الفصل الرابع:الربُّ ملك والجمال لبس.

الفصل الرابع
الربُّ ملك والجمال لبس

بدأت البشارة مع يوحنّا المعمدان: «اقترب ملكوت السماوات... هيِّئوا طريق الربّ واجعلوا سبله مستقيمة» (مت 3: 2-3). وراح يسوع في الخطِّ عينه وهو من جاء يكمِّل: «تمَّ الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر 1: 15). ماذا يعني ملكوت الله، يعني: الله ملك وقد جاء «يضع يده» على ملكه. فهو الذي خلق السماوات والأرض. فبعد أن ملك في السماوات ها هو يأتي ليملك على الأرض. ولكنَّه جاء إلى العالم فرفضه العالم، جاء إلى خاصَّته فلم يقبله أخصّاؤه، شعبُه الذي جاء به من مصر ليحمل اسمه إلى الأمم، وهذا الشعب طلب سيِّدًا بدل الربِّ الإله. بعل مثلاً في فينيقية ومردوك في بابل وأشور لدى الأشوريِّين وربَّما آلهة مصر. عبَدَ الملك الذي تمتَّع بقوَّة السلاح فراح يحتمي تحت جناحيه وبالتالي تحت جناحي إلهه. ذاك ما حصل لآحاز. طلب منه إشعيا أن يضع ثقته بالربِّ الإله ولا يخاف من الهاجمَين عليه: «ذنبان مشتعلان، مدخِّنان» (7: 5). لا يعتِّمان أن ينطفئا. ولكنَّ آحاز فضَّل الاحتماء لدى ملك أشور، فمضى يزوره، يسجد له، يقدِّم له الذهب المأخوذ من الهيكل، وأخيرًا يرسل إلى رئيس الكهنة لكي يصنع مذبحًا، لا كما قال موسى في سفر الخروج، بل كما أمر ملك أشور.
لهذا أرسل الله ابنه إلى العالم لكي يجعل الله ملك العالم، لا بالقوَّة بل بالحبّ، لا بالكبرياء والعجرفة، بل بالتواضع، لا بالاستيلاء على الناس، بل بتقديم ذاته للبشريَّة حتَّى الموت والموت على الصليب. والهدف أن يرفعنا إلى مستوى أبناء السماء. ولكنَّ الناس يفضِّلون دومًا الأرض على السماء، فلا يُتعبون قلوبهم في الكلام عن ولادة في البتوليَّة (مثل مريم العذراء)، عن موت على الصليب. ويحاولون أن يُصلحوا الإنجيل ويجعلوه على مستواهم بدلاً من أن يصعدوا. من أجل هذا أردنا أن نعود إلى المزامير ونكتشف أن يسوع ملك ولكنَّه ابن الله. هو وحده ملك الملوك وسيِّد السادة، ولكنَّ ملكه لا يظهر إلاَّ لأهل الإيمان. ونكتشف أنَّه جاء يقيم العدالة الغائبة في العالم، ولكنَّه لا يكتفي بها، بل يمدُّها في عاطفة الرحمة. وأخيرًا، هذا الملك ما جاء ليأخذ الناس ويمتلكهم فيصيرون له خدَّامًا وعبيدًا، بل جاء هو ليخدم الجميع ويبذل حياته من أجل الكثيرين. ما جاء يأخذ بل جاء يعطي.

1-    ملك هو ابن الله
حين كُتب سفر القضاة، بيَّن الفوضى العارمة في البلاد. لا من يدافع عن الشعب الأعزل. أمّا «القضاة» أو هؤلاء الذين يختارهم الله، مثل دبُّورة وجدعون ويفتاح، فهم يقومون بعمل موقَّت ويمضون. جاء بعض الناس من القبائل الأدوميَّة في الجنوب، فقام عتنئيل الذي يعني اسمه أسد الله (3: 7ي) بعد أن صرخ بنو إسرائيل إلى الربّ. وتحرَّكت دبُّورة مع باراق في وجه ملك حاصور (4: 1ي). وجاء جدعون ليمنع قبائل مديان «الذين لا يُبقون قوتًا لأحد، ولا غنمًا ولا بقرًا ولا حميرًا» (6: 4). وكانت الطامة الكبرى حين كادت تفنى قبيلة بنيامين المذكورة في أرشيف ماري، المدينة المبنيَّة على نهر الفرات. وهي قبيلة قديمة جدًّا (سنة 1800 ق.م.). والسبب: «لم يكن لإسرائيل ملك» (18: 1) بحيث كان يعمل كلُّ واحد على هواه (21: 25). لهذا طلبت القبائل من صموئيل «ملكًا يقضي بيننا كما هي الحال في جميع الأمم» (1 صم 8: 5).
استاء صموئيل من هذا الطلب لأنَّه يعرف كيف يتصرَّف الملك: «يأخذ بنيكم ويجنِّدهم لخيله ومركباته وللجري أمام مركبته، ويتَّخذ منهم قادة ألف وقادة خمسين، وفلاَّحين وحصَّادين وصنَّاعًا لآلات حربه. ويتَّخذ بناتكم عطّارات وطبَّاخات وخبّازات. ويأخذ أفضل حقولكم وكرومكم وزيتونكم ويعطيها لرجاله... في ذلك اليوم تصرخون إلى الربِّ لكي ينقذكم من الملك الذي اخترتموه لأنفسكم...» (آ11-18).
ونعجب عند ذاك أن يكون الله «قال»: «هم يرفضونني كملك عليهم. فكما عاملوني منذ أخرجتُهم من مصر إلى هذا اليوم إذ تركوني وعبدوا آلهة غريبة... (آ7-8). ما رفض الله الملك كملك، ولكنَّه حذَّر الشعب من الملك الذي لا يكون بحسب قلب الله. إمّا عن ضعف وإمّا عن إرادة سيِّئة، لأنَّه يريد أن يحلَّ محلَّ الله، أو بالأحرى محلَّ الآلهة التي تتجسَّد في الفرعون أو نبوخذ نصَّر أو أسرحدُّون، فتكون النتيجة لأولاد الله، الشرّ لا الخير.
وفي الواقع، هكذا كان الملوك في مملكة يهوذا بعاصمتها أورشليم وفي مملكة إسرائيل بعاصمتها السامرة. وتأتي الردَّة وتتكرَّر: «فعل الشرَّ أمام الربّ» (1 مل 15: 26). وحتّى سليمان، الملك الحكيم، سوف ينتهي حكمه بانقسام المملكة لأنَّه حمَّل شعبه «نيرًا ثقيلاً... وأدَّبهم بالسياط» (1 مل 11: 11). وتعلَّم منه ابنه فزاد الظلم ظلمًا.
إذًا، لا بدَّ من وجود ملك آتٍ من السماء يعلِّم ملوك الأرض كيف يتصرَّفون. «لماذا تضجُّ الأمم وتلهج الشعوب بالباطل» (مز 2: 1). ضجيج، حركة وتحرُّك، بل رعد وزئير. ولكنَّ كلَّ هذا باطل، لا نفع منه ولا فائدة. هي ثورة، هي مؤامرة. نتذكَّر بناة برج بابل. أرادوا أن يرفعوا أسوار مدينتهم حتّى تصل إلى السماء (تك 11: 1ي) الملوك، الحكّام، تزول سلطتهم، يُنزَلون عن عروشهم. إلى أين سوف يمضون وكيف سينتهون؟
هي ثورة على الربِّ أوَّلاً. ما له يتدخَّل في العالم! ليبقَ في سمائه، وليترك الأرض لأهل الأرض. إن قبِلَ بهذا المنطق، صار الإنسان ذئبًا للإنسان. وضاع مشروع الله الذي يريد أن يكون الذئب والحمل معًا، والنمر والجدي معًا (إش 11: 6). كما الله يريد أن ينتهي عهد السلاح، فلا ينتقل من بلد إلى بلد ومن أرض إلى أرض (إش 9: 5). قال للشعوب: «اصنعوا من السكَّة سيفًا ومن المنجل رمحًا» (يوء 4: 10) يكون السلاح لقتل الضعيف. أما الربُّ فيريد أن يحوِّل السيوف إلى سكك والرماح إلى مناجل «بحيث لا ترفع أمَّة على أمَّة سيفًا ولا يتعلَّمون الحرب من بعد» (إش 2: 4).
أجل يثور الملوك ويقوم الحكّام على «الربّ» الذي يريد أن «يفرض» مسيحه، أي ذاك الذي يمسحه بالزيت المقدَّس فيكرِّسه له ولشعبه، لا لنفسه ولأسرته: «أنا مسحتُ ملكي على صهيون (أو: صيُّون في الأصل، وهي المدينة التي يصونها الله ويحفظها) جبلي المقدَّس» (مز 2: 6). تقدَّس بحضوري وسط شعبي. هو جبلي أنا، لأنَّ أورشليم تعني «مدينة السلام» ساعة هي اليوم مدينة العنف والحرب.
ومن هو هذا «المسيح»، هذا الذي مسحَه الربّ؟ أشاول الذي مسحه صموئيل باسم الله: «الربُّ مسحك على شعبه» (1 صم 10: 1)، ثمَّ «ندم الله» (1 صم 15: 10)؟ أداود «الذي احتقر كلام الربِّ وارتكب القبيح في عينيه؟» (2 صم 12: 9). ولا سليمان هو «المسيح» ولا يوشيّا، كلُّهم حاولوا أو لم يحاولوا، صنعوا القويم أو القبيح في عيني الربّ. أمّا المسيح الذي اختاره الله فهو ابنه، «قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك». في الأساس، يصبح الملك ابن الله يوم يعلو العرش. يتبنّاه الله، يعطيه ميراثًا. ولكنَّه ينبِّهه كما جاء التنبيه من فم ناتان يوم أراد داود أن يبني «بيتًا» لله: ابنك، يا داود، «يبني بيتًا لاسمي، وأنا أثبِّت عرشه إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا. وإذا فعل الشرَّ أؤدِّبه بعصا كالتي يستخدمها الناس ويضربون» (2 صم 7: 13-14).
الملك «ابن» يتبنّاه الله. أمّا الملك الذي أرسله الله «حين تمَّ الزمان» (غل 4: 4) فهو ابنه الوحيد. أعلنه من السماء مرَّتين. مرَّة أولى يوم المعموديَّة في الأردنّ: «هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت» (مت 3: 17). أو كما في إنجيل لوقا: «أنت ابني، أنا اليوم ولدتك» (3: 2). وهناك مخطوط آخر: «أنت ابني الحبيب، بك رضيت». ومرَّة ثانية، يوم التجلِّي على الجبل: «هذا هو ابني الذي اخترته، فله اسمعوا» (لو 9: 35).
هذا هو ملكنا يسوع المسيح. نذكره في زمن «الدنح» أو الظهور الإلهيّ. هو إنسان من الأرض وهو الابن من السماء. هو إنسان يقترب من العماد، شأنه شأن التائبين وباسم التائبين، وهو الذي قال: «أنا والآب واحد. من رآني رأى الآب» (يو 14: 9ي). وهو الذي قبل الذهاب إلى آلامه، صلَّى: «يا أبي، جاءت الساعة، مجِّدْ ابنك ليمجِّدك ابنك بما أعطيته من سلطان على جميع البشر حتّى يهب الحياة الأبديَّة لمن وهبتَهم له» (يو 17: 1-2).

2-    ملك العدالة والرحمة
«اللهمَّ اجعل أحكامك للملك وعدلك لابن الملك» (مز 72: 1). تلك هي الصرخة التي صعدت من قلوب المصلِّين، وهم الذين يرافقهم الضيق فلا يجدون من يحتموا به سوى الله ومسيحه، كما سبق وقال (مز 2: 25): «طوبى لجميع المحتمين به». أو مز 118: 8-9: «الاحتماء بالربِّ خير لي من الاتِّكال على البشر. الاحتماء بالربِّ خير لي من الاتِّكال على العظماء».
عن أيِّ ملك يتكلَّم، وما اسم ابنه؟ إذا لبثنا على مستوى البشر، فهذا مستحيل والتاريخ أكبر شاهد على ذلك. أيتذكَّر الكتاب أوَّل محاولة مع «إبيمالك بن جدعون»؟
«استأجر رجالاً بطّالين، أشقياء، وجاء إلى بيت أبيه فقتل إخوته» (قض 9: 5). عندئذٍ أقاموه ملكًا. أيتذكَّر شاول الذي حسد داود وراح في حرب أهليَّة جعلت البلاد تنهار أمام أوَّل عدوّ وفي النهاية مات ميتة شنيعة؟ أيتذكَّر داود الذي ضحَّى بأحد أبطاله أوريّا لكي يخفي زناه مع بتشابع زوجة هذا القائد (2 صم 11: 12)؟ أيتذكَّر سليمان الذي أحبَّ نساء غريبات وبنى لكلٍّ منهنَّ قصرًا؟ «فمالت زوجاته بقلبه إلى آلهة غريبة، بحيث لم يكن قلبه مخلصًا للربِّ إلهه» (1 مل 11: 4)؟
لا. الملك هو الله. وابن الملك هو يسوع المسيح. من يحكم بالعدل؟ الله وحده. من يمارس الاستقامة في تصرُّفاته مع الشعب؟ الابن الذي أعلنه الله ابنه. من يدين البشر؟ هل البشر أنفسهم ولاسيَّما العظماء الذين يعتبرون أنَّهم بما لهم صاروا أذكى وأفهم من الآخرين، يدينون الناس ويحكمون عليهم بواسطة هذا الإله الذي اسمه «مامون» لأنَّه يعطي الأمان والراحة ولا يترك «همًّا» على القلب؟ لا، وألف لا. فالرسول قال عن نفسه: «أنا لا أدين حتّى نفسي»، فكيف أدين الآخرين؟ «ديّاني هو الربّ»، «وهو ينير ما خفي من الظلام ويكشف نيّات القلوب» (1 كو 4: 4-5). وقال لنا في موضع آخر: «والآن ينتظرني إكليل البرّ الذي سيكافئني به الربّ، الديّان العادل» (2 تم 4: 8). فهو وحده «ديّان البشر جميعًا» (عب 3: 23). وقال الربُّ عن نفسه: «الآب لا يدين بنفسه أحدًا، لأنَّه جعل الدينونة كلَّها للابن، حتّى يمجِّد جميعُ الناس الابن كما يمجِّدون الآب» (يو 5: 22-23).
فالربُّ يحكم شعبه بالعدل، ومساكينه بالإنصاف. «فالقاضي» في المنطق البشريّ هو من يراعي الشريعة والعادات، ويهتمُّ بشكل خاصّ «بالصغار»، لأنَّ حقوقهم تكون عادة «مهضومة». ففي التشريع القديم، يُطلَب من القاضي الصدق في الحكم والاستقامة في ممارسة وظائفه. قال الربّ: «وأمرتُ قضاتكم في ذلك الوقت قائلاً: اسمعوا دعاوي بني قومكم والنازلين بينكم، واحكموا بالعدل بينهم» (تث 1: 16). ليس فقط بين الأخ وأخيه، بل بين الشخص والذي ينزل عنده وهو غريب. فالغريب ضعيف الحجّة وليس له من يسانده. وتوسَّع سفر التثنية فقال: «تجعل لك (أيُّها الحاكم) قضاة وكتبة لك في جميع أبوابك (عند باب المدينة كان يتمُّ القضاء)... فيقضون للشعب قضاء عادلاً. لا تحرِّف (مال، احتال) القضاء ولا تنظر إلى الوجوه (تحكم حسب الوجه)، ولا تأخذ رشوة، لأنَّ الرشوة تعمي أعين الحكماء وتعوِّج كلام الصادقين. العدلَ تتبع، العدلَ تتبع، لكي تحيا وتملك الأرض التي يعطيك الربُّ إلهك» (16: 18). لو كانت العدالة حاضرة، لما كان الكلام عنها يتواتر ولاسيّما بالنسبة إلى الغريب والفقير واليتيم والأرملة. لهذا امتدحها سفر الأمثال وأنشدها: «يرضى الملك عن الشفاه الصادقة، ويحبُّ المتكلِّم باستقامة» (16: 13). أو: «أبعد الشرِّير من قدَّام الملك، فيثبت كرسيُّه بالعدل».
والأنبياء ندَّدوا مرارًا وبقساوة بجور القضاة والملك، بمضايقة المساكين، واعتبروا أنَّ مثل هذا التصرُّف إهانة لله، وهو يعاقب. «اطلبوا الربَّ فتحيوا... (الويل) لمن يحوِّل الحقَّ إلى أفسنتين (أو: سمّ)، ويُلقي العدالة على الأرض » (يدوسها). «يبغضون من يذكِّرالمحكمة بالنظام، يكرهون من يتكلَّم بالصدق» (عا 5: 7-10). ويواصل النبيّ عاموس التهديد: «لذلك، بما أنَّكم تدوسون (تضايقون) المسكين، وتأخذون منه قسمًا من القمح... ذنوبكم كثيرة وخطاياكم وافرة، يا من تضايقون البارَّ وتأخذون الرشوة، وتصدُّون البائس فلا ينال حقَّه عند الباب (حيث تتمّ المحاكمة)» (آ11-12).
ومع الاتِّهام، حثَّ الأنبياء الحكّام فقالوا لهم: «مارسوا الحقَّ والعدل»  (هو 10: 12). وقال إرميا: «احكموا بالعدل، وأنقذوا المظلوم من يد الظالم، ولا تضطهدوا الغريب واليتيم والأرملة، ولا تجوروا عليهم، ولا تسفكوا الدم البريء في هذا الموضع» (22: 3). وبما أنَّ العدالة التي تمارَس على الأرض سريعة العطب، بل شرِّيرة النوايا، تطلَّع المؤمنون إلى «المسيح» الذي يمارس العدالة ولا يتراخى. قال إشعيا: «وُلد لنا ولد، أعطيَ لنا ابن... سلطانه يزداد قوَّة، ومملكته في سلام دائم. يوطِّد عرش داود، ويثبِّت أركان مملكته على الحقِّ والعدل من الآن وإلى الأبد» (9: 5-6).
الحقُّ والعدل هما أساس عرش الله. ننشده في المزامير: «لك ذراع كلُّها جبروت، تعزُّ يدك وتعلو يمينك. الحكم بالعدل قاعدة عرشك، والرحمة والحقُّ قدَّام وجهك» (89: 14-15. يمشيان أمامك ويهيِّئان الطريق). ثمَّ: «الربُّ يملك فلتبتهج الأرض ولتفرح البحار الكثيرة. السحاب والضباب من حوله، وقضاؤه العادل قاعدة عرشه» (97: 1-2).
هو سلطان شامل يحوزه هذا الملك المسيح بحيث ينتصر على الأمم والشعوب «يا ربّ تعزِّزُ الملك فيفرح، تخلِّصه فيبتهج ابتهاجًا... بادرته بفيض من البركات، وبتاجٍ من ذهب على رأسه. سألك الحياة فأعطيته عمرًا يطول مدى الأيّام» (مز 21: 2ي). ويصلِّي المرنِّم: «أطلْ أيَّام الملك، يا ربّ، واجعل سنيه مدى الأجيال. يجلس مدى الدهر أمام الله والرحمة والحقُّ ينصرانه» (61: 7-8).
أهذا الملك من على الأرض؟ مستحيل. لأنَّ ما يقوله مز 72 لا ينطبق إلاَّ على الملك المسيح. من يدوم ما دامت الشمس؟ وحده الأزليّ الذي خلق الشمس. من يدوم ما دام القمر؟ الابن الذي به خُلق كلُّ شيء، وبدونه لم يُخلَق شيء. من ينزل كالندى والمطر على الأرض والأعشاب؟ وحده ذاك الذي يرسل المطر والثلج ولا يرجعان ثانية إلى السماء قبل أن يرويا الأرض ويجعلاها تجدِّد فتنبتُ نبتًا وتعطي زرعًا للزارع وخبزًا للآكل (إش 55: 10). من يملك من البحر إلى البحر، أي من بحر الميت إلى البحر المتوسِّط. من يملك من النهر، نهر الفرات إلى أقاصي الأرض؟ هناك ملوك امتدَّ سلطانهم وامتدَّ، ولكن لا يصل إلى أقاصي الأرض إلاَّ ذاك الذي «يزيل الحروب إلى أقاصي الأرض ويكسر القوس ويقطع الرمح ويحرق الدروع (أو: المركبات الحربيَّة) بالنار» (مز 46: 10).
لا مجال للحرب بعد اليوم. فهذا الملك الآتي «على سحاب السماء»  هو الذي يحمل السلام. فحين يكون العدل والإنصاف «تحمل الجبال سلامًا، والروابي عدلاً لشعبه» (مز 72: 3). وهذا السلام لا يكون فقط لشعب من الشعوب أو لبلد من البلدان، بل يكون عامًّا، يعمُّ الأرض كلَّها، ويعمُّ الزمان «حتّى زوال القمر» (آ7). وهل للقمر من زوال؟ في أيِّ حال، وُلد الملك المسيح في بيت لحم، مدينة الملك داود، فجاءت الملائكة تنشد: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر» (لو 2: 14). هذا ما يحمله «المخلِّص» الذي هو «المسيح الربّ» (آ11).
العدل والرحمة. ذاك ما أنشد المزمور. فهذا الذي جاء يحمل العدالة، هو أيضًا إله الرحمة. فلو مارس العدالة فقط حيث يأخذ كلُّ إنسان ما يحقُّ له بحسب القانون، لكان شابه الناس. ولكنَّه قال: «أنا إله لا إنسان» (هو 11: 9). وتابع كلامه: «أنا القدُّوس في وسطكم». والقدُّوس هو المنفصل، هو الذي يتميَّز عن العادي. لهذا، ما أراد أن يهدِّد أو يتوعَّد. ما أراد أن يغضب ويحمل العصا التي تنفِّذ حكم المحكمة. لكن قال لنا في هوشع: «جذبتهم إليَّ بحبال الرحمة وروابط المحبَّة» (آ4). هو جاء بالدرجة الأولى من أجل الصغار بحيث ينال العقاب كلُّ من يحتقرهم. جاء إلى الخطأة والمنبوذين في المجتمع. هكذا يتجلَّى وجهه. هكذا يظهر مجده. قالت فيه مريم العذراء: «حطَّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين» (لو 1: 52). وطوَّب المساكين والجياع والباكين (لو 6: 20ي) ووعدهم بالملكوت وبالشبع والضحك والفرح الحقيقيّ. هذا هو ملكنا يسوع المسيح الذي دعانا فقال لنا: «تعالوا إليَّ أيُّها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم» (مت 11: 28).

3-    الملك الخادم
بعد أن غسل يسوع أقدام تلاميذه، وانزعج البعض من هذا التنازل العجيب، بعد أن ركع أمامهم كما العبد أمام سيِّده، مع أنَّه الربُّ والمعلِّم، نبَّههم إلى ما فعل. هل فهموا؟ فيسوع قال لبطرس: «أنت الآن لا تفهم ما أنا أعمل. ولكنَّك ستفهمه فيما بعد» (يو 13: 7). أجل، عادةً الملك يملك، يحكم، يسيطر، يستبدّ. أمّا ملكنا فليس كذلك. عادة الملك يمتلك الناس وأرزاقهم ويتصرَّف بها كما يشاء. أمّا ملكنا فما أراد أن يأخذ شيئًا من البشر، بل أراد أن يعطيهم كلَّ شيء، أن يبذل ذاته لهم. ونحن نعرف كلام بولس الرسول عن الله الذي «ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا» (رو 8: 32). الآب أعطانا ابنه فما ترك لنفسه شيئًا. على ما قال يوحنّا في إنجيله: «هكذا أحبَّ الله العالم حتّى وهب ابنه الوحيد» (3: 16). ويواصل الرسول كلامه عن هذا الذي هو في صورة الله، فاتَّخذ صورة إنسان، وما اكتفى بذلك، «بل أخلى ذاته واتَّخذ صورة العبد... تواضع حتّى الموت والموت على الصليب» (فل 2: 7-8).
إلى هذا الملك ننشد في زمن الدنح هذا. هو أوَّلاً عريس شعبه. أي «تزوَّجه، اتَّحد به، كما المرأة مع زوجها. والملكة ترمز إلى الشعب. هي آتية من العالم الوثنيّ، من صور، وحاملة معها غناها الذي يلتقي بالغنى الروحيّ في أورشليم حيث يقيم الله.
ويبدأ الكلام للعريس، للملك: «أنت أبهى من بني البشر، والنعمة انسكبَتْ على شفتيك، فباركك الله إلى الأبد» (45: 3). جمال في الداخل، جمال في الخارج. هكذا كانوا يصفون، مثلاً يوسف بن يعقوب. جماله الخارجيّ اجتذب امرأة فوطيفار، ولكنَّ جماله الداخليّ منعه من أن يخطأ إلى الربّ (تك 39: 9). ومع «الوجه» الحلو الذي لا يقابله وجه بين البشر، هو الكلام على مثال ما نقرأ في نشيد الأناشيد. لهذا كان مباركًا وبارك الذين حوله.
«تقلَّدْ سيفك» (آ4). هذا الملك هو «الجبّار» مع لفظين خاصَّين بالله «الجلال والبهاء». وما الهدف من السيف؟ «الدفاع عن الحقِّ والعدل». فالقضيَّة مهمَّة وتستحقّ أن نضحِّي لها بالغالي والنفيس. أمّا العدالة فترافقها الرحمة خصوصًا مع الأعداء. ومن يكون هذا هدفه، ومن يضع يده بيد الله، لا يمكن إلاَّ أن ينتصر ويربح المعارك (آ5). هو لا يريد المغانم ولا الأسلاب. لا تهمُّه نفسه. بل يهمُّه غيره. وتتواصل الصورة الحربيَّة: «سهامك المسنونة» (آ6). هي الحرب، لا بالمعنى الواقعيّ، بل بالمعنى الرمزيّ. فالربُّ لا أعداء له سوى الموت (1 كو 15: 26)، أمّا الشعوب التي تُقهَر فهي التي ترفض مسيرة الحقِّ والعدل.
ومن هو هذا الملك؟ هو الله. نقرأ في آ7: «عرشك يا الله إلى الأبد». الملوك يزولون الواحد بعد الآخر. أمّا الله فملكه دائمٌ أبدًا. هكذا بشَّر الملاك مريم العذراء بالنسبة إلى الطفل الذي تحبل به: «هذا يكون عظيمًا وابن العليّ يُدعى، ويعطيه الربُّ الإله كرسيّ داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية» (لو 1: 32-33).
هذا الكلام الذي قيل في ملك من الملوك، مع التضخيم اللازم، طبَّقته الرسالة إلى العبرانيِّين على ابن الله. «أمّا في الابن فقال: عرشك، يا الله، ثابت  إلى أبد الدهور. وصولجان العدل صولجان ملكك، تحبُّ الحقَّ وتبغض الباطل، لذلك مسحك الله بزيت البهجة دون رفاقك» (عب 1: 9-10).
ذاك هو المسيح الملك. مميَّز بالجمال، مميَّز بالقضيَّة التي يدافع عنها. فالمسحة التي نالها غير المسحة التي نالها الملوك قبله. فهم خانوا هذه المسحة وما كانوا أمناء للرسالة الموكولة إليهم بحيث يقومون مقام الله. أمّا الملك الحقيقيّ فهو الله. هم خاضعون لشريعة الربّ ووصاياه، ولا يحقُّ لهم تجاوزها. وبقدر أمانتهم لله، يكون الله أمينًا لهم. وها نحن نقرأ أحكامًا خاصَّة بالملك كما أوردها سفر التثنية على ضوء الخبرة التي عاشتها المملكة، بحيث نستطيع أن نضع اسمًا وراء كلِّ عبارة:
«إذا دخلت الأرض التي يعطيكم الربّ إلهكم، وامتلكتموها وسكنتم فيها... فأقيموا عليكم ملكًا يختاره الربُّ إلهكم من بين إخوتكم، ولا تقيموا رجلاً غريبًا عنكم، لئلاَّ يتغلَّب عليه أصله فيُكثر من الخيل... وعلى الملك أن لا يكثر من النساء، لئلاَّ يزيغ قلبه، ولا يبالغ في الإكثار لنفسه من الذهب والفضَّة. ومتى جلس على عرش ملكه، فعليه أن يكتب نسخة... فتكون عنده ليقرأ فيها كلَّ أيَّام حياته حتّى يتعلَّم كيف يخاف الربَّ إلهه... لئلاَّ يطمح قلبه على إخوته، ولئلاَّ يحيد عن الوصيَّة يمينًا أو شمالاً...» (تث 17: 14ي).
هكذا يكون الملك بحسب قلب الربّ، فيُنشَد له: «عبير المرّ واللبان في ثيابك، وفي قصور العاج تطربك الأوتار» (مز 45: 9). هذا يعني في ترجمة أخرى، «ما يأتيك منِّي، أي من الفردوس، يبهجك أكثر من قصور العاج». فالملك يهتمُّ قبل كلِّ شيء بأن يعيش بحسب الشريعة، أي بأن يعمل إرادة الله. ولنا مثل أوَّل في شاول الذي قال له صموئيل: «أبالمحرقات مسرَّة الربِّ والذبائح، أم بالطاعة لكلامه؟ الطاعة خير من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش. فالتمرُّد خطيئة كالعرافة، والعناد جريمة كعبادة الأوثان. فالآن بما أنَّك رفضت كلام الربّ، رفضك الربُّ من الملك» (1 صم 15: 22-23). نتذكَّر: العرافة هي رجس عند الربّ مثل الشذوذ والسحر والرقيَّة (تث 18: 10). أمّا عبادة الأصنام فعاقبتها الرجم. وداود نفسه أراد أن يحصي الشعب وكأنَّ الشعب شعبه. أجابه يوآب، رئيس الجيش: «ليزد الربُّ إلهُك الشعب مئة ضعف، ولكن ماذا يريد سيِّدي الملك بهذا الأمر؟» (2 صم 24: 3).
أمّا ملكنا يسوع المسيح، فهو من جاء لا ليعمل مشيئته، بل مشيئة الآب الذي أرسله (يو 5: 30). وسبق فقال: «أنا لا أقدر أن أعمل شيئًا من عندي. فكما أسمعُ من الآب أحكم، وحكمي عادل». ولمّا جاءه التلاميذ ببعض الطعام ودعوه ليأكل، أجاب: «لي طعام آكله لا تعرفونه أنتم». فأخذ التلاميذ يتساءلون. أمّا هو فقال: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمِّم عمله» (يو 4: 31ي). والرسالة إلى العبرانيِّين وصفت لنا قلب الابن منذ بداية حياته: «ما أردتَ ذبيحة ولا قربانًا، لكنَّك هيَّأتَ لي جسدًا. لا بالمحرقات سررت ولا بالذبائح كفَّارة للخطايا. فقلتُ: ها أنا أجيء يا الله لأعمل بمشيئتك» (10: 5-7). هذا الكلام المأخوذ من مز 40 يفهمنا تواضع يسوع تجاه أبيه: «أن أعمل مرضاتك، يا إلهي، في هذا مسرَّتي. ففي صميم قلبي شريعتك. بشَّرتُ ببرِّك في الجموع الكبيرة وما أطبقتُ شفتيَّ» (آ9-10). وفي هذا المناخ، كان كلام عبد الربِّ المتألِّم: «سأبشِّر باسمك إخوتي وبين الجماعة أهلِّل لك» (مز 22: 23). وتكون النتيجة: «جميع الأمم تتذكَّر الربّ، وترجع إليه من أقاصي الأرض. أمام وجهه تسجد جميع الشعوب، لأنَّ الـمُلك للربِّ سيِّد الأمم» (آ28-29).
*  *  *
من يمثِّل الأمم الذين مضى إليهم ابن الله، هذا الملك الذي مسحه الله وأرسله؟ الملكة. وهكذا نعود إلى مز 45: «الملكة بنت الملوك عن يمينك، وقفَتْ في وقار بذهب أوفير» (آ10). ماذا يقال لها: «اسمعي يا ابنتي، أنظري وأميلي أذنك. انسَيْ شعبك وبيت أبيك فيشتهي الملك جمالك. هو سيِّدك فاسجدي له»(آ11-12). فهذا الملك ليس فقط بشرًا من البشر، وإن تنازل إلى مستوى البشر، وصار شبيهًا بنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة. وقالت الرسالة إلى العبرانيِّين: «ولمّا كان الأبناء شركاء في اللحم والدم، شاركهم يسوع كذلك في طبيعتهم... فكان عليه أن يشابه إخوته في كلِّ شيء» (2: 14-17). ولهذا «لا يستحي أن يدعوهم إخوته» وأخواته (آ11). إنَّه أيضًا ابن الله. فهو الكلمة لدى الله. لهذا تسجد له الملائكة باسم الذين آمنوا به.
وينتهي مز 45 بما سيصير بعد هذا الملك: «عرش آبائك يكون لبنيك، تقيمهم رؤساء في كلِّ الأرض» (آ17). ذاك هو نصيب من هم أبناء مع الابن الوحيد وورثة مع الوارث الوحيد. لهذا ينشده المرنِّم: «سأذكر اسمك جيلاً بعد جيل فتحمدك الشعوب مدى الدهر» (آ18).


الخاتمة
في زمن الدنح الخلاصيّ، في زمن الظهور وتذكُّر عماد يسوع في الأردنّ وإعلان الآب: «هذا هو ابني الحبيب»، أردنا أن نتعرَّف إليه. لا ملكًا عاديًّا، بل ملك الملوك وربّ الأرباب (1 تم 6: 15). والمزمور الثاني دعا الملوك لكي يتعقَّلوا، والعظماء في الأرض لكي يتَّعظوا. فهذا الملك الذي اختاره الربّ، وهو ابنه، طلب فأعطيَت له الأمم ميراثًا وأقاصي الأرض مُلكًا. فهذا الملك هو الربّ. والملوك يعبدونه، لأنَّه جالس على عرش عالٍ رفيع، كما قال إشعيا. ومع أنَّه ذاك الرفيع الذي يقبِّل الملوك قدميه برعدة إلاَّ أنَّه أراد أن يكون وسط البشر. هو ملك من نوع آخر. يطلب العدل والرحمة والاستقامة. ويتنازل لكي يكون خادم الجميع وآخرهم كما طلب من تلاميذه. هكذا يستطيع أن يرفعهم إلى السماء إلى الله. قيل عنه إنَّه أخذ آخر الصف، لئلاَّ يبقى أحدٌ خلفه، بل يكون الكلُّ أمامه فيراهم ويحوطهم بعنايته. قبل الصليب، لأنَّ الصليب خاصّ بالمجرمين، وابن الله صار بينهم ليجعلهم معه «اليوم في الفردوس» (لو 23: 43). هذا هو الملك الذي جعل الله حاضرًا بقدرته، بأقواله وخصوصًا بحياته، وهو يدعو البشر جميعًا لكي يملكوا معه، لأنَّه يريد خلاص جميع البشر، لأنَّه ينبوع خلاصهم (تي 2: 11).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM