الفصل السابع: مبارك أنت يا ربّ، علِّمني رسومك

الفصل السابع
مبارك أنت يا ربّ،
علِّمني رسومك

بين المزامير التي اعتدنا أن نتلوها في صلاتنا اليوميَّة أو في المشاركة الليتورجيَّة، هناك مزامير ندعو فيها الربَّ إلى عوننا ومساعدتنا: «أصغِ يا ربّ إلى كلامي، وتعرَّفْ إلى تنهُّداتي» (5: 2). أو: «لا تغضب يا ربّ في معاقبتي ولا تحتدّ إذا أدَّبتني» (6: 2). وهناك مزامير فيها يعبِّر المؤمن عن ثقته بالله واتِّكاله عليه: «أنت يا ربُّ ترسٌ لي، تكرِّمني وترفع رأسي» (3: 4)! أو: «حين أدعوك أجبْني، يا إلهي، يا حافظ حقِّي» (4: 2). وهناك مزامير ينشد فيها المؤمن عرفانه بالجميل. فبعد أن يُستجاب المؤمن، يصعد إلى الهيكل برفقة الأهل والأقارب والأصحاب، ويوفي نذوره: «أحمدك، يا ربّ، بكلِّ قلبي، وأحدِّثُ بجميع عجائبك. أفرحُ وأبتهجُ بك، وأرتِّل لاسمك أيُّها العليّ» (9: 2-3). أو: «أعظِّمك يا ربّ، لأنَّك نشلتني وحرَّمتَ أعدائي الشماتة بي. استغثتُ بك فشفيتني، أيُّها الربُّ إلهي» (30: 2-3). وبين هذه المزامير، نتوقَّف عند التي تحمل إلينا التعليم، وهي المعروفة بعنوانها (60: 1). وفيها ينشد المرتِّل باسم الجماعة: «مبارك أنت يا ربّ، علِّمني رسومك» (119: 12).
يأتي التعليم في أناشيد حكميَّة، على مثال ما نقرأ في المزمور الأوَّل: «طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار» (آ1). ويأتي التعليم في كلام يحثُّ فيه المرتِّل المؤمنين على حياة بحسب متطلِّبات العهد بدون مواربة ولا اكتفاء بالأمور الخارجيَّة دون القلب: «الربُّ إله الآلهة تكلَّم، ودعا الأرض من مشرق الشمس إلى مغربها» (50: 1). وتأتي أخيرًا أناشيد تتذكَّر تاريخ الشعب في محطّاته الكبرى وتدعو إلى موقف عمليّ يتجاوب مع أفعال الله لأجله: «أصغِ يا شعبي إلى شريعتي، أميلوا آذانكم إلى كلام فمي» (78: 1).

1-    أناشيد حكميَّة
في هذه الأناشيد تحتلُّ الشريعة المكانة المميَّزة: «شريعة الربِّ كاملة تنعش النفس، وفرائضه حقَّة تجعل الغبيَّ حكيمًا. أمرُ الربِّ مستقيم يفرِّح القلب، ووصيَّته صالحة تنير العيون. كلام الربِّ طاهر، ثابت إلى الأبد، وأحكامه حقٌّ وصدق وحدها» (مز 19: 8-10).
جاء مز 19 في قسمين كبيرين. في آ2-7، ينشد المرتِّل جمال الطبيعة. أمّا في آ8-14، فيعرِّفنا إلى سموِّ الشريعة التي أُعطيَتْ لشعب الله، صارت مثل شخص حيّ يعمل في الإنسان كلِّه: نفسه تنتعش، قلبه يفرح، عيونه تنال النور. فماذا ينقص الإنسان بعد ذلك؟ وماذا ينتظر لكي «يتزوَّجها»، يجعلها عروسة له. ما تفرضه، ما تأمر به، ما توصي به. هي حاضرة حضور الأمِّ لدى طفلها. صفاتها مهمَّة. هي كاملة لا نقص فيها. هي حقٌّ وصدق، والإنسان يستطيع أن يستند إليها. فالحكيم يزداد حكمة، والغبيُّ يصبح حكيمًا. إن نظرت إليها، فقيمتها قيمة الذهب، وإن تذوَّقتها فمذاقها مثل طعم العسل. أمّا من يتركها، فتكون المرارة في فمه (إر 5: 7؛ 6: 12). الشريعة تدلُّ على الطريق الواجب اتِّخاذها على ما يقول سفر التثنية: «في جميع الطرق التي أوصاكم بها الربُّ تسلكون، لكي تحيوا وتكون لكم السعادة» (تث 5: 33). ومع ذلك، يبقى الإنسان مضطربًا، عائشًا في القلق، والخطيئة تعمل فيه من الداخل. لهذا يطلب المؤمن: «نقّني من الخطايا المستترة» (آ13). ويقول: لا تسمح أن أنقطع عنك وعن شعبي في تمرُّد وعصيان.
هذه الشريعة التي يتأمَّلها المؤمن بمحبَّة، تكون له ينبوع خيرات لا ينضب. وتنشد المزامير سعادة البارّ ودمار الأشرار، كما نقرأ في المزمور الأوَّل الذي يعلن الهناء والسعادة للإنسان في كلِّ تصرُّفاته: «هنيئًا». إن سلك الطريق، إن توقَّف في موضع ما وتحدَّث مع الأبرار، إن جلس في أحد المجالس. ولكن عليه أن يختار بين طريق وطريق. طريق السعادة يسير فيها أولئك الذين يكرِّمون الربَّ ويعملون مشيئته. في هذا المجال نقرأ 94: 12: «هنيئًا لمن تؤدِّبه يا ربّ وتعلِّمه أحكام شريعتك». ثمَّ 112: 1-3: «هنيئًا لمن يخاف الربَّ ويُسرُّ بوصاياه جدًّا. يكون نسله قويًّا في الأرض... ويكون المال والغنى في بيته، وحقُّه يدوم إلى الأبد». ويكون مز 119 نشيدًا طويلاً، متواصلاً، يمتدح شريعة الربّ: «هنيئًا للسائرين في الكمال، للسالكين في شريعة الربّ. هنيئًا لمن يحفظ فرائضه، ولمن يطلبها بكلِّ قلبه» (آ1-2).
سعادة البارِّ على الأرض، شقاء الشرِّير الذي يعرف الفقر ويموت شابًّا ولا نسلَ له. ذاك ما قال اللاهوت التقليديّ. غير أنَّ هذا لا يصحُّ دائمًا. فالأشرار ينجون والأبرار يفشلون. هذا ما لا يطاق بالنسبة إلى المعلِّم وإلى تلاميذه. هي الغيرة من أهل السوء (37: 1). هي الغيرة من الناجح في طريقه مع أنَّه يدبِّر المكايد (آ7). وهو الحسد ممَّن يفعل الشرّ (آ8). يُبرز المؤمن ردَّة الفعل عنده، ولكن يأتيه الجواب سريعًا. «أنت تحسد الذين يجورون» (آ1). ولكنَّهم «يُقطَعون سريعًا كالحشيش، ويَذبلون كالعشب الأخضر» (آ2). تغار من الشرِّير! «ما أسرع ما يزول الشرِّير، تتبيَّن مكانه فلا يكون!» (آ10). ثمَّ في آ13: «الربُّ يضحك على الشرِّير ويرى أنَّ يومه آتٍ». وما قيل في صيغة المفرد أمام «شخص» نراه بعيوننا، يقال عن الأشرار بشكل عامّ. «الأشرار يقطعهم الربُّ» (آ9) كما الحطّاب يقطع شجرة. الأشرار! «سيوفهم ترتدُّ إلى قلوبهم، وقسيُّهم لا بدَّ أن تنكسر» (آ15). فماذا ينفعهم العنف الذي يمارسون؟ «سواعد الأشرار تنكسر» (آ17)، فلا تستطيع بعدُ أن تسيء إلى البارّ. أنت ترى الأشرار! «هم يبيدون كنضرة المراعي، ومثل الدخان يضمحلُّون» (آ20).
ذاك وضع الخطأة والأشرار، ذاك وضع الذين يعادون الربّ (آ20) ويعصون أوامره (آ38). أمّا الأبرار فينالون كلَّ خير. نقرأ في آ3-5: «توكَّلْ على الربّ واعمل الخير تسكن الأرض ويحفظك الأمان. توكَّلْ على الربِّ فيعطيك ما يطلبه قلبك. سلِّمْ إلى الربِّ أمرك، واتَّكل عليه وهو يدبِّر». وتأتي البركات: يرثون الأرض، ينعمون في سلام (آ11). الربُّ يُسندهم (آ17). يصون حياتهم (آ18). للصدِّيق الخبز (آ25) والذرِّيَّة الكثيرة (آ26) والحكمة (آ30) والخلاص (آ39). وكلُّ هذا لأنَّ «شريعة الله في قلبه فلا يزلُّ في سيره» (آ31).
هذا جميل جدًّا لو أنَّه يصحّ. ولكنَّ العكس هو الصحيح، بحيث إنَّ المرتِّل كاد يخسر إيمانه حين أعلن اختباره. هذا ما نكتشفه في مز 73: «كادت قدماي تزيغان، ولولا قليل لزلَّتْ خطواتي حين غرتُ من المتباهين، ورأيتُ الأشرار في سلام. هم لا يقاسون الشدائد، وأجسامهم سليمة، سمينة. لا يتعبون كسائر الناس ولا يُصابون مثل البشر... عيونهم جحظت من الشحم وقلوبهم جاوزت كلَّ شكوى... يشبعون من الأكل حتّى التخمة وإلى الماء لا يعطشون» (آ2-10).
أوردنا كلَّ هذه الآيات لنرى كيف يبدو مز 37 مغايرًا لما في مز 73 الذي ينتهي بتجديف ولا أقسى: «يقولون: كيف يعلم الله؟ وهل عند الله معرفة؟» (آ11). فالله يشبه الأصنام في نظرهم. لا يرى ولا يسمع. وفي أيِّ حال، هو لا يتحرَّك ولا يعمل شيئًا. فيترك البشر يأكلون بعضهم بعضًا. هو وحده في أعلى سمائه. لا يصل إليه صراخ البشر. لا حنان في قلبه ولا رحمة، فلماذا الاتِّكال عليه؟ والنتيجة التي يقدِّمها المرتِّل للربِّ لكي ينبِّهه، وكأنَّه لا ينتبه: «هؤلاء هم الأشرار الهانئون، تزداد ثروتهم على الدوام» (آ12).
هل يرضى الربُّ بذلك؟ سؤال يقضُّ مضجع الأبرار. فقلبهم طاهر وأيديهم نقيَّة (آ13). ومع ذلك؟ أنا «البارّ» أتعذَّب، أؤدَّب (آ14)، وكأنَّ لا خاطئ غيري: هل أثور وأتمرَّد على هذا الوضع كما فعل أيُّوب؟ هل أفقدُ ثقتي بالربّ؟ بل إنَّ المرتِّل راح إلى الربّ، دخل إلى الهيكل وهناك تعلَّم الكثير. أوَّلاً، ليس هو وحده، فكلُّ تصرُّف يؤثِّر على الذين حوله. «لغدرتُ بأجيال بنيك» (آ15). فيبقى له أن يصبر وينتظر. وأخيرًا يتعلَّق بالربّ: «تمسكني بيدي اليمنى، بمشورتك تهديني، وإلى المجد تأخذني من بعد» (آ23-24). تلك هي الأمثولة التي تعلَّمها المؤمن، وهو يعلِّمنا إيَّاها: نتجرَّد عن كلِّ شيء ولا نطلب سوى الربّ: «من لي في السماء سواك وفي الأرض لا أبغي غيرك» (آ25). هي فتحة على الآخرة وتطلُّع إلى السماء مع العبارة «أنا معك كلَّ حين» (آ23). وهكذا نلتقي مع بولس الرسول: «الحياة عندي هي المسيح والموت ربحٌ لي» (فل 1: 21).

2-    مواعيد الله كما عند الأنبياء
ويلتقي تعليم المزامير مع أقوال الأنبياء بما فيها من مواعيد وتهديدات بحسب ما نقرأ في سفر التثنية. فالمزمور 81 يعطينا صورة عن هذا المناخ: يبدو اللاويّ في الهيكل، وفي وقت عيد من الأعياد وكأنَّه نبيّ يدعو الناس للاحتفال مع الآتين إلى الهيكل. ذكَّرهم بالماضي منذ زمن الآباء مع يعقوب ويوسف وصولاً إلى خلاص الشعب من عبوديَّة مصر ومرورهم في البرِّيَّة حيث لم ينقصهم الطعام والماء. ولكن نحسُّ هنا بالتوبيخ مع لفظ «جرَّبتك» (آ8) لأرى هل تثبت في السير معي أم تتراجع. فمياه مريبة كانت أوَّل خبرة للعطش في البرِّيَّة. ففي خر 17: 1-7 خاصم الشعب موسى وطلبوا ماء ليشربوا. فقال لهم موسى: «لماذا تخاصمونني؟ ولماذا تجرِّبون الربّ؟»
وذكَّر «النبيّ» المؤمنين ما عمل لآبائهم: كانوا يحملون الحجارة على أكتافهم واللبن في القفَّة. كلُّ هذا مضى إلى غير رجعة. قال: «نزعت الحمل». ثمَّ: «حرَّرت يديك من القفَّة». لم تعُد أنتَ عبدًا للفرعون. كان الشعب في الضيق، صرخ، فنال الخلاص. ومن خلال الرعد جاء الجواب إلى الناس الذين نادوا الله. وكما تكلَّم الله في الماضي، ها هو يتكلَّم الآن.
وهكذا نصل إلى القسم الثاني من مز 81 (آ7-17) الذي يبدأ بفعل «سمع». فهذا الفعل يتكرَّر أربع مرَّات في هذا المقطع «اسمعوا» (آ8). «لو تسمعون لي» (آ8). «شعبي لم يسمعوا» (آ12). «لو سمع لي» (آ14).
فالسماع يترافق مع الإنذار (آ8). مع التوسُّل ومحاولة الإقناع! يا ليتكم تسمعون لي ولا تميلون آذانكم هنا وهناك. عاد «النبي» إلى أساس الوصايا: «أنا الربُّ إلهكم». لا إله غيري. لا يكن إله غريب عندكم. أنا إله غيور. هذا يعود بنا إلى سفر الخروج (20: 2-5): «أنا هو الربُّ إلهك... لا يكن لك آلهة سواي... لا تسجد لها ولا تعبدها». كما إلى سفر التثنية (5: 6-9): «أنا الربُّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من دار العبوديَّة، لا يكن لك آلهة أخرى سواي... لا تسجد لها...».
وكما الأنبياء، كذلك صاحب المزامير: بما أنَّهم لم يسمعوا فسوف يأتيهم العقاب. تركوا الربَّ فتركهم الربّ. رفضوا أن يسمعوا فرفض أن يسمع لهم. قسَّوا قلوبهم فتركهم في قساوة قلوبهم ليروا إلى أين تصل بهم هذه الحالة. ربَّما بعدها يعودون. «شعبي لم يسمع». أأتركه يموت؟ (حز 18: 23، 32). كلاّ. ويقول الربُّ بلسان حزقيال (33: 11): «ارجعوا عن طرقكم الرديئة! فلماذا تموتون يا بني إسرائيل؟»
إذا كان الشرُّ معشِّشًا في قلوبهم، فإلى أين يمضون؟ إذا تركهم الله وخطاياهم، فهذا يكون أرهب عقاب يعرفونه. في هذا المجال نقرأ ما قاله بولس الرسول إلى الرومانيِّين: «أسلمهم الله بشهوات قلوبهم إلى الفجور...» (رو 1: 24). «أسلمهم الله إلى فساد عقولهم يقودهم إلى كلِّ عمل شائن» (آ28).
ولكنَّ الربَّ إله لا إنسان. فلا يعود يغضب، كما قال النبيُّ هوشع. وهنا عاد يتمنَّى ويتوسَّل. «يا ليتَ شعبي يسمع لي!» يطيعني، يقتنع. يا ليته يقبل بأن يسلك في طرقي. عندئذٍ، ماذا كنت أفعل له؟ وهنا تأتي المواعيد التي اعتدنا أن نسمعهاز أما هنا فيبقى الربُّ صامتًا حين يرى شعبه في الضيق. ولكنَّه يطلب التجاوب منهم. وحين يزول الخطر، يأتي الطعام من أجود الحنطة، وبدل الماء يخرج العسل من الصخرة. كلُّ هذا يشير إلى وفر الأزمنة المسيحانيَّة، كما قال عاموس: «ها أيَّام تأتي، يقول الربّ، يدرك الحارث الحاصدَ، ودائسُ العنب باذرَ الزرع، وتقطر الجبال خمرًا وتسيل جميع التلال» (عا 9: 13).
وكما الأنبياء شدَّدوا على التقوى الحقيقيَّة وعلى متطلِّبات العهد، وندَّدوا بالفساد وبالشرّ، هكذا فعلت هذه المزامير التعليميَّة. ومنها مز 14 الذي رأى  أنّ الكون فسد كلُّه وجاء العقاب الكبير للأشرار. ويصف هذا المزمور المجتمع بشكل قاسٍ: «فسدوا ورجسوا بأعمالهم، وما من أحد يعمل الخير... ضلُّوا كلُّهم وفسدوا جميعًا وما من أحد يعمل الخير». هل يكون كلام الأنبياء أقلَّ قساوة من كلام هذا المزمور الذي استعاده بولس الرسول في الرسالة إلى رومة (3: 10-12) ليبيِّن أنَّ البشريَّة كلَّها تحت الخطيئة، يهودًا ووثنيِّين؟ اجتمعوا في الخطيئة. والربُّ سوف يجمعهم في مسيرة الخلاص، في آدم الثاني (رو 5: 18-19).
«ألا يفهم الذين يفعلون الإثم ويأكلون شعبي كما يؤكل الخبز وبالربِّ لا يعترفون أنَّ الرعب يستولي عليهم» (14: 4-5)؟ كم يشبه كلام هذا المزمور تهديدات عاموس «لبقرات باشان»: «تظلمن الفقراء وتسحقن البؤساء وتقلن لأزواجكنَّ: هاتوا لنشرب... ستأتي عليكنَّ أيَّام يرفعكنَّ العدوُّ بالكلاليب، ويأخذ أعقابكنَّ أخذًا بالصنانير» (عا 4: 1-2).
والتهديد النبويّ عينه نقرأه في مز 52: انتصر الشرِّير مستندًا إلى جبروته ولكنَّ العقاب آتٍ، فيفرح في الله الأبرار الذين يكونون كزيتونة خضراء مغروسة في بيت الله. والفرد هنا يدلُّ على المجموعة. سواء كان الملك والذين حوله، أو كان المحتلّ بجيشه، فلا خوف لشعب الله، بل ثقة يجب أن تنتظر ساعة الله. أمّا المتكبِّر فسلطانه لا يدوم طويلاً: «يرى الصدِّيقون ويخافون، ويضحكون عليك قائلين: ها رجل لا يتحصَّن بالله. يتَّكل على كثرة غناه، ويعتزُّ باتِّباع أهوائه» (آ8-9). ذاك نصيب من «أحبَّ الشرَّ أكثر من الخير»، من بدا مثل «موس مسنونة». مثلُ هذا الإنسان يحطِّمه الله، «يهلكه ويزيله من مسكنه» (آ7).
هذا المزمور يلتقي مع مز 49 حيث يبدو اللاويّ في الهيكل مثل واعظ يكلِّم الآتين إلى العيد: «اسمعوا هذا يا جميع الشعوب، أصغوا يا جميع أهل الدنيا، الأشراف والوضعاء جميعًا، والأغنياء والبؤساء على السواء» (آ2-3). هو حامل الحكمة ومعلِّم بين المعلِّمين يكشف هويَّته: «فمي ينطق بالحكمة وقلبي يلهج بالكلام المبين. أميل أذني إلى الأمثال وأوضح بالكنّارة مغزاها». يبدأ فيسمع ثمَّ يتكلَّم مع أولئك الذين يطلبون السعادة من أيِّ جهة أتت. يقول لهم: السعادة في هذه الدنيا عابرة. هي سريعة العطب، لأنَّ الموت ينتظر الجميع. «ألا ترى الحكماء يموتون، والكسالى والأغنياء أيضًا يهلكون تاركين ثروتهم للآخرين؟ قبورهم بيوتهم إلى الأبد، مساكنهم إلى جيل فجيل، ولو سمَّوا البلدان بأسمائهم» (آ11-12).
أورشليم تبدَّل اسمها، فصارت مدينة داود. فأين هو داود؟ الإسكندريَّة أخذت اسم الإسكندر الكبير الذي رأى الفيلسوف أرسطو وسط الجماجم. سأله: ماذا تفعل؟ أجاب: أبحث عن جمجمة أبيك فلا أميِّزها عن غيرها. وأنطاكية حملت اسم أنطيوخس. وقيصريَّة اسم القيصر. واليوم، هذا الشارع يُجعَل باسم فلان. ساعة الناس يلعنون وجهه. وهذا البناء شُيِّد في عهد فلان. هل يعني أنَّ اسمه دائمٌ؟ يا ليته يقوم من القبر ليرى ما تركه وراءه. حتّى الثروة التي جمعها أورثت البغض والحقد والخلاف. هو اللاويّ يعلِّم «الكبار» في عصره. وكلام المزمور يلبث حيًّا في عصرنا: «يُساقون كالغنم إلى عالم الأموات وهناك يرعاهم الموت. ينزلون توًّا إلى القبر وصورتهم تصير إلى البلاء ويكون عالم الأموات مسكنًا لهم» (آ15). ويا ليتهم يكتفون بالقبر؟ فجهنَّم تنتظرهم كما كان الأمر بالنسبة إلى ذاك الغنيّ الذي نسي لعازر العائش بقربه، والذي طلب نقطة ماء يبرِّد بها لسانه. والأمثولة: «عظمة الإنسان لا تدوم» (آ13).
واعتاد الأنبياء أن ينبِّهوا الآتين إلى الهيكل أنَّ ممارساتهم باطلة إن لم يرافقها الصدق مع الله والاهتمام بالقريب. ماذا يعني أن نقول: «هيكل الربّ، هيكل الربّ، هيكل الربّ» وكأنَّها تعويزة نتعلَّق بها؟ ذاك ما قال إر 7: 4 وتابع: «أصلحوا طرقكم وأعمالكم». إن أجريتم العدل، إن لم تظلموا الغريب واليتيم والأرملة، إن لم تسفكوا الدم الزكيّ (آ5-6). ومثله ندَّد إشعيا بالعبادات الكاذبة: «ما فائدتي من كثرة ذبائحكم؟ شبعتُ من محرقات الكباش وشحم المسمَّنات. حين تجيئون لتعبدوني، من يطلب ذلك منكم» (إش 1: 11-12).
بمثل هذا الكلام توجَّه مز 50 إلى المؤمنين. دعا الربُّ الأرض والسماوات لتكون شاهدة على ما يقول: «ينادي السماء من فوق والأرضَ حين يدين شعبه» (آ4). دينونة قاسية: «قدَّامه نار آكلة، سعيرها يشتدُّ حوله» (آ3). إنَّه يريد أن يتكلَّم ولا يسعه الصمت من بعد، لأنَّ الناس ولاسيَّما العظماء والأغنياء، يعتبرون أنَّ الله راضٍ عنهم إن قدَّموا العجل ذبيحة، أو عددًا كبيرًا من الخراف. وهكذا يكونون أسخياء فيراهم الناس ويمدحونهم. من أين جاءت ثروتهم؟ يشبهون في أيَّامنا ذاك الذي يعطي الله ممّا سرقه من البشر.
ويقول اللاويّ باسم الربّ: «فعلتَ هذا وأنا ساكت عنك، فظننتَ أنِّي مثلك. لكنِّي الآن أوبِّخك وأعدِّد خطاياك أمام عينيك» (آ21). النبيّ لا يسكت، واللاويّ لا يسكت أمام الآتين إلى الهيكل وهم راضون بنفوسهم وبما يفعلون. ونحن نرضى عنهم حين يصل إلينا بعض سخائهم. كما في السياسة كذلك في الدين، تصل الهديَّة فتعمي العيون، على ما قال سفر الأمثال. أمّا المطران أوسكار روميرو فراح إلى جانب الفقراء والمعذَّبين، فمات عنهم على مثال سيِّده يسوع.
وقال الربُّ بلسان هذا المعلِّم الذي يستقبل الحجّاج: «لا أعاتبكم على ذبائحكم، فمحرقاتكم أمامي كلَّ حين. لا آخذ من بيوتكم عجولاً ولا من حظائركم تيوسًا» (آ8-9). هل الله فقير فتحملون إليه عجلاً أو تيسًا؟ «لي جميع وحوش الوعر وألوف البهائم التي في الجبال. عرفتُ كلَّ طيور العلاء ولي كلُّ حيوان في البرِّيَّة» (آ10-11).
وتبرز الأفكار الوثنيَّة التي بها أقنع كهنة بعل الملكَ بأنَّ إلههم يأكل، وبالتالي يحتاج إلى طعام (دا 14: 1ي). فيردُّ اللاويّ في الهيكل على مثل هذا القول: «إن جُعتُ فلا أخبركم، لي العالم وكلُّ ما فيه، ولا آكل لحم الثيران ولا أشرب دم التيوس» (آ12-13). لا. الله لا يأكل ولا يشرب. وفي سمائه «لا يأكلون ولا يشربون». فالرسول يقول: «ملكوت الله ليس أكلاً ولا شربًا بل هو برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس» (رو 14: 17). كم نتأسَّف حين نسمع بعض المذاهب والبدع تتحدَّث عن طعام وشراب في السماء، وكأنَّ الجسم السماويَّ يشبه الجسم الأرضيّ. فالرسول قال أيضًا: «اللحم والدم لا يرثان ملكوت السماء» (1 كو 15: 50). وقال الربُّ في معرض الحديث عن قيامة الأموات: امرأة أخذت سبعة رجال على الأرض. لمن تكون؟ أيكون لها سبعة رجال في السماء؟ أو يكون للرجل سبع نساء في السماء أو أكثر من ذلك؟ مساكين شهود يهوه الذين ينتظرون حياة ثانية على الأرض فيها يأكلون ويشربون! ومساكين غيرهم كثيرون الذين يريدون أن يتزوَّجوا في السماء! وقال الربّ: «هناك لا يزوَّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء» (مت 22: 29).
ترك الله في مز 50 قضيَّة الأكل والشرب، والذبائح والمحرقات، وطلب الذبيحة الروحيَّة! «قرِّبوا الحمد ذبيحة لله» (آ14). ثمَّ كان التوبيخ: «إذا رأيت سارقًا صاحبته ولا تعاشر إلاَّ الزناة. تطلق فمك للشرِّ، ولسانك يختلق المكر» (آ18-19).
هنا تأتي الشروط للمشاركة في الليتورجيّا، للدخول إلى الهيكل، لرؤية الربِّ والإقامة في حضرته. لا كلام عن طهارة بحسب الشريعة. ولا إشارة إلى ذبائح تقدَّم وبخور يُحرَق. لا لباس التوبة ولا الرماد على الرؤوس. الشروط ترتبط بالمحبَّة تجاه القريب على مثال ما نعرف في الإنجيل: إذا جئت تقرِّب ذبيحتك وتذكَّرت أنَّ لأخيك عليك شيئًا، فاترك ذبيحتك وامضِ أوَّلاً وصالح أخاك. ذاك ما قال مز 15.
فالإنسان الذي يودُّ السكن في بيت الله ينبغي أن يسلك بنزاهة. أن يكون صادقًا في أعماله، أن ينبذ الكذب من قلبه ولا يتكلَّم إلاَّ بالحقّ. عليه أن لا يسيء إلى أحد. وإذا حلف فهو لا يخلف. المطلوب: الحياة الخلقيَّة. ويواصل مز 15 فيقول: «لا يعطي ماله بالربى، ولا يقبل الرشوة على البريء» (آ5). هنا نتذكَّر متطلِّبات سفر الخروج: قال الربُّ بواسطة موسى: «إذا أقرضت مالاً لشعبي الفقير الذي عندك، فلا تكن له كالمرابي، لا تضع عليه ربًا» (22: 24). وفي 23: 8 قيل: «لا تأخذ رشوة، لأنَّ الرشوة تعمي أبصار القضاة، وتعوِّج كلام الأبرياء».
وما قيل في مز 24 يلتقي مع ما قرأنا في مز 15: طُرح سؤال: «من يحقُّ له أن يصعد إلى جبل الربّ؟» والجواب: «النقيّ اليدين، الطاهر القلب. الذي لا يميل إلى السوء، الذي لا يحلف يمينًا كاذبة» (آ4). هذا يعيدنا إلى مزمور من مزامير التوبة، حيث الذبيحة صارت «القلب المتخشِّع المتواضع». فلا يمكن إلاَّ أن يقبله الله (51: 19).

3-    مدرسة التاريخ
قيل التاريخ مدرسة، وفي العودة إلى الماضي أكثر من عبرة. هكذا يتعلَّم المؤمنون حين يأتي من يذكِّرهم بحياتهم الماضية مع الله، وكيف كانت ردَّة فعلهم تجاه حسنات الله. عاد مز 105 إلى تقليد الآباء، إبراهيم وإسحاق ويعقوب. هناك كان الوعد بنسل كبير وبأرض توهَب مجّانًا. «أجعلك أمَّة عظيمة وأباركك وأعظِّم اسمك» (تك 12: 2). ثمَّ: «انظر إلى السماء وعُدَّ النجوم إن استطعتَ أن تعدَّها... هكذا يكون نسلك» (تك 15: 5). في هذا الإطار يرد مز 105.
أتى أحد اللاويِّين فعدَّد حسنات الله من أجل شعبه. بدأ مع الآباء: «اذكروا عجائبه التي صنع، ومعجزاته وأحكام فيه، يا نسل إبراهيم عبده، يا بني يعقوب الذي اختاره» (آ5-6). أوَّل الحسنات: العهد. «العهد الذي قطعه لإبراهيم، اليمين التي حلفها لإسحاق، وأثبتها حقًّا ليعقوب، عهدًا أبديًّا لإسرائيل: أعطيكم أرض كنعان، قسمة ميراث لكم» (آ9-11). ثمَّ كرَّر في آ42-44 ما وعد به: «هكذا ذكر كلمته المقدَّسة، كلمته لإبراهيم عبده. فأخرج شعبه المختار، أخرجهم بالسرور والترنيم ومنحهم أرض الأمم فورثوا تعب الشعوب». وماذا طلب الربُّ منهم؟ «أن يحفظوا حقوقه وينصروا شرائعه» (آ45). هل أنتم مستعدُّون أيُّها السامعون؟ لا يكفي أن يسمعوا. بل يجب أن يعملوا.
تلك كانت محطَّة أولى في إحسانات الله: العهد مع الآباء. النهاية كانت مع يوسف الذي أمَّن مجيء الأسباط إلى مصر ونجّاهم من الجوع. والمحطَّة الثانية انطلقت مع موسى وهارون وما فعلا من معجزات في مصر لتحرير الشعب من العبوديَّة. هذا ما ندعوه الضربات العشر: الظلمة، الضفادع، تحوُّل الماء دمًا، البرَد، الجراد والجنادب. والضربة الأخيرة: «ضرب الأبكار كلَّهم في مصر، عنفوان كلِّ قدرة لهم» (آ36). وخرجوا من مصر.
والمحطَّة الثالثة عرفت حسنات المنِّ في البرِّيَّة والسلوى. ثمَّ «فتح الصخرة فسالت المياه وجرت أنهارًا في القفار» (آ41). أين عرفان الجميل؟ إنّه يظهر من خلال الأمانة للشريعة.
ولكنَّ العكس هو ما حصل. ذاك ما يقوله مز 106 فيبيِّن الشعب الذي ينكر جميل ربِّه: هي الخيانة والتمرُّد والتذمُّر. ويبدأ الاعتراف بالخطايا: «خطئنا نحن وآباؤنا، وفعلنا الإثم والشرَّ. آباؤنا في أرض مصر لم يدركوا معجزاتك ولا ذكروا كثرة لطفك، بل تمرَّدوا على الربِّ العليِّ، هناك عند البحر الأحمر» (آ7-8).
كم مرَّة أراد أن يعاقبهم، أن يفنيهم! ولكنَّ موسى كان هنا. «فهمَّ الربُّ أن يدمِّرهم لو لم يقف موسى مختاره في سفح الجبل أمامه ليردَّ غضبه عن إهلاكهم» (آ23). ما كانت خطاياهم؟ حسدوا موسى فنالوا العقاب (آ16). ثمَّ صنعوا العجل (آ19). رفضوا الأرض ولبثوا في مساكنهم (آ24). تعلَّقوا ببعل فغور (آ28)...
أيَّ درس يستخرجون من هذه الأحداث المؤلمة بالنسبة إلى الله؟ وتوالت العقوبات الواحدة بعد الأخرى، فوصلت بالسامعين إلى المنفى البابليّ. فماذا يبقى لهم سوى التوسٌّل والطلب؟ «خلِّصنا يا ربُّ إلهنا، واجمعنا من بين الأمم لنحمد اسمك القدُّوس ونسبِّح ونهلِّل لك» (آ47).

الخاتمة
قيل: شريعة الإيمان شريعة الصلاة. في الصلاة نعبِّر عن إيماننا، وإيماننا هو الذي يلهم صلاتنا. ولكن قال لنا الرسول: «كيف يؤمنون وما سمعوا؟». «فالإيمان إذًا من السماع» (رو 10: 14، 17). هذا ما نكتشفه في هذه المزامير «التعليميَّة». فالشعب يتعلَّم وهو يصلِّي، وهو يتلو مزامير تلاها قبله آباؤه وأجداده. والكنيسة ما زالت تتلوها الآن: تعليم في خطِّ الحكماء شبيه بما في سفر الأمثال أو غيره. تعليم في خطِّ الأنبياء، مع التنبيه والتوبيخ والتهديد. وفي النهاية نداء إلى التوبة وإلى الحياة بحسب متطلِّبات العهد. وأخيرًا، يتعلَّم المؤمن من التاريخ: كيف تعامل الله معه، وكيف يتجاوب هو مع إحسانات الله: «يجعلون على الله اعتمادهم ولا ينسون أعمال الله، بل يحفظون جميع وصاياه. لا يكونون مثل آبائهم جيلاً عقوقًا متمرِّدًا، جيلاً لم يستقم قلبه ولا كان روحه أمينًا لله» (78: 7-8). وما أجمل التعليم حين يصل إلى المؤمن من خلال كلام الله يتلوه في ساعات النهار وأثناء الليل. ومن خلال الألفاظ يرتفع قلبه فينشد: «مبارك أنت ربّ، علِّمني رسومك».

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM