الفصل العاشر: الرحلة الرسولية الثانية

الفصل العاشر
الرحلة الرسولية الثانية
بدا لنا القديس بولس رجلاً يفتح طرقاً جديدة، ويهتمّ بزرع صليب المسيح في أماكن لم يصل إليها الإنجيل. وكان في الوقت عينه رئيس جماعة يهمه ثبات المؤمنين في حياتهم المسيحية. ولهذا، بعد أن أقام بعض الوقت في أنطاكية، عرض على برنابا قال: "تعال نزور الأخوة في كل مدينة بشّرنا فيها بكلام الرب، ونطلّع على أحوالهم" (15: 36). أراد برنابا أن يرافقهما مرقس أبن عمه. ولكن بولس تذكر أن الشاب تركهما وتراجع أمام الخطر. فنتج خلاف بين الرسولين (15: 39): حينئذ ذهب برنابا ومرقس إلى قبرص، أما بولس فرافقه سيلا.
أ- عبور آسية الصغرى
1- زيارة الكنائس
كيف تبدو هذه الرحلة؟ بعد أن زار بولس (ورفاقه) الكنائس الفتية ليقوّيها في الإيمان (15: 41- 16: 5)، جاء إلى مكدونية (16: 6- 17: 15)، ثم أثينة (17: 16- 34) وكورنتوس (18: 1- 17). لقد تقدّم الإنجيل نحو الغرب، وهذا ما أراده الله. حاول بولس أن يدخل بيثينية (ليقضي فيها بعض الوقت). لم يسمح له روح يسوع. كما حصل بولس على رؤية تقول له: "أعبر إلى مكدونية وساعدنا" (16: 1). تيقّن بولس أن الصوت هو صوت الله يدعوه إلى الذهاب إلى مكدونية. أجل، بدأت حياة بولس في رؤية (9: 10، 12؛ 23: 11؛ 26: 19). وها هو الله يوجّهه الآن. وسيحصل على رؤية في كورنتوس: "لا تخف، بل تكلّم ولا تسكت، فأنا معك" (18: 9- 10).
سيجد بولس نفسه للمرة الأولى وجهاً لوجه مع السلطات الرومانية: جُلد بولس وسيلا ووُضعا في السجن مع حراسة شديدة. ولكن إنتهى كل شيء بالأعتذار: "أطلقوهما وطلبوا إليهما أن يرحلا عن المدينة" (16: 39). هذا ما حدث لهما في فيلبي. وفي كورنتوس، رُفعت القضية إلى غاليون، حاكم أخائية (19: 12 ي). وسيلتقي بولس بالحضارة اليونانية خاصة في أثينة (17: 16- 34).
نستطيع القول إن قسماً جديداً من أع يبدأ هنا: رسالة بولسية كبيرة (رج غل 2: 7- 9: عُهد إليّ في تبشير غير اليهود، غير المختونين، كما عُهد إلى بطرس في تبشير اليهود). إنطلق بولس من أنطاكية، كما قلنا، ولكن نقطة الإنطلاق الحقيقية تقع في أورشليم (روم 15: 19: من أورشليم إلى إليركون أكملت التبشير بالمسيح): من هناك أطلقت حرية كلمة الله، وإلى هناك سيعود بولس في النهاية (21: 15- 26).
في هذا القسم تتردّد إختلافة غربية. في 15: 41 نقرأ: إن بولس كان يثبّت الكنائس "وينقل إليها تعليمات الشيوخ" أي ما أتّخذ من قرارات في مجمع أورشليم. وفي 16: 4 يقول النص الغربي: "حين عبروا المدنَ بشروا بجرأة كاملة بالرب يسوع المسيح، ونقلوا إلى المؤمنين أوامر الرسل والشيوخ في أورشليم". توجهت هذه الرسائل إلى الأخوة "في أنطاكية وسورية وكيليكية" (15: 23)، ولكنها كانت نافعة أيضاً للمسيحيين في لسترة وأيقونة...".
لم يهتم لوقا بالقسم الأول من الرحلة. إنه يريد أن يرى الرسولين يصلان إلى أوروبا: "إجتازا سوديلة وكيليكية". إذن، لا نستطيع أن نتصوّر المسيرة إلاّ في خطوطها العريضة. إذا أردنا أن نذهب من أنطاكية إلى لسترة، فلا بدّ من المرور بطرسوس وأبواب كيليكية (طريق عبر الجبال العالية).
ويذكر لوقا المناطق التي إجتازها بولس ورفيقه: فريجية، منطقة غلاطية، آسية أي منطقة أفسس وسميرنة (أي أزمير الحالية)، لا مقاطعة آسية الرومانية التي كانت تضمّ مناطق عديدة منها ميسية ميسية هي جزء من آسية الصغرى يقع على حدود البوسفور. وبيثينية تحاذي ميسية وتقع على البحر الأسود. وفي النهاية وصلا إلى ترواس التي هي مرفأ في الشمال الغربي لآسية الصغرى والتي كانت مستوطنة رومانية منذ عهد أغوسطس (رج 16: 11؛ 20: 5، 6؛ 2 كور 2: 12. تبعد 10 أميال تقريباً عن طروادة القديمة).
وصل بولس إلى لسترة فأستقبلته عائلة تيموتاوس. تعلّق تيموتاوس ببولس فأخذه معه (16: 1- 3).
من هو تيموتاوس؟ نعرف أمه: أفنيكة (أو: أونيكة)، وجدته: لوئيس (2 تم 1: 5). كان والده وثنياً وأمه يهودية، فلم يختن. ولكن بولس أراد أن يتحاشى الصعوبات مع يهود الجوار، فقبل أن يختن تلميذه (16: 3)، كما رفض في ظروف أخرى أن يختن تيطس (غل 2: 3). كان تيموتاوس مثال المعاون المخلص للرسول الذي أوكل إليه مهمّات دقيقة في تسالونيكي (1 تس 3- 2) وفي كورنتوس (1 كور 4: 17؛ 16: 10). سمّاه بولس "أبنه" (1 تم 1: 18)، فقلق حين أبتعد عنه (1 تس 3: 6؛ 2 تم 1: 4: "أتشوق إلى رؤيتك لأمتلئ فرحاً"). وأشركه في كتابة رسائله التي وجهّها إلى جماعات تسالونيكي وكورنتوس وفيلبي وكولسي: "من بولس رسول المسيح بمشيئة الله، ومن الأخ تيموتاوس، إلى كنيسة الله في كورنتوس" (2 كور 12: 1). كان رجلاً مرناً، فعمل مع بولس دون "مشاكل"، ولكن نقصته روح المبادرة. فقال له بولس: "ما أعطانا الله روح الخوف، بل روح القوّة والمحبة والفطنة" (2 تم1 : 7).
ونذكر في هذه المناسبة سيلا (أو: سلوانس) وهو نبي جاء من أورشليم. أرسله الرسل والشيوخ إلى أنطاكية مع يهوذا الذي يقال له برسابا. ويقول النص عن سيلا ويهوذا: "كانا ممّن لهم مكانة رفيعة بين الأخوة" (15: 22). أوصل الموفدان تعليمات كنيسة أورشليم إلى أنطاكية. "ولكن سيلا رأى أن يبقى هناك (في أنطاكية). فرجع يهوذا وحده" (15: 34). سيحل سيلا محل مرقس في الطريق الرسولي الجديد (15: 40)، وسيلعب دورا كبيراً في تبشير تسالونيكي، كما نرى في عنوان (1 تس 1: 1، يرد إسم سلوانس حالاً بعد إسم بولس؛ رج 2 تس 1: 1). كان سلوانس قرب بطرس الأخ الأمين. وهو الذي كتب 1 بط (1 بط 5 :12).
ولوقا هو الطبيب الأمين (كو 4: 14؛ فلم 24؛ 2 تم 4: 11) الذي رافق بولس في قسم من أسفاره. هذا ما نكتشفه في القطع المكتوبة في صيغة المتكلم الجمع (نحن): "أما نحن فتوجّهنا إلى السفينة، فأقلعنا إلى أسوس لنأخذ بولس معنا من هناك، كما طلب منا" (20: 13). نستطيع القول إن هذه يوميات لوقا. ما رواه لوقا يساعدنا على تحديد إطار رسالة بولس. ولكن لن نبحث عنده عن أمور محدّدة تتعلّق بتعاليم بولس الخاصة.
"وكانت الكنائس تتقوّى في الإيمان (أي في الحياة المسيحية، رج 14: 22). ويزداد عددها يوما بعد يوم" (16: 5). نحن هنا أمام إجمالة قصيرة تشبه ما في بداية أع (2: 42: مواظبة على تعليم الرسل). إن ما أراد لوقا أن يقوله في آ 1- 5 هو أن الرسل إتخذوا طرقاً جديدة وتوغّلوا في البعيد، ولكنهم ظلّوا متّحدين بكنيسة أورشليم إتحاداً وثيقاً. قد نجد هنا أحد الأسباب الذي لأجله ختن بولس تيموتاوس.
كيف نتخيّل مسيرة بولس وتيموتاوس (16: 6 ي)؟ رغب بولس أن يتجه إلى الغرب (إلى آسية، آ 6) ولكن منعه الروح. حينئذ مال إلى الشمال فعبر فريجية، ثم إلى الشمال الشرقي فوصل إلى منطقة غلاطية. وإذ أراد الرسول أن يتابع طريقه إلى الشمال بإتجاه بيثينية، أوقفه الروح مرة ثانية.. فلم يبقَ له إلا طريق واحد دلّه الله عليه: يمرّ عبر ميسية بإتجاه ترواس وأوروبا. وهنا يتدخل لوقا، فيتكلّم بأسم المجموعة الرسولية. لن تكون هذه المرة الأولى إذا وضعنا جانباً 11: 28 حيث يقول النص الغربي: "إذ كنا مجتمعين، طلبنا السفر في الحال إلى مكدونية، متيّقنين أن الله دعانا إلى التبشير فيها" (16: 10).
2- إقامة بولس عند الغلاطيين
إقامة غير منتظرة. كان هدف بولس أن يتوجّه مباشرة إلى أفسس عبر الطريق الداخلية التي تسير بمحاذاة وادي مياندريس. ولكن دفعه الروح، فجال في فريجية وفي منطقة غلاطية (16: 7) التي أقام فيها هؤلاء الذين جاؤوا من بلاد غالية (فرنسا الحالية) في القرن 3 ق. م. وسمّوا الغلاطيين. أقاموا حول أنقيرة (أنقرة الحالية) في منطقة الهضاب. كان امينتاس آخر ملك من ملوكهم: سلّم ملكه إلى الرومان، فضمّوا إلى منطقة غلاطية كلا من بسيدية وفريجية وليقونية.
بما أن بولس يتوجّه في رسالته إلى المؤمنين، ويسمّيهم الغلاطيين (غل 3: 1)، فنحن متأكدون أنه جال في قلب البلاد، ولم يكتفِ بعبور بسيط في بسيدية وليقونية اللتين بشرهما خلال رحلته الرسولية الأولى.
إهتم بولس بتبشير المدن الكبرى التي منها يشع الإنجيل، فما نوى بادئ ذي بدء أن يتوقف في أرياف غلاطية. ولكن المّ به مرض خطير غيّر وجهة مشاريعه. وتذكر الرسول بتأثر كبير كيف أهتمّ به أهل غلاطية: "قبلتموني كأني ملاك الله، بل المسيح يسوع" (غل 4: 14).
كان المرض علامة عقاب من الآلهة، علامة وجود روح شريرة.
وكان على الغلاطيين الذين رأوا حالة بولس الجسدية أن يحتقروه ويكرهوه. لقد كان مرضه محنة لهم، فكان عليهم أن يبصقوا على الأرض ليتخلّصوا من هذا الروح الشرير. لا، لم يفعل الغلاطيون شيئاً من هذا، بل تأثروا بكرازة بولس عن المسيح: "إرتسمت أمام عيونهم صورة المسيح المصلوب" (غل 3: 1). إرتدّوا بسرعة وحماس، وتميّز إرتدادهم بعدة تدخلات من عند الروح القدس: نالوا الروح من الذي عمل المعجزات بينهم. سمعوا بشارة الإيمان واقتبلوها، فأنفتحوا على عطية الروح.
لم يكن بولس قد خطّط لهذه الرسالة، وهو سيتذكرها بقلب يعمر بالفرح. غير أنه سيندهش من هذا الإنقلاب المفاجئ لدى هؤلاء الذين كانوا مستعدين ليقتلعوا عيونهم ويعطوه إياها (غل 4: 15): "أيها الغلاطيون الأغبياء، من الذي سحر عقولكم؟ هل وصلت بكم الغباوة إلى هذا الحدّ" (غل 3: 1، 3)؟ لقد مرّ مبشرون متأثّرون بالتعاليم اليهودية، فترك الغلاطيون ذلك الذي دعاهم بنعمة المسيح، وتبعوا بشارة أخرى (غل 1: 6). وهكذا صار بولس عدواً لهم بعد أن كان صديقاً، لأنه قال لهم الحق (غل 4: 16). ولكن بولس هو هو: البشارة التي حملتها إليكم غير صادرة عن البشر. تلقيّتها عن وحي من يسوع المسيح (غل 1: 11- 12). وينهي بولس: "أنا لا أستعطف الناس، أنا لا أطلب رضا الناس. فلو كنت أطلب رضا الناس لما كنت عبداً للمسيح" (غل 1: 10).
هذه هي أزمة بولس مع اليهود الذين اهتدوا إلى المسيح وظلوا على ممارستهم للشريعة اليهودية، بل حاولوا أن يفرضوها على الوثنيين الذين يرتدون. بدأت الصعوبات منذ البداية مع الختان. "نزلت جماعة من اليهودية وأخذوا يعلّمون الأخوة فيقولون: لا خلاص لكم إلا إذا أختُتنتم على شريعة موسى، (15: 1). قال بعضهم: إن الختان ضروري. وقال آخرون: إن الختان يكمّل العماد. فمن لم يُختن، يُحسب مسيحياً من الدرجة الثانية. ذاك كان موضوع مجمع أورشليم. ثم كانت حادثة أنطاكية. كان بطرس يأكل مع الوثنيين (غير اليهود). فلما وصل قوم من عند يعقوب، تجنّب بطرس الوثنيين، وأنفصل عنهم خوفاً من دعاة الختان. حينئذ غضب بولس وقال لبطرس بمحضر منهم كلهم: "إذا كنت أنت اليهودي تعيش عيش الوثنيين لا عيش اليهود، فكيف تلزم الوثنيين أن يعيشوا كاليهود" (غل 2: 14)؟ قال اليهود: "نحن يهود بالولادة، لا من الأمم الوثنية، من هؤلاء الخاطئين". أجابهم بولس: "نحن نعرف أن الله لا يبرّر الإنسان لأنه يعمل بأحكام الشريعة (الختان وغيره)، بل لأنه يؤمن بيسوع المسيح" (غل 2: 15- 16).
إن فرضنا الختان على غير اليهودي، عارضنا إنجيل المسيح. فالوثنيون يعتبرون الختان تشويهاً للجسد. نحن أيضاً أمام عمل رعائي، وبولس لا يخاف ولا يساوم كما فعل بطرس بضغط من المسيحيين المتهوّدين. ولكن هناك بعداً لاهوتياً عاماً: إذا كانت الشريعة اليهودية تحتفظ بوجودها المسيطر، فأي جديد حمله موت المسيح وقيامته؟ على أي أساس يتبرّر المسيحي؟ بالمحافظة على الشريعة أم بالإيمان بالمسيح؟ أجل، المهم في كل هذا الجدال هو مركز المسيح في تاريخ الخلاص. اعتبر المتهوّدون يسوع نبياً من الأنبياء بشّر بالتوبة وقاد الشعب إلى ممارسة الشريعة ممارسة أفضل. أما في نظر بولس، فالمسيح هو ابن الله الذي أرسل إلى العالم ليحرّر البشرية: لم نعد عبيداً (للشريعة أو لسائر العناصر، غل 4: 9)، بل صرنا أبناء: "إن الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا هاتفاً: أبّا، أيها الأب" (غل 4 : 6). مع المسيح صار كل شيء جديداً. وما يهم بعد الآن ليس الختان أو عدم الختان، بل الخليقة الجديدة (غل 6 : 15).
ب- الرسالة في مكدونية
تعكس الإشارات التي نقرأها في 16: 6– 10 تردّد بولس: في أي طريق سيسير؟ ناداه مكدوني في الحلم، فوضع حداً لتردّده. وهكذا انطلقت المجموعة الرسولية إلى ترواس. وبعد يومين، نزلت في نيابوليس (عبر جزيرة ساموتراكية)، وسارت على الطريق الأغناطية التي تقود إلى فيلبي. أكبر مدينة في ولاية فيلبي (هي اليوم قرية صغيرة، فيليباجيلك).
1- فيلبي (16: 11- 4)
جاء بولس إلى فيلبي، فأتصل للمرة الأولى بمستوطنة رومانية أسسّها أوكتافيوس من أجل قدماء الحرب. نعمت فيلبي بامتيازات إدارية خاصة، فكانت شبيهة بالمدن الإيطالية (مثلاً، تنتخب نوّابها وممثليها). افتخر أهلها بأنهم مواطنون رومانيون وسيقول لهم بولس: "وطننا هو في السماء" (فل 3 : 20).
عبدت فيلبي ديونيسيوس إله الخمر، وبنتيس (= أرطاميس) إلاهة الصيد، وإيزيس وسيرابيس آلهة مصر مع رومة وأغوسطس. وآمنت بالحياة بعد الموت.
وصل بولس إلى فيلبي، فاتصل أول ما اتصّل بأهل دينه. لم يكن عددهم كبيراً ليبنوا مجمعاً داخل حرم المدينة، فاكتفوا بموضع متواضع للصلاة على ضفة النهر. تحدّث بولس إلى النساء المجتمعات هناك، فتأثرّت تاجرة غنية (تبيع الأرجوان) بكلام بولس.
هذه المرأة هي من تياتيرة، بآسية الصغرى. كانت وثنية ولكنّها عبدت الإله الواحد. فتح الله قلبها كما فتح عيني تلميذي عماوس ليلة الفصح. "أجبرت" بولس على الدخول إلى بيتها: "أدخلوا بيتي وأقيموا فيه إذا كنتم تحسبوني مؤمنة بالرب" (آ 15). اتخذت قرارها دون تردّد: تعمّدت هي وأهل بيتها، أي العائلة والخدم والذين يعملون عندها. هكذا فعل كورنيليوس الذي دعا "أنسباءه وأخصّ أصدقائه" (10: 24) ليستمعوا معه إلى كلام بطرس.
كم أقام بولس في فيلبي؟ هذا ما لا يقوله لوقا. ولكن دينامية جماعة فيلبي تجعلنا نظن أنه أقام هناك بضعة أشهر على الأقل. ولقد تنظّمت الجماعة بسرعة حسب الروح الرومانية: فهناك الأساقفة والشمامسة (فل 1: 1). ولقد تعلّق بولس بجماعة فيلبي تعلقاً خاصاً: "أنتم دائماً في قلبي" (1: 7). "ولي ثقة بأني سأبقى بينكم جميعاً لأجل تقدّمكم وفرحكم في الإيمان" (1: 15). ولقد أظهر أهل فيلبي محبة كبيرة لبولس الرسول. فهو الذي لم يقبل عوناً من أجل البشارة، قَبل ما أرسله إليه أهل فيليبي "وهي تقدمة لله طيبة الرائحة، وذبيحة يقبلها ويرضى عنها" (فل 4: 10– 18).
ولكن أطلّت العاصفة مع "جارية بها روح عرافة" (آ 16). كانت تجني من عرافتها مالاً كثيراً لأسيادها. قال الروح النجس ليسوع: "ما لنا ولك، يا يسوع الناصري؟ أجئت لتهلكنا؟ أنا أعرف من أنت: أنت قدوس الله" (لو 4: 34). وها هي هذه العرافة تقول عن بولس ورفاقه: "هؤلاء الرجال هم عبيد الله العلي، يبشّرونكم بطريق الخلاص" (آ 17). أخرج يسوع الشيطان بقوة كلمته. وقال بولس للروح النجس: "آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها" (آ 18).
خسر أسياد هذه الجارية ربحهم، فشكوا بولس وسيلا لدى القضاة المحليين: "هذان الرجلان يثيران الاضطراب في مدينتنا، وهما يهوديان يبشّران بتعاليم لا يحل لنا قولها أو العمل بها لأننا رومانيون" (آ 20- 21). تكلّم الناس بهذه الطريقة، فدلّوا على الاحتقار الذي يكنه الرومانيون لليهود. وإذا كانت السلطة الرومانية قد سمحت بالديانة اليهودية، إلا أنها منعت انتشارها لدى الرومان. اهتم القضاة للأمر: جلدوهما وسجنوهما.
نجد هنا خبرين لإطلاق بولس وسيلا من السجن. خبر يتحدث عن معجزة قام بها الرب: زلزال عنيف، انفتحت الأبواب، انفكت قيود السجناء. هذا ما حدث للرسل بصورة عامة (5: 19- 21)، وبطرس بصورة خاصة (12: 7- 11). حل الخوف بالسجان فآمن هو وأهل بيته (آ 25- 34). وهناك خبر آخر (آ 35– 40) لا يتحدّث عن معجزة: "أمر الحكام بإطلاقكما". ولكن بولس رفض أن يخرج من المدينة قبل أن يقدّم الحكّام اعتذارهم.
شجّع بولس وسيلا الأخوة وودّعاهم (آ 40). أما لوقا فيبدو أنه بقي في فيلبي (لا نعود نجد صيغة المتكلم الجمع، بل مرّا حتى وصلا، (17: 1)، وسنجده خلال الرحلة الرسولية الثالثة: "سبقونا إلى ترواس وانتظرونا هناك" (20: 5 ي).
بعد أن تحدّث لوقا عن تدخل الله ليرسل بولس إلى مكدونية (16: 6- 10)، شدّد على تأسيس كنيسة فيلبي (16: 11- 15) وظهور قدرة الرب الذي يسند المرسلين (16: 16- 18؛ 16: 25- 15). واجهت المسيحية العالم الوثني في مدينة رومانية، فخرجت منتصرة من المعركة. وستواجه أيضاّ الفكر الفلسفي اليوناني في أثينة وتتغلّب عليه.
2- تسالونيكي
وسار بولس وسيلا وتيموتاوس على الطريق الاغناطية فوصلوا إلى تسالونكي المدينة التي تضم اليونانيين والرومانيين وأبناء الشرق. كانت الجماعة اليهودية كبيرة وكان لها مجمع. وعبد الناس الالهة الوثنية، ولا سيما ديونيسيوس الذي انتشرت عبادته في مكدونية.
كيف تأسست جماعة تسالونيكي؟ ذهب بولس كعادته إلى المجمع. وكما فعل فيِ أنطاكية بسيدية، إنطلق من الكتب فبين أن يسوع المصلوب هو المسيح (آ 1- 3). سمع اليهود لهم ثلاثة سبوت ثم طردوهم. حينئذ توجّه بولس إلى الدخلاء الذين قبلوا كلامه. يشدّد لوقا على وجود أناس من الوجهاء: ياسون الذي تمتّع بسلطة كافية ساعدته على إطلاق المرسلين لقاء كفالة (آ 8). وكان من بين المرتدين ارسترخس وسكوندس (20: 4؛ كو 4: 10). وهناك "النساء الفاضلات" اللواتي عملن الكثير من أجل نشر الرسالة المسيحية (17: 12؛ رج لو 8: 1– 3؛ 10: 38- 42) بعد هذا، تكرّس بولس للتبشير في المحيط الوثني. كان يعمل بيديه (1 تس 2: 9)، ولكنه حصل أيضاً على مساعدة من الأخوة في فيلبي (فل 4: 16).
ما الذي قاله بولس في هذه المدينة الوثنية؟ بشر أولاً بالله الواحد الحي والحق (1 تس 1: 9)، الإله الذي نعبده ولا نكتفي بتكريمه بشفاهنا. وبعد أن وضع الأساس التوحيدي، وصل إلى المضمون الخاص بالإيمان المسيحي مع إبراز الوجهة الاسكاتولوجية الخاصة بالحقبة الأولى من لاهوت بولس الرسول. "ننتظر مجيء ابنه من السماوات، وهو الذي أقامه الله من بين الأموات، يسوع الذي ينجّينا من الغضب الآتي" (1 تس 1: 10). كان يوحنا المعمدان قد هدّد سامعيه بالغضب الآتي (لو 3: 7). وها هو بولس يستند إلى التهديدات الجليانية التقليدية ليبرز الدور الخلاصي الذي يقوم به يسوع. فهو سيتدخل من أجل أخصائه ساعة الدينونة. نحن نتخيّل بأي حماس انتظر بولس رجوع المعلم. ففي أورشليم وفي كل مكان يدعى المؤمنون لينشدوا ماراناتا: تعال أيّها الرب يسوع. وستجد كرازة بولس الاسكاتولوجية نجاحاً يتجاوز كل انتظار. إذا كان مجيء الرب قريباً، فلماذا نعمل؟ كان بولس قاسياً مع الذين يرفضون أن يعملوا (1 تس 4: 11؛ 2 تس 3: 6- 12). وعلّمته الخبرة فتحاشى فيما بعد أن يجعل الناس يفهمونه فهماً خاطئاً.
في هذا المرفأ الذي يعج بالحياة والذي يملأه وعّاظ يتاجرون بالديانات، إهتم بولس بأن يُظهر ما تتميز به رسالته (1 تس 2: 1- 12): "نحن لا نعظ عن ضلال ولا دنس ولا خداع. نحن نتكلّم لا لنرضي الناس بل لنرضي الله الذي يختبر قلوبنا. ما طلبنا المجد من الناس، لا منكم ولا من غيركم". تجرّد كامل، نقاوة في التعليم، حنان أين منه حنان الأم على أولادها. هذه علامات تدل على الرسول الذي أرسله الله حقاً: إن بولس يفتح قلبه للمؤمنين، لهؤلاء الذين ولدهم للحياة في المسيح يسوع (1 كور 4: 15).
نجحت كرازة بولس، فعارضه اليهود معارضة قوية (1 تس 2: 14- 16): "اليهود، قتلوا الرب يسوع والأنبياء واضطهدونا... ويمنعونا من تبشير سائر الأمم". وشكوا بولس ورفاقه الذين "يخالفون أوامر القيصر ويقولون: هناك ملك آخر اسمه يسوع" (آ 6- 7). نحن في أيام الامبراطور كلوديوس الخائف على عرشه. لهذا تصرّف القضاة بسرعة. وهكذا ذهب بولس وسيلا وتيموتاوس من تسالونيكي حين رأوا الأحداث على هذا الشكل. وسوف يكون بولس حذراً حين يتكلّم عن موضوع ملك يسوع. لا، ليست المسيحية شعب تجعل من يسوع مزاحماً للامبراطور. هذا ما قاله اليهود عن يسوع حين اتهموه أمام بيلاطس: "وجدنا هذا الرجل يثير الفتنة في شعبنا، ويمنعه أن يدفع الجزية إلى القيصر ويدّعي أنه مسيح، أنه ملك" (لو 23: 2). يسوع هو ذلك الذي اختاره الله ومسحه من أجل رسالة روحية. يسوع هو الرب الممجد. هذان هما اللقبان اللذان تشدّد عليهما المسيحية الأولى (2: 36).
ج- الكرازة في اثينة
"فأرسل الأخوة في الحال بولس وسيلا ليلاً إلى بيرية" (17 : 10). بيرية هي مدينة تقع في جنوبي مكدونية (فيريا الحالية). وقد استقبلت الرسولين استقبالاً حسنا لم يجداه في مكان آخر. أصغى أهلها إلى كلام الله، إلى الانجيل، برغبة شديدة. ولكن وصل يهود أتوا من تسالونيكي، فأرسل الأخوة بولس في الحال إلى اثينة، وظل سيلا وتيموتاوس في بيرية.
إذا قابلنا آ 14 مع 1 تس 3: 1، 2، 6، نرى أن لوقا جمّع الأحداث بطريقة موجزة، وها نحن نتمثّلها على الشكل التالي: أولاً: ترك بولس سيلا وتيموتاوس في بيرية (17: 14). ثانياً: أرسل أوامره، فجاءا إليه إلى أثينة (1 تس 3: 1). ثالثاً: أرسل بولس سيلا وتيموتاوس إلى مكدونية، ثم أرسل تيموتاوس إلى تسالونيكي (1 تس 3: 1) وسيلا إلى فيلبي. رابعاً: ذهب بولس بنفسه الى كورنتوس (18: 1). خامساً: انضم تيموتاوس وسيلا إلى بولس في كورنتوس (18: 5؛ 1 تس 3: 6).
تفحّص أهل بيرية الكتب المقدسة ليروا إن كانت الأمور هكذا (17: 11). أي: إذا كان يسوع هو المسيح حقاً (رج 17: 3). عرفوا تعاليم بولس، فآمن كثير من الرجال ومن النساء الشريفات.
ونصل إلى أثينة. لا يذكر بولس اسم اثينة في رسائله إلاّ مرة واحدة (1 تس 3: 1). أما لوقا فقد رسم لنا لوحة عن نشاط هذه المدينة العظيمة بماضيها. لم يعد لها دور سياسي، ولكنها كانت المدينة الجامعية المرموقة ونموذج الحضارة الهلّينية. ستكون المسرح لأول لقاء بين الإنجيل والفكر (والحكمة) اليوناني.
كانت المدارس الفلسفية عديدة فيها. ولكن لوقا ذكر فقط الابيقوريين والرواقيين (17: 18). بحث ابيقور، مؤسس الحكمة الابيقورية، عن سعادة تُبعد القلق وتقدّم اللذة. إذاً نُزيل كل خوف كاذب: الخوف من القدر، الخوف من الموت، الخوف من الآلهة. لم يكن ابيقور ملحداً، ولكنه اعتبر أن الآلهـة يعيشون في الاثير ولا يتدخلون في أمور البشر، فلا يجب أن نخاف منهم. والنفس مكوّنة من أجزاء صغيرة تتبخّر بعد الموت. أما البحث عن اللذة فقد صار بحثاً عن الطعام والحب الشهواني. أما شعارهم فهو: "لنأكل ونشرب فإنّا غداً نموت" (1 كور 15- 32).
أما الرواقيون فمؤسسهم هو زينون الفينيقي الذي عاش في قبرص وأعلن نظاماً فلسفياً ينسّق بين الانسان والكون، ويعتبر الانسان مواطن العالم (لا مواطن مدينة صغيرة). الرواقية هي فلسفة المجهود والتغلّب على اللذات، هي فلسفة النظام والعناية الالهية. أما الفرق الأساسي بين الرواقية والمسيحية فهو أن الأولى تشدّد على العقل ومجهود الانسان. أما المسيحية فهي ديانة النعمة. لا تنسى عمل الانسان، ولكنها تعرف أننا لا نستطيع شيئاً من دون المسيح
(رج يو 15: 14).
بدأ بولس فتوجّه في اثينة إلى اليهود والمسيحيين معاً. هذه هي المرة الأولى بل الوحيدة التي لم يميّز فيها الكرازة لليهود من الكرازة للوثنيين (رج 13: 48؛ 18: 6: بعد ان حدّث اليهود قال: دمكم عليكم، وانتقل إلى الوثنيين).
الاريوباج او الاريوباغوس هو تلة يجتمع فيها المجلس الأعلى أو هو المجلس نفسه. في أيام بولس صار المجلس يجتمع في الرواق الملكي، قرب "الاغورا" أو الساحة العامة (رج 16: 19).
سار بولس في المدينة، وتحدّث عن القيامة، فبدا وكأنه يتكلّم عن إله جديد لم يعرفه الاثينيون. هنا نشير إلى أن الرواقيين والابيقوريين رفضوا الكلام عن إله شخصي يتميّز عن الكون. الله هو "فكرة" غامضة، هو عناية فاعلة بطريقة سرية. هنا نحس بالمسافة بين مثل هذه الفلسفات والديانة التي تربط الإنسان بشخص يسوع المسيح.
ودعا المجلس (الاريوباج) بولس لكي يشرح موقفه في الرواق الملكي. واستعمل بولس الفصاحة كما سيستعملها فيما بعد أمام فستوس واغريبا (ف26). بدأ يهنئ الأثينيين: "أراكم أكثر الناس تديّنا في كل وجه" (17: 22). انطلق من كتابة تتحدث عن الإله المجهول أو الإله الذي لا نقدر أن نعرفه، فوصل إلى التعليم عن الإله الواحد الذي يجهلونه حقاً.
بعد مقدمة تصل إلى "الإله المجهول" (17: 22- 23)، يقول بولس (17: 25- 29) إن هذا الإله هو الذي خلق الكون ويعتني به (هذا ما قاله للوثنيين في لسترة، 14: 15). ثم قدّم الإنجيل (17: 30- 31) من زاوية خاصة: لم يتكلّم لا عن حياة يسوع ولا عن موته. فيسوع هو رجل اختاره الله من أجل دينونة عامة. والقيامة هي الكفالة بأن الله اختار يسوع لهذه المهمة، مهمة الدينونة التي نستعد لها بالتوبة.
أورد بولس أقوال الشعراء: أراتوس وهو شاعر من كيليكية عاش في القرن 3 ق. م. قال: نحن من أهله أو نحن أبناؤه. ولكن بولس كيّف هذا القول مع فكرة صورة الله الواردة في تك 1: 26 (رج 2 بط 1: 4؛ 1 يو 3: 2). إبيمانيدس وهو شاعر من القرن 6 ق. م. قدّم المثلّث الافلاطوني: الحياة، الحركة، الوجود. فصارت في خطبة بولس: "فيه نحيا ونتحرّك ونوجد" (17: 28). وأورد أيضاً الكتاب المقدّس، فجاء كلامه لقاء بين بحث "فلسفي" عن الله، ووحي الهي يحمل الحياة إلى البشر. ولكنّ فكرة القيامة بدت لأهل أثينة فكرة لا معنى لها ورفضاً لنظام الكون كما تصوّروه. قالوا: "سنسمع كلامك في هذا الشأن مرّة أخرى" (17: 32).
إذاً، فشل بولس أمام حكماء أثينة، لأنهم لم يلجوا إلى أعماق الشقاء الإنساني، ولم يكتشفوا محبّة الله لخلائقه محبة شخصية. فشل، أو بالأحرى كان النجاح بسيطاً (انضم إليه بعضهم وآمنوا). لهذا السبب، سيقدّم كرازة أخرى لأهل كورنتوس تتركّز على يسوع المسيح المصلوب، كرازة لا تستند إلى حكمة البشر بل إلى قدرة الله (1 كور 2: 1- 5). ومهما يكن من أمر، فان العالم الهليني سيقاوم الإنجيل مدة طويلة، ولكن الإنجيل سينتصر في النهاية. يذكر النص هنا ديونيسيوس الاريوباغي (أو الاريوباجى) وهو أحد أعضاء مجلس المدينة. إنه نموذج النخبة التي ترتدّ إلى الإيمان المسيحي. قال بولس لأهل كورنتوس: ليس فيكم كثير من الحكماء والأقوياء والوجهاء (1 كور 1: 26). ولكن القديس لوقا يذكر لنا بعض هؤلاء، دون أن ينسى صغار القوم، ولا سيّما العبيد. منذ البداية، استجاب لنداء الإيمان كثير من الكهنة (6: 7). وكان برنابا رجلاً معروفاً وغنياً في أورشليم (4: 36- 37). ولم يكن كورنيليوس جندياً عادياً بل ضابطاً في فرقة مميّزة هي الفرقة الايطالية (10: 1). وهناك حاكم جزيرة قبرص (13: 12) وكل النساء الشريفات في تسالونيكي (1 ك 4) وفي بيرية (17: 12).
واحتفظ لوقا باسم داماريس الاثينية (17: 34) وأبرز الدور الذي لعبته ليدية في فيلبي (216: 14). وسنلتقي مراراً ببرسكلة زوجة أكيلا (18: 2 ي؛ رج 1 كور 16: 19؛ روم 16: 3– 5؛ 2 تم 4: 19). وسنعرف أن فيبة هي شماسة في كنيسة كنخرية (روم 16: 1)، وقد حملت إلى أهل رومة الرسالة التي كتبها بولس لهم. ومريم تعبت كثيراً من أجل الكنيسة (روم 16: 6). وكذا نقول عن تريفينة وتريفوسة (روم 16: 12). وفي كولسي، تستقبل نمفاس الكنيسة التي تجتمع في بيتها (كو 4: 15. وقد تكون الكلمة أسم رجل أيضاً، أو مجموعة. تقول المخطوطات: بيته، بيتها، بيتهم). ويبدو أن أفودية وسنتيخة تعملان بحماس كبير، لهذا يدعوهما بولس إلى أن تكونا على اتفاق في الرب، فقد جاهدتا جهاداً كبيراً في خدمة البشارة (فل 4: 2- 3).
د- كورنتوس (18: 1- 17)
تأثر بولس بفشله في أثينة (1 كور 2: 3: أشعر بالضعف والخوف والرعدة)، فانتقل إلى كورنتوس، عاصمة مقاطعة أخائية. مرّ قرب البرزخ الذي تقام فيه الألعاب الشهيرة إكراماً لبوسيدون، إله البحر. وسيذكر مجهود هؤلاء اللاعبين في حلبات السباق: "كل مسابق يمارس ضبط النفس في كل شيء من أجل إكليل يفنى، وأما نحن، فمن أجل إكليل لا يفنى. فأنا لا أجري كمن لا يعرف الهدف، وألاكم كمن يضرب الهواء، بل أقسو على جسدي وأستعبده لئلا أكون بعدما بشّرت (على مثال الذي يعلن النتائج) غيري، من الخاسرين" (1 كور 9: 25- 27).
مدينة كبيرة تعد نصف مليون نسمة وتعج بالحركة بفضل مرفأيها. هناك أهل البلاد والآتون من إيطالية ومن الشرق. فيها العبيد الكثيرون وعمّال المرفأ. فيها المعابد العديدة، ولا سيما معبد افروديت الاهة الحرب والاهة الحب التي تخدمها ألف من الكاهنات. كيف الحديث عن الإله الواحد في كورنتوس، كيف الحديث عن الاتفاق والوحدة، كيف الحديث عن الزواج والعفة؟
حين وصل بولس إلى كورنتوس عمل لدى أكيلا وبرسكلة وهما تاجران طُردا من رومة على أثر قرار الإمبراطور كلوديوس. قد يساعدنا هذا القرار على تحديد مدة إقامة بولس في كورنتوس. وهناك معطى آخر، ففي نهاية إقامة بولس في كورنتوس، قدّمه اليهود أمام غاليون حاكم أخائية (18: 11). كان غاليون هذا شقيق سينيكا الفيلسوف ومربّي نيرون. وقد وُجدت مدوّنة في معبد دلفس وهي رسالة بعث بها كلوديولس إلى خلف غاليون. تاريخ الرسالة: القسم الأول من سنة 51 ب . م. وبما أن حكام المقاطعات الشيوخية (ترتبط رأساً بمجلس الشيوخ، وكانت أخائية منها) يتبدلون كل سنة ويبدأ حكمهم في شهر نيسان، فهذا يعني أن غاليون لم يكن حاكم أخائية سنة 52. إذن، وصل غاليون إلى أخائية في نيسان 50 أو 51. ما إن وصل إلى كورنتوس حتى قدّم له اليهود بولس ليحاكمه. وبما أن بولس أقام في كورنتوس 18 شهراً (18: 11)، يمكننا القول إن رسالته في كورنتوس دامت من 49/50 إلى سنة 51/52.
كيف توزّعت مراحل رسالة بولس في كورنتوس؟
ذهب أولاً إلى المجمع ليشهد أن يسوع هو المسيح. ولكن بدأت المضايقات من قِبل اليهود (18: 6- 7). في هذا الإطار كتب إلى التسالونيكيين رسالة شكر وتشجيع وكان قاسياً مع اليهود الذي يعارضون البشارة لدى الوثنيين (1 تس 2: 4- 16). جاءه تيموتاوس حاملاً الأخبار السارة، فكتب بولس: "شدّدَ إيمانكم عزائمَنا في كل ما نعانيه، أيها الأخوة، من الضيق والشدّة، بل نحن الآن نحيا ما دمتم ثابتين في الرب" (1 تس 3: 7- 8).
طُرد بولس من المجمع، فأقام عند تيتيوس (أو تيطس) يوستوس. لم يكن هذا الرجل يهودياً، ولكن منزله كان ملاصقاً للمجمع. وهكذا بدأ بولس رسالته لدى الوثنيين. ويذكر لوقا رؤية جاءت تشجّع بولس وتقول له: "لا تخف، بل تكلّم ولا تسكت، فأنا معك، ولن يؤذيك أحد. فلي شعب كبير في هذه المدينة" (آ 9- 10). سيكون بولس متحفّظاً حين يتكلّم عن النعم المستيكية (السرية) التي حصل عليها، وهو لم يجعلها يوماً على مستوى ظهور المسيح له على طريق دمشق. ولكن يحصل له أن يكشف زاوية من الحجاب كما فعل في 2 كور 12: 1– 2: "وإن كان لا بد لي من الافتخار، مع أنه لا نفع منه، فانتقل إلى الكلام على رؤى الرب وما كشفه لي. أعرف رجلاً في المسيح (يتحدّث بولس عن نفسه) خُطف قبل 14 سنة إلى السماء الثالثة". هذا يعود بنا إلى سنة 42- 43 (إذا قلنا إن 1 كور دونت سنة 56) أي قبل الانطلاق في الرحلة الرسولية. وهذا الوحي يدلّ على أن الضعف البشري لا يقف عائقاً بوجه عمل الله. وقد طلب بولس بإلحاح من الله أن يأخذ من جسده شوكة زرعها الشيطان، جاءه الجواب: "تكفيك نعمتي. في الضعف يظهر كمال قدرتي" (2 كور 12: 9).
مثل بولس أمام غاليون، فاعتبر غاليون أن المسألة داخلية: يجادل اليهود فيما بينهم حول الألفاظ (أو التعاليم) والأسماء (أي الأسماء التي تعطى ليسوع). المسيحية هي "شيعة" داخل العالم اليهودي، وهي بالتاليْ قضية ترتبط بالجماعة اليهودية وشريعتها. وبما أن رومة لا تتدخل في قضايا اليهود الدينية، قال غاليون: "تدبروا أنتم هذا الأمر، لأني لا أريد أن أكون قاضياً فيه". وطردهم من المحكمة (آ 15- 16).
هنا يبرز شخص أبلوس. كان يهودياً من الاسكندرية وكان أديباً يعتبر الأسفار المقدسة الطريق التي تعطي الحياة معناها. واكتشف يوماً يسوع المسيح. أين؟ في الاسكندرية كما يقول النص الغربي (وهذا يعني أن المسيحية وصلت باكراً إلى مصر) أو في مكان آخر. على يد من؟ هذا ما لا نعرفه، والمسيحية قد انتشرت على يد المؤمنين في بلاد الشرق (بلاد الرافدين) كما في بلاد الغرب. وحين وصل أبلوس إلى أفسس، بدأ يكرز ويعلّم في المجامع عن يسوع، وكان تعليمه صحيحاً. وقد بيّن لإخوته اليهود، وهو فصيح اللسان، أن الأسفار المقدسة تقود إلى يسوع الذي هو المسيح.
سمعه أكيلا وبرسكلة يوماً يعظ في كورنتوس، فأعجبا بإيمانه ودهشا من النقص الذي فيه: كان لا يعرف إلاّ معمودية يوحنا. أخذاه إلى بيتهما وأكملا له ثقافته الدينية (18: 24- 28).
وصل بولس إلى أفسس، فوجد في أبلوس معاوناً من الدرجة الأولى. دعاه الكورنثيون الذين كانوا قد سمعوه (كما يقول النص الغربي)، فذهب أبلوس إلى كورنتوس. ونجح نجاحاً باهراً، فجعله الكورنثيون على مستوى بطرس وبولس. وقال بعضهم: "أنا مع أبلوس" (1كور 1: 12، 3- 4). رفض أبلوس هذه التحزّبات، وامتنع عن العودة إلى كورنتوس رغم تشجيع بولس له (1كور 16: 12).
ينسب إليه بعض العلماء الرسالة إلى العبرانيين لما فيها من قوة الحجة وفصيح البيان، لما فيها من معرفة بالأسفار المقدسة.
وأقام بولس في كنيسة كورنتوس سنة ونصف السنة. جماعة تنوّعت فيها الشعوب والأعراق (مثلاً كان اكيلا من أهل البنطس، على شاطئ البحر الأسود)، فوجب على بولس أن يقول: "فنحن كلنا، أيهوداً كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، تعمدّنا بروح واحد لنكون جسداً واحداً، وارتوينا من روح واحد" (1كور 12: 13). وتنوّعت كنيسة كورنتوس على المستوى الاجتماعي، فتكوّنت من العبيد "الذين ليسوا بشيء" (1 كور1: 28)، ومن عمال المرفأ وصغار القوم. فأهل بيت خلوة (1كور 1: 11) هم عبيد أو موالي لدى هذه التاجرة الغنية. والذين يتأخرون عن عشاء الرب، هم المساكين الذين يعملون طوال النهار فلا يبقى لهم ما يأكلون حين يصلون إلى مكان الاجتماع (1 كور 11: 21): "تستخفون بكنيسة الله وتهينون الفقراء". وإن كلام بولس عن الحرية المسيحية سيحرّك العبيد. لهذا يدعوهم بولس إلى الهدوء: "إذا كنت عبداً عندما دعاك الله فلا تهتم. ولكن إن كان بإمكانك أن تصير حراً، فالأولى بك أن تغتنم الفرصة. فمن دعاه الرب وهو عبد كان للرب حراً" (1 كور 7: 21- 22).
وتكوّنت جماعة كورنتوس أيضاَ من وجهاء القوم. فهناك المتموّلون الذين يقاضون إخوتهم في محاكم وثنية (1كور 6: 1- 8). وهناك متعلّمون يعتبرون نفوسهم حكماء، ويطلبون تعليماً رفيعاً لا يصل إليه "رعاع" القوم (1كور 3: 1ي: هم بعد أطفال لأنهم جسديون). ونذكر أكيلا وبرسكلة اللذين يملكان المحلات التجارية في رومة وأفسس وكورنتوس. وخلوة أيضاً هي تاجرة كبيرة ترسل البضائع من كورنتوس إلى مختلف المدن. وكرسبوس كان رئيس المجمع (18: 8؛ 1كور 1: 14). وغايس الذي عمّده بولس يملك داراً تتسع للكنيسة كلها. وأراستُس هو أمين صندوق الكنيسة (روم 16: 23) وقد يكون من كبار المدينة وهو الذي دفع من جيبه من أجل تبليط المسرح في كورنتوس.
كنيسة كورنتوس أصيلة. كلّها حيوية، ولكن فيها الانقسامات والتوتّرات المؤلمة. وسيحتاج بولس إلى كل قوة الإقناع عنده ليبيّن لهم أن المسيح واحد، أن المسيح لا يتجرأ ولا ينقسم (1كور 1: 13)، ليردّ أهل كورنتوس إلى ممارسة المحبة التي هي أسمى الفضائل المسيحية (1كور 13).
وبقي بولس بعض الوقت بعد أن مثل أمام غاليون. زار أفسس زيارة سريعة ووعد أهلها بأن يعود إليهم. واتخذ طريق البحر، فنزلت في قيصرية وصعد إلى أورشليم. وسيقضي الشتاء في أنطاكية (18: 18- 21) قبل أن ينطلق في رحلته الرسولية الثالثة. سيزور الكنائس ويقوّي عزائم التلاميذ (18: 23).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM