13- الابن ملك إلى أبد الدهور
1: 7-9
أحبائي نتابع قراءتنا في الرسالة الى العبرانيين ونحن نقرأ الفصل الأول آ4 وما يلي: تكلّم الرسول في البداية عن يسوع المسيح، الابن الوحيد الذي هو وارث كلّ شيء، الذي به خلق اللّه العالم، الذي هو صورته تكلّم منذ البداية على أنه مجد اللّه وصورة جوهره، وأنه ذاك الذي طهرنا من خطايانا. وهكذا رفعنا صاحب الرسالة الى الأعلى، رفعنا الى السماء، لكي نتأمل في الابن، الإبن الوحيد. ولكنّه أحدرنا معه لمّا انحدر. ما اكتفى بأن يتجسّد ويصير شبيهاً بنا، بل هو مات من أجلنا. فتقول الرسالة: طهّرنا من خطايانا. وحين أخذ جسداً، اعتبر بعضُ الأشخاص أن الملائكة الذين لا جسد لهم هم أعظم منه. لهذا جاء كلام الرسول. إذاً نقرأ الفصل 1: 4-9: فكان أعظممن الملائكة بمقداردون رفاقك.
أما العنوان فهو: الابن هو ملك الى أبد الدهور. ونقرأ آ 7: وفي الملائكة قال اللّه جعل من ملائكته رياحًا ومن خَدَمه لهيب نار.
هنا يعود بنا الكاتب الى المزمور104 حيث نقرأ كلمة "روح" في العبرية، والروح يعني الريح، والروح القدس. ما أراد الكاتب أن يدعو الملائكة روحاً، بل رياحاً. والريح هي هواء يتحرّك، ويحرّك معه الأوراق، أوراق الشجر، ويحرّك معه ما يستطيع أن يحرّك. هي غير الروح الذي يرفعنا الى الروح القدس. وحين قال الكاتب إن الملائكة هم رياح، الملاك هو ريح، جعله خليقة من الخلائق، لا يتميّز بشيء عن كلّ الخلائق والربّ يسود عليه.
نتذكّر هنا في الفصل الرابع من مرقس، حين كان يسوع في السفينة مع تلاميذه. هبّت الريح وهاج البحر، وكادت السفينة تغرق. ماذا فعل يسوع؟ زجر الريح، زجر البحر: اسكُتْ، اصمُتْ، وهدأت الريح، وهدأت الأمواج. وماذا كانت النتيجة؟ قال التلاميذ: من هو هذا الذي يُطيعه البحرُ والرياح. صارت الريح شيئاً يتصرّف به اللّه كما يشاء. وإذا كان الملائكة رياحًا، فماذا يكونون تجاه الابن؟ هم خليقة من الخلائق ونحن نعرف أن يسوع خلق كلّ شيء، وأن كلّ شيء خلق له ومن أجله.
وفي بداية انجيل لوقا، نرى الملائكة يوم الميلاد يدَعون الرعاة للمجيء الى المذود، ويُنشدون المجد للّه في العلى وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة أو الرجاء الصالح لبني البشر. هم يُنشدون قرب الابن، ويشبهون الى حدّ ما، يوحنا المعمدان الذي اعتبروه العريس، اعتبروه المسيح. قال لهم: كلاّ. أنا صديق العريس. أُنشد مجيئَه، أفرح لمجيئه. عليه أن يرتفع وعليّ أنا أن أصغر. عليه أن ينمو وأنا أن أنقص. وذاك هو وضع الملائكة. هم لا يدعوننا لكي نتطلّع فيهم. بل يدعوننا لكي نتطلع في الابن، في هذا الطفل في المذود، الذي لا يتميز خارجياً عن أي طفل. اذهبوا واسجدوا له، وأنشدوا له المجد للّه في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر. وهذا ما فعله الرعاة: مضوا وسجدوا للطفل الإله.
جعل من ملائكته رياحاً ويتابع النصّ: ومن خدمه لهيب نار. الملائكة هم خدّام، هم في خدمة اللّه، ويرسلهم في مهمّة من المهمّات. ولكن في هذا النص، صاروا شيئاً من الأشياء. صاروا لهيب نار. ما عادوا روحاً، بل صاروا ريحاً وهواء، وما عادوا خداماً بل صاروا لهيبَ نار. ونحن نتذكّر أن النار تدلّ على حضور اللّه.
فاللّه يأتي دوماً بعد الملاك الذي يُعدُ له الطريق، والنار صورة عن حضور اللّه على الأرض. ذاك ما كان بالنسبة للعليقة الملتهبة التي رآها موسى. ذاك كان بالنسبة الى ما حصل لإيليا على جبل الكرمل. نزلت النار على المحرقة، فدلّت على حضور اللّه. هي مقابلة متواصلة بين ما يقال عن الملائكة، وما يقال عن الابن. الملائكة هم رياح، الملائكة هم خدّام، الملائكة هم لهيب نار.
وتقول آ 8: أما في الابن قال: عرشك يا اللّه ثابت الى أبد الدهور. هنا نقرأ المزمور 45. ولكنّ هذا المعنى الأول في المزمور، يأخذ معنى أعلى وأرفع بكثير في المزمور 45، هو نشيد يُرفَع الى ملك أرضي، يُدلّ في النهاية على اللّه الملك في شعبه. أورشليم تدعو صور. أورشليم عابدة الإله الواحد، تدعوا صور الوثنية، لكي تعبد معها الإله الواحد.
هنا ارتفع المعنى: عرشك يا اللّه. نعم، الابن صار اللّه. هو ثابت الى أبد الدهور. لم نعد أمام عرش ملكي، ولو كان عرش داود الذي كان بحسب قلب اللّه، ولو كان عرش سليمان ذلك الحكيم، بل صرنا أمام اللّه. ها هو اللّه وقد توجّه الى ابنه: جعله ذلك الملك، الملك في السماء والملك على الأرض. ولهذا لما أتى يسوع يعلن البشارة، قال أول ما قال: توبوا اقترب ملكوت اللّه. هذا المُلك السماوي جاء يزرع على الأرض ملكوتَه، مُلكَه. ويقول لنا: ملكوت اللّه في ما بينكم. ملكوت اللّه في داخلكم. وعلّمنا أن نصلي أبانا الذي في السماوات. ليأتِ ملكوتك.
وهذا الملكوت لا يشبه ممالك الأرض التي تبدأ فترتفع وأخيرًا تزول. أما مُلك اللّه، أما عرش ابن اللّه، فهو ثابت الى أبد الدهور. الإنسان عابر، أما اللّه فهو ثابت الى أبد الدهور. لهذا قال له: عرشك ثابت. وناداه: اللّه. هو اللّه. اله من اله، نور من نور، اله حقّ من اله حقّ.
وصولجان العدل صولجان ملكك. الصولجان علامة السلطان. الابن هو السلطان، هو السيد، صولجان العدل أو صولجان البرّ. صولجان ملكك. يحمل الملك الصولجان، يأمر بالحياة والموت. ويمكن أن يخطئ المرة، بعد المرة ويمكن أن يتبع أهواءه، أما الابن فصولجانه عادل، بارٌ، وهكذا يكون مُلكُه ثابتاً حتى على الأرض.
فهو الذي قال لبطرس بعد أن أعلنه المسيح ابن اللّه الحي. قال له: أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. أبواب الشرّ، أبواب الخطيئة، أبواب الموت، لا يمكن أن تقوى عليها. لا قوة تقوى في وجه ملكوت اللّه. ويقول الرسول الى الكورنثيين يقول: لا بدّ له أن يغلب كلّ اعداءه، وآخر عدوّ هو الموت.
وقال لنا في الرسالة الى رومة: بإنسان واحد دخلت الخطيئة الى العالم، وبالخطيئة الموت، وهكذا عمّ الموت جميع الناس لأنهم جميعهم خطئوا ولكن بإنسان واحد أيضًا، تبدّلت الأمور، زالت الخطيئة وجاء البرّ والعيش بحسب مشيئة اللّه. زال الموت وأتت الحياة وأتت القيامة. لا مجال بعد اليوم لأن نكون أعداء اللّه، فاللّه صالحنا بابنه يسوع المسيح. صولجان العدل صولجان ملكك. صولجانك حاضر. أنت الملك الآن وفي كلّ آن والى مدى الدهور. أنت ملك لا بالسلاح ولا بالقوة، بل بالحب، بالبذل، بالتضحية.
يحدّثنا الرسول فيقول: يكاد إنسان يموت عن رجل بار، أما اللّه فإذ كنّا خطأة، إذ كنّا بعيدين عن اللّه، أرسل ابنه كفارة عن خطايانا. مات عنّا ونحن خطأة، ونحن لا نستحق أبداً أية تضحية. ومع ذلك أحبنا اللّه، وأرسل ابنه كفارة عن خطايانا. هكذا ربِحنا له، هكذا صار مَلِكاً علينا وعلى قلوبنا. بالحبّ استولى على قلوبنا، وبالحبّ نستولي على قلب اللّه. بالحبّ ربِحنا له، ونحن نبادله الحبّ بالحبّ.
هذا هو الابن، ولا يمكن للملائكة أن يُقابَلوا به. هم رياح، هم بعض الهواء المتحرّك، هم بعض النار. في أي حال، هم خلائق، أما الابن فهو الخالق، فهو الملك. بما أنه خلق السماء والأرض، فالسماء ملكه والأرض ملكه، والبشرية كلّها له، لأنه سبق وضحّى بحياته من أجلها.
وتتابع آ 9: تحبّ الحقّ وتبغض الباطل. هذا هو الملك. الملك الحقيقي يحبّ الحق. فيسوع قال لنا: أنا هو الطريق والحقّ والحياة. نعم هو الطريق التي تقود الى الحقّ، الى الإله الحقيقي، الى الإله الحيّ. تحبّ الحقّ وتبغض الباطل. الباطل هو أولاً ما لا نفع فيه. الباطل هو الفراغ. الباطل هو الدخان، هو لا شيء، الباطل. وفي النهاية حين يتعلّق الإنسان بالباطل، ينسى الحقّ، ينسى من هو الإله الحقيقي، كما دعاه الربّ في صلاته الكهنوتية. يعرفونك أنك الاله الحقّ والذي أرسلته إبنك يسوع المسيح.
وكيف يبدو يسوع ذلك الملك؟ مسحه اللّه بالزيت. في شعب اللّه كانوا يمسحون الملك بالزيت لكي يستعد للقتال. في القتال المادي يدفع الأعداء. والقتال الروحي يكون ضدّ هفواته ونزواته. داود ربح المعارك مع الأدوميين والعمونيين وغيرهم من الشعوب، ولكنه كان ضعيفاً في حربه الداخلية: زنى مع بتشابع، قتل زوجها، وأخذ له امرأته.
الزيت يجعلنا أقوياء، يجعلنا لا نقع في يد العدو الخارجي والداخلي. والمسيح أعطيَتْ له هذه الصورة: مسح بالزيت شأنه شأن كلّ الملوك. ولكن أي زيت؟ زيت الزيتون ربما، أو بالأحرى كلا. فنحن نعرف عندما أُعلن ملكاً في العماد المقدس، لم يكن هناك من زيت. فقط أعلنه الأب من السماء: أنت ابني الحبيب. هكذا كان النبي يعلن كلّ ملك: صرتَ اليوم ابن اللّه. والابن، في المعمودية، لم ينتظر نبياً يقول له أنت ابن اللّه، بل جاء الصوت من السماء.
مسحك اللّه بزيت البهجة دون رفاقك. نعم زيت البهجة زيت الفرح. دون رفاقك. كلّ الملوك لم يصلوا الى من هو الملك الحقيقي، الملك الوحيد، الذي لا ملك بعده على قلوب الناس. نحن يا ربّ نقدّم لك حياتنا، نقدم لك ذواتنا، لا نريد سواك ملكاً علينا. مرات عديدة نعتبر أن هذا أو ذاك هو المخلّص. لا مخلّص الا أنت. نعتبر أن هذا أو ذاك يمكن أن يكون القائد. فلا قائد علينا الا أنت. مرات عديدة نحسبك نبياً بين الأنبياء، فأنت فوق الأنبياء، والأنبياء، في الواقع يتكلمون عنك دون أن يعرفوك.
نشكرك يا ربّ لأنك وحدك الملك علينا، ولا نريد أن يملك علينا سواك. صولجان العدل صولجان ملكك، علّمنا أن نتبعك يا من تحبّ الحقّ وتبغض الباطل آمين.