الفصل الثاني عشر: الرحلة الرسولية الثالثة

الفصل الثاني عشر
الرحلة الرسولية الثالثة
ولما جاء الربيع، انطلق بولس في الطريق التي اتخذها خلال الرحلة الرسولية الثانية. وهكذا كان له أن يزور الجماعات الفتية التي أسسها. خرج وسار في غلاطية (رج غل 4: 13: بشّرتكم أول مرة) وفريجية. ووصل إلى أفسس حيث سيقضي القسم الأكبر من رحلته هذه الثالثة.
أ- أفسس
تمثّل أفسس في حياة بولس محطة هامة. لم يكتفِ الرسول بأن يؤسّس جماعة مزدهرة شعّ فيها الإيمان إلى المدن المجاورة، بل كتب عدداً من رسائله وواجه أزمة التهوّد أي عودة المسيحيين إلى الممارسات اليهودية. ولكنّنا لا نملك كل المعلومات التي تساعدنا على تصوّر هذه الحقبة. أما ما نجده في أع فيعني بعض أحداث في إقامة دامت سنتين ونيف. وسننطلق من تلميحات نجدها في 1 كور، 2 كور، فل، لنتصوّر ما اعترض بولس من محن في ذلك الوقت.
1- مدينة أفسس وعباداتها
أفسس هي إحدى مدن أيونية التي استعمرها اليونانيون في القرن الحادي عشر ق. م. تقع على ملتقى طرق آتية من عمق الشرق وأخرى آتية من الغرب. كانت مرفأ في القديم، واليوم ابتعد البحر 6 كلم عن أفسس القديمة التي بدأ التنقيب فيها منذ قرن من الزمن.
حكمها كريزوس، ملك ليدية، ثم الفرس والإسكندر وخلفاؤه. سنة 133 قدمها أتاريس، آخر ملوك برغاموس، إلى الرومان. تتمتّع المدينة ببعض الاستقلال الداخلي، شرط أن يبقى النظام مسيطراً وأن تصل الضرائب إلى رومة (رج 19: 35). كانت المدينة كبيرة، وقد أظهرت الحفريات مسرحاً يستقبل 24000 مشاهداً، والساحة العامة (أغورا) والمنطقة السكنية الواسعة.
مجد أفسس هو أرطاميسيون أو هيكل أرطاميس، إحدى عجائب العالم السبع. والإلهة المعبودة فيه هي إلاهة الخصب أكثر مما هي إلاهة الصيد. كان تمثالها من خشب الأرز تغطيه ورقة من الذهب. سُميت أرطاميس السيدة والملكة والسلطانة والعظيمة (19: 35) والقائدة والمحامية عن المدينة وعن الأيونيين... وكان عدد كبير من الكهنة والكاهنات يقومون بخدمة هذا المعبد واستقبال الحجاج الآتين من كل مكان: هناك حق اللجوء في المعبد. هناك البغاء المكرس، وهناك السحر (19: 18- 19) والعرافة. قد يكون بولس التقى فيها بيهود "يُخرجون" الشياطين (19: 11- 17).
وكان بجانب معبد أرطاميس معابد أخرى مكرّسة للآلهة التقليديين الذين عرفهم العالم اليوناني، وهيكل مكرس لرومة وأغوسطس ليدل على ولاء المدينة للامبراطور.
وكانت جماعة يهودية كبيرة في أفسس. غير أن العلاقات بين اليهود والأفسسيين لم تكن دوماً سهلة. هذا هو الإطار الإجتماعي والديني الذي فيه برز نشاط بولس الرسولي.
2- تبشير أفسس
حين وصل بولس إلى أفسس وجد فيها بعض التلاميذ (18: 27) ومنهم أكيلة وبرسكلة اللذان التقيناهما في كورنتوس. اهتما بتكملة تثقيف أبلوس الديني قبل ذهابه إلى كورنتوس. والتقى بولس في أفسس باثني عشر تلميذاً من تلاميذ يوحنا المعمدان: منحهم سرّ العماد ووضع عليهم يده فنزل عليهم الروح القدس، وأخذوا يتكلّمون بلغات غير لغتهم ويتنبّأون (19: 1- 7). نحس وكأننا أمام عنصرة جديدة. فالروح القدس يبارك عمل الرسول بحلوله على هؤلاء المعمّدين الجدد وبصورة ظاهرة.
ماذا نعرف عن رسالة بولس في أفسس؟
أولاً: كرازة بولس في أفسس (8:19 - 10)
يميّز لوقا مرحلتين: الأولى، كرازة في المجمع امتدت على ثلاثة أشهر (19: 8). وانقسم اليهود كعادتهم. وقبلت الإنجيل أقلية ضئيلة. الثانية، كرازة في وسط وثني دامت سنتين ونيّف (19: 9- 10). نجح بولس نجاحأ كبيرأ، فاستأجر قاعة كان يعلّم فيها تيرانوس تلاميذه البلاغة في الصباح. وقال النص الغربي: إن بولس كان يعلّم من الساعة الخامسة إلى الساعة العاشرة (أي من الحادية عشرة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر).
دامت هذه الحال سنتين. ونزيد عليها ثلاثة أشهر الأولى (19: 8). قال بولس في حديثه إلى شيوخ أفسس: "نصحت كل واحد منكم مدة ثلاث سنوات" (20: 31). وهكذا سمع الإنجيل جميعُ سكان آسية أي مقاطعة آسية التي تضم مقاطعة اَسية الصغرى مع بعض الجزر. في هذا الوقت تأسّست كنائس كولسي (كو 1: 7) ولاودكية وهيرابوليس (كو 4: 13– 16؛ رج رؤ 3: 14- 22).
سيشدّد بولس في خطبته إلى أفسس على تجرده الكامل خلال رسالته: "ما اشتهيت يوماً فضة أحد أو ذهبه أو ثيابه. وأنتم تعرفون أني بهاتين اليدين اشتغلت وحصلت على ما نحتاج إليه أنا ورفاقي" (20: 33– 34)
ثانياً: بعض الأحداث
يعطينا لوقا فكرة عن النجاح الذي أحرزه بولس في أفسس: "كان الله يُجري على يد بولس معجزات غريبة، حتى صار الناس يأخذون إلى مرضاهم ما لامس جسده من مناديل أو مآزر، فتزول الأمراض عنهم، وتخرج الأرواح الشريرة" (19: 11- 12). وقد كان لوقا قال عن بطرس: "كانوا يحملون مرضاهم إلى الشوارع ويضعونهم على الأسرّة والفُرش، حتى إذا مرّ بطرس يقع ولو ظلّه على أحد منهم. وكانت جموع الناس تجيء إلى أورشليم من المدن المجاورة تحمل المرضى والذين فيهم أرواح نجسة، فيُشفون كلهم" (5: 15- 16).
وحاول بعض اليهود المتجوّلين أن يستعينوا بأسم يسوع، فهجم عليهم الرجل الذي فيه الروح الشريرة (19: 11- 18). ثم جاء المرتدون الجدد، فأحرقوا كتب السحر والشعوذة (19: 18- 20). وفي كل هذا تعظّم اسم الرب يسوع. ويقدم لنا لوقا إجمالة تدلّ على نجاح البشارة بالإنجيل: "وهكذا كانت الكلمة تنمو وتتقوّى في النفوس بقوة الرب" (19: 20). ويخبرنا لوقا عن مشاريع بولس (19: 21– 22؛ 20: 1). هو يُهيئ سفرته القريبة إلى مكدونية: أرسل أمامه تيموتاوس وأرستس. في هذا الوقت، كتب 1 كور (1 كور 16: 5– 6؛ 2 كور 1: 15 ي). لم يقل لنا أع هنا شيئاً عن سبب ذهاب بولس إلى أورشليم. ولكننا سنعلم في 24: 17 أنه أراد أن يحمل اللمّة أو تبرعات الكنائس إلى كنيسة أورشليم.
هنا يورد لوقا حديثاً عن فتنة في أفسس بسبب "مذهب" أو طريق الرب، أي بسبب انتشار المسيحية. كان الصاغة يصنعون صورة مصغرة عن هيكل أرطاميس ويبيعونه للناس. كئر عدد المسيحيين في أفسس وسائر أنحاء آسية، فكسدت هذه الصناعة الرابحة. وذكر ديمتريوس، المحرّض على الفتنة، قول بولس: "إن الآلهة التي تصنعها الأيدي ما هي بآلهة" (19: 26؛ رج 17: 25). ولكن تمكن حاكم المدينة من تهدئة الجموع.
هذا الخبر الطويل يعجّ بالحيوية وبالسخرية من أرطاميس، إلاهة أفسس. أظهر لوقا مرة أخرى (رج 18: 15) أن الكرازة المسيحية ليست خطيئة بحق الشرائع الرومانية: "لا عذر لنا في هذا التجمّع" (آ 40). هذا ما قاله حاكم أفسس، فدلّ على أن انتشار المسيحية أمر يُحَلّ داخل الديانة اليهودية.
ثالثاً: علاقات بولس مع الكورنثيين
لا يقول لنا لوقا شيئاً عن علاقات بولس مع كنيسة كورنتوس التي لا تعرف الهدوء. أما 1 كور و2 كور فتعطيانا أحيانا بعض المعلومات. لا ننسى أن الاتصالات سهلة بين مرفأ كنخرية وأفسس. لهذا يستطيع بولس أن يتتبّع عن قرب حياة الكنيسة التي خطبها للمسيح (2 كور 11: 2).
نتذكّر أولاً أن بولس أقام سنة ونصف السنة في كورنتوس يؤسّس فيها الكنيسة. بعدها ترك المدينة وذهب إلى أورشليم ومنها إلى أنطاكية. سنة 53 بدأت الرحلة الرسولية الثالثة. وصل بولس إلى أفسس سنة 54، وهناك أقام سنتين وثلاثة أشهر (أع 19: 8، 10). وحين كان في أفسس، عرف بالصعوبات التي تواجهها جماعة كورنتوس، فكتب يقول للمؤمنين: "لا تخالطوا الزناة". ولكن الصعوبات لم تزل. هذا ما عرفه بولس بواسطة أهل بيت خلوة (1كور 1: 7). وفي الوقت عينه تسلّم رسالة تستوضحه بعض الأمور الأخلاقية (1كور 7: 1). فكتب رسالة (هي 1 كور) خلال سنة 55. وفي وقت صعب جداً، ذهب بولس إلى كورنتوس (زيارته الثانية، 2 كور 13: 2) وعاد سريعاً. تصرّف بقساوة "فلم يشفق على أحد". ولكن سفرته الخاطفة لم تكن ناجحة، فأقرّ أنه لن يعيدها (2 كور 2: 1). وحين عاد بولس إلى أفسس، كتب رسالة ثالثة في الدموع، وحملها تيطس أحد مشاركيه في العمل الرسولي (2 كور 2: 1– 9؛ 7: 8- 12). وإذ نوى بولس أن يترك أفسس، كلّف تيطس أن يلاقيه في محطة قريبة ويقدّم له تقريراً عن مهمته.
في نهاية الإقامة في أفسس (سنة 57)، كتب بولس رسالة "(2 كور 2: 3- 4) قد تكون 2 كور 10- 13. في هذه الرسالة يهاجم بولس هؤلاء الذين يزرعون القلاقل، هؤلاء "الرسل المميّزين" الذين يسمّون نفوسهم خدّام المسيح وهم معاونو الشيطان (2 كور 11: 13). وفي الوقت عينه أرسل تيطس يسوّي الأمور بمرونته المعهودة.
واستعادت الجماعة أنفاسها واتخذت إجراءات ضد المذنب (2 كور 2: 6). عاد تيطس وحمل الأخبار السارة إلى بولس الذي لقيه في مكدونية (2 كور 6: 6 ي). من هناك أرسل بولس رسالة هادئة ومليئة بالعاطفة، دعا فيها الكورنثيين إلى المصالحة معه: "فتحنا قلوبنا" (2 كور 6: 1). وكانت الزيارة الثالثة إلى كورنتوس، ومن هناك كتب رسالته إلى أهل رومة.
رابعاً: على أبواب الموت
في هذا الوقت عرف بولس محنة كبيرة يحدّثنا عنها بألفاظ سرية. قال في 2 كور 1: 8: "لا نريد أيها الأخوة، أن تجهلوا الشدائد التي نزلت بنا في آسية، فكانت ثقيلة جداً وفوق قدرتنا على الاحتمال حتى يئسنا من الحياة". لسنا أمام صراع حقيقي مع الوحوش (في الحلبة الرومانية أمام المشاهدين) كما تقول 1 كور 15: 32 (صارعت مع الوحوش، هذه استعارة. فبولس المواطن الروماني لا يواجه مثل هذا الحكم)، بل أمام استعارة تدلّ على الخطر الذي ألمَّ ببولس فأوصله إلى أبواب الموت. هناك من قابل بين هذه المحنة المذكورة في 2 كور وفتنة أهل أفسس المذكورة في أع 19: 21 ي. غير أن بولس وجد في أصدقائه من حماه من انتقام الصاغة. أما في 2 كور 9- 15 فيقول: "شعرنا أنه محكوم علينا بالموت، لئلاّ نتكّل على أنفسنا، بل على الله الذي يقيم الأموات. فهو الذي أنقذنا من هذا الموت وسينقذنا منه". فما هو هذا الموت؟
لهذا بدأ الشراح يقولون إن بولس سُجن في أفسس، وإن هذا السجن يكوّن إطار الرسالة إلى فيلبي. ولكن هناك من يعترض: إن ذكر "دار الحاكم" (فل 1: 13) يفرض علينا أن نتحدّث عن رومة. ولكن يبدو أن الكلمة اليونانية تدلّ أيضاً على دار الحاكم في المقاطعات (رج مت 27: 27 وز). وما يجعلنا نقول إن فل هي قريبة في الزمن من غل و2 كور، هو تقارب المواضيع المطروحة وتشابه الصراع مع المسيحيين المتهوّدين.
حين كتب بولس إلى أهل فيلبي، قال إنه يحتمل القيود "من أجل المسيح" (فل 1: 13). عندما سجن "الحاكم" بولس، اتهمه بمعارضة "النظام". أما الآن فوضح أنه في السجن من أجل المسيح (رج مت 5: 11؛ 1 بط 4: 14)، وهذا التوضيح يشجّع الإخوة ويمنحهم الجرأة "على التبشير بكلمة الله من دون خوف" (فل 1: 14).
إن قيود بولس عملت من أجل تقدّم الإنجيل: هذا هو ينبوع الفرح الذي ينعش قلب الرسول (فل 1: 18). لا شك في أن نوايا الكثيرين ليست صافية. ولكن بولس يتساءل عن الأشد ضرورة: هل يترك هذا العالم لينضمّ إلى المسيح، أم يبقى ليعيش من أجل الإخوة (فل 1: 21- 24)؟
ب- طريق الوداع
1- اللمّة من أجل القديسين في أورشليم
أوصى مجمع أورشليم بولس أن لا ينسى فقراء المدينة المقدسة. وفسّر إرسال التبرعات إلى أورشليم على أنه فعل شكر يُرفع إلى الله. قال بولس في هذا المعنى: "فقيامكم بهذه الخدمة المقدسة لا يقتصر على سدّ حاجات الإخوة القديسين، بل يفيض منه أيضاً حمد جزيل لله" (2 كور 9: 12). ولقد اهتم بولس بهذه اللمّة ودعا المؤمنين ليهيّئوا تقدمتهم الأسبوعية في اليوم الأول (أي يوم الأحد، يُذكر هنا للمرة الأولى). أعجب بولس بسخاء أهل فيليبي (2 كور 8: 1- 5)، ووبّخ الكورنثيين الذين يتكلمون كثيراً ويفعلون قليلاً (2 كور 9: 5- 9). وأخذ بولس إجراءاته لئلا يتهّمه أحد بأنه أساء التصرّف بالمال، فاختار أناساً مختبرين ليجمعوا المال ويحملوه إلى أورشليم (2 كور 8: 20- 24).
وقضى بولس شتاء 57- 58 في كورنتوس، في ضيافة غايس (روم 16: 33). هناك عرضَ في رسالته إلى أهل رومة الخطوط الكبرى لتاريخ الخلاص، وحدّثنا عن حالته النفسية وعن مشاريعه في المستقبل. لقد قرب وقت عودة الرب (روم 13: 12). يجب أن نسرع في عمل البشارة لنهيىء مجيئه. سيتوقف بولس في رومة، ومنها ينطلق إلى إسبانية (روم 15: 24). ولكن بانتظار ذلك، سيحمل اللمّة إلى أورشليم كعلامة عن وحدة الكنيسة الجامعة. ولكن كيف سيكون الاستقبال في أورشليم؟ حين نقرأ روم 15: 30 نحسّ وكأن الساعات الصعبة تنتظر بولس: "أناشدكم أن تجاهدوا معي برفع صلواتكم إلى الله".
2- نهاية الرحلة الثالثة
ونصل إلى ف 20 فنتعرف أولاً إلى المدن التي مرّ فيها بولس. بعد أن ترك أفسس، ذهب إلى مكدونية، ثم إلى اليونان، وبالتحديد إلى كورنتوس، خلال شتاء 57- 58. لم يقل لنا أع لماذا سافر بولس إلى كورنتوس، كما أنه لم يقل لنا شيئاً عن الصعوبات التي قامت بين بولس وكنيسة كورنتوس. ولكن السبب هو الأزمة الكورنثية واللمة (التبرع) من أجل كنيسة أورشليم (24: 17، تشبه هذه التبرعات ضريبة الهيكل التي يدفعها كل يهود الأمبراطورية). وبعد هذا: بيرية، تسالونيكي، دربه (يقول النص الغربي: دوبيريس وهي قرية من فيلبي)، فيلبي، ترواس، أسوس، خيوس، ماموس، تروجليون، ميتيلينة، ميليتس.
ونتعرف إلى الفريق الذي رافق بولس. لوقا، صاحب اليوميات، الذي يتكلّم في صيغة المتكلم بعد 20: 5 (سبقونا، انتظرونا). وهل كان الذي يتكلم في صيغة المتكلم بعد 20: 5 (سبقونا، انتظرونا). هل كان سيلا معه؟ ربما. وهناك تيموتاوس: سوتيرس، أرسترخس، سكوندس، كايوس (19: 29). تيخيكس، ترفيمس.
أما لوقا المؤرخ فيعرّفنا إلى الجماعات المسيحية التي انتشرت على كل الشاطئ من سورية إلى اليونان مروراً بآسية الصغرى (أي تركيا الحالية). ولن يتوقّف الانتشار هنا، بل سيصل إلى رومة قلب العالم الوثني. ويذكّرنا أيضاً بأن اليهود لم يتوقفوا عن ملاحقة بولس. هنا نقرأ النص الغربي: "أقام في اليونان ثلاثة أشهر. وبينما هو يستعد للسفر إلى سورية، تآمر اليهود لقتله فقال له الروح (في النص الشرقي. فرأى) بأن يرجع بطريق مكدونية".
ونحضر في كنيسة ترواس حفلة ليتورجية: المشاركة في الأفخارستيا (20: 11). كان ذلك في اليوم الأول من الأسبوع، أي يوم قيامة يسوع (لو 24: 1) الذي سيُسمّى يوم الرب (رؤ 1: 10= الأحد). يتميّز هذا اليوم باجتماع (1 كور 16: 2) يتم مساء السبت. فاليوم الطقسي يبدأ في مساء اليوم السابق. الاحتفال كما قلنا هو احتفال بالأفخارستيا (لو 24: 30، لقاء الرب خلال كسر الخبز، رج أع 2: 42، 46) يتم في بيت خاص. هناك العشاء الأخوي (آ 11؛ رج 2: 46؛ 6: 2؛ 11: 3؛ 1 كور 11: 17- 22) والصلوات (2: 42) والكرازة (9: 11) وتبادل الحديث مع الإخوة (آ 7). كان جو الاحتفال جو فرح (2: 46؛ 16: 34) كما في مجمل حياة الكنيسة. هناك تلميحات ممكنة إلى الأفخارستيا في 6: 2؛ 13: 2؛ 16: 34؛ 27: 35.
خلال هذا الاجتماع، سقط فتى اسمه أفتيخوس من النافذة فمات. ولكن بولس أقامه، كما أقام بطرس طابيثة (9: 36- 43). نشير إلى أن بولس لا يصلي ولا يدعو بأسم الرب يسوع (16: 18؛ رج 3: 16)، بل يفعل كما فعل إيليا (1 مل 17: 17- 24) وأليشاع (2 مل 4: 8- 37).
ج- خطبة أفسس
1- الإطار
لم يتوقف بولس في أفسس، لأن وجهته كانت أورشليم، بل في ميليتس، وإلى هناك دعا شيوخ (أساقفة) جماعة أفسس. سنسمع هنا وصية بولس، الراعي الخائف على القطيع من "الذئاب الخاطفة"، وحديثه الحميم عن طبيعة الرسالة الرعاوية: فاسهروا على أنفسكم وعلى الرعية "التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة (حرّاساً). ارعوا كنيسة الله (أو كنيسة الرب يسوع) التي اكتسبها بدمه (أو بدم ابنه بالذات)".
بعد أن خطب بولس في اليهود، في أنطاكية بسيدية (13: 16- 41)، وفي الوثنيين، في لسترة (14: 15- 17) وفي أثينة (17: 27- 31)، ها هو يخطب في المسيحيين، بل في رعاة كنيسة أفسس (20: 18- 35). نحن أمام خطبة وداعية (تك 49: 1 ي، يعقوب؛ تث 32: 1 ي، موسى؛ 2 تم، بولس) وأمام تحريض للرعاهّ نقرأ مثله في 1تم، تي، 1 بط 5: 1- 4.
2- كيف تبدو هذه الخطبة
هناك من يجد فيها قسمين اثنين: آ 18- 27: سلوك بولس في الماضي: تعرفون كيف عشت معكم... ثم آ 28- 35: تحريض للسامعين: فاسهروا على أنفسكم. وهناك من يجد أربعة أقسام: ينظر بولس إلى الوراء (آ 18- 21). وينظر إلى الأمام (آ 22- 27): أنا اليوم ذاهب إلى أورشليم. ويعلن وصيته (آ 28- 31)، وأخيراً يبارك الجماعة (آ 32- 35): "والآن أستودعكم الله وكلمة نعمته". وأخيراً هناك تصميم في خمسة أقسام: يذكر بولس ما كانت رسالته في آسية (آ 18- 21)، ويتحدّث عن عواطفه الحاضرة (آ 22- 24). إنه سينفصل عن السامعين فيحدّثهم عن المهمة التي قام بها، ويجعلهم أمام مسؤولياتهم (آ 25- 28). ويعلن لهم المخاطر الكبرى التي ستتعرّض لها الكنيسة، فيدعوهم إلى السهر (أ 29- 31). وينهي خطبته بالمباركة والتوصية الأخيرة (آ 32- 35).
3- إلى ماذا يستند الشراح
أولاً: بنية الجمل
آ 18- 21: الحاضر ثم عبارتان خاضعتان: كيف عشت (آ 18 ب - 19) وكيف ما قصّرت (أ 20- 21)، مع اسم الفاعل مرتين: خادماً للرب (آ 19)، شاهداً لليهود واليونانيين (آ 21).
آ 22- 24: فعلان رئيسيان: والآن أنا ذاهب إلى أورشليم (آ 22- 23). ولكني لا أحسب (آ 24). وفي كل مرة نجد عبارة في صيغة سلبية: لا أعرف ما سيصادفني (آ 22)، لا أحسب (آ 34). ثم نجد إعلانين: الروح يحذّرني (يشهد لي) (آ 23)، ما دمت أقوم بمهمتي (آ 24).
آ 25- 31: آ 25: أنا أعرف، آ 29: أنا أعرف. ثم الفعل في صيغة الأمر: اسهروا، ارعوا (آ 28). فاسهروا (آ 31).
آ 32 - 35: تبدو بشكل خاتمة.
ثانياً: التكرارات.
والآن، تبدأ جمل الخطبة الثلاث. آ 22: والآن أنا ذاهب. آ 25: والآن أنا أعرف. آ 32: والآن أستودعكم الله. وهناك كلمة "عرف". آ 18: تعرفون. آ 34: تعرفون. نحن أمام تضمين. آ 22: لا أعرف ما يصادفني في أورشليم. آ 25: أعرف أنكم لن تروا وجهي منذ اليوم. آ 29: أعرف أن الذئاب الخاطفة.
ثالثاً: مسيرة الخطبة.
الجملة الأولى (آ 18- 21): تذكير بالماضي. كيف تصرّف بولس خلال الوقت الذي فيه مارس عمله في آسية، وعبر كل الظروف التي فيها مارس نشاطه.
الجملة الثانية (آَ 22- 24) تبدأ بعبارة في الحاضر: والآن أنا: يتحدّث بولس عن الوضع الحاضر وعن عواطفه في هذا الوقت الذي فيه يودّع سامعيه. لا شك في أن المستقبل يبدو مهدّداً، ولكن بولس ينظر إلى هذا المستقبل من جهة الحاضر: أنا مقيّد (الآن) بالروح (سجين الروح)، أنا ذاهب (الآن) إلى أورشليم، لا أعرف (الآن) ما سيحصل لي (في المستقبل). ولكن الروح ينبهني (الآن) أن القيود والمشقّات تنتظرني (الآن وفي المستقبل) في كل مدينة. ولكني لا أحسب (الآن) أن حياتي لها أية قيمة عندي...
الجملة الثالثة (آ 25- 31). تنقلنا آ 25 من الحاضر (الوداع) إلى الوضع الجديد الذي يتميّز به المستقبل. أنا أعرف (الآن) أنكم لن تروا (المستقبل) وجهي... ويعود بولس إلى الماضي ليسند تحريضه في آ 28: اسهروا على أنفسكم. وتعود آ 29 إلى الحاضر لتقدم معلومات دقيقة عن المستقبل: أعرف أن الذئاب الخاطفة ستدخل بينكم بعد رحيلي... ويقوم من بينكم أناس. وتصل بنا هذه التنبؤات إلى أمر آخر: تنبهوا. حاضرٌ يوجهنا إلى المستقبل ويستند إلى الماضي مع نصائح بولس. وهكذا نصل إلى نهاية الخطبة: يتصرّف شيوخ أفسس على مثال بولس.
الجملة الرابعة (آ 32 - 35) وتشكل آ 32 خاتمة احتفالية. يعود بولس إلى موضوع الوداع: والآن أستودعكم الله وكلمة نعمته. حاضر يتوجّه إلى المستقبل، ولكنه مستقبل خلاص قد تحقق: "القادر أن يبنيكم ويمنحكم الميراث مع جميع المقدّسين" (رج 26: 18 أي الذين صاروا قدّيسين، مكّرسين لله). نرى أن ما يهم الكاتب في هذه الخطبة ليس تذكيراً بالماضي من أجل الماضي، سواء كان هذا الماضي الوقت الذي فيه مارس بولس مهمته في أفسس أو الوقت الذي فيه ودّع بولس الشيوخ. فهذا الماضي لا يُنسى، لأنه يُفهم الكنيسة كيف تتجاوب ومتطلبات المرحلة التي تبدأ مع رحيل الرسول: إنها الحقبة التي توجّه الأمانة لتعليمات الرسول (ومثله) نحو مستقبل الخلاص والحصول على الميراث مع المقدسين.
وتعود أ 33- 35 للمرة الأخيرة إلى الزمن الحاضر: تعرفون (آ 33) تجرّد بولس واهتمامه بالضعفاء. وفي هذا سار بولس حسب كلام الرب.
خطبة متماسكة تكلم فيها بولس كثيراً عن نفسه. كيف قام بمهمته في أفسس، ما هي عواطفه وهو يفترق عن أحبائه؟ ما هي الصعوبات التي ستواجه الكنيسة؟ ولكن هدفه واضح: أن يبرز مسؤولية رؤساء الكنيسة، أن يفهمهم أنهم لن يكونوا على قدر المسؤولية، إلا بقدر ما يقتدون بالرسول ويسيرون على تعاليمه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM