حزقيال بن بوزي: الكاهن والنبي

(السلام والخير، شباط، 2010)

حزقيال بن بوزي

الكاهن والنبيّ

الخوري بولس الفغالي

حين نتجوَّل في الكتاب المقدَّس، العهد القديم، نكتشف ثلاث مراحل في العلاقة بين الكهنة والأنبياء. على مستوى أسفار الشريعة الخمسة، لا كلام عن "النبيّ" إلاَّ نادرًا. وعلى مستوى الأسفار النبويَّة التي تبدأ مع يشوع والقضاة وصموئيل والملوك، وتتواصل مع إشعيا وإرميا وحزقيال والاثني عشر، يظهر الأنبياء الذين يكونون قساة على ممارسات الكهنة وعلى شعائر العبادة حيث الشعب يكرِّم الربَّ بشفتيه ويكون قلبهم بعيدًا عنه. وبعد المنفى يعود الدور للكهنة، فيهتف المرتِّل: "لا نرى علامة ولم يبقَ نبيٌّ، ولا عندنا من يعرف إلى متى" (مز 74: 9). ويقول سفر المكابيّين الأوَّل: "وإنَّ اليهود وكهنتهم سَرَّهم أن يكون سمعان رئيسًا عليهم وكاهنًا أعظم مدى الحياة إلى أن يقوم نبيٌّ أمين يقودهم ويهتمُّ بالهيكل..." (14: 41-42). أمّا حزقيال فجمع بين الكهنوت والنبوءة. منذ البداية قال عن نفسه: "أنا حزقيال بن بوزي الكاهن، وكانت يد الربِّ عليَّ" (حز 1: 3). وحين دعاه الربُّ أرسله إلى الشعب وقال له: "سواء سمعوا أو لم يسمعوا، لأنَّهم شعب متمرِّد، فسيعلمون أنَّ بينهم نبيًّا" (2: 5). وهكذا يكون كلامنا عن حزقيال الكاهن والنبيّ. فهو الكاهن في اهتمامه بالهيكل وبقداسة الشعب. وهو النبيُّ حين يهتمُّ بتعليم الشعب ولو كانوا شعب تمرُّد لا يريدون أن يسمعوا، فيلتقي مع إشعيا الذي اختبر "شعبًا قاسيًا، بأذنين مثقلتين، بعينين مغمَّضتين، بقلب لا يفهم ولا يريد الرجوع إلى الربّ" (إش 6: 10).

  1. حزقيال الكاهن

حزقيال كاهن في أورشليم، معنى اسمه: الله يجعل الشخص قاسيًا، قويًّا. وضع الربُّ يده عليه فصار يخصُّه، فصار له. هو كاهن ابن كاهن، لأنَّنا نعرف أنَّ الكاهن يُولَد كاهنًا. كما نعرف أنَّ هناك عائلة كهنوتيَّة ترتبط بهارون. هذا ما نقرأ في سفر الخروج: "خذْ من بني إسرائيل هارون أخاك وناداب وأبيهو وإلعازر وإيثامار ليكونوا كهنة لي. واصنع ثيابًا مقدَّسة لهارون أخيك، للكرامة والجلال" (28: 1-2). ويتواصل الكلام: "ولبني هارون تصنع قمصانًا وأحزمة وقلانس للمهابة والجلال. وهذه يلبسها هارون وبنوه معه، وتمسحهم وتقلِّدهم وظيفتهم وتكرِّسهم ليكونوا كهنة لي" (28: 40-41).

من نسل هارون كان حزقيال بعد إصلاح يوشيّا الذي جعل كهنة أورشليم مسؤولين وحدهم عن الذبائح، وجعل كهنة المعابد الأخرى عاملين بإمرة الكهنة. ونحن نتخيَّل هذا الذي سيكون أيضًا نبيًّا في لباسه الكهنوتيَّ "بكلِّ مهابة وجلال"، على ما صوَّر ابن سيراخ سمعان الكاهن الأعظم (50: 1ي) أو إنجيل لوقا، زكريّا والد يوحنّا المعمدان: "وبينما زكريّا يتناوب للخدمة مع فرقته ككاهن أمام الله... دخل هيكل الربِّ وأحرق البخور، وكانت جموع الشعب تصلِّي في الخارج عند إحراق البخور" (لو 1: 8-10).

فاهتمام الكاهن الأوَّل شعائر العبادة. فهو الذي يقدِّم جميع الذبائح، كما يذبح حمل الفصح الذي كان في الأصل عمل ربِّ البيت. فمنذ بداية سفر اللاويِّين تأتي أوامر الربِّ لموسى حين يقرِّب المؤمن قربانًا للربِّ: "يقرِّب بنو هارون الكهنة الدم، ويرشُّونه على أربعة جوانب المذبح الذي عند باب الخيمة" (لا 1: 5). وإن قدَّم بعض المؤمنين بعض الحنطة "يجيء به إلى بني هارون الكهنة، فيأخذ الكاهن ملء قبضته عيِّنة من الدقيق والزيت وكلِّ اللبان ويوقدها على المذبح وقيدة ترضي رائحتها الربَّ وتذكِّره بمقدِّمها. وما فضل من التقدمة يكون لهارون وبنيه" (لا 2: 2-3). فخادم المذبح يعيش من المذبح.

حياة هادئة، مطمئنة، لا تعب فيها، والمؤمنون يؤمُّون الهيكل أقلَّه ثلاث مرَّات في السنة. بمناسبة الحجِّ في أعياد الفصح والأسابيع والمظالّ. أمَّا همُّهم الأوَّل فالطهارة لكي يستطيعوا أن يشاركوا في خدمة الهيكل "لأنَّ زيت مسحة الربِّ عليه" (لا 10: 6). وجاءت الفرائض المختصَّة بقداسة الكهنة، والقداسة هنا تعني قبل كلِّ شيء أنَّ الكاهن صار في العالم القدسيِّ وانفصل عن العاديِّ والدنيويِّ: لا يتنجَّس أحد من الكهنة بدفن ميت من شعبه (لا 21: 1). لا يحلقون شعرهم ولا يخدشون خدشًا في أجسامهم (آ5). والمبدأ: "يكونون مقدَّسين لله ولا يدنِّسون اسمه" (آ6). وتتواصل المحرَّمات على الكاهن: "مَن كان فيه عيب من نسلك (يا هارون)، فلا يقترب ليقدِّم طعام إلهه" (آ17)، أي الذبيحة. في هذا المجال، نفهم مثل السامريِّ الصالح: لم يقترب الكاهن ولا اللاويُّ من الجريح، لأنَّ الدم ينجِّس النسل الكهنوتيَّ فلا يستطيع أن يقترب من المذبح (لو 10: 31-32).

مثل هذه الحياة لا يقبل بها الربُّ لكاهنه. لهذا "كانت يده عليه". فحين نعرف أنَّ الفصول العشرة الأولى من سفر اللاويِّين تفصِّل الأمور المتعلِّقة بالذبائح ولا تذكر صلاة ترافق الذبائح، كما لا تحدِّد وظيفة التعليم المفروضة على الكهنة، نفهم كلام النبيِّ حجَّاي: "هذا الشعب وهذه الأمَّة في نظري، وجميع أعمال أيديهم وما يقرِّبونه لي هناك على المذبح فهو نجس" (2: 14). فأين هم الكهنة لا يعلِّمون؟ وقال ملاخي عن الكاهن: "شريعة الحقِّ كانت في فمه ولا جور في شفتيه. سار معي بالسلامة والاستقامة وردَّ كثيرًا من الناس عن الإثم. شفتا الكاهن تحفظان المعرفة، ومن فمه تُطلَب الشريعة لأنَّه رسول الربِّ القدير" (2: 6-7).

غير أنَّ الكهنة اهتمُّوا بالذبائح والطقوس لما فيها فائدة، ونسوا واجبهم الآخر، ألا وهو حمل كلام الله. لهذا حلَّ محلَّهم اللاويُّون والمغنُّون، فتقاسم بنو لاوي العمل: للكهنة الطقوس وللاويِّين التعليم بعد أن صارت القسمة تامَّة بعد إصلاح الملك يوشيّا. أما يمكن هذا الكلام أن يتوجَّه إلى الكهنة في أيَّامنا؟ اهتمام بالطقوس والتساعيّات والزيّاحات وعرض القربان المقدَّس، تنظيم القدَّاس والجنَّاز وإعطاء سرَّي العماد والزواج. وأين الحضور الكهنوتيُّ، أي حضور "الأب" وسط أولاده؟ ومائدة الكلمة تغيب مرارًا لأنَّها تحتاج إلى تهيئة واستعداد. أمَّا ذبيحة القدَّاس فلا تطلب كثير عناء لهذا نجعلها في كلِّ احتفالاتنا وتجمُّعاتنا. فهل نتعجَّب بعد ذلك أن يتركنا المؤمنون الذين اعتادوا ارتياد كنائسنا، ويمضوا إلى "كنائس" أخرى يحسُّون فيها بدفء الأخوَّة ويسمعون كلام الله؟ فهم يستطيعون أن يقولوا لنا: "طلب الأولاد خبزًا ولم يكن من يعطيهم" (مرا 4: 4).

  1. يا ابن البشر

هكذا اعتاد الله أن ينادي حزقيال. هو إنسان من لحم ودم، إنسان ضعيف لا يستطيع أن يقف على رجليه تجاه مجد الله بما يحمل من رعب. ومع ذلك، فالله يدعوه من أجل رسالة في الشعب. هو اختيار خاصٌّ بين كهنة عديدين لا نعرف عنه شيئًا في تاريخ شعب الله. إذا كان الكهنة ككهنة وُضعوا جانبًا وكُرِّسوا لخدمة الربِّ، فحزقيال اختير من بين الكهنة. إنَّ هذا الكاهن "تميَّز" عن سائر الكهنة، ممَّا يعني مسؤوليَّة كبيرة. أمَّا خبر دعوة حزقيال فيأتي في شكلين: الأوَّل، رؤية العجلة أو المركبة. والشكل الثاني، رؤية اللفيفة أو الورقة التي كُتبت عليها أمور كثيرة، فطُلب من حزقيال أن يأكلها.

في الرؤية الأولى، رأى حزقيال في سحابة تُنيرها البروق أربعة أحياء: رأس إنسان، جناحَي نسر، أقدام ثور، ذنب أسد. الكون كلُّه حاضر هنا بأقطاره الأربعة. والكروبيم، كما رآهم حزقيال في الهياكل البابليَّة، يُسندون قبَّة يستند عليها عرش الله. هي رؤية شبيهة بتلك التي رآها إشعيا: مجد الربِّ يملأ الأرضَ كلَّها (إش 6: 3). وعند حزقيال، مجد الربِّ يتجلَّى من خلال العاصفة: "مثل منظر قوس قزح في الغيم، في يوم ماطر، هكذا كان النور من حوله" (حز 1: 28). وماذا كانت ردَّة الفعل عند هذا المنظر الذي يشبه مجد الربِّ؟ "فلمّا رأيتُه سقطتُ على وجهي ساجدًا وسمعتُ صوتًا يتكلَّم".

الرهبة أساسيَّة في حياة هذا الكاهن وفي حياة كلِّ كاهن. وكم هو صعب حين نرى الكاهنَ يعتاد على الأسرار التي يمارسها، ولاسيَّما سرِّ الإفخارستيّا. أيُّ مجد إلهيٍّ مثل هذا المجد حين يقول الكاهن: هذا هو جسدي، هذا هو دمي. هو ابن الله بلاهوته وناسوته، بكلِّ قدرته وعظمته حاضر هنا. ونحن نحسب هذا الحضور أمرًا عاديًّا. هل نسينا أنَّ الله نار آكلة؟ (إش 30: 27). منها خاف موسى، وكذلك جدعون ووالدا شمشون. أمَّا إشعيا فقال: "ويل لي! هلكت!" والكاهن ألا يرتهب؟ فكيف نريد للمؤمنين أن يقتنعوا بالرسالة التي نحمل؟

أمام الله هو السجود. هكذا فعل حزقيال واستعدَّ لسماع نداء الربّ. ومثله سيفعل شاول (بولس) على طريق دمشق: "يا ربّ، ماذا تريد أن أعمل؟" (أع 9: 6). حين عرف أنَّ الربَّ هو من ظهر عليه "بدا مرتعبًا، خائفًا". هل نستعدُّ نحن أن نسمع صوت الله ينادينا كما نادى حزقيال؟ "يا ابن البشر، سأُرسلك إلى بني إسرائيل، إلى شعب تمرَّدوا عليَّ وعصوني، فتقول لهؤلاء البنين..." (حز 2: 3-4). هذا التدخُّل في حياة الكاهن، أمرٌ مزعج من الوجهة البشريَّة. أما الأفضل أن تبقى حياته هادئة في رتابتها، بحيث تمتدُّ أيّامه في شيخوخة تشبه شيخوخة الآباء؟ أما قال أحد الكهنة: أودُّ أن أنهي أيَّامي في هذه الرعيَّة التي بدأت فيها؟ وهكذا يموت هو وتكون الرعيَّة ماتت قبله. كم نكون سعداء إن حرَّكَنا الربُّ وما تركَنا نيام ونرتاح! والويل لنا إن لبثنا في غفوتنا وما عرفنا مثل الرسول "أن نعاني كلَّ يوم من اهتمام بجمع الكنائس" (2 كو 11: 22). رعيَّتي تكفيني وتفيض وأنا بألف خير. ولا أريد البتَّة أن أبدِّل مركزي ولا طريقة رسالتي. حينئذٍ أكون "ذلك الخادم الشرِّير" (مت 24: 48).

ولكنَّ حزقيال قبل التحدِّي، وترك حياة الكهنوت الهادئة ومضى في طريق المنفى مع الذين مضوا إلى بابل بعد هزيمة أورشليم سنة 597 ق.م.

وتحدَّث حزقيال عن دعوته في الرؤية الثانية: "يا ابن البشر، اسمع ما أكلِّمك به ولا تكن مثل هؤلاء المتمرِّدين" (2: 8). هؤلاء الرافضين أن يسمعوا. قال الربُّ في سفر الرؤيا: "ها أنا واقف على الباب أقرعه، فإن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب دخلتُ إليه وتعشَّيت معه وتعشَّى هو معي" (3: 20). الربُّ يقرع الباب. الربُّ ينادي كاهنه، ينادي كلَّ واحد منّا، أمَّا الحبيب فيعرف أنَّ حبيبه آتٍ قبل أن يقرع الباب. إلاَّ إذا نام ونسيَ لذَّة الانتظار. والإنسان يسمع أو لا يسمع، إلاَّ إذا كان لا يريد أن يسمع. ذاك هو وضعنا مرَّات عديدة. والأنبياء اختبروا هذا الصمم. والمرحلة الثالثة، يفتح الباب إلاَّ إذا كان رافضًا، متمرِّدًا. إلاَّ إذا رفض أن يتحرَّك مثل عروس نشيد الأناشيد وفي أيِّ حال، أكثر من مدعوٍّ حاول أن يتهرَّب، ونحن لسنا أفضل منهم. وأوَّلهم موسى الذي أطلق العذر بعد العذر. وفي النهاية قال: "يا ربّ، أرسل أحدًا غيري" (خر 4: 13). أراد أن يرفض مثل هذا الشرف الرفيع! وإرميا نفسه أعلن أنَّه صبيٌّ. فماذا سوف يفعل حزقيال؟ وأنا ماذا أفعل؟

قال الربُّ لحزقيال: "كلْ هذه الورقة". فأطاع النبيُّ "فأكلتُها فصارَت في فمي حلوة كالعسل" (3: 3). ما اكتفى النبيُّ بأن يسمع الكلمة وينقلها إلى الشعب، بل أكلها فصارت جزءًا منه. عندئذٍ قيل له: "يا ابن البشر، اذهب إلى بيت إسرائيل وكلِّمهم بكلامي" (آ4). وتواصل الكلام: "يا ابن البشر، جميع الكلام الذي أكلِّمك به، احفظه في قلبك واسمعه بأذنيك" (آ10).

مهمَّة صعبة وُضعت أمام حزقيال. هو يُرسَل إلى شعبه الذي فهم لغته. ولكنَّ هذا الشعب لا يريد أن يفهم. ويقول له الربُّ: "فلو أرسلتك إلى شعوب كثيرين فمن كانت لغتهم غامضة غريبة حتَّى إنَّك لا تفهم كلامهم، يسمعوا لك. أمَّا شعب إسرائيل فيرفضون أن يسمعوا لك، لأنَّهم يرفضون أن يسمعوا لي" (آ6-7). هل من تراجع بالرغم من فشل المهمَّة؟ كلاَّ. هل من ضعف وتراخ؟ كلاَّ. والربُّ قال له: "مثل الماس الذي هو أصلب من الصوَّان أجعل جبهتك، فلا تخف منهم ولا من وجوههم المرعبة" (آ9).

إذا صمد الكاهن صمد الربُّ معه. وإن خاف الكاهن، صارت قدرة الله ضعفًا له. على ما قال الربُّ لإرميا: أنا سوف أخيفك إذا أنتَ خفت منهم. في أيِّ حال، المشروع هو مشروع الله، والله مسؤول عنه. أمَّا حزقيال فيعمل ولا ينتظر النتيجة التي هي بيد الله. أذكر كاهنًا قال لي إنَّه خائف بأن يمضي إلى هذه الرعيَّة. فأجبته: هل الرعيَّة رعيَّتك أم رعيَّة يسوع؟

وما هي المهمَّة التي ألقيت على عاتق حزقيال؟ أن يكون رقيبًا. لا يكتفي بأن يلاحظ الشعب كلَّه، بل أن يلاحظ كلَّ واحد بمفرده. كما الأمُّ مع أولادها والأبُ. ما الذي يطلب من هذا الرقيب؟ الإنذار والتنبُّه. هناك الخطر، فعلى حزقيال أن ينبِّه، أن يُعلِّم، أن يحذِّر، بحيث يستعدُّ الإنسان فلا يُؤخذ على حين غفلة. فكما الرقيب الواقف على الأسوار ينبِّه المدينة من الخطر الآتي، كذلك يكون هذا الكاهن. قد يكون المؤمن في خمول أو في غفلة من نفسه فيدعوه إلى الفطنة. قد يكون نائمًا فلا بدَّ من إيقاظه.

قال الربُّ لنبيِّه: "فاسمع كلامي وأنذرهم عنِّي" (3: 16). فعلى النبيِّ أن يوصل الإنذار. وهو أمام موقفين: إمَّا ينذر الشرِّير وإمَّا لا ينذره. إن رفض النبيُّ أن ينذر الشرِّير ومات هذا الشرِّير بإثمه، فالنبيٌّ مطالَب بدمه. يا لها من مسؤوليَّة، ويا له من عقاب ينتظره هذا الكاهن الذي أرسله الربُّ باسمه! ولكن إن أنذر النبيُّ الشرِّيرَ ورفض الإنذار "فهو يموت في إثمه"، أمَّا الكاهن فلا خطر عليه، وهو ينجو من العقاب.

دعا الربُّ حزقيال وهو يدعو كلَّ كاهن في الكنيسة. فهل يعرف الكاهن أنَّه مسؤول عن الجماعة التي أُوكلت إليه؟ كما هو مسؤول عن إنذار المؤمنين واحدًا واحدًا على قال الرسول في عاطفته الأبويَّة: كنتُ أطلب واحدًا واحدًا. وكما علَّمنا الربُّ: "إن كان لرجل مئة خروف وضلَّ واحد منها، فهو يترك التسعة والتسعين في الجبال ويبحث عن الخروف الضالِّ" (مت 18: 12). أجل، لا يريد الآب أن يهلك أحدٌ من هؤلاء الصغار. فمن كان السبب في هلاك أحد من هؤلاء "الصغار" المؤمنين بالربِّ، "خيرٌ له أن يُعلَّق في عنقه حجر الرحى ويُرمى في البحر" (آ6).

  1. حزقيال النبيّ

سنة 597 ق.م. جاء نبوخذنصَّر وضرب الحصار على أورشليم. ولمّا استسلمَت أخذ الملكَ وحاشيته إلى السبي كما أخذ الصنّاع المهرة وجميع المحاربين (2 مل 24: 8-17). مع هؤلاء مضى حزقيال بدعوة من الربِّ، وكم كان يتمنَّى أن يبقى في أرض الأجداد، في أورشليم وفي الهيكل. ولكن ماذا بقي من الهيكل سوى جدران من حجر بعد أن حمل الفاتح "كنوز هيكل الربِّ" (آ13)؟ لا شيء. وفي أيِّ حال، إذا كان الربُّ غادر هيكله ولم يَعُدْ مجدُه يُقيم فيه، فالنبيُّ يمضي إلى حيث يُقيم الربُّ: في شعب المؤمنين: "وذهب مجدُ الربِّ عن عتبة الهيكل ووقف على الكروبيم، فرفع الكروبيم أجنحتهم وصعدوا عن الأرض قدَّام عينيَّ" (حز 10: 18). صار هيكل الحجر في أورشليم، بينما هيكل البشر هو في بابل. ولا مجال بعد لتقديم الذبائح وإصعاد البخور والاهتمام بقداسة شعائر العبادة. فلا بدَّ من خدمة من نوع آخر على ما قال الرسول: "فأناشدكم، أيُّها الإخوة، برأفة الله، أن تجعلوا من أنفسكم (أو: من أجسادكم) ذبيحة حيَّة، مقدَّسة، مرضيَّة عند الله. فهذه هي عبادتكم الروحيَّة" (رو 12: 1). لا ذبيحة في بابل، إذًا سوف تكون الذبيحة "روح منكسرة" (مز 51: 19).

فعلى حزقيال أن يتوب قبل أن يدعو المؤمنين إلى التوبة. عليه أن لا يكون متمرِّدًا. قاسيَ الرقبة، قبل أن يتكلَّم إلى شعب متمرِّد، إلى قساة القلوب. أوَّلاً، أن يقبل بأن يترك الأرض ويُقتلَع من جذوره. إبراهيم جاء من جوار بابل، وحزقيال يأخذ الطريق المعاكِس. ثانيًا، أن يتحوَّل من كاهن يهتمُّ بشعائر العبادة، إلى نبيٍّ يكلِّم الناس بكلام الله. هذا يعني السماع يومًا بعد يوم. قال المرتِّل: "بذبيحة وتقدمة لا تُسرُّ، ومحرقة وذبيحة لا تطلب، لكن أذنان مفتوحتان وهبتني، فقلتُ: ها أنا آتٍ..." (مز 40: 7). الانتقال صعب من عمل إلى عمل. اعتاد حزقيال على عمل، وها الربُّ يطلب منه عملاً آخر. مثله كان عاموس: راعي غنم وناخز جمَّيز، فحمله الربُّ من حياته الهادئة في تقوع، في جنوب البلاد، وأرسله إلى الشمال فنال مِن طرد واضطهاد ما نال.

وشابه حزقيالُ هوشع فما كان نبيًّا في كلامه فقط، بل بكلِّ حياته. أمّا هوشع فطلب منه الربُّ أن يكون بزواجه صورة عن علاقة الله بشعبه. ربَّما لم يشأ هوشع أن يأخذ امرأة عائشة في ظلِّ المعابد الكنعانيَّة، ولكنَّ الربَّ أمره بذلك فأطاع. وتركت هذه المرأة زوجها وعادت إلى ما كانت عليه في الماضي. فعاد الربُّ وأمر هوشع بأن يستعيد امرأته، وإن زانية، وإن خائنة. هكذا يكون صورة، وإن بعيدة، عن الربِّ الذي يغفر لشعبه "زناه" ومضيَّه إلى عبادة الأوثان. الربُّ يأمر والنبيُّ ينفِّذ ثمَّ يشرح ما عمله. هكذا كان حزقيال بحياته علامة عن عمل الربِّ في مسيرة شعبه. مرَّة أولى طلب منه الربُّ أن يتمدَّد على جنبه الأيسر عددًا من الأيَّام. ففعل. ثمَّ طلب منه: "عُدْ فنَمْ وتمدَّدْ على جنبك الأيمن، فتحمل إثم بيت يهوذا أربعين يومًا" (4: 4-6). هكذا رمَز بهذا الفعل إلى حصار المدينة. وفي إطار هذا الحصار، طلب من النبيِّ أن يعيش الجوع الذي تعيشه أورشليم تحت الحصار: "خذْ لك حنطة وشعيرًا وفولاً وعدسًا وذرَّة وكرسنَّة واخلطها في وعاء واحد، واصنع لك منها خبزًا تأكله" (آ9). ففعل النبيُّ. صار ذاك المستعدَّ أن يعمل مشيئة الربِّ مهما طلب. فالنبيُّ هو من يبدأ بأن يسمع كلام الربِّ قبل أن يحمله إلى الناس ويُسمعهم إيَّاه. وسوف يطلب من حزقيال أكثر من ذلك بحيث ينطبع كلامُ الله في حياته الحميمة.

"قال لي الربُّ: يا ابن البشر، سآخذ منك فجأة بهجة عينيك، فلا تندب ولا تبكِ ولا تذرف دمعة. تنهَّد ساكتًا ولا تُقمْ مناحة" (24: 15-17). هكذا يفعل المنفيُّون حين يعرفون أنَّ المدينة دُمِّرت والهيكل أُحرق فلم يَعُد من حضور للربِّ في مدينته المقدَّسة. "يكون لكم حزقيال عبرة... فتعلمون أنِّي أنا هو السيِّد الربّ" (آ24).

النبيُّ هو من يدخل في سرِّ الله. تكون صلاته صامتة مثل صلاة إيليَّا على جبل حوريب. يفهم علامات الأزمنة، لأنَّ عيني الربِّ في عينيه، ولا يقول إلاَّ ما يقوله له الربّ. لهذا ما كان كلام حزقيال واحدًا، بل تبدَّل مع الظروف، لا كأنَّ كلام الله متقلِّب ومثله النبيّ على ما اتَّهم الكورنثيُّون رسولهم. قالله أب وأمٌّ معًا، ويتكيَّف كلامه مع الأولاد الذين يحدِّثهم. في مرحلة أولى، كان الشعب مشتَّتًا بعبادته للأصنام، لتمُّوز، فكان حزقيال قاسيًا عليه لكي يدعوه إلى التوبة. ولكن بعد أن أُحرق الهيكل ودُمِّرت أورشليم، بدَّل النبيُّ كلامه. فالشعب فقدَ رجاءه، ولم يعد له شيء يستند إليه. لهذا، وعد حزقيال المؤمنين بأنَّ الربَّ عائد إلى هيكله. وهو لا يعود وحده، بل مع المنفيِّين فيُعاد بناء الهيكل كما كان في الماضي. "دخل مجدُ الربِّ إلى الهيكل من الباب الشرقيِّ. فحملني الروح ودخل بي إلى الدار الداخليَّة. فإذا بمجد الربِّ ملأ الهيكل" (43: 4-5). سقط النبيّ على وجهه ساجدًا، وسمع صوتًا: "يا ابن الشر، هذا موضع عرشي وموطئ قدميَّ حيث أسكن في وسط بني إسرائيل إلى الأبد" (آ7).

الخاتمة

انطلق حزقيال من الهيكل وعاد إلى الهيكل. كان كاهنًا يقوم بخدمة الربِّ في هيكله، مكتفيًا بالذبائح والبخور، عائشًا في طمأنينة قاتلة. فاقتلعه الربُّ وجعله نبيًّا يحمل كلام الله، وإن بعيدًا عن أورشليم. ويسمعه يومًا بعد يوم لا مجال بعدُ للحياة العاديَّة، الرتيبة. فالله هو جديدٌ كلَّ يوم وكذلك نداؤه وكلامه. كذلك اقتلع حزقيال من موضع فوصل إلى موضع آخر، بعيد. واقتلعه من فكره السابق، النائم، المتخدِّر، وزرع فيه فكرًا جديدًا. مثل ذاك الشمَّاس المصريِّ الذي كان يستعدُّ للكهنوت من أجل حياة هادئة، لا مشاكل فيها. فأرسله أسقفه إلى السودان سنة. اقتلعه فتألَّم وبكى وفي النهاية قال: لتكن مشيئتك يا ربُّ. ولمَّا انتهت الخبرة أراد أن يبقى في السودان من أجل رسالة منفتحة. ولكنَّه عاد جديدًا، وعرف أنَّ الكاهن الذي لا يكون نبيًّا لا يستطيع أن يكون بحسب قلب الربِّ. وأنَّ ممارسة الأسرار إن لم تترافق مع مائدة الكلمة نمدُّها أمام المؤمنين، تبقى ناقصة، لا من قبل الله، بل من قبل الكاهن. لهذا كان لنا حزقيال مثالاً نتعلَّم منه لكي يحمل كهنوتنا الثمار الكثيرة، وهكذا نكون تلاميذ حقيقيِّين للربِّ يسوع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM