من زكريّا إلى يوحنّا : من خادم المذبح إلى خادم الكلمة

(السلام والخير، حزيران 2010)

من زكريّا إلى يوحنّا

من خادم المذبح إلى خادم الكلمة

الخوري بولس الفغالي

وجهان لكاهنين حاولنا التأمُّل فيهما خلال هذه السنة الكهنوتيَّة التي أعلنها قداسة البابا بنديكتس السادس عشر. بيته هو الكنيسة، وحين يريد الناس أن يردُّوا له الزيارة لأنَّه زارهم، يأتون إلى الكنيسة. يسلِّمون عليه، يشاركون الجماعة في القدَّاس وسائر الصلوات. وهذا ما نستطيع أن نقوله بالنسبة إلى كاهن العهد القديم الذي هتف باسمه المزمور: "ما أحبَّ مساكنك يا ربَّ الأكوان! تشتاق وتتوق نفسي إلى ديار الربّ" (84: 2-3). هو يمضي في الليل إلى بيته لينام، أمّا العصفور فلا يترك الهيكل نهارًا وليلاً، ومثله اليمامة: "العصفور وجد له بيتًا واليمامة عشًّا..." (آ4). ويتطلَّع الكاهن إلى شخصٍ مثل صموئيل، إلى حرّاس الهيكل والمنشدين: "هنيئًا للمقيمين في بيتك، فهم على الدوام يهلِّلون لك!" (آ5). أيُّ شرف كبير أن يكون الإنسان خادم المذبح. وفي مفهومنا، إذا كان المذبح يدلُّ على المسيح، فيكون خادم المذبح خادمَ يسوع. هنا نفهم في تراثنا الشرقيّ أنَّنا ننحني أمام المذبح. فالقربان المقدَّس كان يُوضع في "السكرستيّا" ويُحفَظ فقط من أجل المرضى. وهكذا صار المذبح شخصًا حيًّا. إذا شئنا، مَلكًا جالسًا على عرشه والمؤمنون ينحنون أمامه كما كان يفعل إشعيا والآتون إلى الهيكل حين يظهر الربُّ في كلِّ عظمته. فالمذبح يعني الجلجلة، يعني الصلب والموت وقربه القيامة.

*  *  *

ذاك وجه. وهناك الوجه الآخر: الكاهن خادم الكلمة. لماذا يأتي المؤمن إلى الهيكل؟ ليسمع كلمة من لدن الله. ومن يُسمعه إيَّاها؟ الكاهن الذي يستقبله. وتقولون: النصوص الكتابيَّة موجودة، ويستطيع أن يقرأها المؤمن، أيُّ مؤمن، في بيته أو في بيت الله. ولكنَّ الناس لم يكونوا يعرفون القراءة. فالكاهن الذي أعطيَ له أن يتعلَّم، يقرأ لهم الكتاب. ومع ذلك، تبقى الكلمات حرفًا ميتًا. من يعطيها حياة؟ الكاهن الذي يتأمَّل فيها، يصمت لكي يسمع صوت الله يردِّدها في أذنه وفي قلبه. يقرأ النصوص فيرى الله أمامه يُدخله في أعماقها. من المؤسف، مرَّات عديدة نقرأ كلام الله في الكتاب المقدَّس من الخارج، على السطح. نعرفه غيبًا ولكنَّنا لا نسمعه من الذي قاله أوَّل مرَّة. أمّا الكاهن الذي هو خادم الكلمة، فيكون دومًا سامعًا لها. لا في وقت محدَّد. فهذه الكلمة تدلُّ على الله، وهو يتذكَّر ذلك حين يتلو المزمور: "كما أنَّ عين العبد إلى يد سيِّده وعين الأمة إلى يد سيِّدتها، هكذا عيوننا إليك" (123: 2). تكفي المؤمن إشارة لكي يعرف مشيئة الربّ. العبد يخاف. الأمة تخاف. أمّا المقيم في الهيكل فيفرح لإشارة جاءت من الربِّ لكي يلبِّيها بسرعة. فلماذا يكون الملائكة أسرع منه؟ جعل لهم التقليد أجنحة ليدلَّ على سرعتهم في خدمة الربّ. أيكون الكاهن أقلَّ سرعة منهم؟ بل كلُّ مؤمن وكلُّ مؤمنة؟ ويقول المرتِّل في موضع آخر: "تاقت عيناي إلى كلمتك" (119: 82). أو: "تحدِّق عيناي إلى خلاصك، وإلى كلمتك البارَّة" (آ123).

*  *  *

زكريّا، ذكر الربّ. أو: الربُّ يتذكَّر. يتذكَّر حبيبه، ولاسيَّما إذا غاب عنه بعض الوقت. أين هو لا يأتي إلى اللقاء أقلَّه الصباحيّ والمسائيّ، فيشابه المؤمن في الهيكل: "في الصباح باكرًا تسمع صوتي، في الصباح باكرًا أتأهَّب وأنتظر" (مز 5: 4). يشبه الجنديُّ الذي ينتظر أمر اليوم من قائده. من يعلِّمني كيف أعيش اليوم؟ من "يغنِّجني"، "يدلِّلني" كما الأمُّ "تغنِّج" ابنها قبل أن ينطلق إلى المدرسة؟ فالله هو لي الأب والأمّ. يقول: أنا أنتظر! مسكين. فالله سبقك وهو ينتظرك منذ طلوع نجمة الصباح ويتساءل بعض المرّات: أين هو لم يأتِ بعد؟

زكريّا. ذكرُ الربّ. هو يأتي في الصباح يرنِّم لرحمة الربِّ ينشد لعزَّته. وهذا لا يكون في وقت محدود، بل طوال النهار وحتَّى المساء. "يا ربّ، دعوتُك فأسرع إليَّ، أنصِتْ إلى صوت صراخي، لتكن صلاتي كالبخور أمامك، ورفع كفيَّ كتقدمة المساء" (141: 1-2). هذا هو معنى كلام الربّ: "صلُّوا ولا تملُّوا". فالقائم قرب المذبح يكون نهارُه حوارًا متبادلاً مع الله. نهاره! بل ليله أيضًا. فالمزامير تعلن منذ البداية سعادة الذي يلهج بشريعة الربِّ نهارًا وليلاً (1: 2). وإن أحسَّ بحياته الخاطئة، التي لم تكن على قدر المسؤوليَّة، يصرخ: "تحنَّن يا ربّ لأنَّني عليل... أنا في قلق شديد... أنا مُوجَع من النواح. دموعي كلَّ ليلة تفيض وأغمر بها فراشي" (مز 6: 3-7). هل عرفنا يومًا نعمة الدموع، كما عرفها آباؤنا ولاسيَّما العائشون في الصحراء؟ أو التي عرفها أحد الكهنة؟ سأله المعترف: "لماذا تبكي، يا أبي؟" وكان جوابه: "لأنَّك أنت لا تبكي على خطاياك".

زكريّا اسم يرد مرارًا في الكتاب المقدَّس. وهكذا يكون والد يوحنّا المعمدان في سلسلة الذين سبقوه. فهناك الكاهن زكريّا ابن الكاهن يوياداع. ويوياداع هو الكاهن الأعظم الذي أعاد المُلك إلى سلالة داود، بعد أن تسلَّطت عثليا. توفِّي يوياداع "فدفنوه في مدينة داود مع الملوك اعترافًا بفضله... في خدمة الله وهيكله" (2 أخ 24: 16). كانت الأمور كما يرام ما دام يوياداع حيًّا. ولكن بعد وفاته تبدَّلت الأمور: "فأهمل الشعب هيكل الربِّ إله آبائهم وعبدوا الأصنام..." (آ18).

الله لا يرضى بهذا الوضع. قيل: "حلَّ غضبُ الله على يهوذا وأورشليم لمعصيتهم هذه". أرسل الأنبياء فلم يسمعوا لهم. عندئذٍ "استولى روح الله على زكريّا بن يوياداع الكاهن فوقف أمام الشعب وقال لهم: "هذا ما قال الربّ: لماذا تخالفون وصايا الربّ، فتنزلون الشقاء بأنفسكم؟ أهملتم الربَّ فأهملكم الربّ" (آ20). كيف لا يخاف هذا الكاهن؟ ولكن كيف يرضى أن يُهان هيكل الربّ، مذبح الربّ؟ على ما قيل: "الغيرة على بيتك أكلتني" (مز 69: 10). والشعب، وخصوصًا الرؤساء، كيف يرضون عن مثل هذا الكلام؟ فجاءت ردَّة الفعل سريعة: "فثاروا على زكريّا ورجموه بالحجارة بأمر من الملك يوآش، في دار الهيكل" (آ20).

وهكذا صار الكاهن نبيًّا، يحمل الكلمة مهما كلَّفه ذلك. هو خادم بيت الله، فكيف يقبل أن يصير هذا البيت "مغارة لصوص". أما هكذا تصرَّف يسوع حين رأى "مامون"، إله المال، مسيطرًا في أروقة الهيكل؟ وماذا فعل؟ "أخذ يطرد الذين يبيعون ويشترون، وقلب مناضد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام، ومنع كلَّ من يحمل بضاعة أن يمرَّ من داخل الهيكل، وأخذ يعلِّمهم فيقول: بيتي بيت صلاة لجميع الأمم" (مر 11: 15-17). أما هكذا صارت مزاراتنا وأماكن العبادة عندنا، خصوصًا في بعض المناسبات. فكيف يرضى الكاهن بذلك؟ وكيف يطالب بأن يرتفع المدخول في "الصينيَّة" وفي مناسبات أخرى؟

*  *  *

وهناك زكريّا آخر، ابن برخيا، الذي قُتل بين المعبد والمذبح (مت 23: 35). وزكريّا ثالث كان أحد رؤساء الهيكل في أيَّام الملك يوشيّا (2 أخ 35: 8). قد يكون رافق إصلاح الذي قام به هذا الملك التقيّ، حين جمع كهنة المعابد المشتَّتة وأتى بهم إلى أورشليم. وهناك أكثر من زكريّا بين اللاويِّين، أي الأسرة الكهنوتيَّة المرتبطة بلاويّ: واحد حمل تابوت العهد، يحمله، يحرسه (1 أخ 15: 18)، ويلعب بالرباب على النغم العالي مع سائر اللاويِّين (آ20)، تمجيدًا لله. وزكريّا آخر (آ24) ينفخ بالبوق قدَّام تابوت العهد الذي يدلُّ على حضور الله وسط شعبه. وزكريّا ثالث كان في زمن يوشيّا عن ترميم الهيكل في زمن يوشيّا (2 أخ 24: 12). وهناك لاوي من بين آساف اسمه زكريّا، شارك في تطهير الهيكل وتدشينه في أيّام الملك حزقيّا. يقول 2 أخ 29: 16: "ودخل الكهنة إلى داخل الهيكل ليطهِّروه. فأخرجوا كلَّ رجاسة وجدوها في الهيكل إلى ساحته، وحمله اللاويِّون من هناك إلى وادي قدرون" ، الذي يقع بين أورشليم وجبل الزيتون، والذي فيه تُرمى النجاسات.

هذه هي سلالة زكريّا الروحيَّة. هو في القدس. أي الموضع المقدَّس من الهيكل الذي لا يدخله أحدٌ من العوامّ. عمله عملان: إحراق البخور ثمَّ تقدمة الذبائح. فالبخور الآتي من جنوب الجزيرة العربيَّة، استعمله المصريُّون كلَّ يوم إكرامًا للإله، وإنعاشًا لتمثاله. واستعمله بنو إسرائيل منذ الحقبة الملكيَّة، في هيكل أورشليم، حيث الكلام عن ذبيحة البخور كلَّ يوم، صباحًا ومساء، وذلك على مذبح العطور.

قال الربُّ لموسى: "تقيم المذبح تجاه الغطاء الذي على تابوت العهد، حيث أجتمعُ بك، فيحرق عليه هرون بخورًا عطرًا كلَّ صباح حين يصلح السرج، وفي العشيَّة حين يرفعها إلى مكانها، فيكون بخورًا دائمًا أمام الربِّ مدى أجيالكم" (خر 30: 6-8). هو شرف كبير أن يقوم الكاهن بهذه العمل الجليل. وهكذا اعتبر زكريّا أنَّ الربَّ ميَّزه حين وقعت عليه القرعة "ليدخل هيكل الربِّ ويحرق البخور" (لو 1: 9). زكريّا، هذا البارُّ العائش في حضرة الله والعامل بأحكامه ووصاياه، يُقيم وسط الكهنة زملائه وينتظر خلاص الربّ. إنَّه رجل الصلاة، وقد قال له ملاك الربّ: "سمع الله دعاءك" (آ13). طلب أوَّل، أن يكون له ولد. وربَّما يكون هذا الولد المسيح. فإنَّ كلَّ امرأة، وكلَّ أسرة، كانت تنظر أن يكون المسيح منها. أمّا زكريّا فنال نصف مبتغاه: فابنه هو ذاك الذي أعدَّ الطريق للمسيح، هو "صديق العريس" (يو 3: 29).

والكاهن هو من يقدِّم الذبيحة، ممّا يعني أنَّه يكون طاهرًا. كيف يتمُّ ذلك؟ يُنحَر الحيوان في رواق الرجال، فيأخذ الكاهن الدم ويرشُّ على المذبح كما على الحاضرين. يأتي المؤمن بذبيحته وكأنَّه يقدِّم نفسه، وما يدلُّ على ذلك هو أنَّه يضع يده على رأس "التقدمة" ويعلن أمانته لله. فالذبيحة ليست عملاً سحريًّا، بل هي "قلب متَّضع، منسحق قدَّام الله". في الذبيحة يتشارك الكاهن والمؤمن، بحيث لا تكون التقدمة أمرًا خارجيًّا يقوم به الغنيُّ ويمنِّن الله، دون أن يكون تبدُّل في حياته، على ما نقرأ في مز 50: 8 ردَّ الربُّ على هؤلاء الآتين: "لا آخذ من بيوتكم عجولاً، ولا من حظائركم تيوسًا". أمّا الكاهن فيقوم بعمله بإيمان وهو يستقبل الآتي إليه باسم الربّ. فكلُّ ما يعمله على سبيل العادة، وطلبًا للربح الذي يمكن أن يناله، وطمعًا برضى أصحاب المال والنفوذ، يجعله في جملة الخاطئين ومنتهكي الأقداس. لهذا نسمعه يلوم كهنته ويوبِّخهم: "أين كرامتي؟ أين مهابتي" (ملا 1: 6). ماذا يقولون للربّ: "تعبنا من هذا كلِّه" (آ13). ويقول لهم: "تتأفَّفون" من هذه الأعمال التي هي امتياز للكهنة. هل تندمون لأنَّكم أخذتم هذه الطريق؟ هل تريدون أن تتراجعوا؟

*  *  *

ولكن يجب أن نعرف أنَّ الذبيحة ليست العمل الأوَّل التي يقوم بها الكاهن في شعب الله. فهي تأتي بعد استقبال المؤمنين والتكلُّم معهم بكلام الله. في الأساس، يسأل المؤمن كيف يتصرَّف، ولاسيَّما في شعائر العبادة. وبعد ذلك، هو تعليم من قبل الكهنة في مواضيع الأخلاق والديانة. قال ملاخي في هذا المجال: "شفتا الكاهن تحفظا المعرفة، ومن فمه تُطلَب الشريعة، لأنَّه رسول الربِّ القدير" (2: 7).

مرَّتين خسر الكهنة هذا الامتياز، رسالة التعليم. مرَّة أولى، حلَّ الأنبياء محلَّهم لأنَّهم صاروا في خدمة الملك، كما أنَّ هؤلاء الأنبياء قسوا على الكهنة الذين اختبأوا وراء أمور العبادة ونسوا واجب التعليم. هناك مثل صارخ يدلُّ على "انحطاط" الكهنة الذين صاروا "جاهلين". عُثر على كتاب الشريعة في زمن يوشيّا الملك. ومن عثر عليه؟ حلقيا الكاهن الأعظم. وتساءلوا: ماذا يفعلون؟ قال الملك لعظيم الكهنة وللمسؤولين في الهيكل: "اذهبوا اسألوا الربّ" (2 مل 22: 13). أما يعرف الكاهن أن يسمع الربّ؟ يبدو أنَّ الأمر صعب عليه. لهذا مضى مع رفاقه "إلى خلدة النبيَّة" (آ14). وهي أخبرتهم بما يريد الربّ.

ومرَّة ثانية خسر الكهنة دورهم في التعليم، وذلك بعد العودة من المنفى. وفي زمن المسيح، سرف نرى الكتبة: ينسخون الشريعة، يقرأونها. وهكذا صاروا يعرفونها ويعلِّمونها. صاروا معلِّمي الشريعة، يترجمونها للناس ويشرحونها. هم من العوامّ، لا من الكهنة. عرفوا الفرائض الموسويَّة ومتطلِّباتها فيأتي الناس إليهم.

الكتبة يعلِّمون الشريعة، والفرِّيسيّون يعيشونها بكلِّ دقائقها. والكهنة؟ يقومون بأعمال مادِّيَّة: الذبيحة، حرق البخور وغيرهما من الأمور. ويؤلِّفون مع "العلماء" السنهدرين أو المجلس الأعلى. وكان لهم "شرف" الحكم على يسوع، لا على يسوع فقط، بل على "الأنبياء والمرسلين" (مت 23: 37)، في كلِّ زمان ومكان.

*  *  *

كان زكريّا كاهنًا ويبدو أنَّه كان مميَّزًا. لهذا نال نعمة كبيرة: اللقاء بالربّ: "فظهر له ملاك الربِّ واقفًا عن يمين مذبح البخور" (لو 1: 11). غير أنَّ إيمانه كان ضعيفًا: "ستُصاب بالخرس، فلا تقدر على الكلام إلى اليوم الذي يحدث فيه ذلك، لأنَّك ما آمنتَ بكلامي، وكلامي سيتمُّ في حينه" (آ20).

صار زكريّا آية للجموع التي كانت تنتظر في الخارج، "وتتعجَّب من إبطائه داخل الهيكل" (آ21). يا ليته قرأ خبر إبراهيم وسارة، اللذين كبرا بالسنّ ومع ذلك وعدهما الله بولد هو إسحاق. ضحكت سارة. أضحكة عدم الإيمان أم ضحكة الفرح؟ وهذا ما يدلُّ عليه لفظ "سحق" أي ضحك. قالت الرسالةُ إلى العبرانيِّين عنها: "بالإيمان نالت سارة نفسُها القدرة على أن تحبل مع أنَّها عاقر تجاوزت السنّ، لأنَّها اعتبرت أنَّ الله الذي وعدَ هو أمين" (11: 11).

وعاد زكريّا إلى الإيمان يومَ وُلد يوحنّا: "انفتح فمه وانطلق لسانه فتكلَّم ومجَّد الله" (لو 1: 64). وتكلَّم عن الطفل الذي "يُدعى نبيَّ العليّ" (آ76). وهكذا نصل إلى يوحنّا، الذي يعني اسمه حنان الربِّ ونعمته ورأفته. رأفته بزكريّا، وخصوصًا بإليصابات التي أعلنت: "هذا ما أعطاني الربُّ يوم نظر إليَّ ليزيل عنِّي العار من بين الناس" (لو 1: 25). رأفة الله بشعبه الذي ينتظر الخلاص لأنَّ يوحنّا "يتقدَّم الربَّ ويهيِّئ الطريق له" (آ76). قال زكريّا: "إلهنا رحيم رؤوف" (آ78). وهذا ظهر من خلال كرازة يوحنّا.

كان الوالدُ خادمَ المذبح. أمّا الابن فهو خادم الكلمة. راح إلى البرِّيَّة واختبرها. اختبر شعبه، ولكنَّه تعدَّى نظرة شعبه "الذي قسَّى قلبه" (رو 11: 25). جاء من البرِّيَّة، شأنه شأن إيليّا، وردَّد كلام إشعيا بعد أن طبَّقه على نفسه وعلى ذلك الذي أتى يبشِّر به: "صوتُ صارخٍ في البرِّيَّة: هيِّئوا طريق الربِّ، واجعلوا سبله مستقيمة" (مت 3: 3). هو الرسول قدَّام الله، هو "الملاك" بحسب كلام النبيّ ملاخي. فالملاك يسبق الربَّ ويدعو الناس لكي يستعدُّوا لاستقباله. وكيف يكون هذا الاستقبال؟ أبإحراق البخور؟ لا يقول الإنجيل شيئًا. أبتقدمة الذبائح؟ لا مكان للذبائح في حياة يوحنّا مع أنَّه ابن كاهن، ومن المفروض أن يكون كاهنًا. إذًا، كيف يكون الاستعداد؟

بالتوبة، بالعودة عن الخطايا والعودة إلى الله. بتبديل الحياة، يبقى كلامًا بكلام. والوعظ الذي لا يكون "سيفًا ذا حدَّين"، يجرح قلب الإنسان وينبِّهه إلى حضور الله، يكون بعض المخمل الذي يدغدغ الآذان ويُفرح السامعين ويبقيهم في جمودهم وتخديرهم. نأتي إلى القدَّاس ونمضي، دون أن يتبدَّل شيء عندنا: كلام ناعم، رقيق، يتكرَّر ويتكرَّر. لا نزعج أحدًا. الجميع راضون عن كاهنهم، يمتدحونه. مسكين. "لا يهشّ ولا ينشّ". وفي أيِّ حال، هو لا يعرف الكثير. ثمَّ يخاف إن هو قال الحقيقة أن نقول له: أيُّها الطبيب طبِّب نفسك. "أنت يا من يعلِّم غيره، أما تعلِّم نفسك؟ تنادي: لا تسرق، وأنت تسرق؟ تقول: لا تزني، وتزني؟" (رو 2: 21-22).

لم يكن يوحنّا كذلك. هو قاسٍ على قساة القلوب، الراضين عن نفوسهم المعتبرين نفوسهم أبرارًا. وهو رحيم مع الخطأة الآتين صادقين يطلبون النصيحة. كلَّم الفرِّيسيِّين (أصحاب التقوى الظاهرة) والصدُّوقيِّين (تسلَّموا مقادير الهيكل ومنهم رؤساء الكهنة) فقال لهم: "يا أولاد الأفاعي، من علَّمكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟" (مت 3: 7). هو عقاب جهنَّم ينتظركم إذا كنتم لا تبدِّلون حياتكم، بل عقليَّتكم كلَّها. تتكبَّرون، تتظاهرون أمام الناس. يا ليتكم تنزلون من تشامخكم وتعرفون أنَّكم لستم أفضل من الناس. إذا نلتم وظيفة أو "شارة" خارجيَّة. الراهب ينسى أنَّه مؤمن بين المؤمنين. وبما أنَّه راهب تُطلَب منه القداسة، وهكذا "يتفوَّق" على المؤمنين إن دعونا هذا "تفوُّقًا". إنَّ القدِّيس أوغسطين كان يقول للمؤمنين: أنا واحد منكم. مع أنَّه الأسقف وراعي النفوس. ما أراد أن يكون فوق الكهنة وكأنَّه آتٍ من عند الله. بل جعل "بيته" ديرًا يجتمع فيه مع الذين يعاونونه في البشارة، فلا يتميَّز عنهم بشيء حتَّى بلباسه. أما طلب أحد البابوات من الكهنة أن يتميَّزوا عن المؤمنين بحياتهم، لا بلباسهم؟ ويسوع، ماذا كان لباسه؟ لباس كلِّ شابٍّ في أيّامه. فاللباس، كما قيل، لا يصنع الراهب ولا الكاهن ولا الأسقف... اللباس إشارة خارجيَّة تدلُّ على الداخل. والويل لنا إن اختلف الخارج عن الداخل. عندئذٍ يحكم علينا يسوع الحكم القاسي: ظاهر الكأس غير باطنه (مت 23: 20). عندئذٍ نشبه القبور المطليَّة بالكلس: الظاهر جميل. أمّا الباطن... (آ27). الويل لنا إن أردنا أن "نظهر للناس صالحين، ويكون باطننا كلُّه رياء وشرّ" (آ28).

وإلى ماذا دعا يوحنّا؟ الثمر الذي يبرهن على التوبة. في الرياضات الكهنوتيَّة أو الرهبانيَّة، نعرف أن نشير إلى الآخرين الذين هم "خطأة". أمّا نحن، فهذا الكلام لا يتوجَّه إلينا. افتخر اليهود في أيّام يوحنّا بأنَّهم أبناء إبراهيم. المسافة بعيدة بين الاسم والشخص. هل كانوا حقًّا أبناء إبراهيم. فكان إيمانهم عميقًا مثل إيمانه؟ والمسيحيُّون يفتخرون بأنَّهم "معمَّدون"، وهم على الهويَّة "مسيحيّون" من طائفة من الطوائف. ماذا ينفع كلُّ هذا إذا كان لا نشرِّف بحياتنا الاسم المسيحيّ؟ والكاهن يفتخر بكهنوته، بالمسحة التي بها مُسحَتْ يداه. أخذه الله من بين الناس لما هو لله. هل يجسر أن يقول صادقًا: أنا أوَّلاً لله؟ على  مثال ما قال المسيح لوالديه: "أما تعلمان أنَّه يجب عليَّ أن أكون لما هو لأبي؟" (لو 2: 49). والراهب يفتخر بنذوره: بالفقر والطاعة والعفَّة. هل يحقُّ له بذلك؟ فإن كان مثل القدِّيس شربل والأخ إسطفان وأبينا يعقوب الكبُّوشيّ، فهنيئًا له. وإلاَّ يسمع، ويسمع كلُّ خاطئ ولاسيَّما إذا كان مسؤولاً: "ها هي الكأس على أصول الشجر، فكلُّ شجرة لا تعطي ثمرًا جيِّدًا تُقطَع وتُرمى في النار" (مت 3: 10).

إذا كنّا "قمحًا" ينقِّينا الله ويجعلنا من مخزنه. ولكن إن كنّا "تبنًا"، فمصيرنا الحريق (آ12). إنَّ سفر الحكمة يكون قاسيًا على الحكَّام وأصحاب السلطة، وعقابهم يكون مضاعفًا. أمّا المؤمنون العاديُّون، فالربُّ يرحمهم كما رحم أهل نينوى وما أراد لهم الموت، مع أنَّ يونان طالب بذلك. وبالنسبة إلى يوحنّا المعمدان، نرافقه وهو يكلِّم الآتين إليه من صغار القوم. أوَّل سؤال جاءه من الجموع: "ماذا نعمل؟" (لو 3: 10). الجواب: المقاسمة، المشاركة. معك ثوبان، فأعطِ من ليس له ثوب. عندك طعام، أطعِمْ من ليس عنده ما يأكل. أمّا الفقراء فهم مستعدُّون دومًا للعطاء. يكفي أن نذكِّرهم بذلك. أمّا الذين كثرت أموالهم فهم يتعبَّدون لها ولا يتخلُّون عنها في أيِّ ظرف كان.

والسؤال الثاني جاءه من العشّارين، من الذين يجمعون الضرائب (العِشر) من أجل السلطة الحاكمة. قالوا له: "يا معلِّم". واستعدُّوا أن يتعلَّموا منه وهو الفقير الفقير الذي "لا يأكل ولا يشرب". "ماذا نعمل؟" وجاء الجواب: "لا تجمعوا من الضرائب أكثر ممّا فُرض لكم" (آ13). فإن أخذتم أكثر، كنتم سارقين. والجنود قال لهم: اقنعوا بأجوركم (آ14). يفرضون "الخوَّة" على الضعفاء. يستغلُّون الذين يطلبون منهم خدمة، مع أنَّهم ينالون أجرهم من الشعب لكي يخدموا الشعب. ولكن انقلبت الأمور: يجب على الشعب أن يشتغل لأجلهم.

ما هو المبدأ؟ "يرى كلُّ بشر خلاص الربّ" (لو 3: 6). ذاك ما قاله يوحنّا، مردِّدًا كلام النبيِّ إشعيا (40: 5). فالله ما أرسل ابنه إلى العالم ليهلك العالم، بل ليخلِّص العالم. لهذا يكفي أن نفتح قلوبنا على خلاصه. أمّا قساة القلوب فهم الذين يرفضون الخلاص وما يتضمَّنه من توبة. جاؤوا إلى يوحنّا لكي يعتمدوا فيدلُّوا على التبديل في حياتهم. ولكنَّهم أتوا "تظاهرًا". فهم غير مستعدِّين! هم مراؤون. يقولون شيئًا ويفعلون شيئًا آخر. وهكذا يجعلون نفوسهم خارج الخلاص، خارج العرس الذي يدعو إليه الربُّ جميع البشريَّة. ويطلب من كهنته أن يحملوا هذه الدعوة: "أعددتُ وليمتي، وذبحتُ أبقاري وعجولي المسمَّنة، وهيَّأتُ كلَّ شيء، فتعالوا إلى العرس" (مت 22: 4). هناك من يتهاون. يمضي إلى حقله، إلى تجارته. وعندما يعود يجد الباب مقفلاً.

*  *  *

زكريّا من جهة. يوحنّا من جهة ثانية. واحد هو خادم المذبح، والهيكل، والكنيسة، يريدها جميلة، نظيفة، مزيَّنة مثل عروس ماضية للقاء عريسها. وآخر خادم الكلمة، وفي النهاية خادم يسوع المسيح الذي هو الكلمة الإلهيّ. قال يوحنّا عن نفسه: "له (ليسوع)، هو أن يزيد، ولي أن أنقص" (يو 3: 30). الويل للكاهن الذي "يزيد"، "يكبر" مع أنَّ الربَّ أراده خادمًا. الويل له إن استفاد من مركزه "الروحيّ" لينعم بأمور بشريَّة. وجه زكريّا هو وجه العائش بحسب وصايا الله. مثله يكون خادم المذبح ووجه يوحنّا هو وجه "الصوت الصارخ" الذي يسير أمام الملك، أمام يسوع المسيح، فيبشِّر بقدومه. أما هكذا يكون الكاهن في كنيسة الربّ، في بيت الله، في شعب الله؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM