الفصل الحادي عشر: أحداث فيلبي

الفصل الحادي عشر
أحداث فيلبي 16: 11– 40
وبدأت الرحلة الرسولية الثانية. قال بولس لبرنابا: "تعال نرجع لنتفقّد الإخوة في كل مدينة بشّرنا فيها بكلام الرب" (15: 36). وبعد خلاف بين بولس وبرنابا، ذهب بولس وسيلاً عبر سورية وكيليكية يقوّيان إيمان الكنائس. ووصل المرسلان إلى نواحي فريجية وغلاطية فدعاهما الروح إلى مكدونية. وهنا نحس أن لوقا انضم إلى بولس وسيلأ فقال: "طلبنا السفر في الحال إلى مكدونية، متيقّنين أن الله دعانا إلى التبشير فيها" (16: 10). ووصل الجميع إلى فيلبي. فما هي الأحداث التي حصلت لهم في فليبي؟ سوف نتوقّف عند نص أع 16: 11– 40 فنفسّره، ثم ندرس الأحداث في ضوء تاريخ الفنون الأدبية. وننهي الدراسة بتحليل أدبي يدل على وحدة الخبر ووظيفته التفسيرية.
أ- تفسير المقطع الكتابي
1- شرح الآيات
آ 11- 12: إن جزيرة ساموتراكية تقع في منتصف الطريق بين ترواس ونيابوليس. نيابوليس (هي اليوم: كافالا): هي مرفأ فيلبي. فيلبي. الاسم الكامل هو: مستوطنة يوليا أوغوسطا في فيلبي. لقد جعل اغوسطس قدماء الحرب فيها. فكانت لهم الحرية (مدينة تحكم نفسها بنفسها) والإعفاء من كل الضرائب، والحق الايطالي (لهم ذات الحقوق التي للمدن الايطالية). نقرأ في النص "بروتيس" أي أكبر وأول. ولكن يجب أن نقرأ "بروتيس تيس" فنترجم: مدينة في القسم الأول (أو الأهم) في مكدونية. أقمنا بضعة أيام. هذا يدل على أن مرور بولس لم يكن مروراً عابراً.
آ 13. يدل النص على أن بولس أقام في المدينة بعض الوقت قبل أن يتوجّه يوم السبت إلى ضفة النهر. أقام المرسلون مع اليهود، فعرفوا الدرب إلى مكان الاجتماع. بدأوا مع النسوة حديثاً وصل بهم إلى إعلان البشارة المسيحية.
آ 14. تياتيرة: مركز صباغة في آسية الصغرى. ليدية هي امرأة شريفة متعبدة لله. اعتبر بعض الشراح أن النص تحدّث عن امرأة ليديانية (أي. من ليدية) فميزها عن سائر تجّار الأرجوان (كانت تياتيرة في ليدية). أما اسمها الأصلي فهو افودية أو سنتيخة (فل 4: 2). أما الاسم الآخر فهو اسم امرأة السجان (فل 4: 3). ولكن هذا الرأي مرفوض.
سمعت ليدية. فتح الله قلبها (رج لو 23: 45) فآمنت (8: 6). مع أن النص يرد في صيغة الجمع (نتحدّث)، إلا أن ارتداد ليدية نُسب إلى بولس.
آ 15. ترك الراوي الخطوات الفاصلة، فوصل بنا حالاً إلى العماد. اعتبرت ليدية مسيحية عبر المعمودية، هي وأهل بيتها الأولاد والخدم والأصحاب أيضاً (رج 10: 2، 18: 8). كان المرسلون يقيمون في بيت استأجروه. وها هي ترجوهم بأن يقيموا عندها. وهكذا صار للرسالة مركز في فيلبي، وهذا ما تؤكده آ 40: لما خرج بولس وسيلا من السجن، ذهبا إلى بيت ليدية حيث تجتمع الكنيسة. هذا ما فعله بطرس بعد أن خرج من السجن: ذهب إلى بيت مريم، أم يوحنا مرقس، حيث كانت الجماعة تصلّي (12: 12).
آ 16. وعاد الراوي إلى ما قاله في آ 13: ذهب المرسلون إلى الصلاة يوم السبت. وهذا واضح، لأنه لا معنى لذهابهم في يوم آخر. يبدو أن هذا المكان لم يكن "مجمعاً". أيكون أن اليهود كانوا قلّة في فيلبي، فلم يكن لهم مجمع (ضرورة وجود عشرة رجال على الأقل)؟ الأمر ممكن. ثم لا ننسى أن بيت ليدية صار مكان الاجتماع "لكنيسة فيلبي". فإليه ذهبوا. كان في تلك المدينة جارية فيها روح عرافة أو روح شيطانية. كانت "تتنبأ" (أو تبرّج)، فتجني المال لأسيادها (أي للرجل والمرأة اللذين يمتلكانها) (هنا الحديث عن المال وكذلك في 19: 24).
آ 17. أخذت تتبعنا. بعد هذا سيغيب، ضمير المتكلم الجمع، وسيظهر من جديد في 20: 5 (فسبقونا إلى ترواس). إن صياح الفتاة "الممسوسة" (يمتلكها الشيطان) يذكرنا بصراخ الشياطين في الإنجيل (مر 1: 24؛ 3: 11؛ 5: 7؛ لو 4: 34، 41؛ 8: 28) في أع 16: 17 ومر 5: 7 يُدعى يسوع. "ابن الله العلي". لا ننسى أننا في الحالتين في ارض وثنية. غير أن الشيطان في مقطع أعمال لا يهتم، بل يعلن طابع الصدق لدى مبشرين غرباء: يدلّونكم على طريق لا يفهمه الوثنيون، هو طريق الخلاص.
آ 18. "عدة أيام". ما إن طرد بولس الشيطان، حتى جرّه الناس أمام السلطات. لم يسكت بولس الشيطان بعد أول صياح سمعه من الجارية. رتّب لوقا الأمور بهذه الصورة فجعل ردة الفعل معقولة عند بولس. انزعج من هذا الصياح الذي لا يهدأ. بالإضافة إلى ذلك، فالشيطان تنبّه للواقع العلوي، فشهد الآن بصريح العبارة للمضمون الحقيقي للرسالة المسيحية. "قسّم" عليها بولس باسم يسوع، فكان "تقسيمه" فاعلاً في الحال: خرج الروح. وهكذا انتهت قصة الشيطان التي استعملها لوقا.
آ 19. غضب سادة الجارية لأنهم خسروا ربحهم. جرّوا بولس وسيلا إلى الساحة العامة (أغورا)، أي أمام القضاء. ماذا حصل لتيموتاوس وللراوي (قد يكون لوقا) الذي يتكلّم في صيغة المتكلم الجمع؟ هذا ما لا يقوله أع. قال أحد الشراح: في الواقع، بولس هو وحده الذي تألم، كما تقول 1تس 2: 2 (لقينا في فيلبي من العذاب والاهانة). على كل حال، لسنا هنا أمام تقرير صحافي دقيق، بل أمام خبر ديني يجعل عمل بولس امتداداً لعمل يسوع (قيل عن بطرس أيضاً: "كانوا يحملون اليهم الذين فيهم أرواح نجسة"، 5: 16). فكيف نتخيّل هذه الجارية وسادتها يلاحقون بولس في كل مكان؟ وإلاّ فكيف عرف سادتها أن بولس هو الذي طرد الشيطان وأنه يستحق اللوم؟
آ 20. كان رجلان يقضيان في الناس في المستوطنات الرومانية. أما الشكوى فهي: يثيران الاضطراب في المدينة، يتعديان على النواميس والنظام في البلاد. لا شكّ في أن طرد الروح النجس لا يشكل تهمة تعاقبها الشريعة. فمن الواضح أن سادة الجارية أرادوا أن ينتقموا من بولس. ولكن من الممكن أن تكون تلك التهمة قد جعلت على بولس ورفاقه. لا شكّ في أن الدين اليهودي (ولم تكن المسيحية قد تميّزت عنه) كان ديانة شرعية في الامبراطورية، ولكن لم يكن يُسمح لليهود بأن يبشروا وسط الرومان، وفيلبي هي مستوطنة رومانية.
آ 21. ما هي هذه التعاليم أو هذه القواعد الحياتية التي يتكلّم عنها النص والتي لا يحل للرومان أن يأخذوا بها؟ هذا ما لا يقوله النص. لا شك في أن بولس لم يكن يكرز بالختان. ولكن قد يشير سادة الجارية إلى عشاء الرب الذي ظهر للوثنيين كأنه عبادة منافية للأخلاق. إن السياق الإخباري يكمن في أساس آ 20 - 21، ولكن لوقا لا يذكر أي اتهام محدّد.
آ 22. وهاج الجمع. ومزّق الحكام ثياب "المجرمين" (لا ثيابهم، وتلك عادة يهودية) وأمروا بجلدهما (رج2 كور11: 25: ضربني الرومانيون بالعصي ثلاث مرات). يبدو أن حق المواطنية الرومانية لم يكن له مفعوله في ذلك الوقت. قد يكون بولس أعلن ذلك، ولكن لم يسمع أحد ما قاله.
آ 23. يتكلم بولس في 1تس 2 : 2 عن العذاب الاهانة، وذلك على يد "الشرطة". وبعد الجلد، جاء الحبس، ووُضع بولس وسيلا في القيود. ويعدّنا الراوي إلى ما سيحدث حين يقول لنا إنه طُلب إلى السجان "أن يشدد الحراسة عليهما".
آ 24. جعلهما السجان "في أعماق السجن" (آ 29). نلاحظ هنا أن الطريقة الشعبية في الإخبار تضخّم الأمور لإبراز النتيجة الأخيرة: لا شيء يقف بوجه قدرة الله. بالإضافة إلى ذلك، وُضعت أرجلهما في قالب من الخشب لئلا يهربا. وهكذا وصل ألم الرجلين وعزلتهما إلى الذروة.
آ 25. وعند منتصف الليل، أخذ السجينان يصلّيان. هكذا صلّى يوسف بن يعقوب إلى الله في سجنه، فسمعت صلاته (وصية يوسف، وهي جزء من كتاب منحول اسمه وصيات الآباء الاثني عشر). بعد العشاء السري، سبّح الرسل وخرجوا إلى جبل الزيتون (مت 26: 30 = مر14: 26؛ رج عب 2: 12؛ كو 3: 16= أف 5: 19). وهكذا فعل السجينان: أخذا يسبحان الله فسمعهما السجناء. وهذا يبرهن للقارئ أن الزلزال كان جواب الله لصلاة المرسلين.
آ 26. هز الزلزال أركان السجن، ولم يؤثّر على سائر أبنية المدينة. يمكن أن تُفتَح الأبواب فجأة، أما أن تُفكّ قيود السجناء، فهذا لا يتم إلا في معجزة. هذا ما نقرأه عند اوسابيوس: فُكت القيود من الأرجل، وفُتحت الأبواب من دون يد بشرية. نحن هنا أمام خبر شعبي يتّخذ تعابيره من الأدب اليوناني الوثني.
آ 27. فتحت الأبواب فاستيقظ السجان، هذا أمر معقول. ولكن، أين مسؤوليته (أو قدرته) حين يكون الله هو الفاعل؟ لم ينظر السجان ليرى من هرب: نحن إمام خبر تقوي ولن نفسّره في إطار سيكولوجي. ثم إنه هل يعقل أن تكون فكت القيود وفتحت الابواب ولم يهرب السجناء؟ لم يهتمّ لوقا لهذا الامر.
آ 28. رأى بولس أن السجّان يريد أن يقتل نفسه، فناداه بأعلى صوته بأن لا يؤذي نفسه. قال له: نحن كلنا هنا. ولكن من قال لبولس أن السجناء لم يهربوا. لا نحاول أن نبني الحدث في إطاره الواقعي.
آ 29. طلب السجان ضوءاً. فنحن في نصف الليل (آ 25). ارتجف الرجل وارتمى على أقدام بولس وسيلا. هذا يدل على أنه اعتبرهما مرسلين من عند الآلهة.
آ 30. أخرجهما السجّان ولم يهتم بسائر السجناء، وسألهما: "ماذا يجب عليّ أن أعمل لأخلص".
آ 31. يتوافق الجواب مع السؤال توافقاً تاماً: "آمن تخلص أنت وأهل بيتك".
آ 32. يرتبط التعليم عن المعمودية بهذه الكلمة: "وبشّراه" (إيجاز تام في الرواية). أين تم هذا التعليم (ترك السجان السجن في آ 30 ووصل إلى بيته في آ 3؟) هذا سؤال لم يفكّر به لوقا.
آ 33. هنا يصبح السجان هو الفاعل: أخذ المرسلين معه، غسل جراحهما وأزال آثار الضرب، وتعمّد هو وأهل بيته، ربما في الدار الخا رجي.
آ 34. ثم أخذهما الى بيته، وقدّم لهما الطعام الضروري (هي الساعة الواحدة صباحاً). وفرح مع أهل بيته لأنه آمن بالله. وتجاه هذه السعادة، لم يفكر بما تقوله السلطات من إطلاق سراح الأسرى.
آ 35. واعتبرت السلطات أن الجلد وليلة في السجن والطرد، هي عقاب كاف. وأمروا الشرطة بان تطلق السجينين. لم تعرف السلطات شيئاً عن الزلزال حسب النص المتداول. أما النص الغربي فيقول: "اجتمعوا، تذكروا الزلزال الذي حصل، وأرسلوا من يقول للسجان: أطلق هذين الرجلين".
آ 36. وأعلن السجان على بولس (وسيلا) الخبر الطيب: اذهبا بسلام. بهذا الكلام يحسب لوقا حساب ارتداد الرجل إلى الإيمان.
آ 37. هنا ذكّرهم بولس بحق المواطنية الرومانية (وحسب سيلا أيضاً مواطناً رومانياً) وطلب تعويضاً: لن يخرج من السجن سراً. فليأتوا ويقدموا اعتذارهم.
آ 38. ذُعرت السلطات لمعاملة هذين الرومانيين معاملة سيئة (22: 29).
آ 39. قُدّم الاعتذار، ولكن أمر الطرد لم يُلغَ. هنا يقول النص الغربي: "جاء الحكّام إلى السجن مع أصدقاء عديدين، وتوسّلوا إليهما أن يخرجا. قالوا: جهلنا أنكما رجلان باران. وبعد أن أخرجوهما توسّلوا إليهما قائلين: أخرجوا من هذه المدينة لئلا يجتمع عليكما من جديد من هاجمكما بصياحه".
آ 40. ورافقتهما السلطات خارج السجن. تركا ليدية، وتركا في الوقت عينه الكنيسة هناك. لم نسمع شيئاً عن تيموتاوس، ولن نسمع عنه شيئاً قبل 17: 1. فلوقا يذكر الأشخاص الذين يحتاج إليهم من أجل خبره، وهكذا لن يتشتت القارئ عن الموضوع الرئيسي.
2- معنى الآيات
ماذا يريد لوقا أن يقول لسامعيه في هذا المقطع؟ لقد قاد الله بولس ورفاقه إلى حقل رسالة جديد. فبعد سفر قصير على البحر دام يومين (ستتخذ طريق العودة 5 أيام فتقطع 156 ميلاً، رج 20: 6)، وصل المرسلون إلى نيابوليس، مرفأ فيلبي. تبعد فيلبي 8 أميال إلى الشمال الغربي من نيابوليس. يصعد المسافر تلة، ثم يصل إلى سهل مكدونية حيث تقع فيلبي.
بدا المرسلون غرباء في هذه المستوطنة الرومانية. ويبدو أنهم لم يلتقوا باليهود. لهذا انتظروا يوم السبت ليذهبوا إلى نهر غانجيتس حيث اعتاد اليهود أن يصلّوا. لسنا هنا أمام صلاة كتلك التي تتلى في الكنيس، لأن مثل هذه الصلاة تتطلّب حضور عشرة رجال على الأقل. لم يجد المرسلون إلا بعض النساء اللواتي أتين إلى الصلاة. غير أنهم لم يقنطوا. كلّموا النسوة، وقدّموا لهن البشارة عن الرب يسوع. وجعل الرب هذه الكلمة تتجذّر في قلب إحدى النسوة. ليست ليدية امرأة يهودية بالولادة.
هي ترعرعت في ثياتيرة، ذلك المركز المخصّص لصناعة الأرجوان والقائم في الجنوب الشرقي من برغاموس في آسية الصغرى وفي المنطقة الليديانية. كانت وثنية، ولكنها تعبّدت لله. وعاشت في فيلبي فسمّيت الليديانية أو ليدية. انضمت إلى النسوة اليهوديات، وأصغت إلى كلام الله. تجرّأت فطلبت الدخول إلى الجماعة الجديدة، وتعمّدت. وتبعها أهل بيتها بمن فيهم العبيد. وارتبط إيمانها بالعمل. لم تعد ترضى أن يقيم المرسلون في أي مكان من المدينة، بل في بيتها. أقاموا عندها، وكانوا يجمعون هناك الاخوة الذين جاؤوا الى الايمان.
وإذا كان المرسلون ذاهبين إلى بيت الصلاة، أي إلى بيت ليدية، تبعتهم جارية تنتمي إلى نقابة تستغل روح العرافة فيها. وها هو الروح يصيح فيها: هؤلاء الرجال هم عبيد الله العلي، يبشّرونكم بطريق الخلاص. ولم يحدث هذا الأمر مرة واحدة، بل دام أياماً عديدة. لم يعد الأمر يُطاق لدى بولس، فأمر الروح قائلاً: "آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها" (أن تتركها). فخرج في الحال.
ذهب روح العرافة وذهب الربح معه. فأراد سادة الجارية أن ينتقموا: جرّوا بولس وسيلا إلى الساحة العامة أمام السلطات. لم يتّهموهما بإخراج روح شرير، بل بأنهم ينشرون الدعاية اليهودية وسط الرومان. واتّخذ الشعب موقفاً معارضاً لهؤلاء الغرباء، وقرّرت السلطة لبولس وسيلا الجلد والسجن. وهكذا انتهى عمل الرسالة.
إن افلت السجينان، فالذنب ليس ذنب السجّان. جعلهما في أعماق السجن (آخر قاعة في السجن). قيّدهما. جعل أرجلهما في قالب من خشب. وحلّ الليل. لم ينم بولس وسيلا، بل أخذا يسبّحان الله، وسمعهما سائر السجناء. وتزلزلت الأرض: اهتزت أسس السجن، انفتحت الأبواب، سقطت القيود. استيقظ السجّان فرأى الأبواب مفتوحة، وظن أن السجناء هربوا. دبّ فيه اليأس، وهمّ بأن يقتل نفسه. فصاح به بولس: "إياك أن تؤذي نفسك، فنحن كلنا هنا". طلب ضوءاً، ودخل إلى القاعة التي فيها بولس وسيلا، فارتمى على أقدامهما: إنهما على اتصال بالله. قال لهما: ماذا اعمل لأخلص؟ سمع هو والذين تبعوه البشارة وآمنوا. غسل جراح المرسلين في الدار الداخلية، وقدّمت الماء من أجل العماد. كم كان فرح الرسولين كبيراً لارتداد هؤلاء الوثنيين.
وأطلق سراح المرسلين، فذهبا إلى ليدية، وأخبرا بما صنع الله لهما. وشجّعا الأخوة ثم تركا فيلبي.
هكذا يرد الخبر أمام قارئ أع. ينطلق من بداية سعيدة، فيصل إلى الضيق واليأس والخطر. ولكن الله دلّ على أنه أقوى من المضايق، بل هو يستعملها من أجل هدفه. بعد هذا، كيف ييأس الإنسان؟ روى لوقا هذا الخبر ليشجّع قراءه ويقوّيهم.
لكن البحث النقدي في القرن 19 لم يقبل بهذا الخبر ولم يعتبره أهلاً للتصديق. تساءل: ما الذي حدث في الواقع؟ وتفحّص الوقائع ليرى إن كانت معقولة ومطابقة للحقيقة. توقف النقاد بصورة خاصة عند آ 25- 43.
كما أن المكان الذي اجتمعت الكنيسة فيه للصلاة (4: 31) تزلزل، كعلامة لجواب الله، هكذا تزلزلت هنا أسس السجن (آ 26). وما جعل الخبر بعيداً عن التصديق، هو أن الأبواب فُتحت والقيود سقطت دون أن تتدخّل يد بشرية. ومع أن القيود سقطت، لم يهرب السجناء. وتتوالى أمور لا يصدّقها العقل. رأى السجّان أن الأبواب فُتحت بفعل الزلزال، فأراد أن يقتل نفسه قبل أن يلقي نظرة إلى السجن. وهذا لم يكن كافياً: فبولس رأى (عرف) في أعماق سجنه ما سيفعله السجّان. وكيف عرف السجّان أن بولس يدعوه من حجرته (حتى ولو سمع الصوت من غرفة نومه). بالإضافة إلى كل هذا، كيف عرف أن الزلزال هو جواب على صلاة بولس وسيلا؟ الأمر واضح بالنسبة إلى القارئ. أما السجّان فكان نائماً (قال أحد النقاد: كان وحده نائماً في ذلك السجن آ 27)
ويحاول الشراح أن يقدّموا الاقتراحات ليملأوا الفراغ: قد يكون السجّان سمع شيئاً عن البشارة الجديدة... ثم إن الزلزال لن يلعب دوراً فيما بعد، رغم ما قاله النص الغربي. إذن هناك أمور كثيرة غير معقولة، ولهذا يبدو الخبر غير تاريخي. ولو غاب الزلزال لم يحدث أي نقص في النص.
ثم نحن أمام خبر نموذجي نقرأه عن أوريبيدس (كما قال قلسوس): دعت (السجينات) الإله بروميوس، فسقطت القيود من أيديهن وفتحت الأبواب (هذا ما نقرأه عند اوريجانس في جوابه إلى قلسوس). إن الزلزال هو علامة رضى الله عن صلاة عبيده. أما التسبيح فهو سمة من سمات الأخبار التقوية (هذا أمر معروف).
ولكن حين نأخذ بعين الاعتبار كل هذه الأمور يبدو الفرق شاسعاً: لم يهرب السجناء، عكس ما حدث في 5: 19 و12: 6ي. كان السجناء أحراراً (بولس وسيلا وسائر السجناء)، ولكنهم ظلّوا في السجن. فالهدف الوحيد لهذه المعجزة هو ارتداد السجّان. وهذا يعني أن لوقا أورد خبره مع كثير من الفن الإخباري اليوناني، بحيث إن مجد بولس ظهر مشعاً.
وإن 1 تس 2: 2 تحتمل هذه النظرة إلى الأمور. فبحسب هذا النص، اختبر بولس صعوبات كثيرة في فيلبي. "فالعذاب والاهانة" يقابلان 16: 19- 24. أما 16: 35- 40، فتدل على إعادة اعتبار الرسول (لا شك في أن أسلوب المعجزة في 16: 25- 34 ليس أسلوب 1 تس 2: 2). ولكن تبرز مسألة ملحة بالنسبة إلى بولس. هو يصوّر السلطة الرومانية في كل مكان على أنها عادلة ومتسامحة، بل صديقة المسيحيين. ولكن في مستوطنة فيلبي الرومانية، كان صراع بين رسالة بولس وهذه السلطة: عوقب المرسلان بالضرب والسجن والطرد. كيف تجاوز لوقا هذا الشعور المؤلم؟ جمع الأخبار التي تسلّمها مع دفاع ومديح لبطله: قصة طرد روح العرافة أتاحت له أن يفسّر سبب الاتهام الموجّه ضد بولس، لهذا السبب أدخلت كلمة "يا سيدي". دل على أن بولس طارد كبير للشياطين بحيث إن سادة الجارية حذروا من مخاصمته. حسب 16: 22، صدر حكم يوافق مبادئ الشريعة ونفّذ. كان باستطاعة بولس، كما فعل في 22: 25، أن يستند إلى مواطنيته الرومانية. غير أنه لم يفعل، لأنه تعدّى على الشريعة الرومانية حين قام بالرسالة وسط مستوطنة رومانية.
إن حرية الكاتب التي نجدها هنا، هي غريبة في نظر القارئ الحديث. ولكنّها حرية كل المؤرخين الرومان الذين يريدون أن يعطوا معلومات، إن يؤثّروا على القارئ، أن يشرحوا الأسباب. هذا ما فعله لوقا حين روى على طريقته خبر الرسالة في فيلبي.
ب- أحداث فيلبي في إطار تكوين النص
1- تطبقت النظرة التكوينية على حدث فيلبي (16: 11 - 40) فقسمته إلى عدد من الوحدات المنفصلة عن اللحمة الإخبارية. وقد حاول احد الشراح أن يستخرج من هذه المقطوعة خمس وحدات أدبية.
آ 11- 15: خبر سفر مع إشارة عاجلة إلى المراحل، إلى طول الطريق أو قصرها، إلى اسم الضيوف، إلى الأحداث المهمة المتعلقة بتأسيس جماعة جديدة.
آ 16- 18: خبر طرد شيطان، كما فعل مرقس (1: 21ي؛ 5: 1 ي). وان صياح الشيطان (كما في الإنجيل) يكشف هوية المرسلين. أما طردهما له فيدّل على أن كلمة بولس كانت فاعلة.
آ 19- 24: خبر اضطهاد يورد مسيرة قضائية عادية: شكوى إلى السلطان، ضغط شعبي بشكل مظاهرة، جلد المتهمين وحبسهما (هكذا أبعدا عن الهياج الشعبي كما وُضعا بتصرف المحكمة).
آ 25- 34: خبر معجزة يبرز عناصر طبيعية (زلزال أو هزة أرضية). يظهر مجد الله في تحرير عبيده وفي ارتداد السجان الذي أظهر بإيمانه أنه قَبِل الآية العلوية قبولاً تاماً.
آ 35- 40: خبر إجراءات يورد مراحل إطلاق سراح المرسلين، ويطرح على بساط البحث تنظيم الشرع الروماني تنظيماً عملياً، وصلاحيات الرؤساء والموظفين.
حين نقسم مقطوعة فيلبي على هذا الشكل، فهي تبدو كأنها مجموعة من مواد تعود إلى أصول مختلفة، وقد رُتّبت كما يرتّب شريط سينمائي. وهكذا تميّز النظرةُ التكوينية شيئين. من جهة، معلومات مباشرة جاءت من شهود عيان (بمن فيهم الراوي) وظلت قريبة من الأحداث نفسها (مثلاً: ظروف الوصول والذهاب، الإطار القضائي). ومن جهة ثانية، عناصر تدوينية ألهمها وضع ملموس، فلقيت توسيعها في عمل أدبي رُتِّب بطريقة تمنعنا من اكتشاف الأحداث في حد ذاتها (مثلاً، الزلزال).
حين تنحصر النظرة التكوينية في درس الوحدات الأدبية وتتوقّف عند المراجع.، تجد نفسها في مواجهة تاريخية أع: تنظر إلى الصراع، وتتقبّل على مضض المقاطع التي تعتبرها "أسطورية". قال أحد الشراح: إن أحداث فيلبي تدخلنا في عالم الأسطورة. وقال شارح آخر: إن تحرير بولس وسيلا من سجن فيلبي هو خبر شعبي مستقل، كما يبدو لنا. فالزلزال الذي يشكّل الموضوع الأساسي، لا يلعب أي دور في آ 35- 40. أما أحست المدينة بالهزة الأرضية؟ ثم إن الكاتب يورد في آ 35- 40 هذه الأسطورة ببساطة الأطفال: دور بطولي إلى المرسلين، سجناء لا يتحرّكون، سجان يربط ربطاَ مباشراً بين الزلزال وصلاة السجينين المسيحيين.
وجاء من يدافع عن تاريخية أع، مشدداً على أن التقليد الشعبي لا يحرم حرماً تاماً من أي قيمة تاريخية. هنا لا بد من اكتشاف الفن الأدبي الخاص بسفر الأعمال، فنصل إلى القيمة التاريخية التي يتوخّاها الكاتب.
2- ما يتميّز به هذا الخبر، هو أنه يقدم عدداً من المعطيات نستطيع أن نخضعها لتدقيق خارجي.
أولاً: فيما يخص الوضع الجغرافي والشرعي لمدينة فيليبي: إن معلومات أع 16 تتطابق كلياَ مع ما نعرفه من التاريخ والاركيولوجيا.
ثانياً: السفر بحراً من تراوس، خلال يومين بسبب هواء موات مع توقف في ساموتراكية خلال الليل، أمر معقول جداً حسب الملاحة التي يمارسها القدماء. أما طريق العودة فلم تنعم بالظروف الملاحية نفسها، ولهذا تطلّب السفر خمسة أيام (20: 6).
ثالثاً: وضع نيابوليس. هي دسكرة ساحلية ومرفأ لفليبي. هي مركز إداري وريفي ومحطة على الطريق الاغناطية التي هي من الطرق الرومانية الأساسية التي فتحت في القرن الثاني ق. م. فربطت بحر إيجه بشمال البحر الادرايتيكي.
يشير النص إلى انتماء فيلبي إلى مقاطعة مكدونية، وهذا صحيح. ولكن كيف نفسر
آ 12 أ: فيلبي أكبر مدينة في ولاية مكدونية؟ هذا ما تقوله المخطوطات الكبرى وبعض الترجمات القديمة والبردية 74. ولكن الشرّاح يجدون أن هذا القول يعارض الوضع الجغرافي والسياسي: ففيلبي ليست عاصمة ولاية مكدونية، بل تسالونيكي، وليست عاصمة قضاء أحد الأقضية الأربعة (كما نسقها بولس ايميليوس سنة 167 ق. م.) التي تتكوّن منها مكدونية. فعاصمة القضاء هي امفيبوليس. قال بعضهم: فيلبي هي أول مدينة زارها المرسلون. ولكن المرسلين جاؤوا من تراوس عبر سامموتراكية، وكانت أول مرحلة نزلوا فيها نيابوليس لا فيلبي. وكانت محاولة ثانية تستند إلى بعض مخطوطات اللاتينية الشعبية: "فيلبي، مدينة أول مقاطعة في مكدونية".
مهما يكن من أمر، يريد النص أن يشدّد على أهمية فيلبي في مكدونية: مدينة قديمة، مجد سابق وازدهار مالي بفضل مناجم الذهب القريبة منها.
رابعاً: وضع المدينة مع بابها ونهر صغير هو غانجيتس لا يبعد عن المدينة أكثر من مسافة سبت.
خامساً: الوضع الشرعي لمدينة فيلبي: مستوطنة. كانت دسكرة تراقية ثم صارت مدينة بعد أن حصّنها ووسّعها فيلبس الثاني (358- 3257) والد الاسكندر المكدوني. تليتنت (قبلت أناسا لاتيناً من اللاتيوم، المحيط برومة) على دفعتين: مرّة أول سنة 42، بعد انتصار انطونيوس واوكتافيوس (الذي سيصير الإمبراطور اغوسطس ويولد يسوع في أيامه) على جيوش مجلس الشيوخ بقيادة بروتوس وكاسيوس اللذين قتلا يوليوس قيصر. ومرة ثانية سنة 31، بعد انتصار اوكتافيوس في أكسيوم على أسطول انطونيوس (حليف الامس) وكليوبترة (ملكة مصر). جاء قدامى الحرب على دفعتين، فنعمت فيلبي بوضع مستوطنة مع امتيازات الحق الايطالي.
وما يربطنا بهذا الوضع الايطالي (أو الروماني)، هو وجود بعض الكلمات في خبر أع: "ستراتيغوي" أو الحكام. هما رجلان يديران المدينة. "اركونتس" تدل على السلطات ولا تحدّد طبيعة وظيفتهم. قد يمارسون سلطة القضاء. وهناك كلمة تدلّ على العادات الرومانية: «ربدوكوي» أي: حامل العصا (آ 35- 38). أي: حاجب يرافق القاضي الذي كان له حق الحكم بالاعدام. كان لدى الرئيس 24 حاجباً. والقنصل 12، والوالي اثنان.
في هذا الاطار الروماني واللاتيني، أعلن بولس أنه مواطن روماني (آ 37). فقوانين فاليريا وفورقيا عفت المواطنين الرومانيين من العقوبات المذلّة للانسان، كالجلد والصلب.
يشدّد النص على لاتينية مدينة فيلبي. فالمهم في انتقال بولس إلى مكدونية، ليس فقط العبور الى اوروبا. فالفرق بين أوروبا وآسية لم يكن بارزاً، ولا يفصل بينهما إلاّ بحر إيجه ومضيق صغير. وليس فقط الوصول إلى اليونان. فالحضارة اليونانية انتشرت في كل مدن الشرق الأوسط وآسية الصغرى. المهم في انتقال بولس إلى مكدونية، هو دخوله في عالم لاتيني، في مدينة تتكلّم لغتين، وتحاول أن تقلّد النموذج الروماني بعاداتها ونظمها وتشريعها. وحين حكمت على بولس، فهي قد أرادت أن تطبّق القوانين الرومانية (كما حدّدها كلوديوس) تطبيقاً دقيقاً. وكانت هذه القوانين تمنع اليهود من أية محاولة تبشيرية في رومة، كما في سائر المستوطنات الرومانية.
سادساً: إن شخص ليدية يذكرنا بالمقاطعة التي جاءت منها هذه المرأة. قد نكون هنا أمام اسم شخصي، أو أمام نسبة كما نقول المرأة الليديانية أي التي من ليدية بمدينتها ثياتيرة.
كل هذه عناصر تدلّ على "اللون المحلي" للخبر. ولكننا سنقابل مقطوعة أعمال مع نصوص مسيحية أخرى.
3- نتوقّف عند نصوص مسيحية ترتبط بعبور بولس إلى مكدونية. نتوقّف عند ثلاث وثائق: 1 تس، فل، رسالة بوليكربوس الازميري إلى أهل فيلبي.
أولاً: 1 تس هي أقدم نص بولسي. دونّه الرسول في كورنتوس سنة 51. وصل بولس إلى تسالونيكي بعد فيلبي (رج أع 17: 1)، وعومل معاملة سيئة قبل أن يلقى استقبالاً حارأ في تسالونيكي. هذا ما يقوله أع.
ثانياً: دوّنت فل سنة 56- 57 يوم كان بولس سجيناً في أفسس. ذكر فيها بولس سخاء أهل فيلبي المتواصل تجاهه، وأشار إلى ما أرسلوه إليه وهو في تسالونيكي (فل 4: 15). هذا يعني أن العبور إلى تسالونيكي جاء بعد أن ترك بولس أهل فيلبي، وهذا ما يتوافق مع معطيات أع 17: 1 و1 تس 2: 2.
ثالثاً: رسالة بوليكربوس إلى أهل إزمير هي وثيقة مسيحية قديمة تعود إلى سنة 110 تقريباً. تقول إن بولس أقام في فيلبي وكتب رسالة أو رسائل (وهذا ما جعل النقاد يقسمون فل إلى ثلاث رسائل). إن 4: 15 التي تسند إليها المقابلة مع أع 17: 1، تعود إلى الرسالة الأولى أو رسالة الشكر التي دوّنت حالاً بعد أن تسلّم المعونة من أهل فيلبي. وهذا يعني اننا قريبون جداً من الأحداث (4: 10– 20، فرحت بالرب كثيراً). قال بوليكربوس: لا أقدر أنا ولا يقدر واحد مثلي أن يقرب من حكمة الطوباوي والمجيد بولس الذي، حين كان بينكم، كلّم، وجهاً إلى وجه، أناسَ ذلك الوقت، وعلّم بدقة وقوّة كلمة الحق. وبعد ذهابه كتب لكم رسالة.
4- بعد هذه المقابلة مع معطيات التاريخ والجغرافيا ومع معلومات قدمتها نصوص مسيحية قديمة، نقدر أن نتكلّم عن معقوليةٍ تاريخيةٍ لمقطوعة أع 16: 1– 40، أقله في
آ 11– 24 و 35– 40 وفي 17: 1 الذي يربطنا بأحداث تسالونيكي. أما المتتالية المركزية التي تشير إلى سجن بولس وسيلا وتحريرهما العجائبي بفعل زلزال جاء في الوقت المناسب (آ 25- 34)، فالنظرية التكوينية ترى فيها وحدة غريبة أصلاً عن أحداث فيلبي. ترى فيها خبر تقليد شعبي أقحم في لحمة خبر السفر ليشير إلى سجن عاناه بولس: احتفظ المؤمنون بخبر هذا السجن ونسوا ظروفه الدقيقة. لقد ذكرنا في وقته الاعتبارات مثل: كيف عرف بولس من أعماق سجنه أنّ السجان مزمع أن يقتل نفسه؟... مثل هذه الاعتبارات تدلّ على بحث تاريخي بسيط، وتبعدنا عن المعنى الاساسي للخبر الذي هو تعليم ديني قبل أن يكون تقريراً تفصيلياً يقدّمه حارس السجن الى القاضي.
ولكن المقلق هو أننا نجد مقطعاً في تمثيلية يونانية لأوريبيدس يتحدّث فيها عن نجاة نساء سجنهن بانتيس المستبد ظلماً. فنقرأ في البيتين 447- 448 من المأساة: فكّت قيود أرجلهن طوعاً. سقطت المزاليج، فانفتحت الابواب دون أن تلمسها يد بشرية.
لا شك في أن الشبه قريب. ولكن هذا لا يسمح لنا بأن نقول (كما قال بعض النقاد) إن خبر أع 16: 25- 34 هو استيلاء مسيحي على تقليد شعبي يرتبط بفولكلور انتشر في حوض البحر المتوسط (وهذ ما قيل أيضاً عن تحرير بطرس من السجن، 12: 7 ي). مثل هذا القول ينسى تجذّر الخبر في أع بصورة خاصة، وفي التقليد البيبلي كله بصورة عامة.
إن التشابه بين أع ومأساة أوريبيدس يدل على أن نص أع ينتمي إلى العالم اللغوي اليوناني، فيتّخذ أسلوبه وكلماته.
بحث هؤلاء العلماء عن تجذر مقطوعة أع هذه في الأدب اليوناني. أما نحن فسنبحث في أع نفسه عن الرباطات التي تؤمّن لهذه الآيات وظيفة غير وظيفة إيراد أحداث دقيقة حصلت في مدينة فيلبي حين أقام فيها بولس وسيلا.
5- هناك تفاصيل عديدة تطرح علينا أسئلة. الزلزال مع ظهوره المحسوس (تزعزعت أسس السجن، آ 26 ب) ونتائجه فيما يخص مصير المسجونين: فتحت الابواب فجأة وفكت قيود السجناء. وتوقف بعض الشراح عند ظاهرة طبيعية هي الهزة الأرضية أو الزلزال. أما نحن فسنعود إلى النص البيبلي.
إن كلمة "سايسموس" ترد مرّة وحيدة في أع وفي هذا النص بالذات. ولكننا نجدها 11 مرة في العهد الجديد: 4 مرات في مت (مرة في لو ومرة في مر في نصوص متوازية)، خمس مرات في سفر الرؤيا. ماذا نجد في هذه الايرادات؟
- يستعمل مت 27: 54 (فلما رأوا الزلزال) الكلمة وحدها ليدّل على الهزة الأرضية التي ارتبطت بموت يسوع.
- يستعمل مت 24: 7 ومر 13: 8 ولو 21: 11 العبارة في الجمع مع كلمة مجاعات (تحدث مجاعات وزلازل في أماكن كثيرة) فيدلون على تقلبات كونية تعلن نهاية الأزمنة حسب النظرة الجليانية الواردة في الأناجيل الازائية.
- وترد الكلمة في المفرد (رؤ 8: 5: حدثت أصوات وروعود وبروق وزلزلة، 11: 19؛ 16: 18) بعد سلسلة من الأسماء في الجمع (رعود، أصوات، بروق)، فتدل على العاصفة لا على هزة أرضية. ونلاحظ أن تكديس الكلمات لا يهدف إلى تصوير ظاهرة طبيعية، بل إلى الايحاء بظهور الله في إطار تيوفاني يذكرنا بوحي الله لموسى (خر 29: 18) وإيليا (1 مل 19: 11) وأيوب (أي 38: 1؛ 40: 6).
- وتعود عبارة مقولبة: زلزال عظيم وقع (رؤ 6: 12؛ مت 8: 24). وقع زلزال عنيف (أو عظيم) (رؤ 11: 13). زلزال (وقع أو حدث) عظيم (مت 28: 2؛ رؤ 16: 18؛ أع 16: 26).
إذا لاحظنا كيف ترد العبارة الأخيرة، نرى أننا أمام إطار تيوفاني (كما في تعداد مظاهر العاصفة) حيث تخضع الكلمات التي تعبر عن عناصر طبيعية، للتعبير عن حضور الله الذي يعرّف عن نفسه حين يبرز قدرته ومجده. وهذا ظاهر في سفر الرؤيا كما هو ظاهر أيضاً في إنجيل متى. ففي مت 28: 2، أي في الخبر الفصحي عن النساء عند القبر، يبتعد متى عن سائر الانجيليين، فيتفرّد بعبارة "سايسموس اغانيتو ميغاس" أي "زلزال عظيم حدث". هذا يعني أننا لسنا أمام عنصر إخباري ضروري للخبر بل أمام "زيادة" لاهوتية تشدّد على الطابع التيوفاني للحدث الفصحي. ونقول الشيء عينه عن مت 8: 24. فالخبر المتاوي عن تهدئة العاصفة يتحدّث عن عاصفة شديدة وكما يقول النص اليوناني: "زلزال كبير". لن نفسّر النص بالمعنى الحرفي. وإلا كنا أمام هجمة بحرية لا تتوافق مع الرياح (والعاصفة) المذكورة في مر 4: 37 (عاصفة شديدة) أو في لو 8: 23 (يقول فقط: هبت عاصفة). إذن، نعتبر أن متى يتفرّد في تأليفه بالتشديد على البعد التيوفاني للمعجزات التي يجترحها يسوع، فيتبع تقليد التيوفانيات الكبرى على سيناء وحوريب.
وانطلاقاً من هذا المعنى المتاوي والجلياني، نستطيع القول عن أع 16: 25- 34 إننا لسنا أمام تصوير ظاهرة طبيعية من النوع الزلزالي، بل أمام حديث عن خبرة دينية من النوع الروحي. هو: الحضور الملموس لحضور الله الناشط في إطار سجن يتضمن تحرراً لم يكن منتظراً، وارتداداً عجيباً للسجّان مع عائلته واقتباله للعماد من يد السجينين اللذين كان موكّلاً على حراستهما. إلتقت الظروف على هذا الشكل، فعبّرت بوضوح عن تدخّل الله القدير. في هذه الحال، نفهم لجوء لوقا إلى اللغة التيوفانية ليبرز يقينه الذي يتحلّى بالصحة الكاملة من جهة الايمان. غير أن المؤرّخ لن يستطيع أن يتحقق من الأمر بعد أن كانت الإشارات الخارجية ووسائل المقابلة ناقصة.
وتثبيتاً لافتراضنا بأنه يجب أن نفهم هذا الزلزال كتفسير ديني لأحداث ملموسة، لا لهزة أرضية، نذكر أن العبارة "هزّت أسس السجن" نجدها في مز 82: 5. وان قرينة هذا المزمور ليست قرينة زلزال بالمعنى الملموس للكلمة. إن هذا المزمور يشير إلى قدرة الله البارزة في الحكم الالهي على القضاة الاشرار الذين يسحقون بشّرهم وفسادهم الصغار والمساكين. فالآية الأولى ترسم لنا إطار دينونة الله: "انتصب الله وسط الجماعة الإلهية. وسط الآلهة حكم". إن عبارة مجلس إلهي مع أعضاء هم آلهة، لا تتوافق ومتطلبات وحدانية الله، ولكنها تشدّد على مهابة الظهور الإلهي في إطار تيوفاني يتوافق والهزة الأرضية المذكورة في آ 5. وهكذا يؤكد مز 82 التفسير التيوفاني للزلزال الذي أحسّ به مسجونو فيلبي. لا شك في أن الإطار الكوني الذي ذكره المزمور صار سجناً صغيراً يخفي بولس وسيلا. هذا هو اللاهوت اللوقاوي الذي يهتم بإبراز التواصل بين المشاهد العظيمة والنموذجية التي نجدها في تاريخ شعب الله، وبين انتشار الإنجيل بواسطة يسوع أولاً ثم بواسطة تلاميذه. فمن قمم الجبل المقدس الى حبس فيلبي المظلم، نجد الإله الواحد الذي يدل على حضوره الناشط من أجل عبيده الذين كلّفهم مهمّة نشر كلمته.
6- ولكن من أين جاء موضوع "الزلزال" الغريب عن التقليد اللوقاوي بحصر المعنى؟ قد يكون هناك تأثير التيوفانيات التوراتية الكبرى المذكورة في خر 19 و1 مل 19، لا سيما وأننا نعلم أن العبارات التي استقاها لوقا من السبعينية كثيرة. ولكن مقابلة نص فيلبي مع تيوفانيات سيناء (بالنسبة إلى موسى) وحوريب (بالنسبة إلى إيليا) لا تنفعنا كثيراً. لا شك في أن هناك كلمة زلزال البسيطة: سايسموس، 15 مرة في السبعينية. والكلمة المركبة: سوسايسموس، 10 مرات. ولكن هذا لا يدل على تأثير مباشر. كل ما نستطيع أن نقوله هو أن الزلزال سمة لا تتبدّل في أخبار التيوفانيات. أما في مشهد سيناء كما يرد في خر 19: 10- 24، فالزلزال يذكر مرة واحدة في النص العبري (آ 18: واهتز الجبل كله بقوة. فعل "حرد" العبري)، ويحل محلّه تفسير أنطروبولوجي في الترجمة اليونانية: اضطرب الشعب كله بقوة. نلاحظ أن النص الماسوري يتحدّث في آ 16 عن اضطراب الشعب (فعل "حرد" أيضاً) أمام انفلات قوى العاصفة. هذا ما "يبرز" تفسير آ 18 في السبعينية التي تشدد على المعنى الباطني للنصوص. وهناك إمكانية أخرى: المزج بين كلمتين: الجبل (هـ- هر) والشعب (هـ- عم). ومهما يكن من أمر، لم يتأثر خبر فيلبي بالسبعينية التي تميل بالأحرى إلى التخفيف من ظهور قدرة الله في الكون.
هل نستطيع أن نجد تفسيراً في الآداب الواردة بين العهدين (القديم والجديد)؟ كيف قرأت خر 19؟ هنا تتضارب النتائج.
من جهة، ان الترجوم الفلسطيني الذي يورد تقاليد قديمة يعود بعضها إلى زمن الرسل، لا يضخّم موضوع الزلزال. بل هناك تيار في مخطوط 440 من المكتبة الفاتيكانية يلتقي والنسخة السبعينية: وكل الشعب الذي كان في الهيكل ارتجف.
من جهة ثانية، إن كتاب القديميات البيبلية (نسب خطأ إلى فيلون. تعود الترجمة اللاتينية إلى نص شعبي يرتبط بالتقليد الفريسي) يضخّم ما قاله خر 19: 18 (ارتجف الجبل) ويغفل
آ 20- 25 (نزل الرب على جبل سيناء... ونادى موسى). جاء الزلزال الكوني بعد الظهور الإلهي، فصوّره الكاتب بتفاصيل مدهشة ومهيبة: اشتعلت الجبال من النار. ارتجفت الأرض. انقلبت التلال، تدحرجت الجبال، دبّ الغليان في الغمار وتحرّكت (الأرض) المسكونة. التفَّت السماوات و"شرقت" الغيوم المياه. اشتعلت النار بقوة، وتزاحمت الرعود والبروق. اجتمعت الكواكب، وأسرع الملائكة من أجل هذا الوقت الذي فيه ينقل الله شريعة العهد النهائي إلى بني اسرائيل، ويعطي الوصايا الأزلية التي لا تزول.
ولكن الفرق شاسع بين ما قاله أع وما قاله كتاب القديميات البيبلية. لا شك في أن نقطة الانطلاق تبقى خر 19 و1 مل 19. ثم إن هناك عبارة مقولبة نجدها في إنجيل متى وسفر الرؤيا (حصل زلزال كبير). ولكن كيف دخلت هذه العبارة إلى خبر سفر مليء بأحداث عاشها الرسول في محيط يوناني وروماني؟ هنا تقف النظرية التكوينية وتعرف حدودها (لا تقدّم إلا فرضيات). أجل، لن نستطيع أن نحصر درسنا في الوحدات الأدبية، بل يجب أن ننتقل إلى المقطوعة كلّها (16: 11- 40) التي تشكل نصاً متماسكاً ألّفه الكاتب وحمّله المعنى ليجد مكانه في مجمل سفر الأعمال..
ج- وحدة الخبر ووظيفته التفسيرية
1- على مستوى المقطوعة كلها
ليست أحداث فيلبي مجموعة من الوقائع جُمعت بطريقة مصطنعة، بل هي تشكّل «مقطوعة» لها حدودها وتنظيمها الداخلي.
يشير الكتاب إلى معالم النص بذكر الوصول والذهاب. في آ 11- 12: "فركبنا السفينة من ترواس متجهين الى ساموتراكية، وفي الغد الى نيابوليس ومنها الى فيلبي". وفي آ 40: "فلما خرجا من السجن ذهبا الى بيت ليدية، فشاهدا الإخوة وشجّعاهم ثم انصرفا". إن هذا التحرك الذي يؤكد وحدة للأحداث الواردة في 16: 11، 40، يدخل في الإطار العام بطريقتين. من جهة القرينة الخارجية أي خبر السفرة مع ذكر عدة مراحل داخل كل تنقل: الوصول (آ 11) مع ذكر ترواس وساموتراكية ونيابوليس (طريق بحري). الذهاب (17: 1) مع ذكر امفيبوليس وابولونية وتسالونيكي (الطريق البرية التي تقابل رسمة الطريق الأغناطية). من جهة القرينة الداخلية، أي الإقامة في فيلبي مع الانتقالات في آ 12 ب (قضينا بعض الوقت في هذه المدينة) وفي آ 39 ب (لمّا أخرجوهما طلبوا إليهما أن يرحلا عن المدينة). هكذا تشكل آ 11- 40 مجموعة مرتبطة بالقرينة، وفي الوقت عينه منفصلة عنها بفضل وحدة المكان.
وداخل هذا الفصل عينه نجد إشارات كرونولوجية تتيح لنا أن نميّز متتاليات أي أحداثاً مميزة ولكنها واقعة على خط واحد من التسلسل الزمني:
في آ 12 ب: قضينا بعض الوقت في تلك المدينة.
في آ 13 أ: يوم السبت عبرنا الباب (أي خرجنا من المدينة).
في آ 16 أ: في أحد الايام كنا ذاهبين إلى الصلاة (إلى بيت ليدية حيث أقام بولس وسيلا).
في آ 18 أ: وفعلت (عاودت) ذلك أياماً عديدة.
في آ 25 أ: وعند منتصف الليل تقريباً، كان بولس وسيلا يصلّيان. ونقرأ الشيء عينه في آ 33 أ: في تلك الساعة من الليل.
في آ 35 أ: ولما طلع الصباح أرسل الحكام الحرس الخاص بهم.
في آ 45 أ: فلما خرجا من السجن.
إن هذه المحطات المختلفة تتيح لنا أن نقدم تسلسلاً كرونولوجياً يقسم المقطوعة إلى مقدّمة وخاتمة وخمس مشاهد.
المقدمة: آ 11- 12. وصلوا إلى فيلبي. مرت أيام عديدة من دون أحداث.
المشهد الأول: آ 13- 15. ارتداد ليدية وأهل بيتها (يوم السبت)
المشهد الثاني: آ 16- 17: الجارية "العرافة"، أو شهادة الأرواح للمرسلين (أياماً عديدة).
المشهد الثالث: آ 18- 24: صراع مع السلطات حسب رسمة مثلثة:
*إخراج الشيطان. الشكوى.
*مثول أمام المحكمة.
*تنفيذ الحكم (جلد وحبس).
كل هذا تم في آخر يوم التقوا فيه هذه العرّافة.
المشهد الرابع: آ 25 – 34. أحداث فريدة حصلت في السجن (في قلب الليل) حسب رسمة مثلثة.
*صلاة المرسلين.

*الزلزال ونتائجه المباشرة.
*ارتداد السجان وأهل بيته.
المشهد الخامس: آ 35- 39. إطلاق سراح السجينين مع اعتذار السلطات كما طلب بولس (غداة تلك الليلة العجيبة).
الخاتمة: آ 40. الرحيل في اليوم عينه ولكن على مهل: ودع بولس ليدية والجماعة بعد أن أخبرهم بما حدث له.
نلاحظ أن ذكر ليدية (تضمين مع المشهد الأول) يشدّد على مستوى "الممثّلين" أن النص انتهى. وتحرّك المرسلان من فيلبي وتوجّها الى تسالونيكي التي ستكون إطاراً للحدث التالي.
ونجد اختلافين في النص الغربي تشدّدان على تماسك القصة وعلى الرباط الذي يوحّد بين العناصر المتتالية. نقرأ في آ 35: "ولما طلع الصباح، اجتمع الحكّام في الساحة العامة، في المكان عينه. وإذ كانوا ممتلئين خوفاً لذكر الزلزلة التي حصلت، أرسلوا الحرس". وفي
آ 39 يتضخّم الخبر: "وحين وصلوا إلى السجن مع أصدقاء عديدين، توسلوا إليهما أن يخرجا وقالوا لهما: جهلنا من أنتما. جهلنا أنكم أناس أبرار. وبعد أن اقتادوهما إلى الخارج طلبوا إليهما: اخرجا من هذه المدينة لئلا يجتمع عليكما مرة ثانية هؤلاء الذين هاجموكما بصياحهم". ففي آ 35، يشير ذكر الزلزال إلى أن تحرير المرسلين هو نتيجة مباشرة للخوف الذي أثارته أحداث الليل. وفي آ 39 فسرت خطبة الحكام هذا الانقلاب عندهم بوعي لديهم بأن بولس وسيلا هما رجلان باران (هذا يدل على أهمية أحداث الليل). وأن الكلمات التي رافقت الطرد تجد تفسيرها في احتجاجات الناس الذين يبلبلون النظام العام بمظاهراتهم الصاخبة.
ويزيد النص البازي بعض الامور ليعطي الأحداث بعداً دراماتيكياً كبيراً: في آ 11، زاد إشارة زمنية: "وفي الغد ركبنا السفينة". وفي آ 30 زاد: "جعل سائر السجناء في مكان آمن لئلا يفرّوا". الزيادة تركّز الخبر على البطلين بولس وسيلا اللذين نعما بخلاص تلا ظهور قدرة الله في تلك الليلة. وفي آ 40، نجد تشديداً على تدخل عناية الرب التي تحدّث عنها المرسلان إلى ليدية قبل أن يذهبا: "حين شاهدا الإخوة، أخبراهم بكل ما فعل الرب لهما".
2- على مستوى المتتاليات
اكتشفنا البنية الإخبارية على مستوى المقطوعة، وسنكتشفها على مستوى كل متتالية التي ستبدو متناسقة مع الفصل كله.
 المشهد الأول: نجد فيه ثلاث مركبات لبنية إخبارية بدائية.
أولاً: وضع نقص في بداية الخبر: لا شك، هناك إطار يهودي (يوم السبت، امرأة متعبدة لله، الصلاة)، ولكنه إطار ناقص: مجموعة مؤلفة من نساء فقط، ولا يحق لها أن تكون داخل المدينة. إنها تجتمع خارج الأبواب قرب النهر، وكأنه لا يحق لها أن تتمتع ببنية اجتماعية. مقابل هذا، نجد في نهاية الخبر وضعاً من السعادة، بعد أن تكوّنت خلية اجتماعية منظمة (ترد كلمة "اويكوس" التي تعني البيت كما تعني العائلة والمنزل: تعمّدت هي وبيتها. أدخلوا بيتي، آ 15). اجتمعت هذه الخلية باسم إيمان مسيحي صريح أعلنته ليدية وأكّده الرسل (إذا كنتم تحسبوني أني مؤمنة).
بعد خروج من المدينة الذي هو أسمى الأمكنة الاجتماعية، أطلت عملية الدخول (ادخلوا بيتي). بل هناك الإقامة (أقيموا) في وضع من الاستقرار. وبين هذين الوضعين المتعارضين، تمّ التحول في قلب ليدية بسبب تعاليم بولس الذي لعب دوراً فاعلاً. ولكن هذه الكلمة البشرية لم تفعل حقاً فعلها، إلا لأن الفاعل الحقيقي هو الرب نفسه الذي فتح قلب ليدية. نلاحظ أن التي تخاف الله (تيوس) وتتعبّد له، قد أدركها الرب (كيريوس) الذي ستعلن إيمانها به حسب التقليد الرسولي. هذا التحوّل الداخلي بفعل كلمة بشرية وتأثير من الله، وهذا الارتداد في قلب ليدية، قد وجد مصادقة عليه في فعلة ملموسة هي المعمودية، التي تدلّ على العبور من مرحلة الارتباط الإيماني الشخصي والحميم إلى مرحلة الانضمام إلى جماعة المؤمنين الذين يقيمون في بيت ليدية (صار البيت كنيسة) والذين ستسمّيهم آ 40: "الإخوة" (أسمى الصفات التي تتحلّى بها الجماعة).
المشهد الثاني (آ 16- 18 أ). يذكر حوادث تكرّرت على أيام عديدة. بدا وكأنه يتحدّث عن أمر حصل مرة واحدة. في البداية: حصل في أحد الايام (أغاناتودي). وفي النهاية: وهذا كانت تعمله أياماً كثيرة. تُفتتح المتتالية بذكر مسيرة إلى بيت الصلاة، أي إلى خارج المدينة، وتُختتم بإعلان احتفالي "لطريق الخلاص" (أودوس، الطريق: تدل على المسيحيين في 9: 2؛ 9:19، 23؛ 22: 4؛ 24: 14، 22. طريق الرب في 18: 25. طريق الله في 18: 26). من قام بهذا الإعلان؟ جارية تكلّمت باسم قوى شيطانية. الأرواح النجسة هي في الوقت عينه خصوم يسوع والمخبرة عن رسالته الإلهية. هذا ما تقوله أخبار طرد الشياطين في الأناجيل الإزائية. وهذه "العرّافة" في أع تعارض عمل المرسلين من جهة، وفي الوقت عينه تشهد للطابع الإلهي الذي تتحلّى به مهمتهم الرسولية: هؤلاء الرجال عبيد الله العلي، يبشّرونكم بطريق الخلاص. صراع سينتهي بطرد الشياطين ويدل على تفوّق الله الذي لا شك فيه. والصراع بين الأرواح والمرسلين سيتّخذ وجهاً دينياً (طرد الروح) ووجهأ اجتماعياً (المحاكمة). هذا سيكون موضوع المشهد الثالث.
المشهد الثالث (آ 18 ب - 24). بين المشهد الثاني الذي يمتدّ أياماً عديدة وينتهي بالإشارة إلى الزمن (أياما عديدة، آ 18 أ)، وبين المشهد الرابع الذي يجد تماسكأ ملحوظاً في وحدة المكان (السجن) والزمان (الليل. هذا يحدّد منذ آ 25)، تروي آ 18 ب- 24 سلسلة من الأحداث تتوسّط المشهدين الثاني والرابع، وتتوزع في فسحة يوم واحد وهي: إخراج الشيطان على يد بولس، شكوى سادة الجارية على بولس وسيلا، المثول أمام الحكام المتمتّعين أيضأ بالسلطة القضائية، ضغط الجماعة على المحكمة، تنفيذ الحكم (الجلد، السجن). إن تسلسل الأحداث هذا قلب عقدة الخبر. رأينا في المشهدين الأولين تقدم الإنجيل (مع الشعور بتهديد في المشهد الثاني). أما في آ 18 ب - 24، فنرى رجوعاً إلى الوراء مفاجئاً. فالوضع الأول (مشهد طرد الشيطان، آ 18 ب) دلّ قولاً وعملاً على قدرة اسم يسوع: "آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها". فخرج في الحال. مقابل هذا، جاء السجن في أعماق الحبس المظلمة مع تشديد الحراسة، فمنع كل انتشار للإنجيل: قُيّد المرسلان، بل جُعلت أرجلهما في الخشب، فأصبحت كلمة الله "مقيدة". لقد زالت كل الآمال التي حرّكتها بداية الإنجيل. لقد دمّر الشياطين بواسطة محبة المال (سادة الجارية) والعداء للغريب (الشعب الهائج) كل مجهود المرسلين في أرض أوروبية ورومانية. الخسارة كاملة على المستوى البشري. لقد توقّف عمل البشارة، ولن يطلقه من جديد إلا معجزة يرسلها الله من العلاء.
المشهد الرابع: ستتبدّل الحالة خلال ليل مليء بالمفاجآت. نحن نعلم حالة المرسلين والضيق الذي يتعرضان له. ولكن آ 25 لا تدل على أنهما في ضيق وعزلة. إنهما فرحان، وهما يُنشدان ويصلّيان، وهذا ما يربطهما بالله الذي يتوجّهان إليه، وسائر السجناء الذين يصغون اليهما. نحن هنا أمام بداية ظروف مؤاتية لحمل البشارة لأهل فيلبي. والمشهد الأخير سيؤكّد تحوّل الوضع تحوّلاً كاملاً: كان "بيت" يجتمع فيه المؤمنون في المشهد الأول. وهنا سيأتي موضوع الطعام المضمَّخ بالبهجة والفرح، فيطبع بطابعه الاتحاد في الإيمان بإله أنشده المرسلان في أعماق سجنهما (تتردد كلمة "الله" تيوس في آ 25 وآ 34 فتشكل تضميناً). فبين آ 26 وآ 33 تتدافع أحداث تجعل العقدة تتحرّك وتتطورّ بسرعة. هناك أولاً "الزلزال" الذي هو ظهور محسوس لقدرة الله والذي أتاح للمرسلين أن يستعيدا حريتهما دون أن يصاب السجّان بأذى. إن الفاعل الحقيقي في تبدل الوضع هذا هو "الزلزال" الآتي من الله. أما كلمة بولس الممهورة بالسلطة النبوية، فقد جاءت تفسّر الأحداث لسجّان قاده ضميره المهني إلى حافة الانتحار. هنا أطل الضوء (في هذا الوقت طلب السجان ضوءاً، آ 29). ضوء المسيح، فصوّر لنا لوقا مشهد ارتداد السجّان: من جهة احترامٍ عميق (ارتمى على أقدامهما) وخدمة (غسل جراحهما، قدّم لهما طعاماً) يدلاّن على أنه عرف هوية هذين السجينين. ومن جهة ثانية بدأ حوار تعليمي مربّع:
- عبارة تلاها الطالب: "ماذا يجب عليّ أن أعمل لأخلص" (آ 30)؟
- التزام أولي يصل الى فعل إيمان: "آمن بالرب يسوع المسيح تخلص أنت وأهل بيتك" (آ 31).
- تعليم يعطى لهذا المؤمن الجديد: "بشراه بكلام الرب هو وجميع أهل
بيته" (آ 32).
- احتفال بالمعمودية (آ 33) يدل على انضمام إلى الجماعة، ووليمة تدل على كمال الوحدة فى الإيمان (هناك عشاء المحبة، أغابي، والإفخارستيا)
من الممكن أن تقدّم لنا هذه المتتالية مراحل أسرار التنشئة المسحية. ولكن المتطلّبات الإخبارية في هذا الخبر التأسيسي، تتدافع بسرعة كبيرة تشدّد عليها آ 33: "أخذهما في تلك الساعة من الليل، وغسل جراحهما، وتعمّد في الحال هو وأهل بيته". ونلاحظ أيضاً التشديد المربّع على البعد الجماعي للمعمودية: قدم السجّان طلباً شخصياً فعرض عليه بولس فعل إيمان. ثم جاء التعليم والمعمودية مع "الوليمة". كاد السجن يقطع كل طريق لإعلان الإنجيل، فإذا هو يصل بنا إلى تأسيس خلية كنسية جديدة زيدت على الخلية التي تجتمع في بيت ليدية. تلك هي المعجزة التي دلّت على قدرة الله والتزامه جانب الكنيسة التي ولدت حديثاً. وانقلاب الأمور على هذا الشكل لا يزعزع فقط أسس بناء، بل يحّرك وثنيين يرفضون الإيمان بيسوع. والبرهان الساطع على ذلك هو ارتداد السجّان وأهل بيته. أما المرسلان، فلم يزالا يترجيان عون الله. كانت صلاتهما الليلة علامة هذا الرجاء، وشهد الزلزال أن صلاتهما سُمعت، وأن الحرية ستعود اليهما لينطلقا إلى مكان آخر.
المشهد الخامس (آ 35- 39). يبدأ صبيحة آخر يوم سيقضيه بولس وسيلا في فيلبي، ويرى تبدل الوضع بسبب أحداث الليل. أطلق سراح السجينين، هذا ما لا شكّ فيه. وسيتخذ القرار طابعاً رسمياً حين يأتي الحرس الى السجان. ولكن بولس رفض أن يُطلق سراحهما خفية: ليقدموا الاعتذار. كل هذا من أجل الدعاية للإنجيل. ولكن النجاح لم يكن كاملاً: طُلب من بولس وسيلا أن يرحلا عن المدينة. لا همّ. لقد وصل إعلان الإنجيل إلى الشعب، بل إلى السلطات. وتأسست "كنيسة" ستتابع العمل. من أجلها كرّس المرسلان آخر ساعاتهما قبل أن يغادرا مدينة فيلبي. أجل، رغم المحن والاضطهادات، استطاعا أن يزرعا جماعة من "الإخوة". وتُذكر ليدية هنا (آ 40) كما ذُكرت في البداية، وهذا ما يدل على دورها المركزي: ارتدادها كان الثمرة الأولى في رسالة فيلبي، وزيارة بولس وسيلا لها، نهاية هذه المرحلة الأولى من التبشير في مكدونية. أنهى الرسل عملهم، فتركوا فيلبي، وتوجّهوا إلى مدنٍ أخرى وهم متيقّنون بأن الله يدعوهم إلى التبشير فيها (16: 10).
3- خبر فيلبي في مجمل أع
نلاحظ أن خبر هذا "التحرير العجيب" الذي أفاد منه بولس وسيلا، هو ثالث بين سلسلة من تدخلات الله أفاد منها الرسل كمجموعة (5: 17- 42)، كما أفاد منها بطرس وحده (12: 1- 19). الوضع هو هو في الأخبار الثلاثة: سجن قاس في ظروف تبدو فيها النجاة مستحيلة. ولكن منذ الليلة الأولى تتسهّل الأمور، فيؤكّد الإفلات من السجن على تدخل مباشر من قبل الله القدير. ذلك الإله الذي أنقذ يسوِع من سجن الموت. كان الخبر الأول موجزاً فركّز الحدث كله على آية واحدة (5: 19: "ولكن ملاك الرب فتح أبواب السجن في الليل وأخرج الرسل") تكفينا لتحدّد الإطار (الليل) والفاعل (ملاك الرب)، ولتصوّر مسيرة الإنقاذ (فتح أبواب السجن واقتادهم الى الخارج). ويستعيد الخبر الثاني العناصر الجوهرية: الإطار الليلي، تدخل ملاك الرب. ويصوِّر التحرير بصورة مادية: انحلت السلسلتان عن يدي بطرس. وينطلق الراوي من هذه الرسمة فيقدّم عناصر الخبر. نذكر منها ثلاثة. الأول: الإشارة إلى الجماعة التي صلّت بإلحاح، فجاءت صلاتها بشكل خلفّية للحدث العجائبي. وفي ف 16 سيكون إظهار قدرة الله جواباً على صلاة المرسلين. الثاني: التشديد على ظروف السجن: وجود أربع فرق، بطرس مقيّد بسلسلتين ويحرسه حارسان داخل السجن. وجود جنود على باب السجن، مركزان آخران للحرس، وفي النهاية باب حديدي. لا سبيل إلى النجاة إطلاقاً. والأمر هو هو بالنسبة إلى بولس وسيلا. الثالث: تفسير موضوع ملاك الرب تفسيراً تيوفانياً. إن فيض النور الذي يرافق ظهوره، يدل على أننا أمام تدخّل الله نفسه (في التقليد الذي يتوسّط العهدين، هناك وساطة: ملاك الرب أو الاسم أو الكلمة. وهكذا يُحافظ على تسامي الله المطلق). تدل 12: 9، 11 على أن بطرس لم يفهم أولاً، وأنه بعد ذلك سيقر بالعمل الإلهي الذي تحقّق من أجله، فتقدمان الجواب إلى الذين لم يفهموا البعد التيوفاني لهذه اللغة الرمزية. وكذلك نقول عن ف 16: فموضوع الزلزال يشير إلى الاضطراب الذي أثاره تدخل الله معارضاً منطق الأوضاع البشرية.
إن تحرير بولس وسيلا في فيلبي هو صدى لما حدث للرسل (ف 5) ولبطرس (ف 12) من عمل عجيب، وهو يتوافق توافقاً كلياً مع مشروع أع كله. وهذا المشروع هو التشديد على تواصل التبشير رغم تجدّد المناطق الجغرافية وتبدّل العاملين في نشر الإنجيل. بولس هو الفاعل الأول في عمل الرسالة الذي امتد في حوض البحر المتوسط. إنه وارث بطرس الذي ارتبطت به الرسالة الأولى في أرض فلسطين. هناك تواصل مع الكنيسة الأم في أورشليم والمجتمعة حول الرسل الذين جعلهم يسوع كسامعين لتعليمه، والشاهدين لأعماله العجيبة حتى انتصاره على الموت. من الواضح أن خبر فيلبي تركّز على بولس، فدلّ على شرعية بولس في مهمة حمل البشارة إلى العالم الوثني، وهي بشارة شهد لها الرسل لدى الإخوة في أورشليم وعمل بطرس على نشرها في فلسطين. وهكذا تحقّقت المهمة التي أعلن عنها أع 1: 8: "ستكونون لي شهوداً في أورشليم، في كل اليهودية والسامرة، وحتى أقاصي الأرض". ففي فيلبي التي هي باب الغرب اللاتيني، سمع بولس الصوت الذي سمعه الرسل في أورشليم. وهكذا دل أع بل كل مؤلّف لوقا (الإنجيل والأعمال) على تواصل العمل الرسولي منذ الجماعة الأولى التي ارتبطت بيسوع بفعل شهادة الرسل، إلى امتداد البشارة في الأراضي البعيدة بمبادرة بولس، ذلك الذي لم يكن من مجموعة الاثني عشر ولا من الذين تبعوا يسوع على طرقات الجليل واليهودية - إنه الرسول، ولولاه لم يصل الإنجيل بهذه السرعة "حتى أقاصي الأرض".

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM