الفصل السادس والعشرون زمن المنفى: الاطار التاريخي

الفصل السادس والعشرون

زمن المنفى: الاطار التاريخي

يمتدّ زمن المنفى بالنسبة إلى مملكة يهوذا من سنة 587 إلى سنة 538. كيف بدا الشرق الاوسط في تلك الحقبة، وما كانت عليه حالة أهل يهوذا في أورشليم، والذين ذهبوا الى منفى بابل؟

أ- الشرق الاوسط بعد سنة 587
زالت مملكة يهوذا وزالت معها الممالك الصغيرة من الشرق الأوسط، ما عدا مدينة صور الفينيقية التي قاومت من على جزيرتها الصخرية الهجمات البابلية. وتوزعت ثلاث دولات السلطة في توازن سيدوم ثلاثين سنة تقريباً، أي حتى صعود كورش الفارسي.

1- ليدية في الشمال الغربي
سيطرت ليدية على الشمال الغربي، أي آسية الصغرى (تركيا الحالية)، وفرضت الجزية على مدن أسّسها اليونانيون على الشاطىء منذ زمن بعيد. لم يكن الليدياويون من اليونان. فانطبعت حضارتهم بالطابع اليوناني والطابع الشرقي. كانت أرضهم غنية بالزراعة ومناجم الذهب.
وهاجمهم القماريون الآتون من شواطىء البحر الاسود، فردّوهم على أعقابهم، وعرفوا ازدهاراً كبيراً. قويت سلتطهم الاقتصادية حين اخترعوا النقد: فلا حاجة الى وزن الفضة والذهب لدفع ثمن البضائع.
فهناك قطع نقود تكفلها الدولة لتسهّل عمليات التبادل. عُرف من ملوك ليدية عليات (600- 561) وابنه كريسوس (561- 546) اللذان اشتهرا بثورتهما وغناهما.

2- المادايون والفرس في الشمال والشرق
أقام الفرس والمادايون (الذين كانوا خاضعين للفرس) على هضاب ايران في الشمال والشرق. كانوا قبائل جاءت من آسيا الوسطى وتنظّموا في دولة واحدة. كانوا شعباً من المحاربين. وتأثرت ديانتهم بمصلح كبير هو زردشت. فهذا الشخص السرّي الذي عاش، على ما يبدو، في القرن السادس، أعلن إلهاً واحداً وصالحاً يحارب قوة الشر. وآمن زردشست أيضاً بعالم خفي من الملائكة.
كان المادايون قد لمعبوا دوراً كبيراً في إزالة الامبراطورية الاشورية. وضمّوا إليهم القسم الجبلي من هذه الامبراطورية تاركين السهل للبابليين. ولكن هذه السهول ما زالت تثير شهيتهم بسبب غناها الكبير.

3- البابليون
أقام البابليون أو الكلدائيون في الوسط وعلى الشاطىء الممتد حتى حدود مصر. كانت بابل في الماضي قوية جداً. منذ سنة 1800 إلى سنة 1500 (كان منها المشترع الشهير: حمورابي). ثم تراجعت أمام أشورية. منذ سنة 612، إستعادت السلطة في بلاد الرافدين. حينئذ أعاد نبوكد نصر بناء بابل مع سور طوله 16 كلم، مع قصر واسع وهياكل عديدة، وجسراً على النهر، ومعبداً بطوابق (زيقورات) علوّه مئة متر، وطريقاً واسعاً (تتم فيه الاحتفالات) تحيط به جدران مزيّنة بصور قرميدية اللون. لا بد أن يكون يهود المنفى قد دهشوا أمام هذه العظمة.
وكانت الحياة الاقتصادية نشيطة في بابلونية. فالزراعة مزدهرة بفضل نظام متطوّر للري. والتجارة نمت واتسعت. كان هناك الملك وطبقة الاغنياء المؤلّفة من الملاّكين الكبار، وطبقة العمال الموسميين (يُستأجرون فقط لأعمال الزراعة الكبيرة)، وأولئك المجتدين في تشييد الابنية الكبيرة. وهناك العبيد وكانوا عديدين. هم في غالبيتهم أسرى الحرب. لم تكن حياة هؤلاء العبيد قاسية: فهم يستطيعون ان يمتلكوا أرضاً، أن يتعاطوا التجارة وأن يكون لهم عبيد. ولكن كل هذا يتعلّق بشخصية سيّدهم الذي يستطيع أيضاً أن يعاملهم بقساوة كبيرة. نشير أنه كان للملك وحده عدد كبير جداً من العبيد. كما نشير إلى وجود وثيقة تتحدّث عن إضراب قام به العبيد.
تعبّدت بابلونية لعدد كبير من الآلهة ولاسيما آلهة قوى الطبيعة. والاله الأول هو مردوك الذي قد يكسف سائر الآلهة فيصبح الاله الواحد. والعيد الكبير هو عيد رأس السنة: يحتفلون فيه بموت سنة وولادة سنة جديدة بشكل موت مردوك وولادته من جديد.

ب- مملكة يهوذا بعد الهزيمة
سقطت مدينة أورشليم سنة 587، سُلِبت، دُمِّرت، أُحرِق الهيكل. مصيبة هائلة. لقد زال كل أساس لحياة الشعب، بعد أن خسروا كل شيء.

1- المستوى الاقتصادي
صارت البلاد مثل كل بلاد عرفت الحرب والاجتياح: مات عدد كبير من الناس. دمّرت البيوت، عاث الفساد في الحقول، ودبّت الفوضى في الحياة اليومية. والجوع والوباء يتربّصان بالسكان. أما ابمنفيون فصاروا كلا شيء: قطيع من العبيد يسير إلى البعيد.
2- المستوى السياسي
بعد أن رأى الملك صدقيا أبناءه يذبحون أمامه، فُقئت عيناه. ثم أُخذ إلى المنفى مع مستشاريه السياسيين. لم يعد للمملكة رئيس معترَف به. وعيّن الملك حاكماً اسمه جدليا. كان عضواً من أعيان يهوذا ولكنه قُتل بعد ان حكم البلاد بضعة أسابيع (2 مل 25: 22- 25).

3- المستوى الديني.
هنا كان الدمار الخطير. دمّر العدوّ الهيكل، موضع تجمّع الشعب من أجل احتفالاته، والمكان الوحيد الذي فيه تُقدّم الذبائح بعد اصلاح يوشيا، ومركز الديانة الحيوي. وزال عن المسرح الملك الذي هو شخص مقدّس، وارث داود، وحامل مواعيد الله، رغم الضعف الذي يرافق اعماله. وداس المجتاح الأرض المقدسة التي حسبها الناس محمية من محميات الله. وفي النهاية، ماذا بقي من العهد الذي أعطاه الله لشعبه؟ هل سيطرت الآلهة الوثنية على إلاله الواحد؟ قد يكونون أقوى منه! أو: ربّما تخلّى الله عن شعبه!
منذ زمان بعيد وبّخ الانبياء الشعب على خياناته، ولكنهم لم ينالوا نتيجة. حينئذ اعتبر الله أن لا فائدة تُرجى من هذا الشعب، فسلّمهم إلى اعدائهم عقاباً لهم. كل هذا لا يمكن إلاّ أن يقود إلى اليأس. لا شك في أن ارميا أعلن كلام الرجاء، ولكن لم يسمعه أحد في ذلك الوقت. غير أنهم سيقرأون كلماته فيما بعد فيتأثّرون بها من أجل بناء المدينة وغرس الارض.

ج- شعب يهوذا بعد الهزيمة
توزّع شعب يهوذا ثلاث فئات: فئة بقيت في فلسطين، واخرى هربت إلى مصر. أما المنفيون فمضوا إلى بابل.

1- الباقون في فلسطين
اولاً: وضع السكان
لا شك في أن العدد الاكبر من السكان بقي في البلاد، وأن عدد الذاهبين إلى المنفى كان محدوداً. ثم إنه لم تكن مستوطنات لشعوب غريبة ووثنية كما كان الأمر بالنسبة إلى مملكة الشمال بعد سنة 721 (2 مل 17: 24- 41). وحافظ المؤمنون على تقديم الذبائح وإقامة الصلوات في خرائب الهيكل. ولكن لم يعد لهذا الشعب رئيس، بعد أن راح المسؤولون كلّهم في طريق المنفى. حياة مهدّدة من كل جانب. حياة مغمورة لا نكاد نعرف عنها شيئاً.
بقي لنا من هذه الفترة نص واحد ألّف في فلسطين هو سفر المراثي الذي يعبّر عن ضياع هذا الشعب المسحوق مع بارقة أمل ضعيفة.
ثانياً: كتاب المراثي
كتاب وُلد في أرض فلسطين. كان أهل يهوذا مضعضعين، محرومين من الرؤساء والصنّاع. فجاء سفر المراثي يقدّم لنا شهادة عن حياتهم، في مجموعة من القصائد دُوّنت على أثر الكارثة التي أغرقت البلاد في ضيق ما بعده ضيق.
كتاب يسيل منه الألم، ولكنه مطبوع بالايمان. هو يتألف من خمس قصائد. القصائد الأربع الأولى هي أبجدية (مثل بعضر المزامير). بمعنى أن كل قطعة من القطع الاثنتين والعشرين (نجد في العبرية 22 حرفاً، لا 28 حرفاً كما في العربية) تبدأ بحرف من حروف الابجدية (أ، ب، ج، د...). ماذا نجد في هذه القصائد؟ ثلاثة أمور مهمة:
* لوحة عن الوضع المأساوي الذي تعرفه خرائب أورشليم
إنطرح الصبي والشيخ على الأرض في الشوارع،
فتياني وفتياتي جميعاً سقطوا بحدّ السيف (2: 21).
الأطفال يطلبون خبزاً ولا من يعطيهم كسرة (4: 4).
حتى النساء الحنونات طبخن اولادهن
فكانوا لهن طعاماً في نكبة بنت (مدينة) شعبي (4: 10).
* الاهتمام بالحديث مع الرب حول هذه المصيبة. لم يفهم المؤمنون: هل الرب هو سبب هذا الشر؟ ولكنه سيد كل شيء وخالقه. ويبقى المؤمن مؤمناً، إلاّ أنه يعاتب الرب بقساوة:
صار الرب كعدو وسحق اسرائيل سحقاً (2: 5).
قصد الرب أن يدمّر اسوار بنت (مدينة) صهيون (2: 8).
إرفعي إليه كفّيك وتضرّعي لحياة أطفالك...
أنظر يا رب وتأمل! هل فعلت بأحد هكذا (2: 19- 20)؟
* وتولد بارقة أمل خافت في قلب هذا الشقاء: لا يمكن أن يكون الرب نسي ولم بعد يتذكّر. وهكذا تبدو كلمة الرجاء قوية حين نجعلها في قلب هذا الوضع المأساوي.
رأفة الرب لا تنقطع ومراحمه أبداً لا تزول...
الرب صالح لمن ينتظره للنفس التي تشتاقه.
خير أن ينتظر الانسان في الصمت خلاص الرب (3: 22- 26).
هذا الكتيّب هو شهادة مهمة عن ضيق المؤمنين الذين ظلوا في أورشليم، وعن ايمانهم على أثر الكارثة. بعد هذا لم يدؤن شيء في أورشليم في زمن المنفى. ستصبح جماعة المنفى المركز الحي الذي فيه سيتواصل التأمل في نصوص التوراة وإعادة كتابتها.

2- الهاربون إلى مصر
يعلمنا سفر الملوك الثاني (25: 26) وسفر إرميا (41: 16- 44: 30) أن عدداً كبيراً من بني يهوذا (يضخّم الأمور فيقول: "كل الشعب") لجأوا إلى مصر. حاول إرميا بكل قواه أن يقاوم هذه المحاولة اليائسة. لم يسمعوا له، بل جرّوه معهم. فاستمرّ هناك يقوم بدوره النبوي ويحارب عبادة الاوثان السائدة لدى هؤلاء الهاربين.
مات إرميا في مصر. وكان قد تنبّأ بأن اللاجئين إلى مصر سوف ينفون. غير أن نبوءة إرميا لم تتحقق. وسوف نرى جماعات يهودية في مختلف أنحاء مصر ولاسيما في الجنوب، في جزيرة الفيلة (الفنتين) حيث وجد المنقبون وثائق تعود إلى جنود يهود اقيموا هنا قبل سنة 525. هل كانوا من رفاق إرميا، أو من أبنائهم؟ لا جواب أكيداً على ذلك.

3- المنفيون في بابل
ستلعب مجموعة المنفيين دوراً بارزاً في مستقبل شعب الله، وسينطلق كل شيء من بابل. كم كان عدد المنفيين؟ لا تتوافق الأرقام المذكورة في 2 مل 24: 14، 16، وفي إر 52: 28- 30. نظن انهم كانوا بين 15000 و20000: أولئك الذين هجّروا سنة 587 (احتلال أول أورشليم)، وسنة 578 (يوم دُمّرت)، ثم فيما بعد (582). مات بعض منهم في الطريق. ولكن تزوّج آخرون وأنجبوا أولاداً. أما عن العودة سنة 538، فالتوراة تتحدّث عن 42360 شخصاً (مز 2: 64- 67). هل نثق بهذا الرقم؟ يبدو أنه معقول.

أولاً: الوضع الاجتماعي والاقتصادي
كان السفَر متعباً. مسيرة على الأقدام أو في عربات. 1200 او1300 كلم تفصل أورشليم عن بابل. طعام غير كافٍ. جوع وعطش، معاملة قاسية من قبل الجنود. وحين وصل المنفيون، أقاموا أولاً في مخيّمات مع حرّاس يناصبونهم العداء. هذا ما يشير اليه مز 137: على أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا... هناك طلب منا الذين سبونا أن ننشد لهم، والذين عذّبونا أن نفرّحهم. قالوا: "أنشدوا لنا أناشيد صهيون" (آ 1- 3).
بعد هذا، سيتحسّن الوضع بشكل ملموس. عمل أسرى الحرب في أعمال مختلفة واعتُبروا عبيداً. ولكن نظام العبودية لم يكن قاسياً. فاستطاع البعض أن يقوموا بأعمال زراعية أو تجارية. وبعد التهجير الاول سنة 597، سوف نرى حول حزقيال يهوداً يجتمعون بحرّية، يناقشون النبي ويسمعون له. إنتظموا حول شيوخهم الذيم لعبوا بالنسبة لهم دور المسؤولين. وفي الوقت عينه نصح إرميا منفيي سنة 597 بأن يؤسسوا أسراً، ويبنوا بيوتاً، ويزرعوا حقولا (ف 69). هذا يعني أن لديهم بعض الامكانيات. وساعة العودة، أحصي 7000 خادم وخادمة رافقوا العائدين الاثنين وأربعين الفاً. هذا يفترض ان حالة عدد منهم تحسّنت بشكل بارز (عز 2: 65). ونعرف بفضل الأرشيف الذي وُجد في التنقيبات أن عائلة موراشو اليهودية امتلكت بعد مئة سنة من المنفى، مصرفاً هاماَ وكانت تتعامل مع عدد كبير من اليهود الميسورين.
ما نلاحظه هو أن جماعة المنفيين تحافظ على وحدتها. لم تترك الشقاء يسحقها، ولم تذب في شعب بابل مثل منفيي مملكة الشمال الذين ضاع أثرهم في أشورية بعد سبي سنة 721. أما بالنسبة إلى اليهوذاويين، فالمنفى شدّ الرباط بينهم وقوّى الأمانة للتقاليد. عادوا إلى الماضي يتأقلون فيه. واتصلوا في الوقت عينه بعالم مختلف فأثّر فيهم. وأمام آلهة بابل المتعدّدين، تأمّلوا في دور إلههم، فقوي ايمانهم بالله الواحد. وتكلّموا عنه في الوقت عينه بصور مأخوذة من العبادة البابلية. وتمثّلوا عودة إلههم إلى أورشليم على مثال التطواف الذي يقام اكرماً لمردوك في رأس السنة (أش 52: 7- 10). ورووا خلق العالم ليقفوا بوجه بعض الأفكار البابلية. مع العلم أنهم استعملوا صوراً بابلية. وفي عالم اعتبر فيه العرّافون أنهم ينبئون بالمستقبل، أكدوا كذب هذه الاقوال وأعلنوا أن الله وحده يعرف المستقبل وينبىء به (أش 44: 7؛ 45: 21).

ثانياً: الوضع الديني
كيف كانت الحياة الدينية في هذه الجماعة؟ لم يعد هناك من هيكل، اذن لا تقدّم ذبائح. ولكن كانت اجتماعات صلاة. اخذ المؤمنون منذ ذلك الوقت يقرأون معاً أسفار الشريعة ويفسّرونها في ما سيسمّى فيما بعد "المجامع". وفي ذلك الوقت بدأ اليهود يعطون أهمية جوهرية لاثنتين من ممارساتهم الدينية: السبت والختان.
* السبت.
كان السبت منذ زمن بعيد اليوم الذي فيه يتوقّفون عن العمل ليكرّسوا وقتهم للرب. واتخذت هذه الممارسة أهمية أكبر فى المنفى حيث أراد اليهود أن يدلّوا على أصالتهم ويتميزوا عن الآخرين. في ذلك الوقت رووا ان السبت يعود إلى خلق العالم: حين خلق الله العالم، إستراح في اليوم السابع (تك 2: 1- 3- في إطار التقليد الكهنوتي).
* الختان.
كان الختان طقساً قديماً مارسه أهل الشرق وغيرهم كطقس دخول في عالم الزواج. فصار في زمن المنفى علامة الدخول في العهد. فبدأوا يمارسونه لا في عمر المراهقة بل بعد ولادة الولد بثمانية أيام. وهكذا صار الختان علامة مميّزة تطبع كل ذكر في شعب الله، سمةً في جسده لا تمحى.
ما يميّز السبت والختان هو انهما ممارستان شخصيتان. يعيشهما اليهودي العائش وحده في أسرته في كل مكان في العالم.

د- صعود كورش ونهاية المنفى
كان هذا الوضع الذي صوّرناه سيدوم طويلاً لو لم يتبلبل التوازن السياسي في الشرق الأوسط بأحداث غير متوقّعة جاءت من هضاب ايران.
تبدّل الوضع حين دخل على مسرح الاحداث قائد فارسي شاب اسمه كورش. من كان هذا الرجل؟ لعبت الأساطير دورها بالنسبة إليه كما بالنسبة إلى عظام العهد القديم (وموسى منهم). ورث ملوك مملكة انشان (من ماداي) في فارس. وحين تسلّم السلطة سنة 555، رفض أن يبقى خاضعاً للمادايين. فانقلب على استياج، ملك ماداي، واحتل عاصمته احمتا (اكتبان أي همذان) وصار سيد منطقة الهضاب. وهكذا صار واحداً من العظماء الثلاثة في الشرق الاوسط.
ولكن هذا لم يكفِه. فلن تمضي بضع سنوات حتى يزيل "العظيمين الآخرين". قادته حملة أولى إلى الغرب فسحق الليديائيين ولم يوقفه فرسانهم الأقوياء. وهكذا ضمّ الى مملكته كل آسية الصغرى مع مدن الساحل اليونانية. واستفاد من كنوز كريسوس فانفتحت أمامه إمكانات واسعة (سنة 546). وقادته حملة ثانية باتجاه افغانستان الحالي وحدود الهند. وإذ أمّن ظهره، تحوّل إلى بابلونية يحاصرها.
كان الوضع في بابلونية مؤاتياً لكورش. فالملك نبونيد شخص غريب. أراد أن يحتفل في بابل بعبادة كل الآلهة. فجمع تماثيل أخذها من كل مناطق امبراطوريته فأغضب سكاناً عديدين. وفي النهاية نفى نفسه في عرابية وترك الحكم لابنه بلشصّر. كل هذا أضعف الملكية في بابل.
ثم إن سكان بابل وثقوا بكورش الذي قدّم نفسه كمحتلّ من نوع آخر. فالأشوريون والبابليون عاملوا المقهورين معاملة قاسية، بالسلب والنهب والتهجير وأسر القوّاد المغلوبين. بلد مغلوب هو بلد مدمّر. تلك كانت سياستهم العاديّة. أما كورش فجعل نفسه محرّر الآلهة والشعوب. أعاد الشعوب المهجّرة إلى بلدانها، وتماثيل الآلهة إلى هياكلها. عامل الملوك المغلوبين بالرأفة، وقدّم لهم وظائف رفيعة في بلاطه. أراد أن يحرّك في القلوب عرفان الجميل لا الرعب، وهذا ما ساعده على الإمساك بمقاليد امبراطورية واسعة. لم يكن له جيش كبير، بل إدارة صالحة. ولعبت الدعاية دورها، فهيّأت الشعوب لاستقبال محرّر يعمل لخير الناس.
وحين وصل كورش إلى بابل، إنتظروه كمرسل الآلهة لدى الشعوب الذين سيحرّرهم من النير البابلي. جعله أشحعيا الثاني "مسيح" إله اسرائيل ومختاره. وكهنة مردوك، اله بابل، استقبلوه بالترحاب، بعد ان استاؤوا من نبونيد الذي جعل جميع الآلهة متساوين وألغى المركز الأول الذي يتمتع به مردوك.
أحاط الجيش الفارسي بالمدينة في يوم عيد. فلم يكن من مقاومة. وتمّ احتلال بابل من دون حرب (سنة 539). فأعاد كورش الآلهة إلى معابدها والشعوب إلى بلدانها، ونظم الامبراطورية الجديدة التي كانت تمتدّ من اليونان إلى الهند، ومن بحر قزوين إلى مصر، وكرّس نفسه لهذا العمل خلال العشر سنوات الأخيرة من حياته (539- 529). وسيتابع خلفاؤه عمله من بعده، وسيحاولون أن يحتلّوا مصر واليونان. وهكذا ستدوم الامبراطورية الفارسية قرنين من الزمن جتى احتلال الاسكندر الكبير للشرق.
واما اليهود المنفيون فاستعدّوا لاستقبال كورش كالمحرّر والمرسل من قِبَل الرب. ومنذ سنة 538 أُعلن قرار كورش الذي ينظم العودة ويموّلَها. نقرأ هذا النص في نهاية كتاب الاخبار (2 أخ 26: 23) وفي بداية سفر عزرا (6: 3- 5، قد يكون هذا النص الرسمي الذي حفظ في الارشيف الاداري الفارسي).
وانتهى زمن المنفى وحلّت محلّه مغامرة العودة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM