الفصل السابع والعشرون حزقيال النبي

الفصل السابع والعشرون

حزقيال النبي

لم تكن سنوات المنفى سنوات صمت، بل سنوات نشاط أدبيّ هام جداً. ضاع الهيكل، ولكن بقيت الكتب المقدسة. فقرأها المؤمنون، وتأمّلوها وكمّلوها وكتبوا غيرها. تحدّثنا عن سفر المراثي. وسنتعرّف في فصل أول الى حزقيال وفي فصلين لاحقين إلى كل من التاريخ الكهنوتي والتاريخ الاشتراعي.
ونبدأ مع حزقيال.

أ- حزقيال وسفره
سفر حزقيال كتاب طويل يمتد على 48 فصلاً. قراءة صعبة ومملّة بسبب التكرارات والصور المعقدة التي لا نعرف كيف تنتهي. إلا أن هناك الشيء الاخير الذي نحتفظ به من حياة وأقوال هذا الرجل الذي التزم التزاماً تاماً بقضايا شعبه.
كان حزقيال واحداً من هؤلاء الكهنة الذين يؤمّنون شعائر العبادة في اورشليم. نُفي إلى بابلونية مع عدد من الأعيان والصنّاع خلال السبي الاول سنة 597. وخلال عشر سنوات، ظلّ يتتبّع باهتمام كل ما يحدث في أورشليم. ثم جاءت الكارثة الاخيرة والسبي الثاني سنة 587. عاش وسط المنفيين، فحاول أن يفكر معهم في الوضع (عملية فحص ضمير مع نظرة إلى المستقبل) ليساعدهم على المحافظة على تضامنهم، على استعادة الأمل، على الاستعداد للعودة إلى البلاد. وهكذا قدّم لشعبه صورة عن المستقبل حرّكت فيه الحمية والاندفاع.
حزقيال هو نبي الأزمنة الصعبة. منع المؤمنين من الاستسلام لليأس.

ب- في قلب الشعب
حزقيال رجل يقاسم الشعب حياته كلها، ويؤسّس عمله على هذه الحياة. إنه هنا وسط المنفيّين الذين يأتون إليه، يجلسون بقربه ليسمعوا كلامه (8: 1: 14: 1). هو يستعيد أقوالاً مأثورة يردّدها الشعب، تارة ليعارضها وطوراً ليستفيد منها.
الاباء أكلوا الحصرم وأبناء البنين ضرست (18: 2).
مرّت أيام، وما تحققت الرؤيا (12: 22).
يبست عظامنا وخاب رجاؤنا وانقطعنا (37: 11).
واذا أراد حزقيال أن ينقل فكرة جديدة أو أن يجنّد الناس، لا يتردّد في "تقديم مشهد": ظلّ راقداً أياماً عديدة يأكل طعاماً رديئاً لينبىء بالشرّ الآتي (4: 4- 17). تزيّا بزي رجل مهجّر وقلّد الذاهبين إلى المنفى بعد أن نقب الحائط (12: 1- 20). لصق قطعة خشب باختها ليدلّ على توحيد الشعب المقسّم (37: 15- 28).
يتخيّل رؤى مع سيناريو مهيب مثل رؤية العظام اليابسة في السهل، والتي صارت جيشاً كبيراً (37: 1- 14)، ويروي أمثالاً متنوّعة: مثل الإبنة المتروكة التي استقبلها السيد، تزوّجها فزنت عليه (ف 16). مثل الارز (ف 17). مثل اللبوءة وصغارها (ف 19). مثل القطيع (ف 34). وهكذا نكون أمام كتاب تتزاحم فيه الصور من كل نوع، تفيض فيه الحياة من كل جانب، فلا نعرف أين نبدأ. وهكذا نفهم أن مثل هذا الانسان حرّك شعبه تحريكاً عميقاً ودفعه إلى العمل.

ج- في قلب الله
حزقيال هو أيضاً بصورة خاصة انسان أمسكه الله، قبض عليه. طُبع في يوم من الأيام بلقاء مع الله، شأنه شأن الانبياء. هذا اللقاء نجده في بداية الكتاب (ف 1- 3) وفيه تمتزج أخبار عديدة دمجها التلاميذ ووضعوا بعض اللمسات فيها.

1- رؤية مجد الرب
هناك أولاً الرؤية العظيمة، رؤية "مجد الرب" (ف 1): تتألف من سلسلة من الصور تجعل القارىء يضيع: حيوانات أسطورية، دواليب، بروق، ضجة، حركة... لا يستطيع مصوّر أن يرسم ما كُتب هنا. ولكن ما همّ التفاصيل وقد تأثرت بما في هياكل بابل. فحزقيال يريد أن يصوّر الله الذي هو كبر من كل شيء، الاله الذي يفيض حياة وحركة، الذي هو دوماً جديد.
تعبرّ هـذه الصور قدر المستطاع عن لقاء بدّل كل شيء لدى حزقيال. فهم يوماً من الأيام مَن هو الله. أو بالأحرى نظر إلى أعماق حياته، ففهم أن الله يتجاوز كل ما نقدر أن نقوله أو نتخيّله. هذا الاكتشاف هو ينبوع كل دينامية عند النبي الذي عمل ما في وسعه ليجعل الشعب يكتشف حضور الله ومتطلّبات هذا الحضور.

2- رؤية الكتاب
بعد هذا، ترد رؤية كتاب كلام الله (2: 1- 3: 11). هذا الكتاب يبتلعه النبي فيجده حلواً كالعسل. معنى الرؤية واضح: فرحُ النبي وهدفُ حياته هو أن يغتذي من كلام الله وينقله إلى البشر.

3- صورة الرقيب
وأخيراً تأقي صورة الرقيب (3: 16- 21): يقف الرقيب على سور المدينة، يرى الخطر آتياً فيحذّر الشعب. إن نَقْل كلمة الله هو مسؤولية. إن كان النبي لا يتكلّم فسيُحاسَب بسبب الشرور التي تحلّ بالذين وجب عليه أن ينبّههم. إذن عليه أن يقضي حياته سامعاً لكلمة الرب لكي يستطيع أن يُنذر الشعب وينبّهه.

د- فحص ضمير
زمن حزقيال هو زمن شقاء. فلا يستطيع المؤمن أن يتخلّص منه دون. أن يتأمّل في ما جرى. وقد قرّر حزقيال أن يفعل كل شيء ليجعل الشعب يقوم بفحص الضمير هذا.

1- المستوى الجماعي
بدأت عمليّة فحص الضمير على المستوى الجماعي. توقّف حزقيال عند حقبة من التاريخ وعالجها من زوايا مختلفة: مثلا إبنة أورشليم (ف 16)، مثل النسر والكرمة (ف 17)، مثل الاختين الزانيتين (ف 23)، مثل الراعي (ف 34).
يحدّثنا ف آ 1 عن أورشليم (هي صورة عن شعب الله كله) بصورة فتاة متروكة. لم تكن تساوي شيئاً. لم يكن أحد يهتمّ بها. مرّ الرب، فبسط طرف ثوبه عليها ليدلّ على حمايته لها. أحبّها، تزوّجها، ولكنها خانته وعادت الى الزنى. ما معنى هذا المثل؟ إن الشقاء هو عقاب خيانة الشعب الذي تقبّل كل شيء من الله، ولكنه عصاه ورفض كلمته وسار وراء الآلهة الغريبة (هذا هو معنى الزنى في الكتاب المقدّس).
أما ف 34 فيميّز بين أشخاص وأشخاص. فهو يهاجم أولا "الرعاة" أي المسؤولين عن الشعب. هم لم يعرفوا أن يقودوه ويحافظوا عليه كما يجب. ثم يندّد ببعض "الخراف"، بعض أعضاء الشعب الذين سحقوا الآخرين ولم يكونوا لهم إخوة.
الشر هو هنا. هناك مسؤولون عنه وكلنا ضحيّته.

2- المسؤولية الشخصية
هنا تطرح المسؤولية الشخصية. كان الشعب يفكّر بطريقة جماعية: خطىء الشعب فعُوقب الشعب. وهذا يعني في الواقع أن الأبرياء يدفعون الثمن عن المجرمين، أن جيلاً يدفع عن الجيل الذي سبقه. هكذا كان الناس يقولون: "الآباء أكلوا الحصرم وأسنان البنين ضرست". وفي النهاية، يقودنا هذا الفكر إلى اعتزال تام واستقالة من واجباتنا: لا فائدة من العمل بعد أن ضاع كل شيء!
كانت ردّة الفعل قوية عند حزقيال، فقدّم فكرة جديدة لم يعبرّ أحد قبله عنها: الرب يحسب حساب كل انسان. كل واحد يمسك مصيره بيده والرب ينجّيه من الشقاء. "أيكون سروري بموت الشرير؟ كلا، بل بتوبته عن شره فيحيا" (23:18). نجعل من الشعب أناساً مسؤولين، لا غنماً يسيرون في قطيع ولا يفكّرون أين يسيرون. هذا ما يتوسّع فيه حز 18 (رج 14: 12- 23).

هـ- من الكارثة إلى السعادة المستعادة
إن رؤية "مجد الرب" التي طبعت حزقيال بطابعها، ستتجدّد مرات عديدة لتصوّر له عظمة الله وجماله، وتدلّه على طريقة حضور الله في تاريخ شعبه. فهو يرى المجد ينتقل من مكانه: يخرج من الهيكل (10: 18- 19) ثم من مدينة أورشليم (11: 22- 24)، ويعيش بين المنفيّين في بابل (11: 24). وفي النهاية، يعود المجد إلى الهيكل الذي أعيد بناؤه (43: 1- 7). هذا يعني أن الله لا يرتبط ببلد (أو مكان) محدّد، بل بشعب من المؤمنين. فإن هاجر هذا الشعب، "هاجر" الله معه. إذن، لم يترك الله شعبه رغم كل خياناته. بل ظلّ معه يساعده على عيش حياته القاسية في المنفى، بانتظار أن يردّه يوماً إلى بلاده.
فحزقيال ليس فقط نبياً يتأمل في الماضي ويدعو إلى التوبة. إنه أيضا نبي الرجاء والمستقبل. فالنصوص التي أشرنا اليها تنتهي بانفتاح على المستقبل: فالعريس يستعيد العروس الزانية، لأنه ما زال يحبّها (16: 60- 63). والرب سيستعيد شعبه المشتّت ويكون هو نفسه راعيه (34: 10- 16). أو هو يعطيه راعياً جديداً يسمّيه "داود" أي المسيح (إختاره الله ومسحه بالزيت فصار ممسوحاً ومسيحاً) المتحدّر من داود (34: 23- 24).
وفي النهاية، ستنتصر الحياة على الموت. هذا ما تقوله رؤية العظام اليابسة (37: 1- 14). لسنا هنا أمام قيامة الموتى كما في الايمان المسيحي (هذا ما لم يصل إليه زمن حزقيال)، بل أمام شعب "مات" في المنفى، وها هو "يستعيد الحياة". وتبقى الذروة في ف 36 الذي يقول بوضوح: سيُنقّي الشعب من كل ما يُنجّسه، وينال "قلباً جديداً"، "قلباً من لحم" يحل محلّ "قلب الحجر". يكون فيه روح الرب فيجعل منه شعبا واحداً أميناً وسعيداً. ويكون عهد أبدي بين الله وشعبه (37: 26).
وينتهي سفر حزقيال بلوحة واسعة عن اسرائيل الجديد (ف 45- 48). نجد في هذا القسم صوراً وأرقاماً، ونكتشف هيكلاً بُنيَ مع غرفه ومطابخه وأثاثه وأروقته... ثم مخطط تقسيم فلسطين إثنتي عشرة. قطعة متوازية توزّع على الاثني عشر سبطاً. وفي الوسط، تكون منطقة مقدسة، منطقة أورشليم والهيكل، موضع الكهنة واللاويين والرئيس (لم يعد هناك ملك).
تصوير مملّ، ما عدا بعض المقاطع. مثلاً، عودة مجد الرب (43: 1- 7)، صورة النهر الذي يخرج من الهيكل ويولّد الحياة بغزارة (47: 1- 12). والعبارة الاخرى: "واسم المدينة من ذلك اليوم: الرب هناك"(عمانوئيل الهنا هنا، أش 7: 14).
ولكن كان لهذه الصور معناها لحزقيال ومعاصريه. فهي تعلن للمنفيّين عالماً جديداً حسب مشيئة الله. وتكون العبادة في قلب المدينة، ويكون للكهنة (وحزقيال كان منهم) دور رئيسي، تاركين للرئيس السلطة السياسية (45: 7- 9). ينظّم الايمان الحياة كلها. فيمنح الله الناس السعادة. هي رؤية أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع. رؤية لم تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الاجتماعية والسياسية. ولكنها كانت مفيدة للمنفيّين، فأعادت إليهم الأمل والحياة.

خاتمة
لعب حزقيال دوراً رئيسياً في حياة شعبه. أخذ المشعل من إرميا، فأتاح لشعبه أن يبني لنفسه إيماناً متجدّداً يتكيّف مع التبدّل القاسي الذي حصل سنة 587. وساعده على ان يحيا من جديد، فجعله يفكّر في ماضيه، وفتح أمامه نافذة على المستقبل. كما أدخل عدداً من الأفكار والصور سيأخذ بها العهد الجديد: القلب الجديد، الراعي الصالح، المياه التي تعطي الحياة...

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM