الفصل السادس: دعوة بولس

الفصل السادس
دعوة بولس
قال الرب لحنانيا: "إذهب لأن هذا الرجل هو إناء مختار (قد اخترته) ليحمل اسمي أمام الأمم الوثنية والملوك وبني إسرائيل". هكذا تُصوَّر دعوة بولس في 9: 15. وستصوِّر ف 13- 28 كيف حقّق بولس المهمة الملقاة عليه. وسيروي خبران آخران الحدث عينه. ما نجد في ف 9 دوّن في صيغة الغائب، أما الخبران التاليان فدوّنا في صيغة المتكلم. يشكّل خبر 22: 3- 21 دفاع بولس عن نفسه أمام شعب أورشليم، وذلك حين أوقف في الهيكل بعد رجوعه من الرحلة الرسولية الثالثة. اتُّهم بأنه دنّس الهيكل وأدخل إليه رجلاً وثنياً (21: 38 ي)، فوجّه كلامه إلى الشعب الهائج (21: 40). لا يجيب بولس على الاتهام بطريقة مباشرة. إلاّ أنّه يشير في الخاتمة إلى الهيكل (22: 17) وإلى الرسالة لدى الأمم الوثنية (22: 21).
أما خبر 26: 9- 18 فهو جزء من خطبة أوسع (26: 2- 23) تلفّظ بها بولس قبل رحيله إلى رومة (27: 1). مرّ الملك اغريبا في قيصرية، فتكلّم بولس أمامه، وهكذا شهد أمام الملوك كما قالت 9: 15. أن يكون لوقا تكلّم ثلاث مرّات عن ارتداد بولس، هذا يدلّ على أهمية الحدث في تاريخ الكنيسة الأولى. ونحن سنتوقّف عند هذه النصوص الثلاثة فنفهم معناها كتعبير مثلث عن اختبار بولس مع الرب على طريق دمشق.
أ- النصوص والمسألة التي تطرحها
1- نصوص أع
يذكر أع بولس للمرة الأولى بمناسبة رجم اسطفانس: وضَع الشهود ثيابهم لدى شاب اسمه شاول (7: 58). وينهي لوقا خبر استشهاد اسطفانس فيقول: "وكان شاول موافقاً على قتل اسطفانس" (8: 1 أ). ويتابع أع حديثه عن اضطهاد يحلّ بالكنيسة ويلعب فيه بولس دوراً حاسماً (8: 1 ب- 4).
ويبدأ ف 9 بهذه الكلمات: "أما شاول فكان ينفث صدره تهديداً وتقتيلاً لتلاميذ الرب" (9: 1). أخذ رسائل من السلطات، وتوجّه إلى دمشق. وها نحن أمام الحدث بحصر المعنى. ما إن اقترب المضطهد من المدينة، حتى أحاط به نور من السماء وكلّمه صوت: "شاول، لماذا تضطهدوني" (الكلام في اللغة العبرية أو الآرمية؛ رج 26: 14)؟ سقط المضطهد على الأرض بعد أن بهره الضياء الذي حلّ به (رج 22: 11؛ 26: 13- 14). إن الذي يكلّم شاول هو الرب الممجّد الذي يحيط به نور ساطع. إنه هو الذي يضطهده شاول حين يضطهد الكنيسة.
حوار قصير مع يسوع، قال فيه بولس عبارة صغيرة: "من أنت يا رب" (9: 5)؟ كل معارضة بدت مستحيلة من قِبَل شاول. فالذي كان ينفث التهديد والتقتيل (9: 1)، تقوده يد رفاق لا يذكر لوقا أسماءهم (9: 8، ربما إحدى القوافل المسافرة إلى دمشق).
ظلّ شاول في ظلمة مطبقة. تركه يسوع في ضياع بما يخصّ المستقبل: "أُدخل المدينة وهناك يقول لك ما يجب عليك أن تعمل" (9: 6). ظلّ شاول ينتظر ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب وكان أعمى. وتبدّل المشهد. فحدّثنا النص عن تلميذ اسمه حنانيا ويقيم في دمشق مع مسيحيين متهوّدين، على ما يبدو (9: 19 ب). أمره المسيح في رؤية بأن يذهب إلى شاول الذي يقيم في بيت يهوذا وأن يضع يده عليه. وأوحى المسيح إلى حنانيا في الرؤية عينها أن شاول رآه يدخل ويضع يديه عليه. إذن، نحن هنا أمام رؤية مضاعفة.
اعترض حنانيا: سمع الناس يتكلّمون عن شاول. وترددُ حنانيا يدلّ على الخطر الخطر الذي شكّله شاول للكنيسة، وعلى الانقلاب الذي تمّ فيه على طريق دمشق. سيتعرف حنانيا (ومن معه) من المسيح إلى قصد الله إلي فيه يتّحد هذا التبدّل مكانه: سيحمل شاول اسم المسيح أمام الوثنيين واليهود. ويخبرنا النص كيف ذهب حنانيا إلى شاول: نفّذ أمر المسيح فشفى ذلك الذي زاره وعمّده (9: 1- 18).
لن نتوقف عند فصول أع التي تدل كف كان بولس الإناء المختار (9: 15، الرسول الذي اختاره الرب)، وكيف شهد لكلمة الله أولاً أمام اليهود (9: 20 ي؛ 26: 20) ثم أمام الوثنيين. وصل الإنجيل إلى آسية الصغرى (ف 13- 14) ومن هناك إلى أوربا (ف 16- 18). وشكّلت مرحلة بولس الرسولية الأخيرة منعطفاً في نشاطه (ف 21). أثار يهود من الشتات شغباً على بولس في حرم الهيكل، ولولا تدخل سريع من قبل الجنود الرومانيين، لكلّفه هذا الشغبُ حياته. في هذا الوضع، خطبَ بولس أمام اليهود ليدافع عن نفسه (22: 1- 21). نلاحظ أن هذه الخطبة هي مناسبة ليتحدّث فيها بولس عما حصل له على طريق دمشق.
أنهى بولس خطبته: "فقال لي الرب: هيّا، سأرسلك إلى مكان بعيد، إلى الوثنيين" (22: 21). حين قال بولس هذه العبارة هاج الشعب. "أخذوا يصيحون ويطرحون ثيابهم ويرمون التراب في الهواء" (22: 23). وفي ف 26 سيُروى حادث دمشق للمرة الثالثة أمام فستوس الحاكم الروماني وأغريبا الملك، اليهودي مع حاشيته (26: 9- 18). وتنتهي الرواية الثالثة بهذه الكلمات: "سأنقذك من شعب إسرائيل ومن الشعوب الوثنية الذين أرسلك إليهم لتفتح عيونهم فيرجعون من الظلام إلى النور" (26: 17- 18). وإذا كان بولس يتكلّم قال له فستوس: "أنت مجنون يا بولس" (26: 24). وهكذا توقف بولس عن الكلام.
هناك اختلافات بين هذه الروايات الثلاثة لفتت نظر الشراح منذ آباء المنيسة.
لعب حنانيا دوراً هاماً في الرواية الأولى، ودوراً معتدلاً في الرواية الثانية. أما الرواية الثالثة فلا تذكر حنانيا كما لا تذكر عمى بولس وشفاءه.
في الرواية الثانية يخبرنا بولس أنه رأى المسيح في هيكل أورشليم، بعد ارتداده بقليل. وقال له المسيح بصوت مباشر: سأرسلك إلى البعيد، إلى الوثنيين (22: 21). ولكن ف 9 وف 26 لا يذكران هذه الرؤية.
إذا اتبعنا ف 9 وف 22، نرى أن الصوت الذي حاور بطرس خلال الرؤية قد دعاه فقط ليدخل إلى دمشق. وعلى حنانيا أن يكشف له عن الدور الذي يهيئه له المسيح. أما في ف26 فقد أقحم أمرُ المسيح في الحوار الذي رافق الظهور. اتخذ شكل خطبة رسولية كشفت لبولس دوره بأن يحمل الإنجيل إلى الوثنيين. ما تعلّمه بولس من حنانيا (ف 9) أو من المسيح الذي ظهر له في الهيكل (ف 22)، قد تعلّمه مباشرة من المسيح حين رآه على طريق دمشق (ف 26).
وهناك اختلاف آخر يتعلّق بتأثير الرؤية السماوية على بولس ورفاقه. حسب 9: 7، سمع الرفاق الصوت ولكنهم لم يروا المتكلم. حسب 22: 9، رأوا النور ولكنهم لم يسمعوا الصوت. حسب 9: 7، وقف رفاق شاول حائرين (أي ظلوا واقفين). حسب 26: 14، سقطوا على الأرض مع شاول. ونقرأ في 26: 14 عبارة لا نقرأها في الروايتين الأخريين: "صعب عليك أن ترفس المهماز" (أي أن تقاوم).
2- معطيات الرسائل البولسية
لا شك في أن شهادة الرسائل أصدق من شهادة أع. يتكلّم بولس فيها عن الأحداث التي حصلت له في دمشق: فقد كان لنداء يسوع له تأثير عميق ودائم. كان هذا النداء ينبوعاً روى حياته ولاهوته. نجد هذا الحدث بطريقة عفوية في ما كتبه بولس مثلاً في روم 1: 1: "من بولس عبد يسوع، دعاه الله ليكون رسولاً واختاره ليعلن بشارته (إنجيله)" (رج روم 1: 5؛ 1 كور 1: 1؛ غل 2: 1؛ روم 15: 16؛ غل 3: 7- 13؛ 2 كور 4: 6؛ 5: 18- 30؛ 13: 10).
أولاً: توافق بين أع والرسائل
يؤكد بولس أنه اضطهد الكنيسة (1 كور 15: 9؛ غل 1: 13؛ رج 1: 23؛ غل 3: 6). ولقد اضطهدها بحماس واندفاع (غل 11: 13؛ رج أع 26: 9- 11: قاد بولس حملة الاضطهاد). ولما ارتدّ بولس إلى المسيح، نعمت بالسلام (9: 31).
يؤكد بولس بوضوح أن المسيح ظهر له: "أما رأيت الرب يسوع" (1 كور 9: 1)؟ "وفي النهاية ظهر لي أ،ا أيضاً" (1 كور 15: 8). وهذا الظهور بدّل حياة "المضطهد" كلها. قال عن نفسه في غل 3: 7: "لكن ما كان لي من ربح (في الديانة اليهودية) حسبته خسارة من أجل المسيح".
نقرأ في 2 كور 4: 6: "والله الذي قال: ليشرق من الظلمة نور هو الذي أضاء نوره في قلوبنا لتشرق معرفة مجد الله، ذلك المجد الذي على وجه المسيح". هنا نتذكر أهمية النور في التقليد اللوقاوي، كما أن أع 22: 11 يتحدّث عن نور المجد الذي يشع من المسيح.
هناك علاقة في نظر بولس بين الرؤية التي فيها كشف الله عن ابنه (غل 1: 16) وبين دعوة بولس كرسول للأمم. فالابن أرسله ليبشر بين الأمم. هنا نلاحظ توافقاً بين رسائل بولس ورؤية أع. فالدعوة إلى الرسالة بين الوثنيين تتبع حالاً ظهور المسيح لبولس (26: 16).
من أين جاءت هذه المعلومات إلى لوقا الذي كتب أع؟ من تقاليد خاصة بالجماعات السورية والفلسطينية التي روت ارتداد المضطهد في وقت قريب من الحدث. في هذا المجال نجد قولاً بولسياً له معناه: "وما كنت معروف الوجه عند كنائس المسيح اليهودية. وإنما سمعوا أن الذي كان يضطهدنا هو الآن يبشر بالإيمان الذي كان يريد أن يدمّره، فمجّدوا الله من أجلي" (غل 1: 22- 23). هذه الملاحظة تفترض أن خبر ارتداد بولس وصل إلى جماعات يهودية وأورشليم قبل أن يصل بولس إلى هناك.
ثانياً: اختلافات بين أع والرسائل
ما يدهشنا هو أن بولس لا يروي في الرسائل خبر ارتداده كما فعل في أع 22 و26. هذا الحدث الذي طبع بطابعه منعطفاً هاماً في حياته، لا يُذكر إلا قليلاً وبطرقة عابرة. حتى حين يكلّم الغلاطيين الذين يعارضون صفته الرسولية، فهو يكاد يلمح إلى هذا الارتداد (غل 1: 15، ولكن الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمي). مثل هذا الصمت ينتج عن تحفّظ كبير نجده في 2 كور 12: 1- 4 حيث يتكلّم بولس عن "رؤى وإيحاءات". أجبر على الدفاع عن نفسه، فلم يقل "أنا" بل "أعرف رجلاً". من الواضح أن بولس لا يحبّ أن يتكلّم عن نفسه. وهنا يمكننا أن نتساءل: هل روى بولس حقاً خبر دعوته؟ لا شك في أنه قال كما في 1 كور 9: 1 "رأيت الرب". ولكن هذا زاد على هذا القول تفاصيل عديدة؟ هذا ما لا نقدر أن نؤكده.
قال بولس: "رأيت الرب". ولكن إذا اتبعنا أع، فلا يبدو أ، بولس رأى الرب بصورة مباشرة كما يقول في الرسائل: إذا كان أع يتحدّث عن بهاء نور جاء من السماء وأحاط ببولس، فيكون أن الرسول حصل على رؤية نورانية (مثل موسى في العليقة الملتهبة) لا على رؤية المسيح شخصياً. ولكن هل هذا الشعور كاف؟ حين يؤكد النص أن رفاق الرسول لم يروا "أحداً"، يمكن أن يكون بولس قد رأى "أحداً". ثم إن حنانيا قال: "اله آبائنا اختارك، لتعرف مشيئته، وتشاهد (فتاه) البار. وتسمع صوته يكلّنك" (22: 14؛ رج 9: 17؛ الرب يسوع الذي ظهر لك؛ 26: 16؛ شاهداً على هذه الرؤية التي رأيتني فيها). هذا ما جعل الشراح يقولون: النور هو كل ما رآه بولس. سمع كلمة المسيح التي اخبرته أن يسوع هو في هذا النور.
ما هي نية القديس لوقا؟ إنه يعتقد أن بولس رأى الرب (22: 14). ولكن لوقا يبتعد عن مثل هذا التعبير حين يتحدّث عن رؤية دمشق. يورد قول بولس أمام اغريبا وفستوس: "رأيت نوراً من السماء أبهى من شعاع الشمس يسطع حولي وحول المسافرين معي" (26: 13). ولكنه لا يقول: "وفي هذا النور رأيت شخصاً يقول لي". إن بولس سمع فقط صوتاً يتكلّم. ويتجنّب لوقا أيضاً الكلام عن كيف كانت هذه الآية التي رآها بولس. إذا كان لوقا أراد أن يبقى غامضاً، فلماذا نحاول أن نزيل هذا الغموض؟
لماذا كتب لوقا بهذه الطريقة؟ هنا نعود إلى طريقته في إيراد ظهورات المسيح الفصحية (لو 24: 1 ي؛ أع 1: 1ي). هو لن يقول أبداً: "رأوا نوراً وسمعوا صوتا". ولن نجد في أخباره أثراً لنور يحيط بشخص المسيح. فعلاقات الرسل مع القائم من الموت هي علاقات عادية (لو 24: 30، 41- 42؛ أع 1: 4؛ 10: 41): أكلوا وشربوا معه. ولا شيء يشهد على أننا أمام ظهور على طريقة المسيح في المجيء والذهاب (لو 24: 31، 36، 51؛ أع 1: 9). وهذه الطريقة في عرض الواقع (تتعارض مع ما نقرأ عن حدث دمشق) تطابق نظرة لوقا الذي يعتبر أ، ظهور القائم من الموت يدوم أربعين يوماً وينتهي بالصعود. من هذا القبيل، يشكّل الصعود محطّة هامة في الكتابات اللوقاوية. والنتيجة هي أن ظهور المسيح على طريق دمشق ليس جزءاً من الظهورات الفصحية. إذا كان لوقا أبقى في الغموض ما رآه بولس بوضوح (نور ساطع أو شخص في هذا لنور)، فلأنه أراد أن يميّز بين ظهور دمشق والظهورات الفصحية التي جُعلت بين عيد الفصح وعيد الصعود. وهنا نقول: إن لوقا قام بعمل تدويني يرافقه بُعد لاهوتي. إن بولس يختلف هنا عن لوقا. ففي نظر بولس، ظهور دمشق هو ظهور فصحي وهذا ما يثبته 1 كور 15: 3- 9: "سلّمت إليكم قبل كل شيء ما تلقيه، وهو أ، المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب، وأنه دُفن وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب، وأنه ظهر لبطرس وللاثني عشر، ثم ظهر لأكثر من خمسمئة أخ معاً لا يزال معظمهم حياً وبعضهم ماتوا. ثم ظهر ليعقوب، ثم لجميع الرسل. وفي النهاية ظهر لي أنا أيضاً كأني سقط. فما أنا إلاّ أصغر الرسل". ما هو مهم في كل هذا هو أن بولس يجعل نفسه بين الشهود للقيامة بحيث لا يختلف ظهور يسوع له عن ظهوره للصفاء وغيره.
أجل، نظرة بولس تختلف عن نظرة لوقا. ففي أع 13: 3- 33 يتحدّث بولس عن القيامة وعن الشهود العيان خلال خطبة ألقاها في مجمع أنطاكية بسيدية، قال: "ولكن الله أقامه من بين الأموات. فظهر أياماً كثيرة للذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم وهم الآن شهود عند الشعب (أي إسرائيل). ونحن نبشّركم بأن ما وعد به الله آباءنا تمّ لنا، نحن أبناءهم، حين أقام يسوع من بين الأموات". هناك فرق بين "الذين هم شهود" و"نحن نبشركم". إن بولس وبرنابا ليسا من الشهود الحقيقيين. إن بولس يؤسس كرازته هنا على سلطة الشهود الذين تبعوا المسيح من الجليل. أما في رسائله فيقول إن دعوته ترتبط بالقائم من الموت.
يؤكد بولس أنه رسول بفضل الدعوة التي تلقّاها في دمشق: "ألست رسولاً؟ أما رأيت ربنا يسوع" (1 كور 19: 1)؟ إن الذين يهاجمونه في هذا المجال كانوا يصيبونه في الصميم، هذا ما تدل عليه 2 كور. أما في نظرة أع، فبولس ليس رسولاً. فلوقا يحتفظ بلقب رسول للاثني عشر. لا شك أن بولس وبرنابا يسمَّيان رسولين في أع 14: 4، 14، ولكننا لسنا أمام المعنى المخصّص (رج لو 11: 49؛ 2 كور 8: 23؛ غل 2: 25، أي: المرسل). إن لوقا يحتفظ بلقب رسول للتلاميذ الذين تبعوا يسوع من الجليل حتى أورشليم، الذين كانوا شهوداً لله خلال الأربعين يوماً بعد القيامة، الذين اختارهم الرب نفسه ليقوموا بهذه الخدمة. هذا ما يبيّنه بوضوح اختيارُ (أع 1: 21- 26). فالرسل هم الذين يكفلون التواصل بين زمن يسوع التاريخي وزمن الكنيسة. أما الوظيفة التي يحتفظ بها لوقا لبولس فهي مختلفة: بولس هو المرسل إلى الوثنيين، وهو الذي يؤمن الرباط بين الكنيسة الرسولية في البداية والزمن الذي يعيش فيه لوقا.
لا ينكر بولس علاقته بتقليد الكنيسة الأولى ولكنه مقتنع أنه تسلّم دعوته وإنجيله من الله مباشرة: "من بولس وهو رسول، لا من الناس ولا بدعوة من إنسان بل بدعوة من يسوع المسيح والله الآب" (غل 1: 1). ثم نقرأ في 1: 11- 12: "فاعلموا، أيها الأخوة، أن البشارة التي بشّرتكم بها غير صادرة عن البشر. فأنا ما تلقيها ولا أخذتها عن إنسان، بل عن وحي من يسوع المسيح". ولكن إذا عدنا إلى أع 9 و22 نرى الله بولس ظّل من دون وحي واضح، وأنه انتظر حنانيا ليخبره عن مخطط الله بشأنه. أجل، لم يتلقّ بولس إنجيله خلال رؤية، أرسل إلى الكنيسة التي هي وسيطة التعليم. ويزيد أحد الشراح: "إن ارتداد بولس لا يتوافق مع دعوته. فحنانيا الذي يمثّل الكنيسة لعب دوراً أساسياً". وهكذا نفهم أن نظرة لوقا هي غير بولس. وهنا نتساءل: هل نقول بعد اليوم إن بولس أخبر لوقا بطريقة مباشرة بالرؤية التي حصل عليها في دمشق؟ مهما يكن الجواب، سنؤكد فيما بعد على دور لوقا الخاص بالحديث عن دعوة بولس بطريقة بعيدة عما نجده في رسائل ما بولس.
هنا نجد نفوسنا أمام تيارين: تيار أول يشدّد على أن ظهور دمشق حقيقي، ولكنه يحاول أن يوفّق بين التفاصيل الموجودة في الروايات الثلاث، ولكنه يفشل. وتيار ثان يعلن أن هناك مراجع (مثلاً، تقاليد البنتاتوكس، الأناجيل الإزائية) مختلفة استقى منها لوقا، ولهذا كانت الاختلافات بين الروايات الثلاث.
قد تعود المواد التي استعملها لوقا إلى تقاليد متنوعة، مثلاً، الرؤية في هيكل أورشليم (22: 17- 21). ولكننا لا نستطيع أن نعيد كل الاختلافات إلى تعدّد المراجع، بل إلى فن لوقا الذي كان كاتباً بارعاً، فجعل خبرة بولس الروحية في الإطار الأدبي واللاهوتي كما برز في ثلاث روايات لدعوة واحدة.
ب- نهج حديث في شرح النصوص
يعتبر النهج الحديث أن خطب العهد الجديد لا تشبه تسجيلات على آلة مغناطيسية، وأن الأخبار الواردة ليست تقارير صحفية. فمثل هذا التوثيق مستحيل على الكنيسة الأولى (لا أرشيف لها كالممالك). وهذا النوع من البحث لا يفيدها في شيء. ثم إننا لا نحسب كتّاب العهد الجديد كجامعيين للمراجع والتقاليد الموجودة في الجماعات المحلية فقط. إنهم كتّاب بكل معنى الكلمة، دوّنوا فكرهم اللاهوتي من خلال الأحداث التي عرفوا بها. وهذا ما فعله القديس لوقا في سفر الأعمال.
1- الخطب في أع
هناك ثلاثة أخبار عن دعوة بولس، واثنان منهما يقعان داخل خطبة. لهذا نتساءل: هل تلفظ بولس بهذه الخطبة كما وردت في أع؟ أما التيار الأول فيقول: هذا أكيد، لأن العمل التاريخي لا يترك مكاناً للاختراع. ولكن نقول: كان للاقدمين طريقة خاصة في تقديم الحقيقة التاريخية. فقد كان الكاتب يضع خطبة هنا أو هناك تشدّد على معنى من المعاني. مثلاً، المؤرخ يوسيفوس استعاد كتابة أخبار العهد القديم. كان متيقناً من الدّقة التاريخية الموجودة في أسفار موسى (مجّد موسى لأنه امتنع عن كل كذب أو أسطورة). ومع ذلك تصرّف بحرية مع النصوص البيبلية. مثلاً: خبر ذبيحة اسحق. قيل في تك 22: 7- 10: "توجّه اسحق إلى أبيه إبراهيم وقال: يا أبي. أجاب: نعم يا ابني. قال ها هي النار والحطب ولكن أين هو الحمل للمحرقة؟ أجاب إبراهيم: الله يؤمن الحمل للمحرقة يا ابني. وسار كلاهما معاً. وحين وصلا إلى المكان الذي دلّه عليه، رفع إبراهيم مذبحاً ونضّد الحطب ثم ربط ابنه اسحق فوق الحطب. ومد إبراهيم يده وأمسك السكين ليذبح ابنه".
حسب تك، هذه الكلمات قيلت بفم إبراهيم واسحق في الطريق الصاعد إلى الجبل. وبعد هذا يورد النص (من دون كلام)، كيف هيأ إبراهيم الذبيحة إلى أن ناداه الله من أعلى المساء. ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف عمّا نجد في خبر إبراهيم كما يرويه يوسيفوس. فبعد أن هيأ إبراهيم كل شيء للذبيحة وجّه خطبة لابنه: "يا ابني، وجهت إلى الله ألف صلاة كي تلد، وربّيتك بعناية قصوى منذ جئت إلى الحياة. ما عرفت سعادة أعظم من أن أراك تتمتّع بقوة الرجال وأن أترك لك عند موتي كل خيراتي ميراثاً. ولكن، بما أني صرت أباً بإرادة الله، وبما أن الله طلب مني الآن أن أتخلى عنك، فاحتمل الآن بشجاعة ذبيحتك. أنا أتخلّى عنك لله، وهو يفرض هذا الأمر علينا من أجل كرامته، وهو الذي كان لي دوماً المساعد والمحامي. وكما أنك لن تُولد حسب مسيرة الأمور العادية، كذلك عليك أن تترك الحياة بطريقة خاصة وأن تُذبح على يد أبيك لله الذي يحامي عن كل موجود. إن الله يعتبرك أثمن من أن يتركك تموت بالمرض أو الحرب أو بأي ضربة تصيب البشر. ولكنه يريد أن يتقبّل نفسك في الصلاة وفي الذبيحة الاحتفالية ليعطيها مكاناً بجانبه".
حسبَ يوسيفيوس أن الخطبة تعطي الحياة لكتابه وتلوّنه بلون خاص. هكذا كان يفعل الأقدمون، وهكذا فعل لوقا في سفر الأعمال.
أولاً: نلاحظ وجود خطب عديدة في أع: 24 خطبة أي ربع أو خمس النص. هذا ما عدا التحريضات القصيرة (6: 2- 4؛ 8: 20- 23؛ 21: 20؛ 25) التي لم تكتب في أسلوب خطابي. فإن انتزعنا الخطب من أع أصبح هذا الكتاب كومة من الحجارة لا بناءً محكماً كما نعرفه.
ثانياً: تتوزع الخطب بطريقة منظّمة في جسم الكتاب، وهي وسيلة أدبية يستعملها لوقا. وهذه الخطب هي قصيرة جداً (لا يتعدى القاء بعضها ثلاث دقائق). غير أنها مدروسة درساً محكماً: المقدمة والخاتمة، المدخل والبراهين. كل خطبة تشكّل وحدة أدبية كاملة، وليست ملخّصاً عن خطبة.
ثالثاً: إذا تفحّصنا خطب أع نجد أنها مطبوعة باللاهوت اللوقاوي. إن التواصل بين يسوع والكنيسة هو من المواضيع الكبرى في لاهوت القديس لوقا. واهتمامه بهذا التواصل جعله يدوّن الجزء الثاني (الكتاب الثاني) من مؤلّفه (الذي هو الإنجيل والأعمال). هناك سمات تدلّ على موضوع التواصل هذا: الأربعون يوماً التي فيها رافق يسوع رسله بعد حياته على الأرض، العلاقة الوثيقة بين الصعود والعنصرة، النظرة الخاصة بلوقا عن الشاهد في أع 1: 1 ي. فالرسل الاثنا عشر هم شهود يسوع الحقيقيون. اختارهم المعلم ورافقهم الروح (أع 1: 2) فشهدوا تعليم يسوع وعمله منذ البداية (1: 21 ي). وهم يقدرون بكرزاتهم وعملهم أن يؤمّنوا التواصل مع نموّ الكنيسة. وهكذا نقدر أن نقول إن لوقا اللاهوتي يتكلّم من خلال خطب بطرس أو بولس (2: 32: ونحن شهود على ذلك؛ 3: 15؛ 5: 32؛ 10: 39، 41؛ 13: 31: وهم الآن شهود له عند الشعب).
رابعاً: إن ايرادات العهد القديم متواترة في خطب أع. وما نلاحظه هو أن هؤلاء المتلمين باللغة الآرامية يوردون نصوص السبعينية اليونانية لا العبرية الماسورية. فيعقوب يقدم في مجمع أورشليم برهاناً كتابياً أخذه من عا 9: 12. فلو استند إلى العبرية (بقية ادوم، وهو شعب) لما برهن على شيء. ولكنه استند إلى اليونانية (بسبب خطأ في القراءة: آدم أو الإنسان بدل أدوم) فتحدّث عن "سائر الناس" (15: 17) فبان وكأنه يهودي من الشتات لا يعرف إلا النسخة السبعينية. لا يمكن ليعقوب أن ينطلق من النص العبري ليقدم هذا الشرح. هذا يعني أن لوقا وضعه في فم شخص من العهد الرسولي.
خامساً: مرّات عديدة يُقطع الكلام على المتكلّم، ولكن ساعة تصل الخطبة إلى الذروة. وأفضل مثل هذه الظاهرة خطبة بولس في رواق الهيكل (22: 1- 21). بدأ الصياح بين السامعين حين أورد بولس كلمة المسيح: "اذهب، ها أنا أرسلك إلى البعيد، إلى الوثنيين"ز هذه العبارة هي النقطة التي تتوجه إليها الخطبة. كان على لوقا أن يبيّن أن الرب نفسه أراد الرسالة بين الوثنيين، فلم يبق له شيء آخر يقوله. وهناك أمثلة مشابهة في 7: 53 ي؛ 10: 43 ي؛ 23: 6 ي؛ رج 26: 23 ي؛ رج 3: 26 ي: 5: 32 ي؛ 17: 31 ي؛ 19: 27 ي. هذا الأسلوب يدلّ على أن الخطبة في أع هي فن أدبي رفيع.
سادساً: إلى من تتوجه هذه الخطب؟ إلى سامعين يُفرض أن يكونوا هناك. ولكن إلى القارئين (ونحن منهم). مثلاً، بروي بطرس للجماعة كيف مات يهوذا (1: 18). ولكن الجماعة تعرف الرواية. غير أن قرّاء لوقا لا يعرفون الخبر (لم يتحدث لوقا كما تحدث متى عن موت يهوذا، مت 26: 3- 10). ثم إن الخطبة تفترض النص الإخباري الذي سبقها وإلاّ لم تعد مغهومة. مثلاً، تحدث بولس عن حنانيا الذي قال إن بولس هو مختار اله الآباء. ولكن اليهودي الذي يسمع هذه الخطبة يتساءل: كيف دخل هذا الرجل إلى بولس وكيف عرف منه أنه مختار الله. أمل القارئ فلا يتساءل لأنه قرأ ف 9. يبدو أن لوقا جزّأ التقليد المتعلق بحنانيا. في ف22 أورد الحدث من وجهة بولس، ولهذا لم يذكر إلا كلمات حنانيا لبولس. وفي ف22، أورد حوراً بين المسيح وحنانيا. إذاً، من الواضح أن خطبة ف22 تفترض خبر ف9.
سابعاً: أوضح الشراح أن هذه الخطب لعبت دوراً أساسياً في تأليف أع: إنها تشدّد على عدد من الأحداث وتبرز للقارئ معنى ما سيحصل فيما بعد. مثلاً، يدلّ خبر كورنيليوس (أع 10: 1- 17) (وقبل أن يبدأ بولس بعمله) أن الله بنفسه يريد تبشير الوثنيين. وقد شدّد لوقا على مضمون هذا الحدث بخطبة بطرس في بيت كورنيليوس (10: 34- 43) وفي أورشليم (11: 5- 17، بصورة خاصة). وإن الخطبة في الاريوباج هي برنامج لسفر الأعمال. لم يورد لوقا ما قاله بولس في فيلبي أو كورنتوس، ولكنه أورد خطبة اثينة، ليبيّن أن الإيمان الجديد وصل إلى قلب اليونان. وساعة أنهى بولس مسيرته الرسولية دخل في منعطف مهم: كان حراً فصار سجيناً. وبهذا عاد لوقا إلى الوراء، وحدّثنا عن أفضال هذا الرسول العظيم في خطبة فيلبس.
ثامناً: نلاحظ أن خطب بولس هي ثلاث وكل خطبة تتوجّه إلى سامعين مختلفين. خطبة تتوجّه إلى اليهود (13: 16- 41)، ثانية تتوجّه إلى الوثنيين (17: 22- 31)، ثالثة تتوجّه إلى جماعة مسيحية (20: 17- 35). هكذا كانوا يعطفون في الزمن الرسولي. سنكتشف نماذج في خطب بطرس (2: 14- 40؛ 3: 12- 26؛ 4: 4: 8- 12؛ 5: 29- 32؛ 10: 34- 42) وهي تبدو حسب رسمة أساسية: مقدمة تنطلق من الوضع الذي فرض الخطبة. إعلان يسوع المسيح (ما عمله اليهود بيسوع من خطأ، ما عمله الله من خلاص ليسوع). البراهين الكتابية. نداء إلى التوبة من أجل الخلاص. تبع بطرس هذه الرسمة وتبعها بولس أيضاً (13: 16- 41). هذا يعني أنها رسمة لوقا الذي أراد أن يقول لقرّائه: هذا هو إعلان الخلاص المسيحي كما برز في الكنيسة الأولى، هذا هو تعليم الرسل (2: 42).
إذن، الخطب عي عظات تتوجه إلى المؤن وتدعوه إلى إتخاذ موقف. إنها تكشف له عن طرق الله وتخبره ببشرى الخلاص. هكذا أراد لوقا الخطبة في أع. لا شك في أنه عاد إلى مواد متنوعة (أخذ معلومات من الناس. من المراجع). وقد يكون استعاد نصاً وُجد قبله، فكيّفه وهدفه، وجعل فيه معطيات الإيمان التقليدي. في النهاية، هذه الخطب هي عمل لوقا.
وإذا عدنا إلى أخبار دعوة بولس، لن نحاول أن نزيل الخلافات التي بينها متحدثين عن معطيات تاريخيّة خاصة زيدت فيما بعد (التيّار الأول) ولن نتحدث عن مراجع متعددة (كما في البنتاتوكس، التيّار الثاني)، بل ننسب هذه الاختلافات إلى أسلوب لوقا الخاص.
2- الحوار مع المظهر
إن الأ×بار الثلاثة التي تورد حدث دمشق تبرز اختلافات في البنية الاجمالية، وليس في التفاصيل فقط. ولكننا نستطيع أن نتميّز جزءاً لا يتبدّل إلا قليلاً هو حوار المسيح مع بولس (9: 4- 6؛ 22: 7- 10؛ 26: 14- 16). هذا ما نسميه "الحوار مع الظهور". هل نقول إننا هنا أمام تقليد ثابت يعود إلى شهود عيان؟ لنبدأ فنحلل 9: 4- 6 فنجد بنية محددة
أ - قال له: مقدمة الخطبة
شاول شاول نداء يتكرر
لماذا تضطهدني؟ سؤال المسيح
ب- أما هو فأجابه: مقدمة الخطبة
من أنت يا رب؟ سؤال بولس
ج- أما هو مقدمة الخطبة
أنا يسوع الذي تضطهده المسيح يقدم نفسه
قم وادخل المدينة الرسالة
نقابل بين النداء الاحتفالي وتقديم يسوع لنفسه، نقابل بين لماذا "تضطهدوني" و"الذي تضطهده". وبين هذين القطبين نجد كلمة بشرية هي سؤال وجواب معاً. هذه البنية المثلثة تؤثر فينا: المسيح يدعو الإنسان، الإنسان يجيب. والكلمة الأخيرة هي للمسيح الذي يكشف عن هويته ويرسل بولس. أما الإنسان فيقبل مهمته في الصمت.
نحسّ وكأننا أمام خطبة مؤلفة تأليفاً فنياً. هنا لابد من القابلة مع نصوص العهد القديم التي تبرز الحوار مع الظهور: أعطى ملاك الله يعقوب أمراً أن يعود إلى بلاده (تك 31: 11- 13). تدخّل الله ليأمر يعقوب بأن يذهب إلى مصر (تك 46: 32). ظهر الرب لموسى في العلّيقة النلتهبة (خر 3- :2- 10). ونقابل أولاً أع 9: 4- 6 و26: 14- 16 مع نص تك حسب الترجمة السبعينية.
تك 46: 2- 3 أع 9: 4- 6
أ- قال قال له
يعقوب، يعقوب شاول شاول
ب- فقال له فقال له
من أنت؟ من أنت يا رب؟
ج- قال فقال له
أنا اله آبائك أنا يسوع الذي تضطهده
لا تخف أن تنزل ولكن قم وادخل
تك 31: 11- 13 أع 26: 14- 16
أ- قال قال
يعقوب شاول، شاول
ب- أما أنا فقلت أما أنا فقلت
ماذا من أنت يا رب
ج- فأحاب: فأجاب الرب
أنا الاله الذي تراءى أنا يسوع الذي تضطهد
ولكن قم الآن ولكن قم أنت
نداء مكرر، سؤال يطرحه الإنسان، فيقدم "الله" نفسه ويرسل الإنسان في مهمة. وهناك الشكل القصير للحوار مع الظهور: ذبيحة اسحق (تك 22: 1- 2)، وحي الله لصموئيل الفتى (1 صم 3: 4- 14). ظهور الله لحنانيا (9: 10- 11)، ظهور الله لكورنيليوس (10: 3- 5). وها نحن نقابل تك 22: 1- 2 وأع 9: 10- 11.
تك 22: 1- 2 أع 9: 10- 11
أ- وقال وقال
أبرام أبرام حنانيا
ب- أجاب هذا أجاب هذا
لبيك لبيك يا رب
ج- فقال له فقال له الرب
خذ ابنك واذهب قم اذهب
ما نستخلصه من هذه الملاحظات هو أن أع استقى نماذجه من العهد القديم. ولقد سبق لوقا في هذا المضمار بعضُ الكتب المنحولة من العهد القديم. وها نحن نقدم مقطعاً من أسطورة عنوانها يوسف واسنات. ظهر الملاك جبرائيل على اسنات، زوجة يوسف العتيدة، جاء ليردها إلى الإيمان لأنها ما زالت وثنية:
"حينئذ انشقت السماء قرب نجمة الصباح، وظهر نور عظيم لا يعبّر عنه. حين رأت اسنات هذه الأمور سقطت على وجهها في التراب. وحالاً، جاء إليها رجل من السماء تحيط به شعاعات تصدر عنه. وقف قربها من جهة رأسها. وإذا كانت ساجدة ووجهها إلى الأرض، قال لها الرسول الإلهي: اسنات، قومي. أجابت: من الذي يناديني؟ فباب بيتي مقفل والبرج عال فكيف دخلت إليّ؟
أ- ناداها الملاك مرة ثانية، قال
اسنات، اسنات
ب- اجابت
ها أنا، يا رب، قل لي: من أنت،
ج- فأجاب
أنا القائد الأعلى لجيوش الأزلي، رئيس كل جيش العلي قومي وقفي وأنا أعلن لك أقوالي
هل يدل على أننا أمام فن أدبي استعمله لوقا ليصوّر خبرة روحية عاشها بولس.
3- خطبة بولس
في إطار الخبرين الأول والثاني، ينحصر أمام الله لبولس بإراسله إلى المدينة: "ولكن قم واذهب إلى المدينة وهناك يقال لك ما يجب عليك أن تعمل" (9: 6). "قم واذهب إلى دمشق. وهناك يقال لك ما يجب عليك أن تعمل" (22: 10). أما الخبر الثالث (26: 16- 18) فيحوّل أقوال الرب إلى خطبة بها يرسل الرب بولس إلى الأمم الوثنية. "قم وقف على قدميك، لأني ظهرت لك لأجعل منك خادماً لي وشاهداً على هذه الرؤية التي رأيتني فيها وعلى غيرها من الرؤى التي سأظهر فيها لك. سأنقذك من الشعب (أي شعب إسرائيل) ومن الأمم الوثنية التي سأرسلك إليهم لتفتح عيونهم فيرجعوا من الظلام إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، فينالوا بإيمانهم بي غفران خطاياهم وميراثاً مع القديسين".
نلاحظ أن القسم الأول هو مزيج من إيرادات الأنبياء: الرؤية التي ترافق دعوة حزقيال (حز 1- 2): "قم واقفاً على قدميك" (حز 2: 1). دعوة إرميا (إر 1: 1 ي): "أنا أنقذك" (26: 17) تعود إلى ار 1: 8: "أكون بقربك لأنقذك، يقول الرب". وعبارة "الأمم الوثنية التي أرسلك إليها" (26: 17) هي شبيهة بعبارة قالها يسوع لبولس في الهيكل (22: 21: اذهب فسأرسلك إلى البعيد، إلى الوثنيين)، وهي تعود إلى إر 1: 7: "اذهب إلى كل من أرسلك إليهم". قال 1: 5: "كونتك لتكون نبياً للأمم" ففكّر لوقا في هذا القول حين تحدّث عن إرسال بولس إلى الأمم الوثنية. وهناك أخيراً اختبار عبد الله في أش 42. نقابل أع 42: 6- 7 (تكون نوراً للأمم... لتفتح عيون العميان) وأش 42: 16 (أبدل الظلمة نوراً). حين يتحدّث بولس عن نفسه وعن المرسلين المسييحيين (أع 13: 47) يقول: "فالرب أوصانا، قال: جعلتك نوراً للأمم لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض". أما هذا ما نقرأه في أس 49: 6؟
حين نرى كل هذه الإيرادات، نستخلص أن لوقا استعمل نصوصاً توراتية عديدة تتحدث كلها عن الدعوة أو الإرسال. إن يسوع يكلم بولس كما كان الله يكلّم الأنبياء. ولكننا لسنا فقط أمام نهج أدبي، بل أمام لاهوت، وسنبين مضمون المقابلة بين إرسال بولس وإرسال أنبياء العهد القديم. نلاحظ أن من أراد في زمن الكنيسة الأولى أن يفكر في سر الدعوة، يعود الأنبياء الكبار ولا سيما إرميا (كلمّه الرب ودعاه إلى خدمته).
4- رؤية في رؤيتين
إذا قرأنا 9: 10- 11 نرى أن الله يأمر حنانيا في رؤية بأن يذهب إلى بولس. في ذلك الوقت رأى بولس رؤية، رأى رجلاً اسمه حنانيا "يدخل ويضع يديه عليه فيبصر". لا تروى الرؤية بعد الثانية، ولكن تدخل الرؤية في الرؤية: "إسأل في بيت يهوذا عن رجل من طرطوس اسمه شاول وهو الآن يصلي فيرى في الرؤية رجلاً اسمه حنانيا يدخل" (9: 11- 12).
يتخذ لوقا حانيا كمركز للخبر، ويروي الأحداث انطلاقاً منه. المسيح هو الذي ينقل لحنانيا ما يحص لبولس. بهذه الطريقة يصبح الخبر مكثّفاً وسريعاً. وسيستعمل لوقا الأسلوب عينه في خبر العنصرة. وجعل لوقا في فم الحاضرين هذا الكلام (نحن من برثية ومادية...) فاستغنى عن تعداد للشعوب سيبدو وناشفاً.
ونجد أيضاً رؤيتين في خبر كورنيليوس: أرسل الله إلى كورنيليوس وبطرس أمرين يتوافقان: قال الملاك لكورنيليوس: أرسل الآن رجلاً إلى يافا وجئ بسمعان الذي يقال له بطرس (10:1- 6). وحين أقترب رسل كورنيليوس، تلقى بطرس رؤية السماط الممدود (10: 9- 16) وأمراً بقول دعوة رسل كورنيليوس (10: 19- 20). إن الرؤيتين (مع أمر الروح القدس) تعملان من أجل اللقاء بين بطرس وكورنيليوس ومن أجل ارتداد أول وثني. هدف لوقا هو أن يبيّن أن الله يوجّه مسيرة الأحداث ساعة تتوجّه الكنيسة إلى الوثنيين لتهديهم. فالله (بإيحائه لكورنيليوس وبطرس، وبولس وحنانيا) يتدخّل مباشرة في التاريخ ويقوده إلى أهدافه. لا يعرف الراؤون الهدف الذي يلاحقه الله. الله يأمر ببساطة: "أطلب رجلاً اسمه سمعان" (10: 5). أو: "هنا رجال يطلبونك، فقم وانزل إليهم واذهب معهم ولا تخف، لأني أنا أرسلتهم" (10: 19- 20). أو: "رأى رجلاً اسمه حنانيا" (9: 12). لا يعرف بولس الآن نوايا الله بالنسبة إليه. الله يمسك كل الخيوط بيده فيعدّ كل شيء كم أجل الهدف الذي وضعه أمامه وهو ارتداد الوثنيين.
هنا نشير إلى مثل لا نجده في الآرامية ولا في العبرية، بل في اليونانية: "صعب عليك أن ترفس المهماز" (26: 14). يعني: صعب عليك أن تقاوم. وضع لوقا هذا المثل اليوناني في فم المسيح، وهو يتكلم إلى اليونانيين، فعبّر عن اختبار بولس لا بطريقة مجرّدة بل عبر مثل شعبي معروف لدى قرائه.
5- تأثر الظهور على بولس ورفاقه
نتذكّر هنا الظهور على اسنات: انشقت السماء وشع نور عظيم فسقطت اسنات ووجهها إلى الأرض. نجد موضوع النور (لو 2: 9؛ 24: 4؛ أع 12: 7؛ حز 1: 13، 27- 28؛ دا 7: 9- 10؛ 10: 6، هذا ما عدا الأسفار المنحولة)، وموضوع السقوط إلى الأرض (حز 1: 28؛ 44: 4؛ 2 مك 3: 27). ونورد خبر ظهور ملاك الوحي على دانيال: "رفعت طرفي ونظرت، فرأيت رجلاً لابساً كتاناً، وحقواه منطقان بالذهب الصافي. كان جسمه كالزبرجد، ووجهه كمرأى البرق. وعيناه كمشعلي نار، وذراعاه ورجلاه كمنظر النحاس الصقيل. وكان صوت أقواله كصوت جمهور. فرأيت الرؤية أنا دانيال وحدي. أما الرجال الذين كانوا معي فلم يروا الرؤية، ولكن وقع عليهم رعب عظيم فهربوا ليختبئوا. فبقين أنا وحدي أشاهد هذه الرؤية العظيمة. لم تبق فيّ قوة، وتبدّل وجهي وذبل. تخلّت عني قوتي. سمعت صوت أقواله، وحين سمعت صوت أقواله، أغمي علي فسقطت راكعاً ووجهي إلى الأرض" (دا 10: 5- 9).
نجد في هذا التصوير: النور، صوت الرعد، السقوط إلى الأرض. وكما في رؤية بولس، أحس الرفاق بشيء عجيب وغريب، ولكنهم لم يشاركوا في الظهور بحصر المعنى. وإذا عدنا الآن إلى الاختلافات في أخبار حدث دمشق، ماذا نرى؟ يقال مرة: سمعوا الصوت وشاهدوا أحداً. ويقال مرة أخرى: رأوا النور وما سمعوا الصوت. لا نلغي هذه المفارقات ولا نجعل منها تعارضاً أساسياً: فللتأكيدين معنى واحد: عرف رفاق بولس أنهم أمام ظهور، ولكنهم لم يقدروا أن يشاركوا فيه كما فعل بولس. هناك واقع واحد عبّر عنه الكاتب بوسائل متبدّلة. يتبدّل التعبير، لا معنى الشهادة.
ونقول الشيء عنه عن التعارض بين النصوص التي ترى رفاق بولس واقفين والتي تراهم ملقين على الأرض. ظهر المسيح فسحرت قوة نوره بولس مع الذين رافقوه. الفكرة هي هي وإن تبدّل التعبير.
هذا هو فن لوقا في تصوير دعوة في قوالب خاصة استقاها من العالم البيبلي أو الهلني (رؤيتان في رؤية واحدة). إنه يريد من خلال أع أن يقدّم تاريخ الخلاص ويقول لنا كيف يقود الله التاريخ ليخلّص البشر، كيف يعمل في أعماق القلوب، وكيف يتجاوب الناس بالقبول والرفض. إن الأحداث الخارجية (ولو كانت أحداث دمشق) تبقى بكماء، والأمور الخارقة ملتبسة. إنها تحتاج إلى تفسّر. هذا ما قاله لوقا وهدفه أن يجعل القارئ يتأمل، عبر الأحداث الخارجية، في البعد العميق لتاريخ الله. وهكذا تصبح التفاصيل شفّافة، ويبرز المعنى الداخلي للأحداث.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM