الفصل الخامس: إرحمني يا الله، أمحُ معاصيَّ

الفصل الخامس
ارحمني يا الله، أمحُ معاصيَّ

منذ زمن بعيد اختارت الكنيسة سبعة مزامير دعتها مزامير التوبة، فيتلوها المؤمنون بشكل خاصّ في زمن الصوم المبارك الذي هو مسيرة التوبة والرجوع إلى الله.
«يا ربّ، إن شئتَ أن تعاقبني، فلا يكن عقابك بغضب، وإن أردتَ أن تؤدِّبني فلا يكن تأديبك بسخط واحتداد» (مز 6: 2). فماذا يطلب المرتِّل؟ «الحنان، يا ربّ، فأنا عليل، مريض، أنا في قلق شديد» (آ3-4). هو مريض واعتبر، وإن خطأ، أنَّ هذا المرض هو عاقبة الخطيئة، ثمرة الخطيئة. فنراه يبكي ما فعل: «أنا مُوجَع من النواح. دموعي كلَّ ليلة تفيض فأغمر بها فراشي» (آ7). ماذا نكتشف هنا؟ عالم الخطيئة الذي يعيش فيه المؤمن. فلا يبقى له سوى أن يتطلَّع إلى الله. ونحن ننظر إلى يسوع الذي حمل أوجاعنا وأخذ عاهاتنا. ويقول لنا الرسول: «صار خطيئة من أجلنا» (2 كو 5: 21).
«هنيئًا لمن نُسيَتْ معصيتُه وسُترَت له خطيئته. هنيئًا له لا يحاسبه الربُّ على ما ارتكبه من إثم» (مز 32). نتذكَّر هنا المثل الإنجيليّ الذي يريد فيه الملك أن يحاسب عبيده (مت 18: 23). من يستطيع أن يدفع الحساب؟ لهذا يهنِّئ المؤمن نفسه ويأتي إلى ربِّه معترفًا بخطاياه: «لذلك اعترفتُ لك بخطيئتي وما كتمتُ إثمي عنك. قلت: أعترفُ للربِّ بمعاصيَّ فينسى إثمي وخطيئتي» (آ5). أجل، هذا المؤمن التائب جاء ينشد الربَّ بعد أن غُفرَتْ خطيئته ونال الشفاء من مرضه. فكأنَّه أراد أن يجعل من نفسه مثالاً للخاطئين: تكفي التوبة ليعود الربُّ إلينا. «اقتدوا بي». وبولس الرسول حين أراد أن يبشِّر اليهود الذين اعتبروا أنَّ الله نقض عهده، أفهمهم أنَّه كان أوَّل الخطأة (1 تم 1: 15). أضاف: «ولكنِّي ما نلتُ الرحمة إلاَّ ليُظهر المسيح طول أناته (وصبره) فيَّ أوَّلاً ويجعل منِّي مثلاً للذين يؤمنون به لينالوا الحياة الأبديَّة (آ16).
ذكرنا مزمورين من مزامير التوبة، والثالث هو الثامن والثلاثون. اشتدَّ المرض على المؤمن وقويَتْ آلامه وتركه أصحابه. فلم يبقَ له سوى الله يلجأ إليه. وهو يرى في الشقاء الذي يعيشه علامة عن الخطيئة التي يتخبَّط فيها. «جسدي غير مُعافًى لأنَّك غضبتَ، وعظامي غير سليمة لأنِّي خطئتُ. آثامي عبرت فوق رأسي كحِمل أثقل ممّا أحتمل. جراحي أنتنت وقيَّحت، يا ربّ، بسبب حماقتي» (آ4-6).
*  *  *
ما نلاحظ أوَّلاً هو وجود الخطيئة في حياة الإنسان مع ألفاظ عديدة. أوَّلاً، خطيئة. فالفعل خطئ يعارض فعل أصاب. هو الانسان لم يصل إلى الهدف الذي وضعه الله له (أو وضعه لنفسه). أريدكم أن تكونوا أحرارًا من عبوديَّة مصر. ذاك ما قال الربُّ لشعبه. فرفضوا الطريق التي تقود إلى سيناء. وبعد أن سمعوا الوصايا، عادوا حالاً فصنعوا لهم «العجل الذهبيّ» (خر 32). أين هي الوصيَّة: «أنا هو الربُّ إلهك لا يكن لك إله غيري»؟ ثمَّ: «لا تصنع لك تمثالاً ولا صورة» (خر 20). وأخيرًا رفضوا مواصلة الطريق برفقة موسى فكانت النتيجة أنَّهم ماتوا في البرِّيَّة. كلُّ الذين خرجوا من مصر لم يصلوا إلى أرض الموعد والحياة مع الله. هذا ما نسمِّيه العصيان الذي يعارض الطاعة. قال لهم الربُّ في سفر اللاويِّين: «إذا سلكتم في فرائضي وحفظتم وصاياي وعملتم بها، أعطي مطركم في حينه، وتعطي الأرضُ غلَّتها، وتعطي أشجار الحقل أثمارها...» (لا 26: 3-4). فالعطايا الخارجيَّة رمز إلى العطايا الحقيقيَّة والسعادة برفقة الربّ. هذا يعني الطاعة والسير يدًا بيد مع الربِّ الذي أعطاهم النار في الليل والسحاب في النهار. في الليل لا يتيهون، لا يضلُّون، لا يسلكون سبيلاً يقودهم إلى الضياع في هذه البرِّيَّة وبالتالي يصل بهم إلى الموت. وفي هذا يقول سفر اللاويِّين أيضًا في موازاة ما سبق وقال: «ولكن إن لم تسمعوا لي، ولم تعملوا كلَّ هذه الوصايا، وإن رفضتم فرائضي وكرهَتْ أنفسكم أحكامي، فإنِّي أعمل هذه بكم» (لا 26: 14-16)، تأتيكم الضربات كانوا يحسبون كلَّ ما يصيبهم وكأنَّه ضربة من عند الربّ، بها يعاقب الذين يعصون ويرفضون الطاعة.
هنا يرد «الغضب». والغضب يعني أوَّل ما يعني: حالة من العنف عابرة تنتج عن شعور بالإغاظة أو الهجوم والاعتداء. هو «شعور». هذا يعني أنَّ الله «يشعر» كما الإنسان. فالذي خلق الشعور فينا، ألا يشعر، ألا يحسّ؟ بل يحسُّ بالألم كلَّ مرَّة يضيِّع أولاده الطريق، لا يكونون بقدر ما يريد منهم. أعطاهم خمس وزنات، فلماذا يعطون وزنة واحدة، أو أعطاهم وزنة، فلماذا يخفونها ولا يستثمرونها؟ أمّا العنف فلا وجود له عند الله. الإنسان يعرف العنف لا الله. وحين نظنُّ أنَّه يريد أن يقتل، أن يهلك، تتحرَّك مراحمه كما الأمُّ أمام ابنها (أو ابنتها) التعيس. وينادي: «اسمعوا هذا، أيُّها الذين يبغضون البائسين، ويبيدون المساكين في الأرض» (عا 8: 4). هو يدعونا للسماع، لأنَّه لا يريد موت الخاطئ، بل عودته عن الشرِّ ليحيا. وما نلاحظ هو أنَّ «اللعنة» لا تصيب الإنسان أبدًا، بل ما يستعمله الإنسان. فالأرض ملعونة بسبب آدم، ولكنَّ آدم ليس ملعونًا. وكذا نقول عن قايين مع أنَّه قتل أخاه. فالله لا يدمِّر صورته وهي مطبوعة على وجه كلِّ إنسان مهما كان.
نحن نغيظ الله، لا حين نسيء إليه. فكيف يصل نمرود إلى السماء بسهمه الذي يطلقه بكلِّ قوَّته (تك 10: 9). وأهل برج بابل أرادوا أن يصعدوا إلى الله، ويحاصرونه في عقر داره. مساكين! بدأوا وما انتهوا. وعندما «نقاتل» الله، نقاتل أنفسنا، فيصبح الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان. فالله «يغضب»، يستاء حين يرى أولاده يعيشون كما في غابة تسكنها الوحوش، وهو الذي أراد أن يسكن الحمل مع الذئب، ويبيت النمر بجانب الجدي، ويرعى العجل والشبل معًا. هو الذي أراد أن يلعب الطفل على وكر الأفعى ولا يخاف من سمِّها (إش 11: 6ي).
الله يغضب على القويّ ويدعوه إلى التوبة وإلى احترام إخوته. ويتألَّم في قلبه دون أن يعاقب بسرعة، فهو الرحيم وطويل الأناة ويمهل الخاطئ حتّى يعود عن ضلاله. قال بطرس الرسول: «الربُّ لا يؤخِّر إتمام وعده، كما يتَّهمه بعضهم، ولكنَّه يصبر عليهم لأنَّه لا يريد أن يهلك أحد، بل أن يتوب الجميع» (2 بط 3: 9).
*  *  *
ونصل إلى ذروة مزامير التوبة مع مز 51 (أو كما في الليتورجيا: 50) الذي اتَّخذناه عنوانًا لكلامنا: «ارحمني يا الله برحمتك، وبكثرة رأفتك امحُ معاصيَّ. اغسلني جيِّدا من إثمي ومن خطيئتي طهِّرني. أنا عالم بمعاصيَّ وخطيئتي أمامك كلَّ حين. إليك وحدك خطئت، وأمام عينيك فعلتُ الشرّ» (آ3-6).
نلاحظ الألفاظ التي تتحدَّث عن الخطيئة: معصية، إثم، خطيئة، شرّ. وتتكرَّر الألفاظ. ويأتي الفعل: خطئت. ثمَّ: فعلتُ الشرّ. ويبدو أنَّ هناك القتل وسفك الدماء. فالخاطئ سفك دمًا وهو يخاف أن يُسفَك دمه، على مثال شعور قايين، الذي هرب من الانتقام الذي قد يصيبه. ولكن حتَّى قايين منع الربُّ أحدًا من أن يقتله: وضع علامة على جبينه وكأنَّه يقول: هذا الشابُّ يخصُّني، والويل لمن يمدُّ عليه يدًا. فالمبدأ القائل بأنَّ من يَقتُل يُقتَل، لا يمكن أن يرضى الله عنه. والحكم بالإعدام يعارض كلِّيًّا مشروع الله بالنسبة إلى كلِّ واحد منّا. قال الكتاب: «الله يُحيي ويميت». هو يعطينا حياة الجسد ويميت هذه الحياة ليعطينا حياة أفضل على ما قال الرسول: «يُدفَن الجسمُ مائتًا ويقوم خالدًا... يُدفَن جسمًا بشريًّا ويقوم جسمًا روحانيًّا» (1 كو 15: 42، 44).
ويطلق المرتِّل صلاته، طالبًا لا العدالة، بل الرحمة، والكلمة الأولى: «تحنَّنْ عليَّ يا الله». ثمَّ يتطلَّع إلى «المراحم الكثيرة». ويطلب الاغتسال والطهارة. أحسَّ بالنجاسة التي غرق فيها، على مثال داود الذي جُعل هذا المزمور على اسمه: خطيئته كبيرة، بل خطاياه. زنى مع بتشابع امرأة أوريّا الحثّيّ. ثمَّ أمر بقتل زوجها لكي يستطيع أن يتزوَّجها (2 صم 11). عندئذٍ أرسل الربُّ ناتان النبيّ، وقال له: «أنت هو الرجل». أنت صنعتَ كلَّ هذه الشرور. وأنت تستحقُّ الموت. وبدا الربُّ يقول: «فلماذا احتقرتَ كلامي وارتكبتَ القبيح في عينيَّ؟» (2 صم 12: 9).
وتتواصل صلاة المزمور: «طهِّرني بالزوفى فأطهر، واغسلني فأبيضُّ أكثر من الثلج. أسمعني سرورًا وفرحًا فتبتهج عظامٌ سحقْتَها. استُر وجهك عن خطاياي وامحُ كلَّ مآثمي» (آ9-11). مثل هذا المؤمن الذي يطلب من الربِّ المغفرة، يمنحه الربُّ إياها سريعًا. هو يشبه ذاك العشّار الذي وقف بعيدًا، قرب الباب، وما تجاسر أن يدخل إلى هيكل الربّ. واكتفى بأن يقول: «ارحمني يا الله، أنا الخاطئ» (لو 18: 13). ويقول عنه الإنجيل: «عاد إلى بيته مبرَّرًا». جعله الربُّ بارًّا من جديد، كما نحن بعد ممارسة سرِّ التوبة. اقتبلَنا الله، أعادنا إلى بيته بعد أن تركنا البيت الوالديّ كما فعل الابن الضالّ. وما نلاحظ في حياتنا مع الله، هو أنَّ الربَّ لا يفعل مثل الخيّاط: يجعل رقعة هنا ورقعة هناك. والربُّ لا يخبِّئ الخطيئة إلى أن يأتي وقتها، كما يقول الأشرار في أيَّامنا: قد يبطئ الله ولكنَّه يفعل في الساعة المناسبة. هكذا فعل داود. وعد بأنَّه يصفح عن شمعي ووفى بوعده ما دام حيًّا، لأنَّ السياسة فرضت عليه ذلك (2 صم 19: 17ي). ولكن عند ساعة موته، ذكَّر سليمان ابنه بما صنعه له شمعي («لعنني لعنة عظيمة»). «والآن، لا تعفُ عنه، فأنتَ تعرف كيف تنزل شيبته بالدم إلى القبر» (1 مل 2: 9).
*  *  *
أهكذا يغفر الله؟ كلاَّ ثمَّ كلاّ. هل ينسى ثمَّ يتذكَّر؟ كلاَّ. هل يطلب كفّارة بعد كفّارة؟ كلاّ. وهو يرفض من يُنشد: «ماذا أفعل يا إلهي حتّى تنسى ما فعلت؟» فهو ينسى في الحال حين يرى الإنسان تائبًا. ويفتح ذراعيه حين يشاهد ابنه عائدًا، ولا يطرح عليه سؤالاً واحدًا، بل يقبِّله، يعانقه. ولنا متَل في الكتاب: أخاب. اقترف خطيئة كبيرة حين استولى على رزق نابوت اليزرعيليّ بعد أن قتله. وبَّخه إيليّا «فمزَّق ثيابه ولبس مسحًا ونام فيه، وصام ومشى منكَّس الرأس» (1 مل 21: 27). فتأثَّر الربُّ بما فعل، فكلَّم نبيَّه: «أرأيت كيف اتَّضع أخاب أمامي؟» (آ29). والربُّ غفر أيضًا لداود حالما أعلن توبته. فالربُّ طلب من كلِّ واحد أن يتوب، أن يعود، وفي الحال ينسى الربُّ كلَّ شيء. ويقول لنا المزمور إنَّه يخلق فينا قلبًا طاهرًا ويكوِّن فينا روحًا جديدًا، نلاحظ «خلق»، والله يخلق من العدم. يصبح التائب إنسانًا جديدًا. ثمَّ «كوَّن». يعني: شيء لم يكن وها هو الآن كائن.
ونقرأ في خبر داود: «قتلتَ أوريّا الحثّيّ بالسيف... والآن جيلاً بعد جيل لن يموت أحدٌ من نسلك إلاَّ قتلاً، لأنَّك فعلتَ هذا» (2 صم 12: 9-10). أتُرى الله ينتقم؟ أتراه يعامل الناس بحسب مبدأ: «سنّ بسنّ وعين بعين» (خر 21: 24)؟ هي طريقة بشريَّة يلاحظها الإنسان بعد أن تمرَّ الأحداث، فيربطها بعضها ببعض. ماذا في الأصل؟ خطئ داود. ولمّا وبَّخه ناتان قال: «خطئت إلى الربّ». فقال له ناتان: «الربُّ غفر خطيئتك» (آ13). بسرعة يغفر الربّ، فلماذا ينتقم بعد؟ ولكن، لأنَّ الشعب العبرانيّ لم يكن بعد اكتشف الحياة بعد الموت، لهذا اعتبر أنَّ داود يُعاقَب لأنَّه فعل ما فعل. ولكن إن كان الله منعنا من الانتقام، أتُراه يريد هو أن ينتقم؟ حاش وكلاّ.
وهناك فكرة خاطئة أخرى: كانوا يربطون المرض والألم بالخطيئة. فكان المرض هو العلامة بأنَّ الإنسان خاطئ. وهذه الفكرة لبثت حاضرة حتّى في زمن يسوع. وجدوا أعمى منذ مولده، فسألوه: «من خطئ هو أم والداه حتّى وُلد أعمى؟» (يو 9: 2). ما هذا السؤال؟ فأجاب يسوع: «لا هو خطئ ولا والداه». والآن حين ترون المعجزة تمجِّدون الله. وقال يعقوب السروجيّ: «الله الآب ترك نقصًا في طيما بن طيما، لكي يكمِّل الابنُ ما عمله الآب». اعتبر الناس أنَّ هذه المعادلة أمرٌ لا شكَّ فيه. فاصطدموا بحائط مسدود. وأراد الكتاب المقدَّس أن يُفهم الناس خطأهم وما يمكن أن يقوموا باستنتاجات تجرح الإنسان الذي أمامهم، كما تجرح قلب الله. أعني بكلامي «سفر أيُّوب». قال الربُّ مرَّتين عنه إنَّه تامّ، كامل، يتَّقي الله ويبتعد عن الشرّ. ومع ذلك، خسر هذا الرجل كلَّ ما يملك بانتظار أن يخسر صحَّته. فإذا انطلقنا من هذا المبدأ الخاطئ، يكون الله جائرًا، ظالمًا. ولكن من يجسر أن يقول مثل هذا الكلام؟ إذًا، يا أيُّوب، أنت خاطئ. وإن كانت خطيئتك غير معروفة، فهي خفيَّة. عجِّل وأقرَّ بها. ولكنَّ أيُّوب لبث يرفض مثل هذا الكلام القاسي من أشخاص يشبهون الفرِّيسيِّين فيعتبرون نفوسهم وحدهم أبرارًا ساعة يكون الآخرون كلُّهم خطأة. وفي نهاية هذا السفر وبَّخ الله أصدقاء أيُّوب، لأنَّهم لم يتكلَّموا بالحقِّ حين تكلَّموا عن الله. وهنَّأ أيُّوب في النهاية، لأنَّه رفض الحلول الخفيفة، السريعة، وانتظر لكي يرى الله: «سمعتُ عنك سَمْع الأذن، والآن رأتك عيني» (42: 5). فلم يبقَ أمام هذا المتألِّم سوى الصمت والتأمُّل بأعمال الله العجيبة: «يدي أضعُها على فمي. تكلَّمتُ مرَّة فلا أعود، ومرَّتين فلا أزيد» (40: 4-5).
*  *  *
والمزمور الخامس من مزامير التوبة: «يا ربُّ استمع صلاتي، وليصل إليك صراخي. في يوم الضيق، يا ربّ، لا تحجب وجهك عنِّي. أمِلْ أذنك وأجبني سريعًا يوم أدعوك» (102: 2-3). «أيَّامي كالظلِّ مائلة وأنا يبستُ كالعشب. وأنتَ يا ربّ مقيم إلى الأبد، وإلى جيل فجيل ذكراك. ستقوم وترحم صهيون، فحنانك حان موعده» (آ12-14).
هو المرتِّل يتحدَّث عن خطيئته وخطيئة شعبه. وإذ يطلب الغفران لنفسه لا ينسى إخوته وأخواته. فيقول: «ليَسمع الربُّ تنهُّدات الأسرى، ويفرِّج عن أبناء الموت، فيحدَّث في صهيون باسم الربّ، ويهلَّلُ له في أورشليم» (آ21-22). لماذا مثل هذا الفرح؟ لأنَّ الربَّ غفر وهو يغفر دائمًا. هذا لا يعني أنَّنا نخطأ بما أنَّ الله يغفر؟ كلاّ. بل هو العارف أنَّنا ضعفاء، أنَّنا تراب ورماد، وبالتالي يمكن أن نسقط. فالربُّ عارف بجبلتنا، لهذا لا يكون علينا قاسيًا. هنا نتذكَّر هوشع: «يوم كان إسرائيل فتى أحببتُه... كلَّما دعوته هرب من وجهي... وأنا الذي علَّمهم المشي وحملهم على ذراعه، لكنَّهم لم يعترفوا أنِّي أنا أصلحتُ حالهم. جذبْتُهم بحبال الرحمة وروابط المحبَّة، وكنتُ لهم كأبٍ يرفع طفله على ذراعه، ويحنو عليهم ويطعمهم» (11: 1-4). نبدو نحن مثل أطفال. نتدلَّع على الله. نهرب منه. أين القضيب؟ لا وجود له. والرباط؟ لا رباط يشدُّ ويجرح. هو يعاملنا كما الأمُّ تعامل أولادها وأبناء (وبنات) رحمها، لأنَّه الرحوم الغفور.
ويتواصل كلام النبيّ إلى أبناء الشمال المقيمين حول عاصمتهم السامرة. تارة يدعوهم «إسرائيل» أو «مملكة إسرائيل». وطورًا يدعوهم «أفرائيم»، لأنَّ أفرائيم هي القبيلة الكبرى في الشمال كما كانت يهوذا القبيلة الكبرى في الجنوب. تذمَّروا وقالوا: تركَنا الربّ، تخلَّى عنّا. هذا غير صحيح. رأوا الخراب والدمار بعد مرور الجيوش الأشوريَّة، فتساءلوا: بماذا نتميَّز عن مدن يصعد الدخان منها مثل دخان الأتون (تك 19: 28)، عن مدن الوادي مثل سدوم التي ترتبط بالسديم والبخار، وعمورة التي كانت مسكونة فصارت مسكنًا لبنات آوى، وأدمة التي كانت أرض آدم، أرض البشر، وصبوئيم أرض الضباع. ولكنَّ الربَّ قال بفم نبيِّه: «كيف أتخلَّى عنك يا أفرائيم؟ كيف أهجرك يا إسرائيل؟ أأجعلكم مثل أدمة وأعاملكم مثل صبوئيم؟ قلبي يضطرم في داخلي، وكلُّ مراحمي تتَّقد. لن أعاقبكم في شدَّة غضبي، فأدمِّركم بعد يا بني أفرائيم، لأنِّي أنا الله، لا إنسان، لأنَّي أنا قدُّوس فلا أعود أغضبُ عليكم» (هو 11: 8-9).
وبعد أن يغفر الربُّ، لا يعود شعبه مشتَّتين. «يسيرون وراء الربِّ وهو يزأر كالأسد». هم الأشبال يسيرون وراء أبيهم، وممَّ يخافون بعد؟ «يزأر فيسرع البنون إليَّ من جهة البحر، من مصر يسرعون إليَّ كالعصافير، ومن أرض أشور كالحمائم، فأُعيدُهم إلى بيوتهم. هذا ما يقول الربّ» (هو 11: 10-11). وعندما يقول الربُّ فهو يفعل. هكذا يكون غفرانه: البناء من جديد.
*  *  *
هناك وجهة أولى تشدِّد على العدالة. من خطئ في شيء يُعاقَب بما فعل. فالإله القدُّوس يكشف عن قداسته حين يكون عادلاً، كما قال النبيُّ إشعيا: «يتعالى (يسمو) الربُّ القدير بالعدل، ويتقدَّس الإله القدُّوس بالبرّ» (5: 16). إذا كان لا يُعاقب فلا يكون بارًّا، بل يبدو وكأنَّه يتجاهل الخطيئة وما تتركه وراءها من نجاسة. فمن يحتقره ويحتقر وصاياه، يجب أن يناله العقاب: «لذلك كما يأكل لهيبُ النار القشّ، ويزول الحشيش في اللهيب، يصير أصلهم عفنًا، ويمضي زهرُهم كالغبار لأنَّهم رذلوا شريعةَ الربِّ القديم واستهانوا بكلام القدُّوس» (آ24). وبما أنَّه صار ما صار من خطايا الشعب وظلم الفقراء، ينطلق غضب الربِّ، أي عقابه: «من أجل ذلك حميَ غضبُ الربِّ على شعبه، ومدَّ يده عليه وضربه فارتعدت الجبال، وصارت جثثُهم كالزبل في الأزقَّة. ومع كلِّ هذا، لم يرتدَّ غضبه، بل لبثت يدُه ممدودة» (آ25).
ولكنَّ الوجهة الثانية هي الأعمق والأوسع. فعروس الله لا يمكن أن تُرفَض، فيستقبلها عريسها في كلِّ وقت. فيكفي أن تعود وتقرَّ بخطاياها والربُّ يغفر لها سريعًا: «الربُّ رحوم يكفِّر عن الإثم، ولا يريد هلاك أحد. ويُكثر من ردٍّ  يده ولا يُثير كلَّ سخطه. يذكر أنَّهم بشر، ريح عابرة لا تعود» الله هو ينبوع دافق من الفداء، وهو أبٌ يغفر كلَّ شيء لأولاده. ذاك ما يخبرنا به صاحب المزامير: «باركي يا نفسي الربّ... يغفر جميع ذنوبي ويشفي جميع أمراضي. يفتدي من الهوَّة حياتي، وبالرحمة والرأفة يكلِّلني. يُشبع بالطيِّبات جوعي، فيتجدَّد كالنسر شبابي» (103: 1-5).
هذا لا يُفهَم على مستوى البشر ولا على مستوى القوانين البشريَّة. لهذا يقول لنا الله في سفر إشعيا: طرقي غير طرقكم، أفكاري غير أفكاركم. «فكما ينزل المطر والثلج ولا يرجعان ثانية إلى السماء، بل يرويان الأرض... كذلك تكون كلمتي» (إش 55: 9-11). إذا كان هذا على مستوى العهد القديم، فما يكون على مستوى العهد الجديد وبشكل خاصّ الأناجيل. فنحن لا نجد هنا «العدالة التوزيعيَّة» حيث نعطي الجميع بالتساوي. عادة الناس يمضون إلى الأبرار. أمّا يسوع فيمضي إلى الخطأة كما يدعوهم إلى بيته. عادة الناس يهتمُّون بالعظماء، بالأغنياء، بالوجهاء. أمّا يسوع فيهمُّه المساكين والودعاء. ولو تدرون كيف يتصرَّف. عمل في كرمه أشخاص منذ الصباح، ولكنَّه بدأ فدفع لمن اشتغل ساعة واحدة كما دفع لمن اشتغل اثنتي عشرة ساعة، بل هو دفع لذاك الذي أتى في آخر النهار، لأنَّ منطقه يقول: الأوَّلون يكونون آخِرين، والآخِرون يكونون أوَّلين. يَحطّ الأعزّاء عن الكراسي، والمتواضعين يرفعهم عاليًا. هذا هو منطق الآب السماويّ.
*  *  *
في طريق التوبة نحن نعيش الرجاء. خلال الليل نبكي وننتظر متى يطلع النهار. فنحن في أعماق الألم، في أعماق الخطيئة وكدتُ أقول في أعماق اليأس. عندئذٍ لا يبقى سوى أن نتلو المزامير. «من الأعماق صرختُ إليك، يا ربّ اسمع صلاتي. لتُصغِ أذناك لصوت تضرُّعي» (مز 130: 1-2). فالأعماق تمثِّل عالم الموت، حيث لا يستطيع المؤمن بعد أن ينشد أناشيده لله. الأعماق تمثِّل عالمًا يغرق في الإثم ويبتعد عن الله ويطلب الغفران. بصراخ عظيم يدعو التائب الربّ. والربُّ يسمع ولا يتأخَّر. ابنه (ابنته) في خطر، أتُراه ينام، يصمُّ أذنيه؟ هذا مستحيل.
الله يراقب؟ كلاّ. هو بعيد عن الشرطيّ. وإن هو راقب فمن يُفلت من يديه. فنحن جميعنا خطأة. ولو شاء أن يضربنا عن كلِّ خطيئة، من يستطيع أن يُفلت؟ ذاك ما قال المؤمن: «إن كنتَ تراقبُ الإثم يا ربّ، يا سيِّد، فمن يقف بريئًا؟ لكنَّك تغفر لنا، فنخافك» (مز 130: 3-4). نخافك، لا خوف العبيد، بل خوف الأبناء من أن يغيظوا والديهم. هو خوف المهابة والاحترام. كيف نعامل الله بهذه الطريقة التي تدلُّ على الجهل والإهمال ساعة هو أرسل ابنه من أجل خلاصنا؟ فهو كالأمِّ (والأب) يعرفنا، يعرف قعودنا وقيامنا، يلاحظ أفكارنا من بعيد، يراقب جميع طرقنا (مز 139). وهكذا لا تصل إلينا الأخطار. ويُنهي المؤمن صلاته: «انظر! هل في مسكني اعوجاج! إذًا، اهدني في طريقك على الدوام». ونقرأ في العهد الجديد كيف أنَّ شعر رأسنا كلَّه محصى. «لا تخافوا، فأنتم أفضل من عصافير كثيرة». فلماذا تهتمُّون؟ ولماذا تئنُّون وكأنَّ حياتكم ماضية إلى الضياع؟ فلا يبقى لكم سوى أن تنتظروا الربَّ وترجوا كلمته؟
والمزمور الأخير من مزامير التوبة السبعة هو مز 143 حيث الله هو ملجأ للمظلوم ولو كان خاطئًا. في البداية ينطلق الدعاء والتوسُّل: «يا ربّ، اسمع صلاتي، أَنصتْ إلى تضرُّعي. أعنِّي بأمانتك وعدلك» (آ1). ويعرف المؤمن أنَّه خاطئ فلا ينتظر سوى الرحمة والغفران، لا المحاكمة، كما اعتاد الكبار في الأرض أن يفعلوا: «لا تدخل إلى المحكمة مع عبدك (أنا عبدك)، فما من حيٍّ يتبرَّر أمامك» (آ3). وتأتي الصلاة الواثقة: «أسرع إلى معونتي يا ربّ، فروحي كلَّت في داخلي. لا تحجب وجهك عنِّي فأكون كالهابطين في الجبّ (في القبر)». وماذا يطلب في النهاية؟ أن يدلُّه الربُّ إلى الطريق الذي يسلكه: «امنحني كلَّ صباح رحمتك، فأنا عليك توكَّلتُ. عرِّفني أيَّ طريق أسلك فإليك أرفع نفسي... علِّمني فأعمل بما يرضيك لأنَّك أنت إلهي. روحك الصالح يهديني إلى السبيل السويّ» (آ8-10).
الخاتمة
زمن الصوم هو زمن التوبة ووضع الرماد على الرؤوس أو على الجباه مع هذه العبارة التي تذكِّرنا بأصلنا: «اذكر يا إنسان، أنَّك تراب وإلى التراب تعود». هي العبارة التي تفهمنا أوَّلاً أهمِّيَّة التواضع، لأنَّ هذه الفضيلة تعلِّمنا أنَّنا ملتصقون بالأرض. فلا نحسب سريعًا نفوسنا قريبين من الملائكة بحيث لا تنقصنا سوى الأجنحة! فمن ارتفع اتَّضع ومن اتَّضع ارتفع. والمؤمن يعرف نفسه أوَّلاً في زمن الصيام المبارك أنَّه خاطئ «منذ حبلت به أمُّه»، منذ طفولته. وأنَّ ما من إنسان كامل إلاَّ الله. لهذا نتلو مزامير التوبة وذروتها «ارحمني يا الله» الذي اعتاد المؤمنون أن يردِّدوه كلَّ يوم من أيَّام الصوم، لأنَّنا نحتاج قبل كلِّ شيء إلى حنان الربِّ ورحمته. وعندما نعيش هذا الحنان نبتعد عن العنف وأساليب القوَّة، ويفهم المؤمن ثانيًا أنَّ التوبة ليست قضيَّة عابرة لمن يوقف التدخين أو الشوكولا لفترة معيَّنة ثمَّ يعود إلى الحياة السابقة. فالتوبة لا تعني فقط تبديل بعض الأمور أو الأعمال. التوبة تعني تبديل العقليَّة. نصبح كأنَّنا مطعَّمون في كرمة الربِّ فنعطي أفضل الثمار. لا نعود شجرة برِّيَّة كما قال لنا الرسول بحيث نعطي حصرمًا في كرمة الله، كما قال إشعيا النبيّ. هذا يعني أنَّنا نتوق إلى خلق جديد يوصلنا إلى القيامة. زمن الصوم هو زمن الموت عن ذواتنا وأنانيَّتنا وتطلُّع إلى القيامة فنترك العديد من رغباتنا التي لا يرضى عنها الله لنكون بكلِّيَّتنا له.
ذاك هو زمن التوبة. وتلك هي مزامير التوبة. نتلوها فنعيش مع التائبين في العالم كلِّه، في إماتة النفس والجسد، وهكذا تكون مسيرتنا إلى الفصح عبورًا حقيقيًّا لا يكون فيه رجوع إلى الوراء، بل رفقة مع يسوع الذي هو لنا الطريق التي تقود إلى الحقِّ والحياة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM