الفصل الثالث: قال الرب لربي إجلس عن يميني.

الفصل الثالث:
قال الربُّ لربِّي
اجلس عن يميني

هكذا يبدأ مز 110 فينشد الملك الجالس على العرش في ذاك الزمان. ولكنَّ آباء الكنيسة طبَّقوه على المسيح، الذي هو ملك وكاهن. يقول له الله: اجلس عن يميني. أما ذاك الذي حدث في الصعود، كما يقول إنجيل مرقس: «إنَّ الربَّ بعد أن كلَّمهم، ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله» (16: 19)؟ انتهت مهمَّة يسوع على الأرض، فقال له الله: «أجعلُ أعداءك موطئًا لقدميك». من هم أعداء يسوع؟ لا أعداء لله وهو الذي علَّمنا: «أحبُّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، صلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (مت 5: 44). إذا كان علينا أن نتشبَّه بالآب السماويّ الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين (آ45)، فماذا يفعل الابن الوحيد الذي مات من أجل الجميع وهتف من أعلى صليبه: «اغفر لهم يا أبتِ لأنَّهم لا يدرون ماذا يعملون» (لو 23: 43).
لا أعداء ليسوع سوى الموت والخطيئة والشرّ، وما يتبع كلَّ هذا من مرض وألم ووجع. هؤلاء أراد أن يحاربهم يسوع، فقال عنه بولس الرسول في نهاية الكلام عن قيامته: «يجب أن يملك حتَّى يضع جميع الأعداء تحت قدميه، وآخر عدوّ هو الموت» (1 كو 15: 25-26).
*  *  *
ندعو هذا المزمور أحد المزامير المسيحانيَّة. قبل الكلام عن المسيح في زمن المجيء هذا، نودُّ أن نتحدَّث عن سفر المزامير في هذه السنة المكرَّسة للكتاب المقدَّس، في خطِّ السينودس الذي انعقد في رومة حول كلمة الله.
المزامير. هكذا دُعيَت في العربيَّة أخذًا عن السريانيَّة (م ز م و ر ا). فالفعل     «ز م ر» السريانيّ يعني رتَّل، رنَّم. وهكذا ندعو صاحب المزامير: المرنِّم. في العبرانيَّة تُدعى «التهاليل» (ت ه ل ي م). فأخذنا في العربيَّة: هلَّل. ومنه نهاية عدد من المزامير: هللويا، أي: هلِّلوا للربّ. نتذكَّر أنَّ المزامير هي 150 مزمورًا تمتدُّ كتابتها في الزمن حتَّى القرن الخامس أو الرابع قبل المسيح. هي صلوات وأدعية وتعليم وترنيم. ارتبطت باسم داود وهو الذي قيل فيه إنَّه كان يضرب بالعود للملك شاول، كما قيل فيه إنَّه نظَّم الطقوس وشعائر العبادة. ذاك ما يقول التقليد الذي يربط المزامير بداود، كما ربط كلَّ الأسفار الحكميَّة بسليمان، والتوراة بموسى. في الواقع، المزامير هي صلاة الشعب المؤمن بملوكه وكهنته، بالحكماء والأنبياء. وهذه المزامير ردَّدها يسوع، وربَّما رتَّلها مع المؤمنين ولاسيَّما في عيد الفصح، حيث كانوا يصلُّون التهاليل الكبرى، أي تلك التي تبدأ عادة مع هللويا: «طوبى للرجل الذي يتَّقي الربّ ويُسَرُّ جدًّا بوصاياه» (مز 112). أو مز 113، «هللويا، سبِّحوا يا عبيد الربّ، سبِّحوا اسم الربّ. ليكن اسم الربِّ مباركًا من الآن وإلى الأبد».
والمسيحانيَّة نظرة لاهوتيَّة توصلنا إلى يسوع المسيح. في الأساس المَلك يُمسَح بالزيت المقدَّس على ما فعلوا لسليمان مثلاً: «أخذ صادوق الكاهن وعاء الزيت من خيمة الاجتماع ومسح سليمان وضربوا بالبوق وقال جميع الشعب: «ليحيَ الملك سليمان» (1 مل 1: 39). وبعد العودة من المنفى سنة 538 ق.م.، وزوال الملكيَّة، صار رئيس الكهنة هو ممثِّل الشعب لدى السلطة السياسيَّة التي كانت الفرس ثمَّ السلوقيِّين والرومان. ومع العرب وصولاً إلى العثمانيِّين، لبث هذا التقليد حيث رئيس الطائفة، البطريرك، هو المحاور مع الدولة الحاكمة. ولهذا أخذوا يمسحون رئيس الكهنة ويُلبسونه التاج، وصارت عصا الرعاية صولجانًا.
في العبريَّة والسريانيَّة هو «م ش ي ح». وفي اليونانيَّة «ماسيّا». كلُّ ما قيل في العهد القديم، وصل إلى يسوع المسيح، الذي هو الملك، بعد أن كان جدُّه داود وسليمان وصولاً إلى يوسف الذي تبنّاه وهو من كان من نسل ملوكيّ. وهو الكاهن بواسطة أمِّه التي كانت نسيبة إليصابات على ما قال القدِّيس لوقا: «كان في أيَّام هيرودس، ملك اليهوديَّة، كاهن اسمه زكريّا من فرقة أبيّا (كان الكهنة 24 فرقة) وامرأته من بنات هارون واسمها إليصابات». إذًا ارتبط يسوع بداود الملك بواسطة يوسف، وارتبط بهارون الكاهن بواسطة أمِّه.
وهكذا نفهم أن تكون الكنيسة بآياتها طبَّقت مز 110 على المسيح. هو الملك الذي كان يُعتَبر جالسًا عن يمين الله. أوَّلاً قصر الملك هو عن يمين الهيكل مركز حضور الله. وإذ كان الملك يُمسَح بالزيت، كان يجلس عن يمين الكروبيم الذين يُعتبَرون حاملين عرش الله.
قال الربُّ لربِّي (أو: لسيِّدي الملك):
اجلس عن يميني
حتّى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك
صولجان عزِّك يرسل الربّ من صهيون، (من صيون أي المدينة المصونة)
ويقول: تسلَّطْ في وسط معاديك
شعبك يلتفُّ طوعًا حولك
يوم تقود جنودك على الجبال المقدَّسة.
ما نلاحظ هو ترجمة كلمة «معاديك». هم يعادون المسيح، أمّا هو فلا يعاديهم، بل يمضي في إثرهم كما الراعي يمضي باحثًا عن الخروف الضالّ. والشعب يحيط بالمسيح وهو مَن يقول لهم: «توبوا، ملكوت الله قريب». أمّا جنود هذا الملك فيختلفون عن جنود العالم الذين يحملون معهم العنف والقتل والدم. جنود يسوع هم الحاملون البشارة، الخبر الطيِّب. يدعون الناس إلى السعادة الحقَّة قائلين: طوبى، طوبى للودعاء، لمحبِّي السلام، لأنقياء القلوب.
وهذا الملك هو كاهن في الوقت عينه، كما قالت الرسالة إلى العبرانيِّين: «فالمسيح أيضًا لم يمجِّد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق، الذي في أيَّام جسده... صار لجميع الذين يطيعونه، سبب خلاص أبديّ، مدعوًّا من الله رئيس كهنة على رتبة ملكيصادق» (5: 5-10).. كلُّ هذا يستند إلى خبر ملكيصادق الذي التقى بإبراهيم العائد من نصر الإيمان بعد أن تغلَّب بمعونة الله (إليعازار، الذي يعني 318، وهذا الرقم هو الذي أخذ يتحدَّث عن الـ318 الذين كانوا في مجمع نيقية وأعلنوا الإيمان في ردٍّ على آريوس الذي رفض لاهوت الابن). انطلق المرنِّم من هذا الخبر وأعلن:
أقسم الربُّ ولن يندم:
أنت كاهن إلى الأبد،
على رتبة ملكيصادق
الربُّ يقف3 عن يمينك (لكي يؤمِّن لك الحماية).
*  *  *
قرأنا مز 110 وهو يحدِّثنا عن المسيح الذي هو الملك والكاهن. وفي المزمور الثاني، نفهم أنَّ هذا الملك هو الابن الذي يتبنّاه الله حين يصعد على العرش. عندئذٍ يصبح في الرمز ابن الله على ما نقرأ في كلام النبيّ ناتان إلى داود يوم عزم أن يبني هيكلاً للربّ. هو لا يبني بل ابنه سليمان: «أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا» (2 صم 7: 14).
يقول: أنا مسحتُ ملكي
على صهيون جبلي المقدس
دعوني أنا الملك أخبرُ
بما قضى به الربّ:
قال لي: أنت ابني
وأنا اليوم ولدتُك
سلني فأعطيك الأمم ميراثًا لك
وأقاصي الأرض ملكًا لك.
بدأ النبيّ وأنشد متعجِّبًا ممّا يحدث: أتت الأمم الوثنيَّة والشعوب الغريبة على أورشليم المدينة المقدَّسة. هذا الذي حصل أكثر من مرَّة ولاسيَّما سنة 701.ق.م. عندما أعلن إشعيا بعد انسحاب الجيوش العديدة التي ضربها الوباء ومات ملكها في مؤامرة: «تزدريك وتسخر منك البكر (هي أوَّل المدن) ابنة (أي شعب) صهيون (في الأصل صيون، أي الشعب الذي يصونه الربُّ ويحفظه)، تميل برأسها عنك ابنة (أو شعب) أورشليم (مدينة السلام). من عيَّرتَ وعلى من جدَّفتَ؟ على من رفعتَ صوتك، إلى من تطلَّعت شامخًا بعينيك؟ أنا قدُّوس إسرائيل، أنا الربُّ الذي عيَّرته» (37: 22-24).
ذاك ما قاله إشعيا بفم الربّ (37: 22-24). وهذا ما ينشده المزمور الثاني:
لماذا تضجُّ الأمم وتلهج الشعوب بالباطل.
ما الفائدة من الضجيج وإعداد المؤامرات؟ ألا تعرفون من هو الربّ وما هي قدرته. وهو أرسل «مسيحه». ومع ذلك، قام الملوك والحكّام على الله وعلى مسيحه. ماذا قالوا:
تعالوا نقطع قيودهما
ونطرح نيرهما عنّا.
هل الله هو ذاك المسخِّر الذي يقيِّد الأسرى ويربطهم الواحد بالآخر، كما يُربَط قطيع من البقر؟ يقول لنا هوشع بماذا يربطنا الله، لأنَّ تصرُّفه يختلف كلَّ الاختلاف عن تصرُّف البشر: «جذبتُهم إليَّ بحبال الرحمة وروابط المحبَّة» (11: 4). كم الناس يُخطئون حين يتحدَّثون عن الله. عندئذٍ يعتبرونه سبب الشرِّ الذي يحلُّ بهم. أمّا الخير فهم نالوه بتعب اليدين وعرق الجبين. ويسوع الذي لقيَ الناس متعبين ولاسيَّما من حمل الشريعة، قال لنا: «تعالوا إليَّ، يا جميع المتعبين والرازحين تحت أثقالكم وأنا أريحكم. اجعلوا نيري وتعلَّموا منِّي تجدوا الراحة لنفوسكم. فأنا وديع ومتواضع القلب، ونيري هيِّن وحملي خفيف» (مت 11: 28-30). هذا هو نير الربِّ الذي يراه الناس «ثقيلاً». فيقول لنا النبيُّ إنَّ الله آتٍ لينزع النير عن رقابنا. فعل بأشور ما فعل بأورشليم وشعبها، فأعلن إشعيا: «في ذلك اليوم يزول حملهم عن كتفك ونيرُهم عن رقبتك» (10: 27). وبعد عبور المحنة، هتف النبيّ أيضًا: «لأنَّ النير الذي أثقلهم والخشبة التي بين أكتافهم، كسَّرتها مع قضيب مسخِّريهم» (إش 9: 3). فتخيَّل كيف كانوا يصنعون بالأسرى لئلاَّ يهربوا: كانوا يربطون أيديهم بخشبة تُوضَع على الرقبة. وكان القضيب يلاحق «المتكاسلين» المتأخِّرين. ومن يموت يُترك في الطريق.
أتُرى هكذا يفعل الله بالناس لكي يثوروا عليه ويودُّوا أن يهاجموه كما أراد بُناة برج بابل: «تعالوا نبني لأنفسنا مدينة، وبرجًا رأسه في السماء» (تك 11: 4). أهذا هو المسيح؟ أتى الجنود ليقبضوا عليه، وكان بإمكانه أن يأتي بجيوش من الملائكة (مت 26: 53) فما فعل. وفي إنجيل يوحنّا، قال: أنا هو، أي أنا يهوه، أنا الربّ. فسقطوا كلُّهم على الأرض ساجدين (18: 9). إنََّما ثورة الربّ لا تظهر في عنفه، بل في حبِّه وحنانه. ولكن لماذا يقول المزمور هذا الكلام القاسي؟ لأنَّه يدعوهم إلى التوبة وينبِّههم من الدينونة الآتية إن لم يرجعوا عن حياتهم الشرِّيرة، على ما نسمع مثلاً في إنجيل متّى: «ابتعدوا عنِّي يا أهل الإثم» (7: 23).
كيف عامل الربُّ البشر؟ بدأ فأرسل الأنبياء، فعاملوهم أسوأ معاملة. «وفي آخر الأمر أرسل إليهم ابنه وقال: سيهابون ابني» (مت 21: 37). هذا الكلام الذي دُوِّن حوالي سنة 85 أي بعد موت الربِّ وصعوده بخمسٍ وخمسين سنة، جاء يُلقي الضوء على ما فعله الشعب عمليًّا بيسوع: «قالوا فيما بينهم: ها هو الوارث! تعالوا نقتله ونأخذ ميراثه» (آ38).
أرسل الله ابنه. جعله الراعي (مز 2: 9). وعصا الراعي هي من خشب. وهو لا يضرب بها، بل يستعملها ليمنع القطيع من الإساءة على اليمين وعلى الشمال. أمّا هنا فالمزمور يقول: «ترعاهم بعصا من حديد، وتحطِّمهم كإناء من خزف». اعتبروا أنَّهم أقوياء، فإذا هم ضعفاء جدًّا. هم «من خزف». فهذا الآتي «لا يماحك ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الشوارع، هذا الذي لا يطفئ الفتيل المدخِّن ولا يكسر القصبة المرضوضة» (مت 12: 19-20)، أتُراه هكذا يفعل؟ هو يطلب مشيئة الله، والشعوب تجعل فيه رجاءها (آ21). وهذا الآب أرسله إلى العالم، لا ليُهلك العالم، بل ليخلِّص به العالم (يو 3: 16). نحن هنا تجاوزنا زمن التدبير الخلاصيّ ووصلنا إلى الدينونة. من يرفض عصا الراعي في هذه الحياة، بما فيها من صبر وطول بال، ستكون له عصا من حديد، بها يتحطَّمون. هذا ما يقودنا إلى مز 72: «اللهمَّ اجعل أحكامك للملك وعدلك لابن الملك».
*  *  *
هذا المزمور الذي هو صلاة من أجل الملك لكي يقيم العدالة، فيخلِّص البائسين المساكين من ظالميهم، فيحلَّ السلام لا في منطقة من مناطق الأرض، بل في الكون كلِّه، هذا المزمور ينتظر في النهاية الملك المسيح. وحده يحمل السلام، وحده ربُّ المسكونة، وحده تسير الشعوب في موكبه: هو الظافر ونحن نسير معه. فالملك المسيح مُلكه دائم، وما يُقال في هذه المزمور لا يمكن أن ينطبق على أيِّ ملك على أرض ولا على أيَّة سلالة ملكيَّة:
يدوم (ملكه) ما دامت الشمس،
وما دام القمر جيلاً بعد جيل
ينزل كالندى على الأعشاب
وكالمطر الذي يسقي الأرض.
هذا في الزمان. فيسوع هو الكلمة الذي من الأزل إلى الأبد. وفي المكان، ملكه واسعٌ وسع الكون، فلا حدود لسلطانه.
يملك من البحر إلى البحر
ومن النهر (نهر الفرات) إلى أقاصي الأرض.
من الصحراء البعيدة إلى ترشيش، ما يقابل إسبانيا وجبل طارق الذي كان يعتبر نهاية الدنيا حيث عمود هرقل، أحد الأبطال القدماء. ويصل إلى سبأ في الجنوب العربيّ، وسبأ في السودان الحالي. إذا كان يسوع أرسل تلاميذه إلى «أقاصي الأرض» كما نقرأ في سفر الأعمال (1: 8)، فهذا يعني أنَّه ينتظرهم هناك. وحضوره يكون حضور البركة، وهذا ما يقول المزمور (72: 16-17) في لغة شعريَّة:
تكثر السنابل في الأرض،
تتمايل على رؤوس الجبال
وتُثمر كما في لبنان.
وتزدهر المدنُ بسكّانها
مثل ازدهار العشب في الأرض
يكون اسمه إلى الأبد،
ويدوم ذكرُه ما دامت الشمس
فتتبارك به جميع الشعوب
وتهنِّئه كلُّ الأمم.
حين أورد بطرس في إحدى عظاته على اليهود أقوالاً من الكتاب المقدَّس، قيلت في داود أو في ملك من الملوك، قال: هذا لا يمكن أن ينطبق على بشر مهما عظم شأنه. وهكذا ما نقرأ في هذا المزمور الثاني والسبعين، يصل بنا إلى هذا الإنسان الذي هو الله في الوقت عينه، الذي أتت إليه المسكونة لتسجد له. تحدَّث لوقا عن «المسكونة» (2: 1) التي حسبها أوغسطس خاضعة له. كلاّ. بل هي خاضعة لهذا الطفل الذي جاء أوَّل من جاء إليه «رعاة يحرسون قطعانهم في الليل» (آ8). ومن جاء بالمجوس وهم يحملون ما تنتج بلدانهم؟ حملت أوروبّا الذهب، وأفريقيا المرّ، وآسيا اللبان أو البخور. القارَّات الثلاث التي كانت معروفة في ذلك الزمان.
*  *  *
قلبي يفيض بكلام طيِّب،
ولساني كقلم كاتب ماهر
حين أُنشد للملك أبياتي.
هكذا يبدأ مز 45 الذي ينشد زواج الملك. ورأى التقليدان اليهوديّ والمسيحيّ باكرًا فيه زواج الله مع شعبه، والمسيح مع كنيسته. أنشد النبيّ هوشع ما قاله الربّ لأمَّته التي اختارها لتكون له: «أفتنها وأجيء بها إلى البرِّيَّة، وأخاطب قلبها... فتدعوني زوجي... وأقطع لها عهدًا (كما بين الزوج وزوجته) وأجعلها تنام في أمان» (2: 16ي)، ويتوجَّه الربُّ كما العريس إلى عروسه: «أتزوَّجك إلى الأبد، أتزوَّجك بالصدق والعدل والرأفة والرحمة، أتزوَّجك بكلِّ أمانة، فتعرفين أنِّي أنا الربّ» (آ21-22). كلُّ هذا يصبُّ في نشيد الأناشيد، «أنا لحبيبي وحبيبي لي» (2: 16).
وما قاله الربُّ لشعبه في العهد القديم، يقوله يسوع لكنيسته: «المسيح رأس الكنيسة وهو مخلِّص الكنيسة وهي جسده... أيُّها الرجال، أحبُّوا نساءكم مثلما أحبَّ المسيح الكنيسة وضحَّى بنفسه لأجلها، ليقدِّسها ويطهِّرها بماء الاغتسال وبالكلمة، حتّى يزفَّها إلى نفسه كنيسة مجيدة لا عيب فيها ولا تجعُّد وما أشبه ذلك» (أف 5: 23ي).
هذا ما يجعلنا نعيشه في مز 45. فالعريس هو بطل من الأبطال. أمّا لغة الحرب فهي لغة رمزيَّة. هو ربُّ العدل والبرّ، وهو ينتصر على معاديه. أمّا عروسه فهي آتية إليه بالثوب الملوكيّ، سامعةٌ له وخاضعة. هذه العروس هي كلُّ كنيسة من كنائسنا وكلُّ رعيَّة من رعايانا وهي تستعدُّ لتستقبل هذا الذي يأتي ليغمرها بحبِّه ويفيض عليها بركاته. ويبدأ وصف ذاك الآتي:
أنت أبهى من بني البشر
والنعمة انسكبت على شفتيك
فباركك الله إلى الأبد.
العريس جميل. والجمال الخارجيّ الذي لا يقاربه جمال هو رمز إلى الجمال الداخليّ. وهذا الجمال ينسكب نعمة على من هو الكلمة الإلهيّ. بعد هذا نعرف حالاً أنَّه يحمل البركة، بل هو البركة بالذات. ويظهر هذا الآتي بجبروته، المنتصر دومًا. وهو الذي أعلن لتلاميذه قبل أن يمضي إلى الموت: «لكن تشجَّعوا، أنا غلبتُ العالم» (يو 16: 33).
تقلَّدْ سيفك على فخذك،
أيُّها الجبّار في جلالك وبهائك.
واركب إلى النصر في زينة مقدَّسة
دفاعًا عن الحقِّ والعدل
فتربح يمينُك المعارك.
الجلال والبهاء صفتان من صفات الله. والسيف يمكن أن يكون الكلمة التي هي أمضى من سيف ذي حدَّين تنفذ في الأعماق (عب 4: 12). فالسيف كسيف حديديّ، يُمنَع استعماله، لأنَّ من يأخذ بالسيف، بالسيف يُؤخَذ (مت 26: 52). وما هو هدف هذه الحرب؟ إقامة الحقّ والعدل حيث الظلم والجور. هي معركة طويلة والربُّ يدعونا لكي نشارك فيها، لأنَّنا إن كنّا معه نربح حقًّا. فمن هو هذا الملك الذي يخترق «سهمه» القلوب؟ من هو ذاك الذي تخضع له النفوس؟ هو الله بالذات. والرسالة إلى العبرانيِّين سوف تُعلن أنَّ هذا الملك هو الابن (1: 8) الذي «أيَّامه لا تنتهي» (آ12). ونتابع قراءة المزمور:
عرشُك، يا الله، يبقى إلى الأبد،
وصولجان الاستقامة صولجان ملكك.
تحبُّ البرَّ وتكره الشرَّ
لذلك مسحك الله ملكًا
بزيت الابتهاج دون رفاقك.
أين هم الملوك بصوالجهم؟ فإنَّهم غير موجودين. فالذي يميِّزك عنهم، أيُّها المسيح، أنت يا من مسحك الله ملكًا، هو حبُّ الخير وبغض الشرِّ وطلب الاستقامة في كلِّ تصرُّفاتك. الحواسُّ كلُّها حاضرة. العين والأذن واللمس والفم، وأخيرًا الشمُّ مع العطور:
عبير المرِّ واللبان في ثيابك
وفي قصور العاج تُطربك الأوتار.
ويمكن أن نقول: مرّ وعود وسليخة. وكلُّها عطور من أصل نباتيّ. نتخيَّل كم يكون هذا الملك جذَّابًا. وقد أراد يعقوب ويوحنّا أن يكونا بقربه. وتمنّى الجميع ما تمنّاه هذان الرسولان. أمّا يسوع فيجتذب من يأتي إليه بواسطة الصليب قبل القيامة والمجد. وبعد العريس الإلهيّ، ها هي العروس التي جعلها العريس بأجمل ما يكون وكرَّمها كلَّ الإكرام. ونحن لا ننسى أنَّ الكنيسة تُزَفُّ إلى عريسها، خصوصًا في زمن الاستعداد لمجيء المخلِّص.
الملكة بنت الملوك عن يمينك
وقفت في وقار بذهب أوفير.
اليمين مركز الإكرام. وذهب أوفير هو أغلى ذهب. والغنى الخارجيّ إشارة إلى الغنى الداخليّ. فهناك ترجمة تقول في آ14: «بنت الملك جمالها في الداخل». ويصل النداء إليها لكي تترك كلَّ شيء وتمضي إلى عريسها. وإذا أخذنا المعنى التاريخيّ، نفهم أنَّ هذه العروس آتية من العالم الوثنيّ. فعليها أن تترك آلهة بلادها والأصنام، وتعرف أنَّ لا ربَّ لها بعد اليوم إلاَّ ذاك الماضية إليه. لا نظرة إلى الوراء وإلاَّ يصيبها ما أصاب امرأة لوط. يقول لها الكاهن:
اسمعي يا ابنتي،
أنظري وأميلي أذنك
انسي شعبك وبيت أبيك
فيشتهي الملكُ جمالك.
فجمال العروس من جمال عريسها ونعمة من لدنه. هو الذي يزفُّها إليه. يتنازل، يغسلها من نجاسات الوثنيَّة. والعريس يأتي إلينا. ما هي الأمور التي نتعلَّق بها فتعيقنا عن السير وراءه دون النظر إلى الوراء. عُرف الشعب الأوَّل بالخيانات المتعدِّدة تجاه الربّ. وكان الربُّ يغفر كلَّ مرَّة ويستعيد هؤلاء «التعساء» الذين فضَّلوا بعل وعشتاروت على الإله الواحد. هل يعاقبهم الله؟ كلاَّ. بل قال: «قلبي يضطرم في صدري، وكلُّ مراحمي تتَّقد» (هو 11: 8). الله أب وأمٌّ معًا. يقول النبيّ في كلِّ جماعة: «أحاطوني بالغدر والمكر...» (هو 11: 8). هي الخيانة بعد الخيانة، والخطيئة والابتعاد عن الله أكبر خيانة، لأنَّنا لا نردُّ على الحبِّ بالحبّ. وما الذي نبحث عنه إن كنّا لا نطلب الله؟ نبحث عن الريح والريح الشرقيَّة التي تحمل معها الغبار من الصحراء. هم باطل ويبحثون عن الباطل.
ويأتي النداء: «توبوا يا بني يعقوب، ارجعوا إلى إلهكم، احفظوا الأمانة والاستقامة، واجعلوا رجاءكم في الله» (آ7). وماذا يكون الجواب؟ الغشّ والاحتيال. ويقولون: «كم نحن أغنياء! وجَدْنا لأنفسنا ثروة. وفي كلِّ ما جنينا  لا يتَّهمنا أحدٌ بإثم» (آ9).
أهكذا تكون العروس التي يريدها الربُّ له «مقدَّسة، بلا عيب؟» (أف 5: 28). أهكذا نمجِّد الله بحياتنا فنكون نور العالم بأعمالنا الصالحة (مت 5: 16)، أم نجعل الناس يجدِّفون على الله بسببنا؟ (رو 2: 24). أين شهادتنا المسيحيَّة في خطِّ المسيح الذي دعاه سفر الرؤيا الشاهد الأمين (1: 5)؟ ويواصل الكلام: «هو يأتي...» (آ7). ونحن ننتظره.
ذاك هو زمن المجيء. نعيشه أسبوعًا بعد أسبوع. وكما كان الشعب الأوَّل ينتظر مجيء مسيح ليحمل إليه الخلاص، نحن ننتظر، سنة بعد سنة، ونجدِّد الانتظار، لأنَّ الضعف الذي فينا يجعلنا ننسى ما وعدْنا به الله في السنة الماضية وفي التي قبلها. قال الربُّ لهوشع: خذْ أيضًا جومر... مرَّة ثانية، أحببْها من جديد (3: 1). والزنى الذي يتكلَّم عنه النبيّ رمز إلى خيانة الله والتعلُّق بأصنامنا وشهواتنا وعاداتنا السيِّئة وأنانيَّتنا. ومع ذلك، يعود الربُّ إلينا كلَّ سنة. وكأنَّه يبدأ من جديد. هو يجيء ونحن نستعدُّ لاستقباله. بزينة مقدَّسة لا بالزينة الخارجيَّة فقط. ونستقبله استقبال الملوك فننسى كلَّ شيء فنكون له ونكون لإخوتنا. نسمع كما سمعت الملكة، نتطلَّع إلى النجم مثل المجوس، ونستعدّ للسير مثل الرعاة. وإذ نمضي باتِّجاه المذود الروحيّ، ننشد: قال الربُّ لربِّي: اجلس عن يميني. أو: اللهمَّ اجعل أحكامك للملك وعدلك لابن الملك. ونمضي للسجود أمام المغارة كما فعلت العروس مع عريسها (مز 45: 12) لأنَّه ربُّنا. وإذا نقصتنا المحبَّة، نمضي مع الملوك فنخدم الربَّ بالخوف والرهبة، ونقدِّم الإكرام للابن (مز 2: 11-12). «فهو الذي أحبَّنا وغسلنا من خطايانا وجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه، له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين» (رؤ 1: 6).















Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM