادس عشر
موقع الروح القدس في الكنيسة

كنيسة كورنتوس جماعة غنيَّة على جميع المستويات. المادِّيَّة أوَّلاً وهي في مدينة واقعة بين مرفأين كبيرين تأتي إليهما السفن من البعيد ومن القريب. وغنيَّة بعدد الهياكل فيها بحيث لا يعرف الإنسان إلى أيٍّ منها يمضي. وفيها الأفكار تتلاقى وتتصادم بحيث تقسَّمت إلى فئات مع هذا المعلِّم أو ذاك. وحتّى على مستوى الإيمان، منهم من أُعجب بأبولُّس، ذاك الخطيب الآتي من الإسكندريَّة، والمتضلِّع في العلوم الكتابيَّة. فهو يُفحم اليهود بسرعة عبر براهين لا يمكن أن تُردّ، ويقنع الناس بقوَّة كلامه. وأهل الحرِّيَّة في المسيح ساروا وراء بولس، تاركين كلَّ ما يتعلَّق بالممارسات اليهوديَّة، من ختانة وامتناع عن الأطعمة المعتبرة نجسة. في أيَّ حال، رفض بولس أن يتعلَّق به هذا أو ذاك. ومثله أبولُّس. «نحن خادمان لكم. بولس غرس وأبولُّس سقى، ولكنَّ الله هو الذي يُنمي». ومع ذلك اعتبر الكورنثيُّون أنَّ من عمَّدهم صيَّرهم «زلمه»، يتبعونه ويتبعون أقواله. ثار بولس على مثل هذا التصرُّف: هل اعتمدتم باسمي؟ هل بولس صُلب من أجلكم؟ ماذا تفعلون؟ أنتم مساكين إن كنتم تتبعون إنسانًا من الناس، أو تحسبون أفكار هذا المعلِّم هي الطريق! لا معلِّم سوى يسوع. ولا كلام سوى الإنجيل وما ينبع من الإنجيل. والويل للمعلِّم الذي يفرح حين يحسب عدد «المنتسبين» إليه ويحبُّونه! كلام يسوع يجب أن يوقفنا: «أعمى يقود أعمى، كلاهما يقعان في حفرة». وحده يسوع نور العالم. وإن قال لنا: أنتم نور العالم، فلأنَّنا نأخذ نورنا من نوره. وفي هذا المجال قال الرسول: «نحن لا نعظ بأنفسنا، بل بالمسيح ربِّنا».

1-    الغنى الحقيقيّ
فأعاد الرسول كنيسته إلى الأساس، إلى الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، مشدِّدًا على أنَّ كلَّ شيء ينطلق من الله، وكلَّ شيء يعود إلى الله. فالنهر الذي لا يرتبط بالنبع لا بدَّ أن تأسن ماؤه وتجفّ. ثمَّ إنَّ كلَّ ما يصل إلى مجدنا الخاصّ هو خراب لنا. قال الرسول: كلُّ شيء لكم. ولكن شرط أن تكونوا للمسيح. وراح أبعد من ذلك: أنتم لستم لنا، بل نحن لكم. بولس لكم. أبولُّس لكم. وكلُّ المواهب التي في الكنيسة هي من أجل أبناء الكنيسة وبناتها.
قسم بولس الحياة المسيحيَّة ثلاثة أقسام، لا أنَّ هناك فاصلاً بين قسم وقسم، ولكن لكي يسهِّل الأمور على المؤمنين. تحدَّث أوَّلاً عن «المواهب». من أين جاءت؟ من عندي؟ من عند هذا الكاهن أو ذاك الأسقف؟ الروح هو الذي يهبها (1 كو 12: 4). وكلامه عن المواهب الروحيَّة التي هي الغنى الحقيقيّ. وإن فكَّرنا بغنى آخر يقول لنا سفر الرؤيا ما قاله لأسقف لاودكيَّة، في تركيّا الذي حسب نفسه «غنيًّا، مستنيرًا»، «أنت فقير وأعمى وعريان» (3: 17).
مواهب عديدة ولكنَّ مرجعها واحد وهو الروح القدس. ولكلٍّ من المؤمنين موهبة. أعطيَتْ مجّانًا، لا بسبب استحقاقنا. فكلُّ ما فينا نعمة من لدنه تعالى. لهذا نحن لا نفتخر بما أُعطينا. قال الرسول: «أيُّ شيء لك وما نلتَه من الله؟ فإن كنتَ نلته فلماذا تفتخر كأنَّك ما نلته؟» (1 كو4: 7).
هذا على مستوى الروح القدس. وعلى مستوى الابن، الكلام هو عن الخِدم. فيسوع الذي جاء ليَخدُم لا ليُخدم، ليخدمنا لا لنخدمه ونغسل له قدميه، افتخر بأنَّه بيننا كالخادم. الخِدم في الكنيسة على أنواع. ولكنَّ المثال لنا واحد وهو الربُّ يسوع. الكاهن حين يعيَّن في رعيَّة من الرعايا يُدعى «خادم الرعيَّة»، لا رئيسها والمتسلِّط فيها. والراهب والراهبة. كلُّنا خدَّام ونحن نكبر حين نخدم. قال يسوع: «من هو الأفضل في نظركم؟ المتَّكئ إلى المائدة أم الخادم؟» ماذا أجابوا؟ وماذا كنّا أجبنا لو سألَنا يسوع؟ كنّا قلنا: الخادم، الخادمة التي نأتي بها من البعيد ونعاملها مثل عبدة، أتريدنا أن نكون مثلها؟ لا يا ربّ، لا يا ربّ. إن كان الأمر هكذا فنحن نرفض أن نتبعك. نحن نتَّكئ كالأسياد، وهناك العبيد. نحن نعطي الأوامر مع أنَّ النذورالرهبانيّة تتحدَّث عن الطاعة. هذا يعني بكلِّ بساطة أنَّنا لا نتبع يسوع، بل نأخذ بتعاليم العالم. كم نشبه يعقوب ويوحنّا اللذين أرادا أن يكونا «وزيرين» عن يمين يسوع وشماله (مر 10: 37). وفي أيِّ حال، لم يكن الآخرون أفضل منهما. فهم «غضبوا على يعقوب ويوحنّا» (آ41). فكأنَّهم يقولون لهما: وماذا تركتما لنا؟
ولا نحن أفضل من الرسل؟ نبحث عن الخدمة أم عن الرفعة؟ في رأيكم من كان الناس يحترمون في عنّايا؟ شربل مخلوف ذاك الراهب البسيط الذي لا يملك شيئًا من حطام الدنيا أم رئيس الدير؟ من يبجِّلون؟ إلى من يحملون الهدايا؟ فلماذا لا أكون رئيس الدير أنا فأتصرَّف بالأموال وبالأشخاص؟ ورئيس الأخويَّة، ورئيسة الأخويَّة؟ هي «مترئِّسة» أم خادمة. قال يسوع: «رؤساء الأمم يسودون عليكم والعظماء يتسلَّطون. فلا يكن هذا فيكم. بل من أراد أن يكون عظيمًا فيكم، فليكن لكم خادمًا» (آ43). أما هكذا كان الأخ إسطفان؟ أين هم رفقاؤه الذين كانوا ينظرون إليه من علُ؟ هو أخذ كلام يسوع على محمل الجدّ: «أنا بينكم كالخادم».
أنا خادم. وفرحي أن أكون أمينًا في خدمتي، أيًّا كانت هذه الخدمة. هذا على مستوى الابن، الذي ندعوه في قانون الإيمان: ربٌّ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد. والآب؟ ارتبطت به الأعمال. هي عديدة ومتنوِّعة. فلماذا أريد أن أزاحم الآخر؟ لماذا اعتبر أنِّي إذا عملتُ عملاً نجحتُ نجاحًا باهرًا. أمّا هو ففاشل! هل أنا أحكم على الآخرين؟ أحكم على عملهم؟ وكلام الربّ: لا تدينوا لئلاَّ تُدانوا. والرسول يقول: أنا لا أرضى أن يدينني أحد، ولا أنا أدين نفسي. ديَّاني هو الله. هو يعرف ما في القلوب.
أنا عملتُ. أفرح بعملي. هذا حسن. ولكن إن عرفت أنَّ الله «يعمل كلَّ شيء في الجميع» (1 كو 12: 6). الله هو الذي يعمل فينا، يمسك بيدنا، يقوِّينا. نحن لا ننسى أنَّنا لا نتكلَّم على المستوى المادّيّ، بل على المستوى الروحيّ، الرعائيّ. من يعمل بهذه الروح لا يمكن إلاَّ أن يكون عمله ناجحًا، لا في نظر الناس، بل في نظر الله. ذاك ما قال المزمور الأوَّل: «هو كشجرة مغروسة عند مجاري المياه. تُعطي ثمارها في أوانه، وورقها لا يذبل». هكذا يكون الرجل البارّ، السائر في طريق الله والعامل بمشيئته: «كلُّ ما يعمله ينجح» لأنَّه ينطلق من الله ويعود إلى الله.
أعمال كثيرة في الكنيسة، والذي يعملها واحد. وهو من أعطاني موهبة تساعدني على القيام بما يطلب هو منِّي. وموهبتي غير الموهبة التي نالها أخي، نالتها أختي. ما أسعد الذي يعرف موهبته ويفرح بموهبة الآخرين. عندئذٍ تتفاعل المواهب والخِدم والأعمال من أجل بناء الكنيسة بحيث تصل الكنيسة، الرعيَّة، الأخويَّة، الجماعة الرهبانيَّة، إلى «ملء قامة المسيح»، كما يقول الرسول.

2-    مواهب الروح
هنا نصل إلى الغنى الحقيقيّ الذي لا يعرفه إلاَّ «المساكين بالروح» الذين لا يتعلَّق قلبهم بشيء. والمثال لنا نجده في النذور الرهبانيَّة. أنا الفقير الذي يكتفي بما تقول الصلاة الربِّيَّة: أعطنا خبزنا كفاف يومنا. أو كما يقول الرسول: «يكفينا القوت والكسوة. وأمّا الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون...». أتطلب لك الغنى؟ أنت تعيس. قال الربّ: اطلبوا ملكوت الله وبرَّه والباقي تُزادونه. لا نتعلَّق بالمال على أنَّه مال «نعبده»، نجمعه، نكدِّسه، وأنا الذي لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الله من خلال الأشخاص المسؤولين، هذا ما تعنيه الطاعة التي هي مطاوعة من أجل عمل مشترك يكون لخير الكنيسة. من هو هذا حتّى أطيعه؟ من هي هذه؟ نحن نعرف أصلها وفصلها. هكذا قالوا عن يسوع حين أتى إلى الناصرة: من يكون هذا؟ ولهذا لم يصنع يسوع معجزة لقلَّة إيمانهم. وهكذا نقول في الأخويَّة، في كلَّ جماعة: حين نتصرَّف بهذه الروح الدنيويَّة، لا يعمل يسوع شيئًا.
ونذر العفَّة الذي لا يتوقَّف عند عالم الزواج، بل أعفُّ عن الطعام والشراب، عن البحث عن الملذّات، عن الوظيفة. حرام هذا الراهب! كان رئيسًا فنُفيَ إلى الدير الفلانيّ. فهل صار راهبًا لكي يكون رئيسًا؟ فهذا ما يعارض نذره، وما وعد به الله. أما هذا الذي حصل للقدِّيس نعمة الله؟ كان مدبِّرًا في الرهبانيَّة، ونُفيَ إلى دير آخر. ولكنَّ الراهب كلُّ دير بيته وهنيئًا له! عنده بيوت عديدة وأعمال عديدة فيستطيع أن يكون «حرًّا» لا حسب الناس، بل حسب المسيح، على ما قال الرسول: أنا الحرّ جعلت نفسي عبدًا، خادمًا للجميع. تخلَّيت عن حرِّيَّتي لأكون من أجل الكنيسة.
نحن لا نتعلَّق بشيء. نُفرغ قلوبنا من «شوك» العالم كما يدعوه المسيح في مثل الزارع، فيملأنا الروح، ويربطنا به. يعلِّمنا كيف نتكلَّم. يعلِّمنا ماذا نعمل. يعزِّينا إذا فشلنا، يقوِّينا، يجدِّد قوانا فيكون كلَّ يوم معنا جديدًا. فإذا كان الروح فينا، فماذا لا يعمل؟ قال المزمور 104: ترسل روحك فيخلقون وتجدِّد وجه الأرض. أجل، الروح يخلقنا ولكن شرط أن نتجاوب معه، أن نتركه يفعل فينا. مرَّات نحسب نفوسنا أكثر «ذكاء» من الروح. نحن نعرف أن ندبِّر أمورنا ولا نحتاج أن يكون الله بقربنا. فنشبه ذاك الولد الذي حسب نفسه قادرًا على الذهاب وحده، فكانت النتيجة خرابه. أما هذا الذي حصل للابن الضالّ؟ مضى إلى مكان بعيد. وأين انتهت به الأمور؟ قرب الخنازير، وكان يشتهي أن يأكل بعض الخرُّوب. والخروف الضالّ؟ مضى. ولكن الحمد لله أنَّ الله يمضي وراءنا، يبحث عنّا.
ولكن هل يريدنا الربُّ أن نبقى أطفالاً؟ كلاّ. ففي مثل الوزنات أعطى كلَّ واحد قدر طاقته ومضى. تركنا «نتاجر»، وكان قاسيًا مع الذي أخفى فضَّته وما تاجر بها. أعطانا الله المواهب بواسطة روحه. وما هي هذه المواهب؟
أوَّل موهبة: روح الحكمة. لا حكمة العالم الماضية إلى زوال، بل الحكمة الحقيقيَّة الموصلة إلى الملكوت. فهي تعلِّمنا كيف «نتحكَّم» بالأمور، كيف نسيطر عليها فلا نتركها تستعبدنا. أمام الصعوبة، لا نركع. في وجه الحقد، لا نستعمل الحقد. العنف لا نلاقيه بالعنف بل باللطف. وهذا معنى كلام الربّ: من ضربك على خدِّك الأيمن حوِّل له الآخر.
والروح يعطينا المعرفة. أتذكَّر ذاك الوالد الذي صلَّى من أجل ابنه لينيره الروح وهو يدافع عن موضوع الدكتورا في فرنسا، ولاسيَّما أنَّ المرافقة، كانت يوم سبت العنصرة. وكم من والدة تصلِّي لكي يُنعم الروحُ على ولدها بأن يفهم دروسه. لا شكَّ هي معرفة في الدروس أو في أمور مادِّيَّة أخرى. ولكن لماذا لا نطلبها؟ فالإنسان مادَّة وروح وهو يحتاج أيضًا إلى الأمور المادِّيَّة، والله يفرح بأن يعطينا كما يعطي العصافير طعامًا والزهور جمالاً. ويبقى أنَّ هناك معرفة أخرى، هي المعرفة الروحيَّة. نقرأ الإنجيل. نقرأ الكتب المقدَّسة. كاترينة السيانيَّة كانت شبه أمِّيَّة. كيف أوصلت إلينا هذه الأفكار السامية! وتريزيا الطفل يسوع، وصلتْ في دروسها إلى السرتيفيكا. وتوفِّيت وهي في عامها الرابع والعشرين. ولمّا أراد اللاهوتيُّون الكبار أن يطبعوا «قصَّة نفس» التي كتبتها طاعة لأمر رئيستها، لم يفهموا أقوالها، واقتطعوا نصف الكتاب الذي سينتظر خمسين سنة ونيِّف قبل أن يُطبَع المخطوطُ كاملاً. من يعلِّم الكاهن أن يعظ؟ الروح. والكاتب أن يكتب؟ الروح. هذا يعني أنَّنا نصمت ولا نعجّل، ننتظر إلهام الروح وتعليمه. من يعلِّم الأمّ كيف تكلِّم ابنها أو ابنتها؟ الروح. والأب كذلك، والأخ الأكبر والأخت الكبرى والمعلِّم في المدرسة والمرشد؟ كيف يحقُّ لي، من دون الروح أن أنبِّه أخي وأختي في ما يُسمَّى الإصلاح الأخويّ؟ (مت 18: 15-16).
الروح هو المعلِّم الأكبر. وما أجملنا حين نطلب أنواره. فالربُّ قال لنا: «عندئذٍ لا تكونون أنتم المتكلِّمين، بل يكون الروح هو الذي يتكلَّم فيكم». ولو تعرفون ماذا يفعل! نحسُّ أنَّنا ضعفاء، ولكنَّه يقوِّينا؛ أنَّنا جهّال فيهب لنا المعرفة. نتلعثم، فيكون نطقنا أعظم من نطق الخطباء المشهورين. يُروى عن القدِّيس يوحنّا ماري فيانّاي، خوري آرس (مدينة قرب ليون في فرنسا) أنَّ دروسه لم تكن كافية بسبب الحرب والثورة الفرنسيَّة سنة 1789. كان يعظ في هذه الكنيسة الصغيرة، فجاءه معلِّمون «كبار» من باريس، فأُعجبوا بوعظ هذا «الحمار» كما سمَّوه من حسدهم. الناس على الخورس وعند الباب وعند الشبابيك، أمّا هم فكنيستهم فارغة. قولوا لي: أيُّ دكتورا كانت مع كاهن تلك القرية النائية؟ هي دكتورا خاصَّة من عند الروح القدس.
وتتواصل عطايا الروح. الإيمان. لا ذاك الذي نقوله: أنا مؤمن. أنا مسيحيّ أبًّا عن جدّ. هذا كلام بكلام واختباء وراء إيمان ميت لا يعطي ثمرًا. إيمان يتوقَّف عند بعض الممارسات ويلغيها بعض المرّات لأقلِّ سبب. الإيمان الذي يعطيه الروح هو ذاك الذي ينقل الجبال. يعمل العجائب. يحرِّك الجماعات من رعيَّة وأخويَّة ودير وغيره. مثل هذا الإيمان عطيَّة من لدن الروح. والثمر لا يمكن أن يكذب. فالكاهن المؤمن يُعرَف من رعيَّته. والأخويَّة تُعرَف من الأثر الذي تتركه في الرعيَّة، بحيث تمجِّد الله في عطائها، ولا تسمح أن يُجدَّف على اسم الله بسببها. هذه بنت أخويَّة! يقولون عن البعض ويقلبون الشفاه. قال والد الصبيّ: أؤمن يا ربّ، ولكنَّ إيماني ضعيف. فلماذا لا نقول: «آمنتُ بك يا ربّ فزدني إيمانًا».
الإيمان ليس عطيَّة لي لكي «أخلِّص نفسي». هي الأنانيَّة بالذات. الإيمان وغيره من المواهب هو في خدمة الجماعة. وكذا نقول عن نعمة الشفاء. برناديت التي ظهرت عليها العذراء في لورد (فرنسا)، مرضَتْ حين كانت في الدير. قيل لها: اطلبي من العذراء أن تشفيك فهي ظهرت عليك. رفضت. هذه العطيَّة هي للآخرين. ومع الشفاء صنع المعجزات، كما يفعل القدِّيسون سواء كانوا على الأرض، وبالأحرى حين يكونون في السماء، فنستطيع القول: «عجيب الله في قدِّيسيه».
وأخيرًا «النبوءة». لا أن نقول الغيب مثل «برّاجة، بصّارة»، بل أن نقول كلمة الله بكلِّ جرأة. لا نمالق. لا نكذب بعضنا على بعض. لا نمدح شخصًا لا يستحقُّ المديح ونقدِّر شخصًا بسبب ماله أو جاهه وهو بعيد عن المسيح كلَّ البعد. مثل هذا الكذب يمجُّه الروح القدس. فالنبيّ يقول الحقيقة، وإن أُجبر يفضِّل السكوت على امتداح «الأمير».
وينهي الرسول هذا المقطع الرائع: «وهذا كلُّه يعمله الروح الواحد نفسه موزِّعًا مواهبه على كلِّ واحد كما يشاء» (1 كو 12: 11). نفتح أيدينا. نفتح قلوبنا لنستقبل عطاياه، فكلُّ موهبة تنميني أنا. تنمي الجماعة التي نعيش فيها، تنمي الكنيسة كلَّها. لأنَّ كلَّ نفس ترتفع ترفع معها العالم. والعكس صحيح أيضًا. فإلى ماذا نتوق؟ إلى الصعود؟ إلى الطريق الذي يفتحه المسيح أمامنا؟ إلى الباب الضيِّق؟ فإذا شئنا هذه الطريق نعرف أنَّ الروح حاضر معنا، يمنحنا مواهبه، يساعدنا، يقوِّينا، يكفي أن نقول له: «هلمَّ أيُّها الروح القدس واملأنا بشعاع نورك». والنتيجة لا تتأخَّر أبدًا. وطوبى لمن لا يشكُّ بعمله!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM