14- اجلس عن يميني
1: 10-14
أحبائي ما زلنا نقرأ الفصل الثاني من الرسالة إلى العبرانيين، وفيه مقابلة بين الابن وبين الملائكة. اعتبر بعض الناس أن الملائكة هم خلائق رفيعة، أرفع من البشر، وبما أن الابن صار بشراً، إذاً صار الملائكة أعظم منه. فردّ الكاتبُ وبيَّن أن الفرق الشاسع بين اسم الابن وأسماء الملائكة، أن الفرق شاسع بين الخليقة والخالق، ان الفرق شاسع بين ما هو زائل وبين ما هو باق. لهذا أنهى هذه البراهين بكلمة يقول فيها للابن، بفم الله: "أجلس عن يميني". ذاك هو موضوع هذا التأمل اليوم: إجلس عن يميني. ذاك قول الرب الإله لابنه يسوع المسيح، كما نقول في قانون الإيمان: وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الله الآب.
ونقرأ الرسالة إلى العبرانيين الفصل الأول من آية 10 حتى النهاية. وقال أيضاً... يرثون الخلاص.
"وقال أيضاً". ما زلنا أحبائي نعود إلى العهد القديم، الذي يقدّم لنا الآية بعد الآية؛ ليبيِّن لنا دور الابن في الخلاص. "أنت يا رب" إذاً يدعو يسوع المسيح الرب، كيريوس. الرب يقابل يهوه في العبرية، ويهوه هو الإسم الذي به دعا الله ذاته أمام موسى. سأله موسى: "ما اسمك؟" قال: "أنا يهوه"، أي الإله الذي هو. وفسَّره اليونان بالكائن. وقال عنه سفر الرؤيا: كان في الماضي، ويكون الآن، ويأتي في المستقبل. وكما قال عن نفسه: يأتي على سحاب السماء ليدين الأحياء والأموات.
نعم، كيريوس، الرب، يهوه. أنت أسَّستَ الأرضَ في البدء. وهكذا نعود إلى الآية الأولى من الكتاب المقدس: في البدء خلق الله السماوات والأرض. في البدء، بالنسبة لأي شيء. في البدء، أي في بدء الخليقة. في بدء الزمان. فالزمان والمكان يسيران معاً. نحن في هذا الزمان وفي هذا المكان. أمَّا في العالم الآخر، فلا زمان ولا مكان.
نحن خارج الزمان وخارج المكان، لأننا بالقرب من الله، لأننا في قلب الله، في حضن الله. عند ذاك، فلا زمان بعد ولا مكان، لا بداية ولا نهاية، نحن مع الرب في كل حين.
قال النص هنا "في البدء". من أين أتى هذا البدء؟ الله هو الذي قرره، نفّذه الله بحرية تامة. قال: هنا تبدأ المسكونة، هنا تبدأ الخليقة. يدرس العلماء ويعودون في درسهم بحيث وصلوا الآن إلى عشرة مليارات من السنين. وسيأتي وقت يقولون عشرين مليارًا من السنين. أما الله، فهو الأزلي الذي لا بداية له، وهو الأبدي الذي لا نهاية له. الإنسان له بداية وله نهاية على هذه الأرض، وكل شيء له بداية وله نهاية، والسماء والأرض كان لهما بداية وبداية.
"في البدء خلق الله السماء والأرض". فلهما نهاية حين يحولهما الرب إلى أرض جديدة وسماء جديدة. "في البدء". الله قرّر هذا البدء حين أسس الأرض، والله قرّر البدء الجديد بتجسد ابنه. فنقرأ عند القديس بولس: "ولما تم الزمان". من أتمّ هذا الزمان؟ الله أتمّه لا البشر. فالبشر أضعف من أن يتموا الزمان الذي فيه يأتي الرب على الأرض. ولما تمّ الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً لإمرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس وننال كلنا نعمة التبني، أي نصبح أبناء الله.
"أنت يا رب أسست الأرض في البدء، وبيديك صنعت السماوات". نعم يسوع هو الذي أسّس الأرض. يسوع هو الذي صنع السماوات. ونقرأ في سفر التكوين الفصل الأول: وقال الله. نعم وقال: الرب خلق الكون بكلمته، بابنه يسوع المسيح. فكيف نقابل الخليقة مع الخالق. في آية 11، الخليقة تزول والخالق يبقى. الخليقة هي كالثوب تبلى، هي كالرداء تتغير، أما الخالق فلا تنتهي أيامه. بين الخليقة والخالق هو الزمن تجاه الأبديّة. هو الزوال تجاه البقاء. البشر كلّهم زالوا، الخليقة تزول، أما الابن فيبقى إلى الأبد. "أنت لا تنتهي أيامك". نعم أيام الابن لا تنتهي، لأنه إله من إله. ويعود الكاتب إلى الملائكة: "لمن من الملائكة". قال الله يوماً: إجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك؟" نعم الفرق شاسع، والجلوس عن اليمين علامة الكرامة. والجلوس عن يمين الله، هي الكرامة الفائقة التي هي للابن فقط. وإن نحن جلسنا عن اليمين، فلأننا أبناء وبنات مع الابن.
نقرأ في انجيل متى عن الدينونة الأخيرة: "يجعل الخراف عن يمينه والجداء عن شماله. تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم من قبل انشاء العالم". نعم نحن عن يمين الله. نحن عن يمين الابن، لأنه أخذَنا على عاتقه. أخذَنا كما نحن، بضعفنا وخطيئتنا وتراخينا. صار بشراً مثلنا، أخذ خطيئتنا، أخذ اللعنة عنا: "إجلس عن يميني". الابن وحده هو عن يمين الأب، لا الملائكة. فالملائكة هم خدّام. ويقول سفر الرؤيا: إنهم يقفون أمام الله. وكذلك اشعيا في رؤياه المعروفة في الفصل 6: السرافيم هم واقفون أمام الله، كما يجب على خادم الملك أن يبقى واقفاً أمام الملك. هذا ما نقول عن الخليقة أمام الله: هم واقفون والابن جالس.
"حتى أجعل أعدائك موطئاً لقدميك". من هم أعداء الابن؟ لا البشر، فلا أعداء للابن أبداً بين البشر. هو جاء من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر. تألم ومات وقُبر. لا أعداء للابن، لا الذين آمنوا به ولا الذين رفضوا أن يؤمنوا به. الأشرار ليسوا أعداء الابن، الخطأة ليسوا أعداء الابن، المرضى بكل أنواع المرض، ليسوا أعداء الابن، فهو جاء أول ما جاء من أجل الخطأة. قال: "ما أتيت من أجل الأبرار، بل من أجل الخطأة". لأدعوهم إلى التوبة "ما جئت من أجل الاصحاء بل من أجل المرضى"، لأهتم بالمرضى اهتماماً خاصاً، مرضى الجسد ومرضى النفس. والأشرار؟
هو قال لنا: أحبّوا أعدائكم، صلوا من أجل مبغضيكم". نعم إذا كان هو يطلب منا أن نصلي من أجل أعدائنا، أتُرى يكون له أعداء؟ كلا. وهو يميّز بين الأشرار والشر. الأشرار مهما كانت خطاياهم، يستعد الأب لكي يستقبلهم كما استقبل ابنه الأصغر. ولهذا يقول الانجيل: "يرسل شمسه على الأبرار والأشرار". لا يميز بينهما. "ينزل مطره على الخطأة والفجار". كلّهم أحبّاؤه، كلهم أصدقاؤه، كلّهم بنوه وبناته، كلهم مخلوقون على صورته كمثاله. ولهذا لا يمكن أن يكون انسانٌ واحدٌ عدوَّ لله. نحن نعادي الله، نحن نبتعد عن الله، أما هو فلا يبتعد عنا.
ومثَلُ الابن الضال واضح هو. الابنُ ترك البيت الوالدي ومضى إلى البعيد، وخاف أن يعود إلى البيت، لأنه اعتبر أباه عدوًّا له، فقَبِل أن يكون أجيراً في بيته. ولكن الأب لا يقبل بمثل هذا الكلام، فما تركه يتابع خطابه الذي أعدّه، وهو في قلب الخطيئة وهو في البعيد البعيد، لست مستحقاً أن أُدعَى لك ابناً. اسكته الأبُ حالاً. كاد يقول: "إجعلني أجيرًا لا أجراء عند الرب، كلنا أبناء وبنات. نعم لا عبيد عند الرب. قال لنا يسوع: "لا أدعوكم عبيداً بعد. فالعبد لا يعرف أسرار سيّده". أنتم أبناء، أنتم بنات لله الآب، أنتم أخوة وأخوات لي.
إذاً من هم أعداء الإبن؟ أعداء الابن، هم الشر أولاً، هم الخطيئة، هم الموت. من أجل هذا، أراد يسوع أن يموت، فيميت الموتَ بموته. كانت المسيرة الشرّ والخطيئة والموت. فأخذ يسوع الطريق المعاكس: بدأ فمات، فداس الموت، ثم داس الخطيئة، ثم داس الشرّ، وهذا واضح في كل حياته العلنية: المرضى شفاهم، الموتى أقامهم، ابن أرملة نائين، ابنة يائيرس، لعازر، شقيق مرتا ومريم. وأخيراً الخطأة. قال للخاطئة: اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة. والزانية أرادوا أن يرجموها، هم أعداء لها. وحده يسوع كان صديقاً لها: أما حكمَ عليك أحد، ولا أنا أحكم عليك". وتلك المرأة المحدودبة التي تكاد تلامس الأرض بفمها، لمسَها فانتصبَتْ وقامت تمجّد الله.
نعم أعداء الله لا يمكن أن يكونوا البشر. البشر كلهم أحباؤه، وهو يريد أن يخلّص جميع الناس ويعود بهم إلى التوبة. الله لا يفرح بموت الخاطئ، بل أن يعود إليه ويحيا. هذا هو الابن الجالس عن يمين الآب. لا أعداء له، مع أن اليهود عادوه وطلبوا له الموت، لأنه حسب نفسه، ابن الله. مع أن بيلاطس عاداه، لكي يبقى صديقاً لقيصر. هدَّدوه: أو تكون صديقاً ليسوع الناصري، أو تكون صديقاً لقيصر. فضّل صداقة قيصر على صداقة الابن، وهكذا بان أنه عدوّ يسوع المسيح، فأرسله ليُجلَد ثم ليصلب.
أما يسوع فما قَبِل أن يكون هؤلاء كلهم أعداءه،: "اغفر لهم يا أبت لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون". نعم وجد لهم يسوع العذر، عذَرَهُم، غفر لهم. فهو يعذر كل واحد منا، مهما كانت خطايانا، حسب ما يقول اشعيا: "ولو كانت خطاياهم كالقرمز، حمراء، فإني اجعلها بيضاء كالثلج، كالصوف. أعداء المسيح، ليسوا البشر، فهو يريد خلاص الجميع. هو الخالق وهو المخلص.
أما الملائكة فلا هم الذين خلقوا الكون، ولا هم الذين خلّصوا المؤمنين من الخطيئة. هم أرواح أو رياح، إذا أردنا، في خدمة الله. نعم، هم خدّام لله، خدام لله، لا له وحده. فالله لا يحتاج إلى خدّام، بل يحتاج إلى أبناء وبنات. ولماذا يقول عن الملائكة: هم في خدمة الله؟ هو يقول لا من أجله، بل من أجلنا نحن. حسبنا أن الملائكة هم أرفع منا، أخطأنا. هم خدمَتُنا. كل مرة نقرأ عن الملائكة في الكتاب المقدس، نفهم أن الله يرسلهم إلينا.
نعم أرسل الملاك إلى ابراهيم ليمنعه من قتل ابنه اسحق. أرسل الملائكة إلى يعقوب ليقولوا: له لا تخف. يمكن أن تمضي وتعود والرب يرافقك. أرسل الله الملاك إلى جدعون، لكي يخلص شعبه من بني مديان. نعم الملائكة هم في خدمتنا، يرسلهم الله من أجلنا من أجل الذين يرثون الخلاص. ومن ورث هذا الخلاص، نحن البشر. نحن البشر نرث الابن، نرث مع الابن، نرث ملكوت السماوات. فكيف أيها القائلون تجسرون بأن تجعلوا الملائكة فوق الابن؟
الملائكة هم في خدمتنا، لأنهم في خدمة الابن، كما كان الأمر بعد التجارب. فكيف يكون الخادم سيّدَ الرب والإله؟ إجلس عن يميني. يسوع المسيح هو الملك، هو الرب، هو الخالق، هو المخلص، هو إله من إله، ولهذا فالملائكة خدام له. وبالتالي خدام لنا، نحن الذين ننال الخلاص. شكراً لك يا ربّ، لأن كاهننا فوق البشر كلهم، لأن كاهننا فوق الملائكة، لأن كاهننا هو القويّ القويّ، الذي يجعل أعداءه تحت قدميه، الموت، الخطيئة، والشر، لأن كاهننا هو ذاك الذي جاء يقتل العداوة بين الله وبيننا، بيننا وبين أخوتنا، بين البعيدين والقريبين. أتى بهم كلّهم لكي يكونوا أبناء وبنات الله.
شكراً لك أيها الربّ، يا من أسَّستَ الأرض وصنعت السماوات، شكراً لك أيها الأزلي الذي أتى إلى الزمن. شكراً لك يا ابن السماء الذي جاء على الأرض، ليرفع أبناء الأرض إلى السماء، لك المجد والشكر من الآن وإلى الأبد. آمين.