كم كان رائعًا

(السلام والخير، آذار 2010)

كم كان رائعًا

الخوري بولس الفغالي

هكذا بدأ يشوع بن سيراخ وصْفه لسمعان بن أونيَّا الكاهن الأعظم وهو يمارس مهامَّه في الهيكل فبعد أن تحدَّث عن الآباء منذ أخنوخ ونوح اللذين أرضيا الربَّ "في زمن الغضب"، وإبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين قادوا المؤمنين من بلد إلى بلد قبل الإقامة مع الإله الوحيد، بعيدًا عن أصنام الشمال (بلاد الرافدين، العراق اليوم) والجنوب (مصر)، وموسى وهارون اللذين نقَّيا الشعب في البرِّيَّة وأعطياه الوصايا العشر، وصولاً إلى يشوع والقضاة وصموئيل الذين ركَّزوا الشعب حول معبد أوَّل في شيلو مع عهد يعلن فيه الله أنَّ هؤلاء المؤمنين هم له وهو لهم شرط أن يحافظوا على الوصايا، بلوغًا إلى الملوك والأنبياء... بعد أن تحدَّث ابن سيراخ عن كلِّ هؤلاء وامتدحهم المديح الجميل، وصل إلى سمعان: "كم كان رائعًا عند خروجه من وراء حجاب الهيكل!" (50: 5). رأى فضائل كلِّ الذين سبقوه وقد اجتمعت فيه.

أجل، هذا هو الكاهن حيث قال فيه أحد القدِّيسين: "إن رأيتُ كاهنًا يسير بجانب الملاك، حيَّيتُ الكاهن قبل الملاك". هذا ما يضع الكاهن أمام وجدانه الكهنوتيّ، ويفهم المؤمنين اليوم من هو الكاهن بالرغم من ضعفه ومحدوديَّته. اجتمع الناس يومًا في الكنيسة. ولكن حصل حادث للكاهن قبل القدَّاس بربع ساعة، فمضى كلُّ واحد إلى بيته. كيف؟ كلُّ هؤلاء لا يقدرون أن يجمعوا المسيحيِّين حول المذبح، حول مائدة الربِّ، حول الخبز والخمر! كلاَّ. أتوا جائعين فمضوا جائعين. فمن اختاره الربُّ لإطعامهم "زاد الطريق" غاب. ومهما كان عدد هؤلاء فهم لا يستطيعون أن يحلُّوا محلَّ كاهن واحد! هتف ابن سيراخ: ما أروعه! ونهتف نحن اليوم، كم نحتاج إليه! غاب موسى عن العبرانيِّين أربعين يومًا على الجبل، فوجدهم يعبدون العجل. وهذا ما جعل أحد الكهنة يقول: "اتركوا الرعيَّة عشر سنوات يعبدون العجل. ويُروى عن أحد الرعايا، في فرنسا، التي زارها الأسقف، وسأل من كاهنها. فقيل له: توفَّاه الله. قال: وكيف دفنتموه؟ أجابوا: مثل كلِّ الناس. أخذناه، وضعناه في القبر وانتهى الأمر.

أتتخيَّلون كاهنًا يموت ويترك الرعيَّة يتيمة بعد موته؟ كنت مرَّة في إحدى المناطق الأوروبِّيَّة. كاهن يخدم 27 قرية. وبجانبه آخر معه رعيَّة كبيرة وبضع رعايا صغيرة. أُصيب هذا الأخير بالفالج. مضيت وزرتُه في المستشفى أنا وزميله. فعرف "صاحب العافية وابن الستِّين" ما الذي ينتظره. وعرف المؤمنون أنَّ العشب سوف ينبت عند مدخل الكنيسة. نحن لم نصل بعد إلى هذا الحدِّ، شكرًا لله. ولكن إن تمنَّعنا عن تلبية نداء الربِّ، إن رفضنا أن نعطي أولادنا لخدمة الله والمذبح والمؤمنين، فماذا يكون المصير؟ وإذا لم يكن الكهنةُ الرعاةَ الذين ينتظرهم المسيحيُّون، تكون النتيجة أنَّ هؤلاء المؤمنين يتركون كنيستهم ويمضون إلى مكان آخر، إلى طائفة أخرى ويغيبون في الجموع الأخيرة. وهكذا يتقلَّص الوجود المسيحيّ، لا في الشرق وحسب، بل في بلدان أوروبّا بممارستها الضئيلة. هذا ما يدعونا إلى الصلاة والتعمُّق في الإيمان، والثبات حيث نحن بعد أن قال لنا الربُّ: "من يثبت إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 24: 13).

  1. كوكب الصبح أو البدر

هذا الكاهن هو كوكب الصبح أو "نجمة الصباح" كما كان يدعوها أجدادنا يوم لم تكن لهم ساعةٌ في أيديهم أو على الحائط كما هو الوضع في أيّامنا. يقولون: طلعت نجمة الصبح، يعني انتهى الليل وأطلَّ الصباح. ونحن نتخيَّل الفرصة، خصوصًا عند ذاك الماضي إلى العمل، أو المريض الذي لا ينتهي الألم معه. فالعتمة تزيد على عذابه عذابًا. أذكر حين توفِّي كاهنُ رعيَّتنا وكنتُ بعد صغيرًا. ولبثنا مدَّة مع كاهن أو آخر يزوروننا ولكن لا كاهن عندنا. وأخيرًا، أتانا الكاهن. أتى من يدقُّ الجرس. تتخيَّلون؟ كنيسة ليس فيها من يدقُّ الجرس ويدعو المؤمنين إلى الاجتماع الأسبوعيّ؟ أتانا الكاهن. أخذ يزور الرعيَّة، يتفقَّدها بيتًا بيتًا. يدعو الجميع بدون استثناء. فهو قرب المرضى يشجِّعهم، والحزانى يعزِّيهم. فهو قرب الصغار ينميهم والكبار يواصل تعليمهم. فالمؤمنون الذين اعتمدوا بعد خطبة بطرس الأولى، كانوا يواظبون على التعليم وكسر الخبز. يعني القدَّاس. هذا يعني وجود كاهن يكسر لنا الخبز السماويّ لئلاَّ نموت جوعًا، ويعلِّم المؤمنين ويدعوهم يومًا بعد يوم إلى "طريق الملكوت". هم يُؤخَذون بالمشاغل العديدة. ولهذا يحتاجون مرارًا إلى من يذكِّرهم أنَّ ملكوت الله ليس أكلاً وشربًا، وإن احتاج الناس إلى الطعام والشراب، بل هو نداء إلى الفرح نعيشه مع الربِّ والإخوة، وسلام داخليٌّ يعلِّمنا البرَّ الذي يرفع "عقولنا وقلوبنا إلى العلاء" كما يُقال في القدَّاس.

"نجمة الصبح بين الغيوم". هناك من يخفي هذه "النجمة"، أو ما يخفيها. وربَّما نحن لا نريد أن نراها. نتوقَّف عند القشور ولا نصل إلى العمق. فمن خلال إنسان من الناس، نكتشف شخص يسوع. فالكاهن ليس "نجمة" ولا "كوكبًا"، بل هو يدلُّ على من هو النجم الذي سار في إثره المجوس فوصلوا إلى بيت لحم وقدَّموا هداياهم للطفل الإلهيّ. ونلاحظ أنَّ هذا النجم اختفى حين وصل إلى أورشليم. فالناس أخفوه وأرادوا إخفاءه، وأوَّلهم هيرودس الذي "بحث عن الطفل ليقتله" (مت 2: 13).

لا. الكاهن ليس النجم، ولا الشمس، بل هو يدلُّ على من هو شمس البرّ، يسوع المسيح. ظنَّ اليهود أنَّ يوحنّا المعمدان هو المسيح. قال: لست المسيح. وأعلن: أنا صوتُ صارخ في البرِّيَّة. أدعو الناس: توبوا، اقترب ملكوت السماوات. تبعه تلاميذ فدلَّهم على ذاك الذي يجب أن يتبعوه: "هذا هو حمل الله". وللحال سار وراء يسوع تلميذان من تلاميذ يوحنّا: أندراوس وشخص آخر يمكن أن يكون أحد الكهنة الذي سوف يخبرنا عن المسيح كما فعل أندراوس مع أخيه بطرس. يمكن أن يكون أنا، أنتَ، أنتِ، أيَّ واحد منَّا. وهنيئًا له إن قال مثل أندراوس: "وجدنا المسيح". ونأتي بإخوتنا وأخواتنا إلى يسوع. ذاك هو دور الكاهن الأوَّل. ثمَّ دور الإخوة والأخوات.

ويتوالى الوصف: "البدر عند تمامه". أي اليوم الرابع عشر من القمر حيث يكون الضوء تامًّا. كان العبرانيّون ينتظرون مثل هذا الليل لكي يحتفلوا بعيد الفصح. هو نور الربِّ يشرق عليهم. من يدعوهم إلى العيد؟ الكاهن. فمن قلب الظلمة يأتي المسيح كما يقول التقليد "في نصف الليل". في عيد الميلاد، في عيد الغطاس عندنا نحن الشرقيّين، في عيد الفصح أو العيد الكبير. وهو "الشمس". أجل، طلع النهار، صار وقت الظهر. في ذلك الوقت، التقى يسوع بالسامريَّة عند بئر يعقوب، في قرية سوخار، ودعاها إلى ماء حيٍّ لم يعرفه الآباء الأوَّلون: "لو كنت تعرفين عطيَّة الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبتِ أنتِ منه ماء الحياة" (يو 4: 10).

وأخيرًا، هذا الكاهن يشبه "قوس القزح" أو هو يدلُّنا على نهاية الطوفان وبداية الحياة الجديدة. ذاك ما حصل مع نوح. سنة كاملة من المطر وبعد ذلك عادت الحياة بشكل طبيعيّ: الزرع في أوانه والحصاد في وقته، البرد في الشتاء والحرُّ في الصيف. خلال الطوفان، ضاع الناس بين الليل والنهار لأنَّهم ما عادوا يرون الشمس. ولكن الآن، عُرف النهار وتميَّز عن الليل.

لماذا ذكرنا كلَّ هذا الوصف؟ لأنَّ ابن سيراخ صوَّر هذه البدائع قبل الكلام عن الآباء: "ما أروع السماء وما أصفاها وما أعظم مرآها. الشمس عند طلوعها..." (43: 1-2). ثمَّ يأتي القمر والنجوم وكلُّ عجائب الكون. ماذا تعني هذه المقابلة؟ أنَّ الكاهن موجود منذ البداية. إذا كان يسوع الكاهن الحقيقيَّ والأوحد في العهد الجديد، وإذا كان هو بكر كلِّ خليقة، فهذا يعني أنَّ الكهنوت هو من البدء، ولن يزول إلى الأبد. فالرسالة إلى العبرانيّين أوردت عاطفة المسيح عند دخوله إلى العالم: "ما أردتَ ذبائح ومحرقات، فقلتَ: ها أنا آتٍ لأعمل مشيئتك يا الله". وأوردت هذه الرسالة المزمور 110: "أنت كاهن إلى الأبد". لا، لا يمكن أن يكون الكاهن كاهنًا لوقت محدَّد. فهو صورة عن يسوع المسيح وامتداد لكهنوته. بعد ذلك لا نعجب إن شُبِّه سمعان بن أونيَّا وإن شُبِّه الكاهن في العهد الجديد بكوكب الصبح، بالبدر في تمامه، بالشمس المشرقة، بالقوس المتلألئة من خلال السحب البهيَّة.

  1. كالورد أو الزنبق أو نبات لبنان

بعد أن خلق الله النور، بعد أن كوَّن الشمس والقمر والكواكب، أو بين الاثنين، قال: "لتنبتِ الأرضُ نباتًا عشبًا..." (تك 1: 11). فالكلمة يرافق الخلق منذ البداية: به كان كلُّ شيء وبدونه لم يكن شيء ممّا كان (يو 1: 3). فالكلمة ابنُ الله شبَّهه الآباء حين قرأوا سفر الأمثال بالحكمة التي كانت حاضرة مثل مهندس: "حين كوَّن السماوات، وفجَّر ينابيع المياه، وأرسى أساسات الأرض" (8: 27). هناك كان يسوع الكاهن لكي يبارك الخليقة، ويقدِّمها منذ الساعة الأولى لوجودها، ويدعوها لكي تشاركه وتشارك المؤمنين وكهنتهم في الإنشاد: "هلِّلي لله يا سماء السماوات، هلِّلي له أيَّتها الشمس والقمر" (مز 148: 3-4). ويدعو الكاهن الأوحد "الجبال وجميع التلال، الشجر المثمر وجميع الأرض، الوحوش، الطيور... كلُّهم مدعوُّون لكي يهلِّلوا، لكي يسبِّحوا. ومن يدعوهم؟ المسيح الكاهن، ومعه الكهنة، ثمَّ الشعب الكهنوتيّ الذين قال فيهم الكتاب: "أنتم نسل مختار، كهنوت ملوكيّ، أمَّة مقدَّسة، شعب اقتناه الله لإعلان أفضاله" (1 بط 2: 9).

شبِّه الكاهن أوَّلاً بالورد ورائحته الطيِّبة. ونتذكَّر: نحن رائحة المسيح. والكاهن بشكل خاصّ. رائحة حياة للذين يريدون، ورائحة موت للذين يريدون أيضًا. العطر أمرٌ معروف بشكل خاصٍّ في أيّامنا، وهو يجتذب الآخرين إلينا. وما تكون النتيجة حين يكون العطر فينا آتيًا من يسوع المسيح الذي قال في إنجيله: "وأنا إذا ما ارتفعتُ اجتذبتُ إليَّ الكثيرين". فكنَّا نحن المؤمنين أوَّل من اجتُذب. شرط أن نجتذب نحن بدورنا الآخرين. تحدَّثنا عن أندراوس الذي اجتذب أخاه سمعان. وفيلبُّس اجتذب نتنائيل. والسلسلة تتواصل حتَّى بلغت إلينا. ونحن من نجتذب؟ أم لا سمح الله، يهرب الناس من المسيح بسببنا. فبدلاً من أن يُمجِّدوا الله حين يرون أعمالنا الحسنة، يجدِّفون على الله حين يرون حياتنا وسلوكنا وأقوالنا وأفعالنا. والويل لنا حينذاك لأنَّنا نكون سبب عثرة وشكوك، فيهدِّدنا الربُّ بأن يوضعَ في أعناقنا حجر الرحى ونُرمى في البحر (مت 18: 6).

يمرُّ يسوع. يمرُّ العريس عند عروسه، كما يقول سفر نشيد الأناشيد. رفضت أن تفتح له الباب مع أنَّه أتى إليها في الليل وتحت قطرات الندى. ما استعمل العنف. ولكنَّه اكتفى بأن يترك عطره على مسكة الباب. ما عادت العروس تتمالك نفسها. هي التي خافت أن توسِّخ قدميها بعد أن غسلتهما، انطلقت حافية، هي التي استصعبت أن تلبس ثوبها، قامت فلبسته وراحت تبحث عن عريسها في قلب الليل معرِّضة نفسها للخطر لولا حرّاس الليل.

ويسوع الكاهن الأوَّل يمرُّ اليوم في كلِّ واحد منّا. يترك عطره. فيأتي الناس ويطلبون منّا كما طلبوا من أندراوس وفيلبُّس: "نريد أن نرى يسوع". فهل يسوع يملأ حياتنا، بحيث يكفي الناس أن ينظرون إلينا لكي يكتشفوا يسوع؟ هل يكفي أن يسيروا معنا لكي يصلوا في النهاية إلى من "يحبُّه قلبي"؟

رائحة المسيح! الورد. ومع الورد الزنبق ببياضه. هو قرب الماء. يقترب منه الناس، ورقه لا يذبل، كما يقول المزمور. وجماله دائم مثل شجر الفردوس الذي يتحدَّث عنه سفر الرؤيا. بياض ناصع. ولكن أقلَّ وصمة تظهر عليه. كم يجب على الكاهن أن يحافظ على هذا الجمال الذي أُعطيَ له. هكذا يمكن أن يرتفع، أن يطير. وإن "تنجَّس" بأوساخ هذا العالم وتعلَّق بما فيه من انجذابات يصبح مثل ذلك الطير الذي يرافق السفن ويبقى في الجوِّ محلِّقًا بريشه الناعم، الناصع. ولكن إذا حصل له وحطَّ عند مؤخَّر السفينة حيث تُرمى القماقم، يبقى هناك ولا يستطيع بعدُ أن يطير. يبقى حيث هو. يخسر جماله. يخسر حفَّته الملائكيَّة فلا يستطيع بعدُ أن ينطلق بسرعة إلى حيث يدعوه الله. هكذا كان والدي يقول لي: ما هو الكاهن؟ رجل يقف على موضع عالٍ. الجميع يرونه. الأنوار حاضرة على ثوبه "الأبيض". أقلُّ شيء يُرى من بعيد. فيسأل الناس: هل هذا من يمثِّل المسيح؟ كم يستحي منّا يسوع عندئذٍ مع أنَّ الرسالة إلى العبرانيّين قالت: "هو لا يستحي أن يدعونا إخوته" وأخواته. ومع ذلك يمكن أن يقول لنا: لا أعرفكم من أين أنتم مهما أوردنا له من أعمال بشريَّة. يقول لنا: ابتعدوا عنِّي يا فعلة الإثم (مت  7: 22-23). يا لتعاستنا عند ذلك الوقت! فدينونتنا ستكون قاسية جدًّا كما يقول سفر الحكمة.

بياض الكهنوت. الزنبق باخضراره الدائم لأنَّه قرب المياه. وأخيرًا، رواؤه. هو لا يعرف اليباس حتَّى في فصل الصيف، متى ييبس الغصن؟ حين ينقطع عن الشجرة. ذاك ما قال يسوع: الأغصان اليابسة تُقطَع وتُلقى في النار لتحترق (يو 15: 6). الثبات في الربِّ يُبقي الحياة فينا، وإلاَّ لا ماويَّة، لا رواء، لا حياة، ومن هو ميت لا يستطيع أن يهب الحياة. ومن أين تأتي هذه الحياة؟ من الكرمة. نعم، نحن الكهنة أغصان في كرمة الربّ. لا في وقت محدَّد، بل في كلِّ وقت وزمان. ويمكن المؤمنين أن يأتوا ويقطفوا الثمار التي ينميها الله فينا. وإلاَّ لا سمح الله نكون مثل تلك التينة العقيمة التي لم يجد فيها يسوع سوى ورق فقط. الويل لنا إن أتى الربُّ ولم يجد فينا ثمرًا، فيقول للكرّام: اقطعها. فلماذا تعطِّلُ الأرض. والويل الويل إن جاء المؤمنون فما وجدوا لهم طعامًا فيمضون جائعين وربَّما يخورون في الطريق (مر 8: 3).

شُبِّه سمعان الكاهن بالنبات الذي يَنبتُ في الصيف. هل يُعقَل في شرقنا الصحراويِّ أن يطلع النبات في الصيف؟ نعم على جبل لبنان. فهناك الثلج وهناك المياه. وهناك الحياة لا مجال للموت هنا. ولا مجال لتوقُّف عمل الكاهن ولاسيَّما في الإطار الذي كتب فيه يشوع بن سيراخ. فنحن نعرف أنَّ سمعان سيكون الكاهن قبل الأخير من سلالة صادوق العائدة إلى زمن سليمان. أجل، توقَّف الكهنوت في معنى الكهنوت "وانحطَّ" بسبب تدخُّل السلطة السياسيَّة. فصار الحاكم يعيِّن الكاهن ذاك الذي يدفع المال. ويعزله إن وَجَد من دفع أكثر منه. وهكذا صارت أرض الموعد مثل حقل حُصد فيه القمح وما بقي فيه سوى اليباس. ولكن ما دام سمعان حاضرًا، لبث الحقل أخضر، يتجدَّد يومًا بعد يوم وكأنَّه في أجمل أيّام الربيع.

أمّا نحن المسيحيّين فكاهننا حاضر أمسِ واليوم وإلى الأبد. ولكنَّ الذين يواصلون عمله، الذين يمثِّلون كهنوته على الأرض، الخطر يتربَّص بهم. هم واقفون وينسون أنَّهم يمكن أن يسقطوا عندئذٍ يسقط معم أولئك الذين يستندون إليهم، على ما قال أحدهم: "إنَّ يومًا لا تشتعل فيه حبًّا، يموت حولك الكثيرون بردًا". حرارة الإيمان مطلوبة منّا لكي يجد المؤمنون الدفء الذي ينتظرون، والمثال القاسي نجده في سفر الرؤيا: "اسهر وأنعش ما بقيَ لك من الحياة قبل أن يعالجه الموت. فأنا لا أجد أعمالك كاملة في نظر إلهي" (3: 2).

  1. حين كان يرتدي حلَّة الكهنوت

نظر يشوع بن سيراخ إلى سمعان وهو يخدم في الهيكل وفي مناسبة مهمَّة في تاريخ الشعب، يوم كيبور، يوم التكفير عن خطايا الشعب طوال سنة كاملة، كما يقول سفر اللاويّين (ف 16).

"يلبس الكاهن قميصًا من كتّان مقدَّسًا، ويكون على بدنه سروال من كتّان، وعلى وسطه حزام من كتّان، ويضع على رأسه عمامة من كتّان" (آ4). كلُّ هذه هي "ثياب مقدَّسة"، مكرَّسة لله. لا تُستعمَل إلاَّ للخدمة الليتورجيَّة. وبشكل خاصٍّ في يوم التكفير الذي يقع في بداية السنة الطقسيَّة، أي في شهر تشرين الأوَّل تقريبًا. أمّا الكتّان فهو أفضل القماش. وإن لبسه الكاهن فهو يفعل لا إكرامًا لشخصه، بل لإكرام من يمثِّل ولاسيَّما في هذا اليوم المهمِّ الذي فيه يدخل إلى قدس أقداس الهيكل، أي إلى أقدس مكان في الهيكل، الذي لا يدخله سواه، وهو نفسه لا يدخله سوى مرَّة في السنة، في يوم كيبور.

هناك يكون الكاهن الأعظم بقرب الله فيقدِّم له شعبه سنة كاملة، ويطلب الغفران لنفسه وللشعب كلِّه. يبدأ "سمعان" وكلُّ كاهن قبله أو بعده، ويمكن أن يكون كاهن العهد الجديد، فيدعو الشعب لكي يعي أنَّه جماعة من الخطأة، ويحرِّك فيه الإيمان الذي يكون قد خبا منذ سنة كاملة فغطس فيها عملاً وركضًا وربحًا وخسارة. نحن خطأة، والله هو إله الغفران. نترك سنة وراءنا وندخل في سنة جديدة. من يساعد على هذا الدخول؟ الكاهن. لأنَّ الله وحده هو من يغفر الخطايا. ولمن أعطيَ سلطان الحلِّ والربط؟ للكاهن: "كلُّ ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء. وكلُّ ما تحلُّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء" (مت 18: 18). ذاك كان كلام الربِّ للرسل في امتداد ما سبق وقال لبطرس (مت 16: 18). وسوف يتكرَّر الأمر بعد القيامة تثبيتًا لما قيل من قبل: "خذوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تُغفَر له، ومن منعتم عنه الغفران يُمنَع عنه" (يو 20: 23).

نلاحظ هذه العظمة. كلُّ الناس يستطيعون أن يعلِّموا ويمارسوا الأمور العديدة. ولكنَّ الكاهن وحده يستطيع أن يقول: "أنا أحلُّك من جميع خطاياك باسم الآب والابن والروح القدس". حين غفر يسوع للمخلَّع، اعتبر بعض الكتبة عمله تجديفًا. ولكنَّ يسوع أتبع الغفران بإقامة المخلَّع فدلَّ على صدق العجيبة الداخليَّة بصدق العجيبة الخارجيَّة. أمّا متّى فبيَّن في إنجيله أنَّ غفران الخطايا لم يتقصر على يسوع، على ابن الإنسان كما دعا نفسه، بل وصل إلى الكهنة. فكتب في نهاية الخبر: "فلمّا شاهد الناس ما جرى، خافوا ومجَّدوا الله الذي أعطى البشر مثل هذا السلطان" (9: 8). جاءت صورتان في صورة واحدة. تعجَّب الناس حين رأوا ما فعل يسوع. ونحن نتعجَّب اليوم، كما تعجَّب المؤمنون الأوَّلون، حين نرى الكاهن أو الأسقف يُدخل إلى الكنيسة ذاك الذي كان عائشًا في الخطيئة. لم يَعُد مخلَّعًا. صار باستطاعته أن يحمل فراشه ويمضي إلى بيته، أو إلى البيت الذي هو كنيسة الله وموضع التئام الجماعة في منطق الإنجيل.

ماذا كان يفعل الكاهن اليهوديّ؟ يقدِّم الذبيحة تكفيرًا عن الخطايا. في ذلك اليوم تُغفَر الخطايا تجاه الله. ولكن إذا لم تكن النيَّة صافية، كأن يقول الإنسان أنا أخطأ ويوم التكفير تُغفر خطاياي، ففي ذلك اليوم لن يكون تكفير عن خطاياه. ونغفر أيضًا الخطايا ضدَّ القريب ولكن شرط المصالحة على ما وصل إلينا في إنجيل متّى: "إذا رحتَ تقدِّم قربانك على المذبح وتذكَّرت أنَّ لأخيك عليك شيئًا، فاتركْ قربانك عند المذبح هناك، واذهب أوَّلاً وصالحْ أخاك، ثمَّ تعالَ وقدِّم قربانك" (5: 23-24).

من الكاهن الأعظم اليهوديّ، من سمعان بن أونيَّا، إلى كاهننا الأعظم يسوع المسيح الذي هو على رتبة ملكيصادق، المسافة شاسعة. فالكاهن اليهوديُّ يقدِّم ذبيحة عن خطاياه أوَّلاً لأنَّه خاطئ، ثمَّ يقدِّم عن خطايا الشعب. أمّا يسوع فما احتاج إلى هذه الذبائح. ثمَّ إنَّ رئيس الكهنة اليهوديَّ كان مجبرًا لأن يعيد هذه الذبيحة مرَّة كلَّ سنة. أمّا يسوع فقدَّم نفسه مرَّة واحدة ونال الخلاص للبشر أجمعين. فهو من حيث مات مات مرَّة واحدة ومن حيث إنَّه حيٌّ فهو حيٌّ إلى الأبد.

ونحن كهنة العهد الجديد نواصل ذبيحة المسيح الواحدة حتّى انقضاء العالم. نبدو حاضرين عند الصليب، مع المؤمنين الذين يشاركون، مع المرضى والأصحّاء، البعيدين والقريبين، الخطأة والأبرار. وكما الكاهن الأعظم ينهي الاحتفال بالبركة، هكذا كهنة العهد الجديد، يحمِّلون المؤمنين سلام الربِّ وبركته، من أحد إلى أحد، ومن يوم إلى يوم، بحيث تبقى ذبيحة المسيح حاضرة في كلِّ أقطار العالم فتغفر لنا خطايانا وخطايا العالم.

الخاتمة

ما أروعه سمعان بن أونيَّا! هو صورة بعيدة عن يسوع المسيح وهو لنا "رئيس كهنة" هذه عظمته. جلس عن يمين عرش الجلال في السماوات، خادمًا لقدس الأقداس والخيمة الحقيقيَّة التي نصبها الربُّ لا الإنسان" (عب 8: 1-2). الفرق شاسع بين الله والإنسان، بين ابن الله وابن هارون. والمسافة أوسع بين خيمة البرِّيَّة التي كانت تُنقَل من موضع إلى آخر، ويمكن أن تقلعها الريح. وبين خيمة الله، جسد المسيح، الهيكل الجديد، الذي لم تبنِه الأيدي، ولا هو من هذا العالم. كانت الخيمة ترمز إلى حضور الله ومثلها الهيكل. أمّا جسد المسيح فهو حضور الله على الأرض بحيث قال الربُّ لتلاميذه: "من رآني رأى الآب". أمّا قدس الأقداس الهيكل فكان موضعًا فارغًا يفترض أن الله يقيم فيه على ما قيل في الكتاب المقدَّس: "أنت إله تسكن في الدجى، في العتمة العميقة". وكان الحجاب الذي يمنع الناس من الاتِّصال بالله. أمّا في موت المسيح، فزال الحجاب وصارت لنا إمكانيَّة الوصول إلى الله بواسطة يسوع المسيح كاهن العهد الجديد. يبقى على الكنيسة التي هي جسده أن تواصل عمله بواسطة المؤمنين، وخصوصًا بواسطة الكهنة الذين اختارهم للخدمة. فما أروعهم وما أروع خدمتهم!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM