24- لا تجرّب الرب إلهك عب 3: 8

24- لا تجرّب الرب إلهك

عب 3: 8

لا تجرّب الربّ الهك. هذا هو موضوع تأملنا في هذا النهار، في المرة السابقة تحدّثنا عن الآباء في آية واحدة (عب 3: 8) حتى نتأمل نصف ساعة تقريباً واليوم نقرأ نصف ساعة تقريباً واليوم نقرأ الآية 8.

نعود الى قراءة الرسالة إلى العبرانيين الفصل 3 آية 7 الى 11. لذلك، كما يقول الروح القدس أن لا يدخلوا في راحتي.

ونتوقف عند الآية 8. فلا تقسّوا قلوبكم. القساوة، الصلابة، من أكبر الخطايا في الكتاب المقدّس. التشبيه نجده في الأرض. الأرض الصلبة، الأرض الصخرية، لا يمكن أن نزرع فيها شيئاً، لأن الماء لا يخرقها ولأن ولا تراب عليها. ماذا يكون القلب الذي يشبه الصخر، الصخر الأصمّ، نقول في لغتنا: الصخر الأصم الذي لا يسمع ولا يتحرك لا يهمّه شيء. وماذا يكون القلب الذي يشبه الصخر؟

القلب في الكتاب المقدس ليس فقط كما نقول انه مركز الحبّ والمحبة. لا بأس في هذا المعنى. ولكن ليس القلب فقط مركز العواطف، وهذا أمر حلو، ولكن القلب هو مركز الإرادة، هو مركز الفهم. يقول المثل نفهم بقلبنا قبل أن نفهم بعقلنا. فالأم بقرب طفلها تفهم حاجته، لا لأنها متعلمة أكثر من شخص متخصّص في علم النفس. هي تفهم لأن قلبها يفهم. نحن لا نفهم شيئاً إن لم نفهمه بقلوبنا.

القلب مركز الفهم، القلب مركز الإرادة، مركز العمل، مركز الاندفاع. ولكن، إذا كان هذا القلب صخراً لا يتحرّك، ما الفائدة منه؟ لا شيء. هو مكانه ويبقى مكانه. هكذا تحدث الكتاب المقدس عن الشعب العبراني الذي كان في البرية. قال له: فلا تقسّوا قلوبكم كما فعلتم يوم العصيان.

في أي صيغة قرأنا الفعل؟ في صيغة المضارع: لذلك كما يقول. هنا في صيغة الماضي: كما فعلتم. هذا من الماضي. والربّ يتمنى على هذا الماضي أن يمضي، أن لا يعود، أن يكون بلا رجعه. في الماضي، كانت قلوبكم قاسية، وكم يتمنى الربّ أن تصبح قلوبنا ليّنة، مثل الإسفنجة التي تشرب الماء، مثل الأرض الطيبة التي يُرمَى فيها القمح فتعطي ثلاثين وستين ومئة. الصخر لا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء. هكذا فعل الأباء. هكذا فعلتم في الماضي. ويتمنى الربّ أن لا نفعل بعد اليوم: كما فعلتم يوم العصيان. يوم العصيان هو يوم في الماضي ويختلف عن اليوم.

في آية 7 قلنا: كما يقول الروح القدس: اليوم إذا سمعتم صوته. نعم يا ربّ اليوم نريد أن نسمع صوتك.

في آية 8: كما فعلتم يوم العصيان. هو يوم من الأيام، يوم مضى، ويتمنى الربّ أن لا يعود. العصيان هو عكس الطاعة. الربّ يفتح لنا الطريق، فنرفض أن نسير في الطريق التي يقدّمها لنا الربّ. يا لنا من تعساء! العبرانيون فتح لهم الطريق في قلب المياه، وكانوا يفكّرون: هل يدخلون في هذه الطريق أم لا؟ لا شكّ، هناك الخطر من الشمال ومن اليمين. هل نطيع الربّ أم نعصي أمره؟ والطاعة في البرية؟ يقول الكتاب: كانت النار مشعلاً من النار يسير أمامهم ينير لهم الطريق. ومع ذلك، لبثوا يتطلّعون الى الوراء. في النهار الشمس حارقة، جعل فوقهم سحابة، غيمة، تغطيهم من الشمس الحارقة، من الحرّ، ومع ذلك لم يعرفوا أن يطيعوا. والطاعة ليست هذا الخنوع: نطيع لأننا لا نقدر أن نعمل غير ذلك. كلا، هذه ليست الطاعة. الطاعة هي عمل الأحرار، وغير ذلك هي العبودية العبد يطيع، لأنه يخاف من العصا. أما الابن فيطيع، لأنه يحبّ أباه، لأنه يحبّ أمه. الطاعة هي أن نسير مع الذي يحبّنا ويفتح لنا الطريق. من هنا مع الطاعة هي المطاوعة. نحن لا نمشي مع الربّ لأن العصا تلاحقنا، بل نمشي مع الربّ لأن يده بيدنا. وان هو طلب منا الطاعة فذلك لا ليحطّمنا، لا ليذلّنا. انه يطلب منا الطاعة حتى يرفعنا، حتى يكبّرنا، يجعلنا ننمو بالقامة والحكمة والنعمة.

أما العصيان أو عدم الطاعة، فما تكون نتيجته بالنسبة إلى الشعب العبراني في الصحراء؟ إذا رفض أن يسير وراء الربّ، فهو يتيه ويضيع، ولا تبقى له حياة. هي صورة تنطبق على كلّ واحد منا. قال لنا سفر التثنية: ها أنا وضعت أمامكم الحياة والموت، السعادة والشقاء، وأنتم تختارون. الطاعة تقود كم الى الحياة، الطاعة تقودكم الى السعادة. أما العصيان فيقودكم الى الموت، يقودكم الى الشقاء.

جعلتُ أمامك طريقين وأنت تختار. منذ البداية، نقرأ عن شجرة معرفة الخير والشرّ. ماذا تريد أن تعرف أيها الإنسان؟ وعرف يعني لازم، تعلّق، التصق. بماذا تريد أن تلتصق؟ أن تلتصق بالشرّ، بالخطيئة، بالفجور، بالسلب، بالنهب، بالإفتراء؟ أم تلتصق بالخير، باللطف، بالعفاف، بالمحبة، بالتضحية، بالعطاء؟

فعلتم يوم العصيان. يعني رفضتم أن تُطيعوا اللّه، وهذه الخبرة ليست فقط من الماضي. يمكن أن تكون حالة كلّ واحد منّا. نرفض أن نسير مع اللّه، وعندما نصل الى الهوة ويمسكنا الربّ، نعرف من أي خطر نجونا. في الماضي ماذا فعلتم؟ قسّيتم قلوبَكم، رفضتم الطاعة، عصيتم اللّه. هذا اليوم هو يوم العصيان، يوم التجربة في الصحراء. كانت هناك تجربة. فالربّ لا يقبل أن ننتقل حالاً من الخطيئة الى النعمة. هذا الانتقال السريع يزول سريعًا، على مثال حبة القمح التي تقع حيث بعض التراب، من العمق: القليل تفرّخ بسرعة وتيبس بسرعة.

فالربّ أراد أن يكون بين مصر، أرض العبودية، أرض عبادة الحياة الرخوة، حيث البصل والثوم والمراث والكفار وغيره، وبين فلسطين أرض الربّ، حيث الحياة صعبة. في مصر النيل هو الإله، وهو يؤمِّن المياه سنة بعد سنة، ومع المياه يؤمِّن التربة الجديدة: نسمّيه الطمى الذي كان النهر يحمله على مسافة ستة آلاف كيلومتر. أمّا في فلسطين، فالشعب ينتظر المياه من اللّه. هو الذي يرسل المطر في أوانه، يرسله في الخريف من أجل الزراعة، ويرسله في الربيع من أجل الثمر الوافر.

هناك طريق، هناك مسافة، بين مصر وبين فلسطين. الربّ جرّب شعبه: إذا كان يتعلّق به أو يتعلّق بالأصنام، إذا كان يسير الى الأمام، أم يعود الى الوراء. والعودة الى الوراء هي عودة الى الخطيئة. وفي أي حال، في قلب الصحراء، وبعد خبرة سيناء، عبد العبرانيون العجل الذهبي. تذكّروا العجول والبقر في مصر وما كان لها من أهمية. يومَ التجربة، أراد الربّ أن يجرّب شعبه، أن يمتحنه كما تُمتَحن المعادن في النار. حين يمرّ الذهب في النار، فالربّ لا يريد أن يحطّم الذهب، بل أن ينقّيه من التراب من كل ما علق به. حين تمرّ الفضة في النار، فالربّ يريد أن ينقيها حتى تصبح مصفّاة، جميلة، في بياض رائع.

وهكذا حين يُمرّ شعبَه في التجربة، في مثل هذه النار، فلكي يجعله يترك وراءه كلّ تعلّق بمصر وبعبوديتها، وبأصنامها وبحياتها، حياة الرخاء، ويدفعها الى الأمام. وهكذا يفعل بنا الربّ فالتجربة ليست لإخضاع الإنسان. التجربة حاضرة لكي تنقّي الإنسان.

هذا ما قاله يسوع لما حدثنا عن الكرمة: أنتم الكرمة وأنا الأغصان. والآن هو الكرّام. ماذا يفعل بالكرمة؟ يشذّبها. نقول في العربي الدارج: يشحّلها. ينزع كل الأغصان التي لا فائدة منها. ونحن نريد هذه الأغصان، نتعلق بها. ضيعانها مع لا فائدة منها! ضيعانها تروح منّا. الربّ يشذّبها حتى تعطي الكرمة ثمارًا أكثر. والربّ يشذّبنا، ينزع منا أموراً عديدة نتعلّق بها ونحسبها مهمة جدًّا. وفي الواقع، هي تثقل حياتنا، تُضعف مسيرتنا نحو الربّ.

يوم التجربة في الصحراء! كم نتعلّق بأمور عديدة، وهذا هو معنى الفقر الإنجيلي. الفقر الإنجيلي لا يعني أننا لا نمتلك شيئًا. كلاّ، فالربّ علّمنا أن نقول: أعطنا خبزنا كفاف يومنا. نعم نحن نعتاج الى الخبز اليومي، والربّ يعطينا. لا يريدنا الربّ أن نجوع، لا يريدنا الربّ أن نكون بؤساء، والرسول يقول لنا: يكفينا القوة والكسوة. هذا ما يؤمّنه اللّه لنا. وقد قال في إنجيليه: لا تهتموا للجسد بما تأكلون، ولا للنفس بما تلبسون. فالربّ يؤمّن لكم الطعام والشراب والملبس.

ولكن حين يكلّمنا الإنجيلُ عن الفقر، الفقر بالروح يطلب أن لا نتعلّق بشيء، أن لا تتعلّق قلوبنا بشيء. أبداً. لأن ما في هذا العالم إلى زوال. نتعلّق بشيء ويمضي، وماذا تكون النتيجة؟ نكون تعساء كأننا خسرنا نفوسنا. كم نحن مساكين! يقول لنا الرسول: فالذين يشترون يكونون كأنهم لا يملكون. هذا هو الطريق الذي يفتحه اللّه أمامنا، هذه هي التجربة التي عرفها الشعب العبراني، ويريد الله منّا أن نعرفها. بالتجرّد، لا نتعلّق بشيء. مساكين هؤلاء العبرانيون! كم مرّة قالوا لموسى: يا ليتنا بقينا في مصر. هناك كان الطعام، هناك كان اللحم، هناك كان السمك، كأنّ الإنسان لا يطلب سوى الخبز.

قال الربّ يسوع حين جرّبه الشيطان: لا يحيا الإنسان بالخبز فقط، بل بكلّ كلمة تخرج من فمّ اللّه. الطعام الشراب. سواء أكلنا أو لم نأكل، سواء شربنا أو لم نشرب، فهذا لا يؤثر على عمق حياتنا ف نتعلّق بهذه الأمور ونحسبها ضرورية. وفي الواقع ليست ضرورية. والذين أرادوا أن يتعلّقوا بالماضي، ماذا قال الكتاب عنهم: ماتوا في الصحراء، ماتوا في البريّة، ما استطاعوا أن يصلوا الى أرض الموعد، لماذا؟ لأن أحمالهم كانت ثقيلة. كانوا يحملون الأمور العديدة والهموم والنظرة الى الوراء، والبطيخ والثوم والبصل، بينما يريدهم الربّ أن يتجرّدوا من كلّ هذه. قال الإنجيل: اطلبوا أولاً ملكوت اللّه وبرّه، والباقي يُزاد له. نعطيكم إياه ترجيحة. ما في حاجة لا تتعذّبوا.

والصلاة الربّية (الأبانا) لا تبدأ: أعطنا لنأكل، أعطنا لنشرب، أعطنا لنلبس. كلا. بل ليأتِ ملكوتك، ليتقدّس اسمك، لتكن مشيئتك. نبدأ أولاً فنطلب الملكوت، نتطلع الى الملكوت الذي ينتظرنا. أو كما يقول الإنجيل: هو في قلوبنا، يسير معنا. أمّا إذا تطلّعنا حيث نحن، أو رجعنا الى الوراء، فماذا تكون النتيجة؟ لن يكون لنا الملكوت. وهذا ما حصل للعبرانيين الذين ماتوا في البرية. فالذين خرجوا من مصر لم يصلوا الى أرض الميعاد. ولماذا؟ لأنهم رفضوا السير مع الربّ، رفضوا الطاعة له، رفضوا أن يتجرّدوا.

والرب دعانا حين دعا الرسل، ويدعو الكهنة والرهبان والراهبات ويدعو وكلّ المؤمنين الى رسالة خاصة. لماذا تأخذون ثوبين؟ لماذا تحملون مذاود في الطريق؟ لماذا كلّ هذه الأمور التي تثقل عليكم؟ ويقول أيضًا: لا تسلّموا على أحد في الطريق. تتوقّفون مع هذا أو هذه، تتكلّمون، تضيعون الوقت. الوقت ثمين، والملكوت لا ينتظر. ها أنا أرسلكم، يقول الربّ يسوع، ويرسل الكهنة الذين نعيّدهم في هذه السنة، يرسلهم: أمضوا. وإذا كان هناك من صعوبة، انفضوا الغبار الذي على أرجلكم، وامضوا من مدينة الى مدينة.

والربّ نفسه، تعلّق به الناس مرة. إبقَ معنا. ماذا أجاب؟ ينبغي يجب أن أمضي الى قرية أخرى وهناك أبشّر الهدف هو أبعد مني، أبعد من كل واحد منا. يا ربّ نحن أمامك، قلبُنا قاسِ فاجعله طريًا. نحن نعصي أوامرك، علّمنا الطاعة، علّمنا المطاوعة، وعلّمنا أن الصعوبات، أن التجارب، أن المحن انما هي لتحرّرنا من كل ما ليس لك. وفي أي حال، أفهمنا يا ربّ أننا نترك على الأرض كلّ شيء عندما نمضي اليك، فلماذا لا نتركه بملئ حريتنا، ونتعلّم الصفة الأولى التطويبة الأولى: طوبى للمساكين بالروح. نعم يا ربّ نريد أن نكون معك، كالمساكين معك. أنت أيها المسيح يا من لم يكن لك موضع تسند إليه رأسك.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM