الفصل السادس: من الصليب إلى القيامة

الفصل السادس
من الصليب إلى القيامة

«نحو الساعة الثالثة، صرخ يسوع بصوت عظيم: «إيلي، إيلي، لما شبقتاني». هي اللغة الآراميَّة في فلسطين، لغة يسوع والتلاميذ، والمبشِّرين الأوَّلين. «إلهي إلهي لماذا تركتني» (مت 27: 46) هي بداية مز 22 الذي أورد الإنجيليّ بدايته، ولكنَّ يسوع تلاه كلَّه من على صليبه: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني، وامتنعتَ عن نجدتي وسماع أنيني؟ إلهي، في النهار أدعو فلا تجيب، وفي الليل فلا تحرِّك ساكنًا» (آ2-3).
تلك كانت صرخة الألم العميق التي أطلقها يسوع باسمه وباسم جميع الذين يتألَّمون وهم أبرياء ممّا أُلصق بهم من تهم. وهي صرخة الابن تصل إلى الآب، بعد أن ترك الرسل ذاك الذي رافقوه ثلاث سنوات، وأوَّلهم بطرس الذي سبق له وقال: «لو تركوك كلُّهم فأنا لن أتركك» (مر 14: 29). ولكن سيطر الهدوء شيئًا فشيئًا في قلب يسوع، فأنشد: «هللوا للربّ، يا خائفيه، مجِّدوه يا ذرِّيَّة يعقوب، استجيروا به يا ذرِّيَّة إسرائيل، لأنَّه لا ينبذ المساكين، ولا يستهين أبدًا بعنائهم. لا يحجب وجهه عنهم، ويسمع إن صرخوا إليه» (آ24-25).
لهذا أورد إنجيل لوقا صلاة يسوع التي هي صلاة الطفل قبل أن ينام، على ما نقرأ في مز 3: 6: «في سلام أستلقي وأنام، ثمَّ أفيق لأنَّ الربَّ سندي». هذا مع أنَّه بدأ فأعلن: «يا ربّ، ما أكثر خصومي، ما أكثر القائمين عليَّ. كثيرون يقولون لي: "بإلهك، لا خلاص لك"» (آ2-3). هو الرقاد الذي يتبعه النهوض. الرقاد في القبر والنهوض في القيامة. كما قال يسوع عن نفسه: «ما من أحد ينتزع حياتي منِّي، بل أنا أضحِّي بها راضيًا. فلي القدرة أن أضحِّي بها، ولي القدرة أن أستردَّها» (يو 10: 18). فكيف يجسر الناس فيقولوا: «لا خلاص له بإلهه؟» فالرسول قال: «نحن نؤمن بالله الذي أقام ربَّنا يسوع المسيح من بين الأموات، وكان أسلمه إلى الموت للتكفير عن زلاَّتنا وأقامه من أجل تبريرنا» (رو 4: 24-25).
فعلى الصليب صلَّى يسوع: «يا أبي، في يديك أستودع روحي» (لو 23: 46). هو عاد إلى مز 31: 6: «في يديك أستودعُ روحي، فافْدِني يا ربّ، يا إله الحقّ». وتتواصل صلاة الإنسان الذي يطلب ملجأ في قلب الضيق أو في عتمة الليل، أو كما حوَّلها يسوع، فتضحي صلاة الابن الذي يمضي إلى النوم: «أبتهج وأفرح برحمتك» (آ8).
حين نقرأ هذه الآيات من المزامير، نتذكَّر يسوع الذي صار شبيهًا بنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة. هو ضعيف مثل كلِّ إنسان ماضٍ إلى الموت، فنسمعه يصرخ: «يا أبي، إن شئتَ فأبعد عنِّي هذه الكأس (كأس الألم والموت)» (لو 22: 42). ولكنَّه يعود حالاً إلى ذاته فيقول: «ولكن لا مشيئتي، بل مشيئتك». ويقول لوقا: «وظهر له ملاك من السماء يقوِّيه» (آ43). هو إنسان بكلِّ ما في الإنسانيَّة من ضعف. ولكنَّه ابن الله في كلِّ ما في الألوهيَّة من قوَّة. والقدِّيس بولس جمع الحقيقتين في بداية الرسالة إلى أهل رومة: «من بولس... الذي دعاه الله... ليعلن بشارته... في شأن ابنه الذي في الجسد جاء من نسل داود» (1: 3). ها هنا الوجه البشريّ، هو بحسب اللحم والدم، بحسب البدن والضعف الذي يعرفه كلُّ إنسان. ثمَّ الوجه الإلهيّ: «وفي روح القداسة ثبت أنَّه ابن الله في القدرة بقيامته من بين الأموات» (آ4). لو أنَّ المسيح لم يَقُم، لما استطعنا أن نقول إنَّه الله وابن الله، بل إنسان من الناس، نبيٌّ عظيم كما أنشده الناس هنا وهناك، يشبه موسى أو إيليّا أو يوحنّا المعمدان. ولكنَّ هذه الألوهة ظهرت في «القيامة من بين الأموات». ولهذا قال مز 16 الذي ردَّده بطرس في عظته يوم العنصرة: «لأنَّك لا تترك نفسي في عالم الأموات، ولا تدع قدُّوسك يرى فسادًا».
«يقوم الله فيتشتَّت أعداؤه، ويهرب مبغضوه من وجهه (من أمامه). كما يتبدَّد الدخانُ تبدِّدُهم، وكما يذوب الشمع أمام النار، يبيد الأشرار أمام الله» (مز 68). والأفضل أن نقول: «معاديه» بحسب اسم الفاعل في اللغة العبريَّة. فالله لا أعداء له. ويسوع من أعلى صليبه هتف نحو الآب السماويّ: «اغفر لهم يا أبتِ، لأنَّهم لا يدرون ما يفعلون» (لو 23: 43). نحن نعادي الله. أمّا هو فلا يعادينا، بل يفتح قلبه لاستقبالنا في أيِّ وقت من النهار أو الليل. وإن هو نبَّهنا إلى أنَّه يمكن أن يأتي في نصف الليل أو عند صياح الديك أو في الصباح، فبالأحرى هو ينتظرنا كما انتظر الأبُ الابن الضالّ فاستقبله أحسن استقبال.
نحن نعادي الله حين نتطلَّع إلى «آلهة أخرى»، إلى أصنام من حجر أو بشر. نتعبَّد للناس، نجعل نفوسنا لهم عبيدًا، وننسى أنَّنا أبناء وبنات. نشبه العبرانيِّين الذين حرَّرهم الربُّ من عبوديَّة مصر، فلبثوا يحنُّون إلى مصر وآلهتها وخيراتها. ونحن «نبغض» الله، بمعنى أنَّنا لا نحبُّه بل نحبُّ نفوسنا وشهواتنا ونزواتنا. بل نريد أن نزاحمه على الألوهة، كما كان الأمرُ بالنسبة إلى آدم وحوّاء: «تصيران مثل آلهة». أي نريد أن نحلَّ محلَّ الله في القلوب. وهكذا نطرد الله من المجتمع، أو نجعله في الهامش. أما هذا الذي حصل للكتبة والفرِّيسيِّين في زمن يسوع؟ فبعد إقامة لعازر من الموت، آمن كثير من الناس بيسوع (يو 11: 45). فارتعب رؤساء الكهنة والفرِّيسيُّون وقالوا: «ماذا نعمل؟ فهذا الرجل يصنع آيات كثيرة. فإذا تركناه على هذه الحال، آمن به جميع الناس» (آ47-48).
يوم الجمعة عادَوه، أبغضوه، هزئوا به: «السلام عليك يا ملك اليهود!» (مت 27: 29). وضربوه بالقصبة، وبصقوا عليه، وألبسوه لباس «الملوك» بعد أن كلَّلوه بالشوك. ولمّا رأوه مصلوبًا، هزئوا به: «خلَّصَ غيره ولا يقدر أن يخلِّص نفسه، هو ملك إسرائيل! فلينزل الآن عن الصليب لنؤمن به!» (مت 27: 41-42). وتواصلت العداوة رفضًا للإيمان: «توكَّل على الله وقال: أنا ابن الله، فلينقذه الله الآن إن كان راضيًا عنه» (آ43).
هنا نعود إلى مز 22: «كلُّ من يراني يستهزئ بي، يقلب شفتيه ويهزُّ رأسه. ويقول: "توكَّل على الربِّ فلينجِّه؛ ولينقذه إن كان يرضى عنه"» (آ8-9). المعادون كثيرون، ويبدو الله بعيدًا، فيواصل يسوع صلاته على صليبه: «اقترب الضيق ولا نصير لي، فلا تتباعد عنِّي. ثيران كثيرون يطوِّقونني، بقرات باشان تحيط بي، فاغرين أفواههم عليَّ كأسد مفترس مزمجر» (آ12-14). نتذكَّر أنَّ الوحوش في الكتاب المقدَّس تدلُّ على قوى الشرِّ والموت. لهذا يصرخ المسيح ويصرخ بفم الذين يحيط بهم البشرّ من كلِّ جانب، ويكرِّر كلامه: «وأنت يا ربّ لا تتباعد، يا إلهي أسرع إلى نجدتي. أنقذ نفسي من السيف وحياتي (هي وحيدة، وليس لي حياة أخرى) من هؤلاء الكلاب. خلِّصني من فم الأسد، ومن قرون البقر الوحشيّ أعنِّي» (آ20-22).
*  *  *
ضعيف يسوع وضعيف جدًّا في آلامه وموته، فأعطت المزامير صورة عنه: «أنا دودة لا إنسان، يعيِّرني البشر وينبذني الشعب» (مز 22: 7). ومن يهتمُّ لدودة في الصخر! لا أحد. ويتواصل الوصف في المزمور عينه: «كالماء سالت قواي، وتفكَّكت جميع عظامي. صار قلبي مثل الشمع يذوب في داخل صدري. يبست كالخزف قوَّتي (أو: حلقي) ولساني لصق بحنكي وإلى تراب الموت أنزلْتَني» (آ15-16).
وأطلَّت آية نالت أكثر من شرح. قال القدِّيس جيروم مترجم الأسفار المقدَّسة في خطِّ مترجمَين يهوديَّين (أكيلا، سيماك) حاولا أن يقطعا كلَّ رباط بين العهد القديم والعهد الجديد: «أوثقوا يديّ ورجليّ». ذاك ما حصل في الواقع للصَّين اللذين كانا عن يمين يسوع وشماله. وهكذا كانوا يفعلون عادة عندما يصلبون إنسانًا من الناس. وإن أرادوا أن يسرعوا في دفنه، كانوا يكسرون له ساقيه، فيختنق. ذاك ما فعلوا باللصين اللذين كانا بجانب يسوع (يو 19: 32). أمّا يسوع فلم يكسروا ساقيه لأنَّهم رأوا أنَّه مات، فاكتفوا بأن يطعنوه بحربة ليتأكَّدوا من موته.
أمّا المعلِّمون اليهود فقرأوا الاسم (كالأسد) بدل الفعل (أوثقوا، ثقبوا) فقالوا: «أحاطوا بي كما يحيط الناس بأسد». أو: «حطَّموا يديَّ ورجليَّ كما يفعلون مع أسد». وراح النصّ الأراميّ يقول: «عضُّوا يديَّ ورجليَّ كما تعضُّ الأسود». ولكنَّنا نفضِّل النصَّين اليونانيّ والسريانيّ: «ثقبوا يديَّ ورجليَّ» (مز 22: 17). ثقبوها بالمسامير. هذه كانت العلامة بأنَّ الذي صُلب يوم الجمعة هو هو الذي قام وظهر للنسوة يوم الأحد. فحين تراءى للتلاميذ ورآهم «مضطربين» متحيِّرين، قال لهم: «انظروا يديَّ ورجليَّ» (لو 24: 38-39). أمّا توما، فما أراد ان يكتفي بالنظر، بل طلب «أن يضع إصبعه في أثر المسامير» (يو 20: 25).
يسوع معلَّق على الصليب بالمسامير، عريانًا، بين الأرض والسماء: «ومن الهزال أعدُّ عظامي» (مز 22: 18). أو: الناس يستطيعون أن يعدُّوا عظامي «وهم ينظرون ويتفرَّسون فيَّ». ثمَّ «قيقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون». هكذا كانوا يفعلون مع المحكوم عليهم بالموت. فقال إنجيل متّى: «ولمّا صلبوه، اقتسموا ثيابه مقترعين عليها. لكي يتمَّ ما قيل بالنبيّ: «اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا القرعة» (27: 35). أمّا إنجيل يوحنّا فتوسَّع في ما عمله الجنود: «أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام. فنال كلُّ جنديّ قسمًا». وهكذا توزَّع لباس يسوع في أقطار الأرض الأربعة، يعني في الكون كلِّه. ونتذكَّر كلام بولس الرسول: «أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم» (غل 3: 27). وأوَّل اللابسين كانوا جماعة الجراشيِّين: مرُّوا في «البحر» فماتوا مع المسيح. ثمَّ قاموا مع المسيح. فمثَّلهم ذاك المجنون الذي رآه الناس «جالسًا» كما يكون التلميذ لدى معلِّمه، «لابسًا» بعد أن نال سرَّ العماد المقدَّس (مر 5: 15).
ويواصل يوحنّا: «وأخذوا القميص أيضًا، وكان بغير خياطة. فقال بعضهم لبعض: لا نشقُّه، بل نقترع عليه لنعرف لمن يكون» (19: 24). وهكذا تمَّ الكتاب الذي يحمل مشروع الله منذ بدايات العالم. أمّا متَّى فراح في خطِّ اليهود الذين كانوا يعتبرون داود نبيًّا وحسبوه صاحب المزامير، كما كان سليمان صاحب الأسفار الحكميَّة. أمّا هذا القميص غير المخيط، فرأى فيه آباء الكنيسة ردًّا على التشتُّت والتشرذم بين المسيحيِّين، وخصوصًا في الشرق. ما قُسمَت قميص يسوع، أمّا المسيحيُّون فانقسموا، ومزَّقوا هذا القميص الذي نسجتْه مريم لابنها، كما يقول التقليد، ليضمَّ جميع المؤمنين في شخص «التلميذ الحبيب» الذي أحبَّ يسوع وأحبَّه يسوع، الذي أخذ مريم إلى بيته وأكرمها إكرامًا خاصًّا، ودعا جميع المؤمنين من مسيحيِّين ومسلمين أن يعرفوا عظمة هذه المرأة. قال التقليد: هذا التلميذ هو يوحنّا الحبيب. وقال اللاهوت: كلُّ مسيحيّ، بشكل خاصّ، هو التلميذ (أو: التلميذة) الحبيب. وإن هو لا يأخذ مريم إلى بيته ويكرمها إكرامًا خاصًّا، لا يمكن أن يكون التلميذ الذي يحبُّه يسوع. فمن أحبَّ يسوع أحبَّ أمَّه أيضًا.
*  *  *
كيف بدا هذا القويّ ضعيفًا؟ خلَّص الأعمى من عماه، وطهَّر الأبرص، وأقام الموتى حين وصل إلى نائين، لمس النعش فجمد حاملوه مكانهم (لو 7: 14). ثمَّ نادى الشابَّ الذي يأخذونه للدفن: «قم»! فجلس وكأنَّه كان نائمًا (آ45). وأتى يسوع إلى بيت عنيا. لعازر أنتن. هو في القبر منذ أربعة أيَّام. بكلمة واحدة: «يا لعازر، هلمَّ خارجًا»، خرج الميت ويداه ورجلاه مربوطة بأقمطة، ووجهه ملفوف بمنديل» (يو 11: 43-44). كيف وقف ورجلاه مربوطتان؟ كيف تحرَّك ويداه ملفوفتان، مقيَّدتان.
أجل، كيف بدا يسوع ضعيفًا حين أطلَّت ساعة الموت. أما هو الذي منع بطرس من استعمال السيف، وقال له: «أتظنُّ أنِّي لا أستطيع الآن أن أطلب من أبي فيقدِّم لي أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة؟» (مت 26: 53). ولكنَّه ما استعمل هذا «الجيش». فمشيئة الآب يجب أن تتمّ. ولمّا سأله بيلاطس: «أأنت ملك؟». أعلن أنَّ مملكته ليست من هذا العالم. فلو كانت من هذا العالم «لكان خدَّامي يدافعون عنِّي» (يو 18: 36). والقوَّة ظهرت في أجلى معانيها حين أتى الجنود فأخذوا يسوع «بسيوف وعصيّ»، قال يوحنّا: «خرج يسوع وهو عالم بكلِّ ما يأتي عليه. قال لهم: «من تطلبون؟» أجابوه: «يسوع الناصريّ». قال لهم يسوع: «أنا هو» (يو 18: 4-5). «أنا هو» يعني أنا يهوه، أنا الإله الذي هو، الذي ظهر على موسى في العلَّيقة الملتهبة. أنا «كيريوس»، السيِّد والربّ. ماذا تنتظرون أن يحصل أمام هذه القدرة التي لا تقف أمامها السماء والأرض؟ وماذا سوف يحصل ليهوذا الواقف مع الآتين «بمشاعل ومصابيح وسلاح»؟ قال الإنجيل: «فلمّا قال لهم: «أنا هو»، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض» (آ6). هذا ما تفعله قدرة الله، بحيث سقط المهاجمون على يسوع «ساجدين ورأسهم إلى الأرض». خافوا في حضرة الله. ولكنَّ يسوع، في تلك الساعة، أخفى لاهوته. «فسألهم أيضًا: «من تطلبون؟» فقالوا: «يسوع الناصريّ». أجاب يسوع: «قلت لكم إنِّي أنا هو. فإن كنتم تطلبونني، فدعوا هؤلاء يذهبون» (آ7-8).
ما الذي حدث؟ هنا نعود إلى رسالة القدِّيس بولس إلى أهل فيلبِّي: «الذي كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنَّه أخلى ذاته، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، واضع نَفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصليب» (2: 6-8). فيسوع هو إله من إله. هو معادل لله. مساوٍ للآب في الجوهر. هو ما اختلس صفة الألوهيَّة كما حاول آدم أن يفعل، وكما العظماء في التاريخ أرادوا أن يظهروا بمظهر الألوهة. هو ما اختلس الألوهة، بل أخفاها، لاشاها، فما عادت ظاهرة بكلِّ قوَّتها. السيِّد صار عبدًا طائعًا. والإله القويّ صار إنسانًا، صار بشرًا. هو اختار هذه الطريقة ليرفع البشر إلى مقام الله. أخذ المحلَّ الأخير في البشريَّة، فشابه الراعي الذي يمشي وراء جميع الخراف ليصل بهم كلِّهم إلى الحظيرة. لا، لم يعدَّ الله في أعلى سمائه بحيث لا نستطيع الوصول إليه. صار عمانوئيل، إلهنا معنا، صار بشرًا فسكن بيننا. أنعجب بعد ذلك أن يتعب ويتألَّم ويموت ويوضَع في القبر؟ كلاَّ. ولكنَّ المسيرة لا تتوقَّف هنا.
لهذا يواصل القدِّيس بولس في الرسالة عينها: «لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كلِّ اسم، لكي تجثو باسم يسوع كلُّ ركبة ممّن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كلُّ لسان أنَّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب» (آ9-11).
*  *  *
قيل لإحدى الفتيات اليابانيّات التي نالت سرَّ العماد: «ماذا فعلت؟ أنت تعبدين إنسانًا مصلوبًا!» فأجابت: «وكيف عرفتم ذلك؟» قالوا: «من قراءة الأناجيل». عندئذٍ قالت باندفاع وحماس: «ولكنَّ الإنجيل قال أيضًا إنَّه قام. فنحن لا نعبد إنسانًا ميتًا لكن ربَّ الحياة».
وهكذا أنشد مز 68: «يقوم الله». ثمَّ: «تشتَّت معادوه». ذاك ما حصل للجنود الذين وضعوهم على القبر، خوفًا من أن يسرق التلاميذ جثَّة المعلِّم ويقولون إنَّه قام. اعتبروا يسوع مضلاًّ في حياته ومضلاًّ بعد مماته. «اجتمع رؤساء الكهنة والفرِّيسيُّون إلى بيلاطس قائلين: «يا سيِّد، تذكَّرنا أنَّ ذاك المضلَّ قال وهو حيّ: بعد ثلاثة أيَّام أقوم. فمُرْ بأن يُضبط القبر إلى اليوم الثالث» (مت 27: 62-64). ووضعوا الحرّاس، وضبطوا القبر وختموه «بالشمع الأحمر». كأنَّهم يقولون: «ممنوع الخروج وممنوع الدخول».
كانت «زلزلة»، «تدحرج الحجر». «خاف الحرّاس، ارتعدوا، صاروا مثل الأموات» (مت 28: 2-4). أين هم المعادون؟ هربوا. أين هم «مبغضوه»؟ اختفوا وراء الكذب، ولعبَ المالُ لعبته. فكما استُعمل من أجل القبض على يسوع، ها هو يُستعمل لإخفاء قيامة يسوع. أين هم هؤلاء الذين اعتبروا نفوسهم «أقوياء»؟ في المزمور، حسب يسوع نفسه كالشمع، والآن مبغضو يسوع ذابوا «كما يذوب الشمع أمام النار». أمّا النار فترمز إلى حضور الله. وتأتي مقابلة ثانية: الدخان. يمضي الدخان ولا يعود. وهكذا اختفى أولئك الذين رفضوا قيامة الربّ، على ما قال إبراهيم للغنيّ. فالغنيّ طلب من إبراهيم أن يرسل لعازر إلى إخوته الخمسة. قال: «إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون». فأجاب إبراهيم: «حتّى إن قام واحد من الأموات، لا يصدِّقون، لا يؤمنون» (لو 6: 30-31). وفي الواقع، لبثوا يعادون يسوع في موته وفي قيامته، كما منعوا تلاميذه من التلفُّظ باسمه (أع 4: 17).
وتجاه المعادين والمبغضين، هناك المؤمنون. قال مز 68: «أمّا الأبرار فيفرحون، يغتبطون أمام الله وينشرحون». ذاك ما حصل للتلاميذ بعد خبرة القيامة. ركضت النسوة، وأتت المجدليَّة فأخبرت بطرس والتلميذ الحبيب. وتلميذا عمّاوس عادا أدراجهما حين عرفاه بعد كسر الخبز. قالا: «كان قلبنا ملتهبًا فينا حين كان يكلِّمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب» (لو 24: 32). وينادي المرتِّل: «أنشدوا لله، رتِّلوا لاسمه، مهِّدوا (طريقًا) للراكب في البراري. اسمُه هو الربّ، فاهتفوا أمامه». فالاسم يدلُّ على الشخص. واليهود منعوا الرسل من ذكر هذا الاسم.
قدرة الله ظهرت في سيناء. عادةً هو الصعود إلى أورشليم. أمّا في مز 68 فالصعود يكون إلى البرِّيَّة. هناك، ارتعشت الأرض، ارتجفت. والسماء أرسلت مطرها. وظهرت قدرة الله حين رجوع العائدين من السبي، كما يقول مز 84: 7: «عبروا في وادي الجفاف، فصار عيون ماء، بل بُركًا يغمرها المطر». أما هكذا أنشد إشعيا أيضًا: «تفرح البرِّيَّة والأرض اليابسة، ويبتهج القفر ويزهر النرجس. يُزهر إزهارًا ويبتهج ابتهاجًا ويرنِّم» (35: 1-2).
ولكنَّ الربَّ لم يبقَ في سيناء، فكما مضت المركبات، مضى هو، فأنشد مز 68: «بألوف من المركبات جاء الربّ، من سيناء إلى المكان المقدَّس». ففي أورشليم يتمُّ الصلب. وفي أورشليم القيامة. وفي أورشليم الصعود أيضًا. واستمرَّ المزمور: «صعدت إلى العلى (إلى أعلى السماء) تقود الأسرى، أخذت عطايا من البشر: حتّى المتمرِّدين عليك ليكون لك مقامٌ هناك، أيُّها الربُّ الإله» (مز 68: 19). ومن هم السبايا؟ أولئك الذين أخذهم إبليس، وها هو الربُّ يستردُّهم، على مثال ما فعل إبراهيم، ساعة انتصر بإيمانه على «ملوك» أربعة يسودون أقطار الكون الأربعة. وهكذا صار مقام الربِّ في السماء. فالقدِّيس لوقا «روى» لنا كيف تمَّ صعود الربِّ بمرأى من التلاميذ: «ولمّا قال هذا ارتفع وهم ينظرون، وأخذته سحابة عن عيونهم» (أع 1: 9-10). أمّا مرقس فأنهى إنجيله حول صعود الربِّ يسوع إلى السماء: «ثمَّ إنَّ الربَّ بعد أن كلَّمهم، ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله» (16: 19).
*  *  *
ويتواصل مز 68 في كلام عن النصر والخلاص، في عودة إلى المعادين ولو كانوا من الأقوياء الأقوياء: «تبارك الربُّ الإله مخلِّصنا، يومًا فيومًا يحمل إلينا الخلاص (أو: النصر). الله لنا إله خلاصات (أو: انتصارات)، وأبواب الموت هي للربِّ الإله» (آ20-21). حرفيًّا: مخارج الموت. وهكذا يستطيع الناس أن يخرجوا من مثوى الموتى ويفلتون من الموت. قال الرسول: «بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس» (رو 5: 12). هذا حصل قبل التجسُّد والفداء، قبل موت المسيح وقيامته. أمّا بعد ذلك، «فإنْ ملكَ الموت بالواحد، بآدم، فبالأولى كثيرون هم الذين ينالون فيض النعمة وعطيَّة البرّ، ويملكون في الحياة بالواحد، بيسوع المسيح» (آ17).
وينطلق الموكب وراء يسوع، كما كان الجنود يسيرون وراء قائدهم بعد الانتصار. يمشي وراءه الأسرى، كما الملوك المقهورون. «تراءت مواكبك يا الله، يا الله ملكي في الموضع المقدَّس. المنشدون في المقدِّمة والعازفون خلفهم وسط عذارى ينقرن الدفوف» (آ25-26). هكذا يحتفلون بالعيد الكبير، عيد القيامة. وتتواصل الاحتفالات حتّى عيد العنصرة. سبعة أسابيع في الفرح والإيمان المملوءة بالرجاء. وكانوا في العيد، ينطلقون من عين جيحون (1 مل 1: 33-40)، جماعات جماعات وهم يباركون الله، فيصلون إلى الهيكل. تُذكَر القبائل بشكل رمزيّ، لأنَّها ترمز إلى الشعب كلِّه. فيناديك رئيس الكهنة: «أظهرْ، يا الله، عزَّتك. وأيِّدْ يا الله يا من تعمل لأجلنا. يرى الملوك هيكلك في أورشليم فيقدِّمون لك الهدايا» (آ29-30).
ويطلب المؤمنون من الله أن يُبعد الشرَّ عنهم، هذا الشرّ الذي يتجسَّد في الوحوش وحيوانات البرّ: «انتهر وحش القصب» (أي: وحيد القرن وربَّما التمساح). هو يختفي بين القصب ويهجم علينا. انتهر «الثيران والعجول». وينتهي التطواف بالنشيد أيضًا وأيضًا: «يا ممالك الأرض، أنشدوا لله، رتِّلوا للربّ، للراكب في أعلى السماوات الأولى. ها هو يطلق صوته، صوت عزَّته». هو يشبه الأسد الذي يزأر فيتبعه الأشبال وهم لا يخافون شرًّا.
*  *  *
ونعود إلى مز 22. قام يسوع من بين الأموات واستعدَّ للصعود. لهذا فهو ينطلق من أجل الكرازة فيقول: «سأخبر باسمك إخوتي وبين الجماعة أهلِّل لك». وماذا تكون النتيجة؟ «جميع الأمم تتذكَّر الربَّ وترجع إليه من أقاصي الأرض. أمام وجهه تسجد جميعُ الشعوب لأنَّ الملك للربّ سيِّد الأمم» (آ28-29). كم تبدَّلت الأمور، والخلاص لا يصل فقط إلى شعب من الشعوب، إلى فئة من الفئات مهما اعتبرت نفسها رفيعة. هو يصل إلى كلِّ الأمم فلا يكون له حدود.
لا، يسوع ليس بميت. إنَّه الحيّ. وإن هو صعد إلى السماء، فهو حيٌّ في جسده السرِّيّ، في جماعة المؤمنين. فإذا كان ليسوع أجداد في إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وصولاً إلى يوسف، رجل مريم، فله أيضًا نسلٌ. فالإنجيل لم يمت بموته. لهذا يهتف مستعينًا بنهاية مز 22: «ذرِّيَّتي أيضًا ستعبد الربّ، والأجيال الآتية ستخبر عنه، وتحدِّث الشعب الذي سيُولَد ما تمَّ على يده من خلاص» (آ31-32).
عندئذٍ لا يبقى سوى الشكر في فم يسوع وفي فم كنيسته وفي أفواه المؤمنين: «أبارك الربَّ في كلِّ حين، وعلى الدوام يهلِّل له فمي. تهلِّل نفسي للربّ، فيسمع المساكين ويفرحون. عظِّموا الربَّ معي ولنرفع اسمه جميعًا. طلبتُ الربَّ فاستجاب لي ومن كلِّ مخاوفي نجَّاني. انظروا إليه واستنيروا، ولا يعلُ وجوهكم خجل. المسكين يدعو فيسمع الربّ، ويخلِّصه من جميع ضيقاته» (مز 34: 2-7).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM