الفصل السابع: كورنيليوس أو أول المرتدين من الأمم

الفصل السابع
كورنيليوس أو أول المرتدين من الأمم
10: 1- 11: 18
أ- المقدمة
1- المعنى العام
"وكانت الكنائس تنعم بالسلام في اليهودية والجليل والسامرة. وكانت تنمو وتسير على خوف الرب وتتقوّى بالروح القدس" (9: 31). أقحم لوقا هذه الاجمالة في خبره، فدل على أن مرحلة انتهت وستبدأ مرحلة ثانية. قال يسوع: "ستكونون لي شهوداً في أورشليم واليهودية كلها والسامرة". (1: 8).إنتهت هذه المرحلة ونعمت أرض فلسطين بسلام المسيح وتعزية الروح القدس. وها هو لوقا يدعونا للانطلاق في المرحلة التالية: "ستكونون لي شهوداً... حتى أقاصي الأرض". سيتم الوصول إلى أقاصي الأرض، إلى رومة، بواسطة بولس ورفاقه. ولكن مع كورنتوس بدأت محطة هامة في إمتداد الكنيسة ووعيها لرسالتها: لقد تعمّد أول الوثنيين. تعمّد كورنيليوس، فحلّ الروح القدس عليه وعلى أهل بيته. وكما كانت عنصرة لليهود في ف 2، هكذا كانت "عنصرة" للوثنيين. تكلّم بطرس، فنزل الروح القدس على جميع الذين يسمعون كلامه. أجل حلّ الروح القدس على الوثنيين، فأخذوا يتكلّمون باللغات وينشدون عظائم الله (10: 44- 46).
أطول خبر في أع (10: 1- 11: 18) يجد مركزه (10: 44- 48) وقمته (11: 18: أنعم الله على الوثنيين بالتوبة التي تقود إلى الحياة) في أول عماد للوثنيين. دخل المسيحيون في الطريق التي تقود إلى الحياة (11: 18). تقبّل بطرس هؤلاء الداخلين عند "جرن العماد" (10: 48: أمر بأن يتعمّدوا باسم يسوع المسيح، 11: 15- 17). وافقت كنيسة أورشليم على ما فعل بطرس (11: 1- 18). إذا نظرنا من الوجهة التاريخية، نرى أنه لم يكن صدى كبير لهذا الحدث، فظل على مستوى محلي ضيّق. ولكن هذا الحدث شكل سابقة رئيسية ومفتوحة على المستقبل. سينطلق بطرس في مجمع أورشليم ممّا عمله لكورنيليوس وأهل بيته ليقول: "إن الله وهب الروح القدس لهم كما وهبه لنا" (15: 7). استنتج ما يتضمّنه ارتداد كورنيليوس من تعليم، وفهم أ، الخلاص وعطية الروح وغفران الخطايا هي عمل الله بالإيمان وبنعمة الرب يسوع. وقال يعقوب للجماعة: "أخبركم سمعان كيف اهتم الله منذ البدء ليتخذ من بين الأمم الوثنية شعباً لاسمه، شعباً يخصه (15: 14).
صاحب المبادرة في هذا الحدث هو الله نفسه. تدخّل مرتين بطريقة رئيسية: حين رأى كورنيليوس رؤية (10: 3- 8؛ 10: 30- 33؛ رج 11: 13) مع صوت الرب له: "أرسل رجالاً إلى يافا وجئ بسمعان الذي يقال له بطرس" (10: 5). وحين رأى بطرس رؤية (10: 9- 16؛ 11: 5- 10؛ رج 10: 28) سمع صوت الرب يقول: "ما طهّره الله لا تعتبره نجساً" (10: 15). وهذا ما سيفهمه بطرس فيما بعد: "أراني الله أن لا أحسب أحداً من الناس نجساً أو دنساً" (لا ليس الوثنيون نجسين لأنهم وثنيون، فلماذا التمييز؟) (10: 28). "أراني الله أن لا أفضل أحداً على أحد" (10: 34).
2- تسلسل الأحداث
حين كان بطرس في يافا، دفعت الأحداث الجديدة بطرس في مهمته الرسولية التي هيأها الله له من أجل دخول الوثنيين في الكنيسة. هناك حلمان أوصلا بطرس إلى اللقاء الحاسم. الحلم الأول رآه الضابط الروماني كورنيليوس الذي كان متعبّداً لله متقياً له. جاءه أمر إلهي بأن يدعو بطرس إلى زيارته. والحلم الذي رآه بطرس هيّأه ليتقبّل هذه الدعوة فلا يميز بين طعام طاهر وطعام نجس بحسب الشريعة، ولا يميّز بين يهودي ووثني، فيأكل مع الوثنيين كما يأكل مع اليهودي، بعد أن زال التمييز بالنسبة إلى الإيمان بين اليهودي والوثني.
وانطلق بطرس إلى قيصرية حيث التقى كونيليوس وعائلته وأصدقاءه. دعوه فحدثهم عن الإنجيل: "أنتم تعرفون ما جرى في اليهودية كلها" (10: 37). وإذا كان يتكلّم نزل الروح على المجتمعين الذين كانوا من الوثنيين، بطريقة ذكّرت بطرس بما حدث يوم العنصرة. فهم أنه إن كان الله قبل بدخول الوثنيين في هذا الطريق، فعليه هو أن يستعد لقبولهم في الكنيسة بواسطة العماد. وحين عاد بطرس إلى أورشليم، وجد نفسه مدعواً ليعطي تقديراً عمّا فعله: لم يقولوا له لماذا عمّدت الوثنيين؟ بل لماذا أكلت مع الوثنيين؟ ما زالت الشريعة الموسوية تسيطر على عقلهم. لم نزل بعيدين عما قاله بولس الذي حدّثنا عن التبرر بالإيمان لا بأعمال الشريعة اليهودية. ووجب على بطرس أن يدافع عن نفسه ويبرّر عمله: لهم كيف اقتاده الله اقتياداً وصل به إلى منح العماد للذين حلّ عليهم الروح القدس.
سمع الأخوة في اليهودية كلام بطرس، فاستعادوا هدوءهم وسكتوا عن توزيع انتقاداتهم. وأقرّ الجميع أن الكنيسة فتحت أبوابها للوثنيين، وهي لن تُغلق.
خبر طويل ردده لوقا مرتين، بل ثلاث مرات (رج ملخّصاً عنه في 15: 7- 9). هذا يدل على الأهمية التي يعلقها عليه لوقا في إطار أع. إنه يرتبط بمخرج حاسم في تاريخ الكنيسة الأولى: الإعتراف بأن الإنجيل هو للوثنيين كما هو لليهود. وهذا ليس قراراً بشرياً محضاً. فالرب نفسه قاد بطرس والكنيسة إلى هذه النتيجة. كان الحاجز للقيام برسالة بين الوثنيين الشريعة التي تمنع اليهودي من الاتصال بالوثني لأنه نجس. ومن مشاركته في الطعام لأن طعامه نجس. ولكن الرؤية السماوية جعلت بطرس يتجاوز هذا الحاجز دون أن يقدّم أساساً لاهوتياً. سيُطرح السؤال فيما بعد في مجمع أورشليم: هل يجب على الوثني أن يُختن ويحفظ شريعة موسى ليكون مسيحياً؟ ولكن الممارسة سبقت الشريعة. دخل الوثنيون إلى الكنيسة، فأعلن بطرس في مجمع أورشليم: "نحن نخلص بنعمة الرب يسوع كما هم يخلصون" (15: 11).
لقد جادل العلماء حول أساس هذا الخبر. نستطيع القول أولاً إن ما رواه بطرس في ف 11 لم يكن تقريراً حرفياً عمّا فعله وقاله. إنطلق لوقا من مضمون عام، ودوّنه بطريقة أدبية. ونقول الشيء عينه عن خطبة بطرس في منزل كونيليوس. ولكننا ننسى أن هذه الخطبة تكيّفت والإطار الذي قيلت فيه، وهذا ما يدل على أن لوقا أسّس كتابه في تقليد الكنيسة، في تقليد الكنائس.
وطُرحت أسئلة أخرى. قال العلماء: هناك خبران مستقلان: خبر ارتداد أممي (أي وثني) إلى المسيحية، وخير رؤية ارتبطت بالشرائع اليهودية حول الطعام. ضُمّ الخبران بطريقة مصطنعة في هذين الفصلين من أع. هذا ما قاله ديباليوس في دراسته لأعمال الرسل (لندن 1956) وهانشن في كتابه عن سفر الأعمال. سنعود إلى هانشن فيما بعد، ولكن نقول منذ الآن أن هناك علماء ترددوا في قبول هذا الموقف (هانشون، الأعمال، اوكسفورد 1967: ولسن، الأمم والرسالة الأممية في أع، كمبردج 1973). وقدّمت البراهين. إرتبطت رواية بطرس بموضوع آخر بعيد عن ارتداد الوثنيين. والجواب: هناك علاقة بين الرؤية ووضع بطرس. برهان ثان: ولكن غل 2: 11- 14 دلّت على أن بطرس سيرفض أن يأكل مع الوثنيين. يبدو هذا الموقف غريباً على من اقتنع بأت تلك هي نظرة الله. الجواب: ألا يمكن للإنسان أن يتغيّر ونحن نعرف طبع بطرس؟ كان ضغط كبير أجبره على التخلّي عن هذا المبدأ. برهان ثالث: جعلنا لوقا نشعر أن قرار قبول الوثنيين في الكنيسة دخل في حدث أحرج بطرس، بينما يقول الواقع إن هذا القرار اتخذ فيما بعد في مجمع أورشليم لتكون أعمال الكنيسة مطابقة لمثالها. الجواب: لم يخترع لوقا الخبر، بل أعاد كتابته موازياً بين موقف يسوع تجاه ضابط وثني (لوقا 7: 1- 10) وموقف بطرس تجاه كورنيليوس (لا شك في أن هذا الخبر ابرز شخصية بطرس في هذا العمل الحاسم). ورُفضت العناصر العجائبية في الخبر. وراح هانشن يرفض صورة الله الذي يتدخّل بطريقة حاسمة ليقود كنيسته وكأنها حجر في لعبة. الجواب: نحن أمام اختيار ديني عبّر عنه الكتاب بأسلوب الحلم، والحلم طريقة من الطرق الكتابية لإيصال كلام الله إلى البشر. ما يهم لوقا أن يقوله هو أن الله يوجّه كنيسته، ولكن بأيد بشرية ورغم كل الصعوبات التي تعترض مسيرتها. لا شك في أن كنيسة أورشليم تأخرت لتجعل موقفها متلائماً مع الرسالة إلى الوثنيين.
جوهر الخبر تاريخي، هذا ما لا شك فيه: لا يُعقل أن يكون لوقا اخترع دور بطرس فيه. وطريقة حلول الروح القدس فيه. وطريقة حلول الروح القدس قبل العماد، هل يمكن أن يفكر بها لوقا لو لم تحدث حقاً في تاريخ الكنيسة؟ قد يكون الحدث فرداً، فأبرزه لوقا وجعله بداية أحداث أخرى، فهذا معقول. ولقد أراد لوقا بصورة خاصة أن يجعل بطرس. رئيس الاثني عشر، يدخل أول وثني إلى الكنيسة بطريقة رسمية. هكذا حافظ على الدور الريادي لكنيسة أورشليم وللاثني عشر. وستكون انطاكية امتداداً لأورشليم، وسيتابع بولس ما بدأه بطرس فيقوم بنشر البشارة حتى رومة نفسها، فيصل بالإنجيل إلى أقاصي الأرض.
ب- تفسير النص (10: 1- 11: 18)
1- المشهد الأول (10: 1- 8): رؤية كورنيليوس للملاك
آ1. نستطيع أن نقسم هذا النص إلى سبعة مشاهد. أما المشهد الأول فتتم أحداثه في قيصرية (8: 40؛ 9: 30). هي المدينة التي بناها هيرودس الأكبر فصارت مركز الإدارة الرومانية في اليهودية. كانت تسمّى "برج سترابون" فصارت "قيصرية سابستي" إكراماً للإمبراطور. كانت المدينة مرفأ هاماً فأقام فيها الحكام مركزاً للجيش الروماني.
وأقام في قيصرية كورنيليوس. هذا الاسم معروف بعد ن حرّر القنصل كونيليوس سيلا آلافاً من العبيد. (اتخذوا اسمه تقديراً له على معروفه). كان قائد مئة، أي ضابطاً خرج من الصف (ضابط صفّ كما نقول في اللغة الحديثة)، وكان بأمرته مئة من الجند. الفرقة الإيطالية: تتالف من مجنّدين متطوّعين جاؤوا من إيطاليا، أو من مدن آخرى تمتعت بالمواطنية الرومانية على مثال المدن الإيطالية. نعرف أن هذه الفرقة تألفت من 2000 جندي اشتهروا كرماة بالقوس، وعرفوا بصورة هاصة حوالي سنة 69 ب م، وظلوا معروفين حتى القرن الثاني. قد يكون بين الفرقة التي انتمى إليها كونيليوس حوالي سنة 41 بعض المولودين من الشرق. فبعد سنة 41- 44، يوم كان هيرودوس أغريبا عميلاً لم تكن هناك حاجة إلى وحدات رومانية في اليهودية.
آ2. لا يهمّ لوقا وضع كورنيليوس كضابط في الجيش، بل ما يهمّه هو أن هذا الضابط وأهل بيته هم من المتعبدين لله. هناك كلمتان "اوسابيس" أي التقي الذي يصلّي ويعمل أعمالاً صالحة (رج 3: 12، 10: 7؛ 17: 23). دخلت هذه الكلمة اليونانية في ساعة متأخرة إلى المسيحية مع رسائل بولس إلى تيموتاوس وتيطس، ومع رسالة بطرس الثانية. أما الثانية: "فوبومينوس تون تيون" أي الذي يخاف الله. هذه العبارة يهودية معنى ومبنى. هي تفرض الإيمان بإله إسرائيل، وتتضمّ، الأمانة لكل متطلبات العهد المتعلقة بالله والقريب، وتقود إلى الحكمة التي تقول إن العالم ليس بعبث (أم 1: 7؛ سي 1: 11- 20). في آ 35 سترتبط مخافة الله بعمل البر.
لم يكن إخلاص كورنيليوس للرب شكلياً: لقد كان يداوم على الصلاة، ويقدّم الصدقات للفقراء. قد يكون من المتقين لله (سابومينوس تون تيون) أي عضواً في مجموعة من الوثنيين تشارك في الصلاة في المجمع وتأخذ بفرائض الشريعة. ولكن كورنيليوس لم يكن مختوماً (نقرأ في 11: 3: دخلت إلى قوم غير مختونين). إذاً لم يكن من جماعة المرتدّين أي الوثنيين الذين قبلوا بالديانة اليهودية بما فيها الختان، فظل من جماعة المتقين (رج 13: 16، 26، 43؛ 16: 14؛ 17: 18؛ 18: 7). كان يهود فلسطين يعتبرون "المتقين" أوثاناً، أما يهود الشتات فكانوا أكثر تحرراً في هذا الشأن. وقد يكون كورنيليوس صار من المتقين قبل أن يأتي إلى فلسطين. يبدو أن كنيسة لوقا شاركت اليهود موقفهم بالنسبة إلى المتقين. ولكن الموقف المسيحي تبدّل. ومن الواضح أن لوقا أقرّ بنفسه بأهمية هذه الخطوة من أجل ارتداد العالم الوثني إلى المسيحية. نلاحظ بطريقة عابرة ما يقول لوقا عن ضابط آخر في لو 7: 5: إنه يحب شعبنا، وهو الذي بنى لنا هذا المجمع.
أ 3- 6- ورأى كورنيليوس رؤية: "أوراماً" يكون فيها الإنسان صاحيا وغير نائم. إنه مستعد لقبول صوت يأتيه من السماء. تلك كانت رؤية كونيليوس الساعة التاسعة أي الثالثة بعد الظهر. 16: 9 و18: 9 يقال لنا بوضوح ان الرؤية حصلت في الليل.
الساعة التاسعة: وقت الصلاة في الهيكل. فكورنيليوس يداوم على الصلاة. وهذا يعني من جهة ثانية أن الرؤية حصلت في وضح النهار فلم يكن كورنيليوس فريسة أوهامه وتخيّلاته.
دخل ملاك الله إليه. ناداه باسمه (رج لو 1: 13، 30؛ أع 9: 4). أحسّ كورنيليوس بالخوف. هذا هو موقف الإنسان أمام العالم الفائق الطبيعة، وهذه ميزة الأخبار التي تسبه هذا الخبر. اعتدنا أن نسمع في الكتاب المقدس: لا تخف. أما هنا فقال الملاك: تذكّر الرب صلواتك وصدقاتك. يقال عادة ان المحرقة تصعد وترتفع رائحتها إلى الله. أما لوقا فقال: صعدت صلواتك وصدقاتك. هذا يعني أن لها فاعلية الذبائح أمام الله. كان هذا التعبير تقليدياً في هذا المعنى (مز 141: 2): "لتكن صلاتي كالبخور الموضوع أمامك، لتكن يداي المرتفعتان للصلاة كتقدمة المساء" (طو 12: 12؛ فل 4: 18؛ عب 13: 15). ما يتضمّنه هذا التعبير، هو أن الله استجاب صلاة رفعها كورنيليوس. ولكن في هذه لمرحلة تنكشف لنا طبيعة هذا الجواب. لن نقول إن كورنيليوس صلّى من أجل قبوله في الجماعة المسيحية التي يعرفها رغم ما نقرأه في آ 37. فهذه الجماعة غير معجّلة في قبول وثنيين. على كورنيليوس أن يرسل شخصاً إلى يافا، إلى شخص اسمه سمعان (هذا هو الاسم اليهودي لبطرس). لم يكن كورنيليوس يعرف سمعان ولا بطرس. وقد وضع الكاتب اللقب بطرس قرب سمعان ليُميّز بطرس الرسول عن سمعان الدباغ الذي أقام عنده بطرس (9: 43). لم يقل لنا النص ماذا يخبئ الله لكورنيليوس، أو لماذا أرسل في طبي بطرس. هذا ما يبقى القارئ متشوقاً. ولكن أهم من هذا، هو أن لوقا أراد أن يبيّن أن بطرس وكورنيليوس أطاعا الله طاعة عمياء، لأنه هو وحده يوجّه أعمالهما.
آ7- 8- وانصرف الملاك بعد أن أكمل المهمة كما ينصرف كل "مرسال". نحن أمام واقع روحي، ولكنّه دوّن بطريقة منظورة. المهم هو أن كورنيليوس لبّى الأوامر: أرسل ثلاثة "مراسيل": أرسل خادمين من خدمة (إنهما شاهدان والشهادة تحتاج إلى شخصين) وجندياً (من مرافقيه الأخصاء)يشاركه إيمانه ويعرف كيف يشرح الوضع لبطرس. كان هذا الجندي من الذين يخافون الله.
تبعد قيصرية عن يافا 48 كلم. هذا يعني أن المراسيل لم يذهبوا سيراً على الأقدام، وأنهم أخذوا مطية يركبها بطرس في طريق العودة. إنطلق المراسيل بعد الظهر، وساروا طوال الليلي. استراحوا هنا أو هناك في الخانات الرومانية، فوصلوا حوالي ظهر اليوم التالي إلى يافا.
2- المشهد الثاني (10: 9- 16): رؤية بطرس
وانتقل المشهد الآن إلى يافا، إلى بيت سمعان الدبّاغ حيث يقيم بطرس: في الوقت الذي وصل فيه المراسيل، كان بطرس على السطح: اعتزل للصلاة، وكانت الساعة السادسة، أي ساعة الظهر. اعتاد اليهود أن يصلوا ثلاث مرات في النهار (مز 55: 17- 18: ادعوا الله والله يخلصني. أدعوه في السماء والصباح والظهر، وهو يسمع صوتي؛ رج دا 6: 11: كان يجثو على ركبتيه ثلاث مرات في النهار). وصلاة الظهر لا تزال صلاة من صلوات الفرض اليومية التي يتلوها الرهبان خاصة. وقال هانشن: هل كانت هذه الصلاة صلاة صباحية تأخرت، أم كانت "صلاة التقدمة" التي تتلى في الساعة الثالثة بعد الظهر (رج 3: 1: الساعة التاسعة)؟ ولكن لوقا لا يهتم لمثل هذه الدقة. ما يهمه أن بقول هو أن الصلاة والرؤية تترافقان وكأنهما توأمان.
ولكن أفكار بطرس تحوّلت عن الصلاة بسبب الجوع، مع أنه لم تكن ساعة الغداء لدى اليهود. كان الرومان واليونانيين يتغدون حوالي الظهر. أما اليهود فكانوا يتروّقون (يفطرون) قبل الظهر ويتغدون (يأخذون طعام الغداء) بعد الظهر دون تحديد للوقت.
كان بطرس على السطح، أي في العلية كما كان ايليا عند الأرملة في صرفت صيدا (أو الصرفند الحالي، وهو يقع جنوبي صيدا) (1 مل 18: 22)، وكما كان اليشاع عند الشمونمية التي بنت لرجل الله عليّة جعلت فيها سريراً ومائدة وكرسياً وسراجاً (2 مل 4: 9- 10). احسّ بطرس بالجوع، ولكنه لم يجد طعاماً مهيأً له. هكذا هيأ الراوي الطريق للرؤية التي سيراها بطرس. وقع بطرس في غيبوبة. اختطف. (11: 5؛ 22: 17). الكلمة اليونانية غريبة في العهد الجديد وهي تدل على تغرّب كامل (اقتلاع من الحاضر المادي) ينتج عن رؤية الله أو المسيح. تُستعمل هذه الكلمة أيضاً لتدلّ على الدهشة العميقة أمام المعجزة. هذا ما أحسّ به الذين رأو الكسيح يمشي (3: 10) بعد أن قال بطرس: "امش". أجل فعل بطرس ما فعله يسوع سابقاً (لو 5: 24: قال للكسيح: احمل فراشك) فتعجّبوا وكادوا يقعون في غيبوبة (لو 5: 26).
نجد ثلاثة عناصر في هذه الرؤية. الأول. كان بطرس يصلي، وهذا يعني أنه كان في وضع يخوّله تقبل الرسالة الآتية من عند الله. يشدّد لوقا مرمراً على القول بأن الله يكلّم الإنسان ساعة يكون في الصلاة (13: 2؛ رج لو 3: 21 ي؛ 9: 29). الثاني. قد يكون جوع بطرس كوّن طبيعة هذه الرؤية. الثالث. ان المدى المنفتح أمام بطرس ساعد على تكوين سماط معقود بأطرافه الأربعة ومنحدر من السماء إلى الأرض (قال النص الغربي في شهود قلائل: وعاء لا سماط).
ضمّ السماط ثلاثة أنواع من الحيوان على ما نقرأ في العهد القديم (تك 6: 20؛ رج روم 1: 23). كانت لائحة معروفة: (الدواب تدب على الأربعة )، الزحافات، الطيور (رج تك 1: 21، 24؛ 7: 14). وسمع بطرس صوتاً يقول له: أقتل (شحط في العبرية، تيو في اليونانية)، اذبح حسب فرائض الشريعة، أما الحيوان الدنس فلا يُذبح حسب الطقوس (لا 11: 1 ي). أقتل الحيوانات وهيّئ لك طعاماً.
قد يكون بطرس رأى خيمة سماوية أو قل معبداً رأسه في السماء وأسسه على الأرض. إن قطعة القماش تبدو معقودة بأطرافها الأربعة، ولكن لا شيء يدفعنا إلى القول إننا أمام سماط. مهما يكن من أمر هذه الرؤية، فنحن نجد فيها أموراً قريبة مما في خر 1: 1 ي: السماء مفتوحة، العدد أربعة (أطراف الأرض الأربعة)، وجود الحيوانات، صوت الله. أجل، انتقلت السماء إلى الأرض وصار بطرس بحضرة الله وها هو يسمع كلامه.
احتج بطرس ضد هذا الأمر: ما أكلت في حياتي نجساً أو دنساً. إلى من يتحدث بطرس؟ فالكلمة اليونانية تعني السيد أو الرب. ولكننا سنعرف فيما بعد أنه الرب. أعلن له الصوت: ما طهَّره الله لا تعتبره أنت نجساً. أجل إن التمييز بين ما هو نجس وما هو طاهر لم يعد معمولاً به. وسيفهم بطرس المعنى الكامل لهذا الوحي: التمييز بين اليهودي والوثني قد تعداه الزمن (آ 28، 34). وحدث هذا ثلاث مرات. قاوم بطرس بخلاص ولكن الصون السماوي تكرّر مثل قرار حاسم، ثم كان صمت ارتفع الشيء بعده إلى السماء واختفى عن نظر بطرس.
إن اليهودي الذي صار مسيحياً يستطيع أن يأكل من أي طعام دون أن يتنجّس. ولكن متى ألغيت هذه الشريعة التي أوردها سفر اللاويين في ف 11؟ لقد ألغيت منذ هذه الساعة. وسيفهم المسيحيون فيما بعد ـن هذا الإلغاء هو جزء من النظام الجديد، وأن بعض ما قاله يسوع يتضمّن إلغاء كل تمييز بين ما هو طاهر وما هو نجس، كما يقول اليهود. هذا ما نجده في تعليم يسوع حين قال إنه ليس من الضروري أن تغسل يديك قبل الأكل لأسباب طقسية (والأسباب الطقسية تتميّز عن الأسباب الصحية). وأردف مرقس فقال: "جعل الأطعمة كلها طاهرة" (مر 7: 19). قال بولس في المعنى عينه: "أنا عالم ومتيقن في الرب يسوع أن لا شيء نجس في حدّ ذاته" (روم 14: 4). بما أن روم دونت في كورنتوس، فهذا يعني أن المسيحيين المتهوّدين في كونتوس كانوا يقبلون بهذا المبدأ: لم يعلّمهم فقط أن الطعام العادي طاهر، بل إن الطعام الذي قدّم للاصنام وبيع في السوق هو طاهر، لأن الوثن ليس بشيء (1 كور 10: 9). لا شك في ذلك الوقت أن بطرس وسائر المسيحيين المتهودين لم يكونوا قد رأوا أنهم يقدرون أن يأكلوا أي نوع من الطعام فيجهلوا العهد القديم الذي يشرع في قوانين ستزال سارية إلى زمن بعيد.
هناك شراح عديدون لم يروا العلاقة بين رؤية بطرس ووصفه المباشر فحاولوا أن يفسّروا هذه الرؤية وكأنها استعارة: حين أعلن كل إنسان طاهراً، لم يعد بطرس يخاف من الدخول إلى بيت إنسان وثني. قالوا: لا شك في أن التفسير مبالغ فيه ومصطنع، وان وجدناه في 11: 12 و15: 9. وراح بعضهم يقول أن الرؤية قد زيدت في مرحلة ثانية على الخبر. يقول: إن أمر الرب هو الذيي حرّر بطرس من أي خوف ليذهب إلى بيت رجل وثني ويأكل من أي طعام يوضع أمامه. وستكون الخطوة قصيرة بين الإقرار بأن الطعام الوثني طاهر والقول بأن الوثنيين أنفسهم هم طاهرون.
3- المشهد الثالث (10: 17- 23 أ): بطرس يستقبل المراسيل.
آ 17- 20. حين عاد بطرس إلى وعيه وتساءل عن معنى هذه الرؤية غير المنتظرة، وصل مراسيل كونيليوس إلى بيت سمعان الدبّاغ وسألوا عن بطرس. لم يكن البيت قصراً، واهتمام لوقا بع يعود إلى أنه كان مركز إقامة بطرس وموضع إجتماع "كنيسة" يافا. إن وصول المراسيل في هذا الوقت بالذات، يدلّ على أن العناية الإلهية هي التي توجّه الأحداث. وإذا كانوا بعد عند الباب، جاء إلى بطرس توجيه داخلي من عند الروح، هو إمتداد للرؤية. فهم بطرس وتيقّن أن عليه أن يطيع الأمر الإله. جاء تنبيه: هناك رجال يطلبونك. وجاءه أمر: غذهب معهم ولا تخف، لأني أنا أرسلتهم. هو الروح يتكلم بصيغة المتكلّم المفرد (أنا أرسلتهم). وهكذا نفهم أن الرؤية هيأت بطرس ليفهم الأمر الإلهي.
هنا تختلف المخطوطات. يقةل النص المتداول: رجلان إثنان. أما الفاتيكاني والبازي ومخطوطات متأخرة فتغفل ذكر العدد فتقول: الرجال. والإسكندراني والصعيدي والبحيري تقرأ: ثلاثة رجال. وهناك من يعتبر أن الرقم اثنين هو الصحيح، لأن الجندي ليس مرسلاً بل هو يرافق المرسلين أي "الشاهدين". وقال آخرون: يرجع الرقم اثنين إلى آ 7 (اثنين من الخدمة). وزاد شراح: تحدّثت مراجع لوقا عن رجلين، ولم تحسب الجندي كمراسل. ولكن لا ننسى الخبر في 11: 11 (ثلاثة رجال).
لم يشرح الروح الرؤية لبطرس الذي سيفهم فيما بعد (آ 28). بل وجّهه، فنزل بدون تردّد وتبع الرجلين. الروح يتكلم هنا. أما في آ 4- 5، فالملاك هو الذي يتكلّم. كل هذا يدلّ على القدرة الإلهية عينها.
آ 12- 23. لم يسمع أهل البيت الرجال يقرعون الباب. فبطرس فتح لهم بنفسه. أجل هو الذي أدخل هؤلاء الوثنيين إلى بيت يقيم فيه، وليس غيره. الروح هو الذي يحرّك بطرس فيسأل المراسيل: لماذا جئتم؟ قالت السريانية الحرقلية: ماذا تريدون؟
اذن نزل بطرس وعرّف بنفسه. أما هم فأخبروه بطلبهم مردّدين ما نقرأه في آ 1- 5. أما الجديد في كلامهم، فهو قولهم بأن كونيليوس يرغب في رؤية بطرس. ولكن العبارة ظلّت عامة فلم تحل العقدة نلاحظ أن الكاتب لم يستغرب القول بأن لكورنيليوس سمعة رفيعة (هذه ما يقال عن ضابط كفرناحوم: يحب أمتنا، لو 7: 5) لدى جميع اليهود.
ولكن تأخر الوقت، فلا مجال للعودة في اليوم نفسه إلى قيصرية. فأنزل بطرس المراسيل ضيوفاً عنده، أو بالأحرى على "الكنيسة" النازلة لدى سمعان الدبّاغ. لم يتوقّف لوقا عن ما فعله بطرس حين استقبل هؤلاء "الوثنيين"، ولم يتحدّث عن معارضة قد يكون أبداها صاحب الدار أو الجماعة التي تجتمع عنده.
ليس المهم ما يحدث في بيت سمعان الدبّاغ، بل في بيت كورنيليوس. إن لو يركّز انتباهنا على أعمال بطرس التي وحدها تهمه.
4- المشهد الرابع (10: 23ب- 33): وذهب بطرس إلى كورنيليوس.
آ 23 ب- 29. ذهب بطرس من يافا إلى قيصرية يرافقه عدد من المسيحيين. إنهم سيكونون شهوده حين يكلّم جماعة أورشليم ويبرّر عمله (11: 12). كانو ستة أشخاص (ضعف عدد المراسل). جاؤوا على سبيل الفضول (الحشرية)، جاؤوا ليروا، ومن يدري ليرقبوا بطرس. ولكنهم سيندهشون حين يرون الروح ينزل على الوثنيين (10: 45).
وصلوا في اليوم التالي، فوجدوا كورنيليوس مستعداً ليسمعهم مع الأقارب والأصدقاء. أ<ل دعاهم كلهم، لأن الملاك أمره بذلك فيكون الخلاص له ولهم (11: 14). أجل، ستتأسّس كنيسة في بيت كورنيليوس، فتحذو حذو كنيسة أورشليم في الاستماع للشهادة التي يؤديها الرسول بطرس (أع 4: 33).
وصل بطرس، وأول عمل قام به كورنيليوس هو أنه ركع أمام الرسول احتراماً. رفض بطرس مثل هذا العمل الذي يقدِّم لله وحده (هذه معروف في العهد الجديد، رج 4: 14 ي؛ رؤ 19: 10؛ 22: 9). قال بطرس: ما أنا إلا بشر مثلك. وسيقول بولس: نحن بشر ضعفاء مثلكم (14: 15).
استقبل كورنيليوس بطرس عند الباب، ورافقه إلى حيث تنتظره "الجماعة" لتسمعه. تكلّم بطرس فأثرّ على سامعيه وعلى قرّاء لوقا: جاء إلى بيت وثني، وهذه سابقة. فلا يحق ليهودي أن يخالط أناساً من غير شعبه. فقد تجنب لوقا كلمة "وثني" أو "أممي" فقال: أجنبي أو غريب. ولكن الله أمره أن لا يدعو أحداً نجساً. أجل، فهم بطرس معنى الرؤية التي رآها في "العلية".
قال بطرس: دعوتموني فجئت من دون اعتراض. إذن، الله هو المسؤول عن تصرّف بطرس حتى الآن، وسيكون الباعث على ما سيحدث فيما بعد. ولكن لماذا طلب كورنيليوس بطرس الرسول؟ هذا ما سيتوضح تدريجياً.
آ 30. يبدو النص غامضاً في اليونانية. حرفياً: منذ اليوم الرابع إلى هذه الساعة، كنت أصلي في الساعة التاسعة في بيتي، فوقف رجل أمامي. قد تعني منذ اليوم الرابع: منذ أربعة أيام. أ/ا الصعوبة الحقيقية فهي: إلى هذه الساعة. إنها تجعل ما تبقّى وكأن لا معنى له. قد يمكن أن نترجم العبارة: حوالي تلك الساعة. ولكن لا شيء يسند هذه الترجمة. قد يكون هناك خطأ لدى الناسخ الذي افترض أن كورنيليوس قضى أربعة أيام في الصلاة. وتبهع سائر النسّاخ وزادوا أن كورنيليوس كان يصوم.
يصوّر الملاك كرجل عليه ثياب برّاقة (رج 1: 10). أراد لوقا هنا أن ينوّع أسلوبه. نشير إلى أن العهد القديم عرف صورة الملاك الآتي لمساعدة الشعب (2 مك 11: 8: فارس عليه لباس أبيض).
آ 31- 33. نسمع هنا من جديد ما قاله الملاك لكورنيليوس. ولكننا نجد اختلافاً بين البداية (آ 4- 26) وبين هذه الآيات. هذا يدل على أن الكاتب لا يورد حرفياً الحوارات والخطب. إنه أسلوب المؤرخين القدماء الذين ينطلقون من تقليد قديم ويدوّنونه بأسلوبهم الخاص.
وشكر كورنيليوس بطرس لأنه جاء إلى بيته، وطلب منه أن يكلّمهم. وقال: هذا الاجتماع يتم تحت نظر الله، في حضرة الله. هذه الملاحظة العابرة تدل على أن الشعب الذي يجتمع لسماع الإنجيل (وبالأحرى الجماعة المسيحية) فهو يسمعه في حضرة الله. هي المرة الوحيدة التي ترد فيها هذه العبارة بهذا المعنى في العهد الجديد. ولكن الفكرة التي تقول إن أعمال الإنسان ظاهرة لدى الله، فكرة معروفة. وسيعبّر مت 18: 20 عن الفكرة عينها بعبارة مختلفة فيقول: "أينما اجتمع اثنان باسمي، كنت هناك بينهم". وقال بولس: "جتمعون باسم ربنا يسوع وقدرته" (1 كور 5: 4).
5- المشهد الخامس (10: 34- 43): وبدأ بطرس يتكلم.
آ 34- 35. من أين لبطرس مثل هؤلاء السامعين المستعدين لكلام الله؟ استفاد من الظرف وتكلّم مطولاً. أما مضمون ما سيقوله فقد برز بالعبارة الاحتفالية التي بها بدأ خطبته: فتح بطرس فمه وقال (8: 35؛ مت 5: 2. هذا يدل على أهمية ما سيقال).
فهم بطرس أن الله يقبل أي إنسان في أي شعب كان. يكفي أن يخافه ويعمل البر (أو الخير، والبر يدل إرادة الله ووصاياه). أجل، ما يهمّ الله هو قيمة الإنسان الأدبية والدينية، لا جنسه أو عرقه أو وطنه.
الله لا يحابي، لا يفضّل أحداً على أحد. للمرة الأولى في العهد القديم نقرأ هذه العبارة العبرية التي تعني: رفع وجه فلان، أظهر له رضاه، رضي عنه. ولكن الله لا يفضّل أحداً بطريقة اعتباطية. هذا يعني من جهة أنه لن يحابي الأشرار يوم الدينونة (روم 2: 11). "فالذين خطئوا بغير شريعة فبغير شريعة (موسى) يهلكون. والذين خطئوا ولهم شريعة موسى، فبشريعة موسى يُدانون" (روم 2: 12). وقال بولس أيضاً: "أما الذي يعمل الشر فسينال جزاء من عمله، ولا محاباة" (كو 3: 25؛ رج 1 بط 1ك 17). ومن جهة ثانية. لن يخاف الإنسان أن يرفضه الله لأنه متحيّز لشعب دون شعب أو لفرد دون آخر. "ليفتخر الأخ المسكين برفعته والغنى بذلّته" (يع 1: 9- 10).
لا يثير بطرس سؤلاً حول موقف الله إنطلاقاً من العهد القديم (لا يفكّر لوقا بماضي إسرائيل بل بالتحدي الذي يقدمه الإنجيل) الذي يشدد على المكانة المميزة لإسرائيل كشعب الله المختار. من الواضح أن إمتياز إسرائيل تأسّس على إختيار الله لا على استحقاق الشعب. إذن نكون منطقيين حين نقول إن الله يقبل الناس من كل أمة. على هذا الأساس، هو يختار. فإن خاف إنسان الله وفعل البر، صار مقبولاً لدى الله. نجد آثار هذا التعليم في العالم اليهودي، ولكن بصورة واضحة في روم 2: 1 ي. هذا لا يعني أن الخلاص ممكن خارجاً عن التفكير الذي حمله يسوع، بل أنه على أساس موت يسوع وقيامته يقدّم الإنجيل لكل إنسان يرضى أن يقبله ويعترف بحاجته إليه. فلو قال شخص إن أعمال الشريعة تكفيني لأنال رضى الله، ولست بحاجة إلى الإنجيل (هذا ما فعله الفريسي، لو 18: 11)، فهذا إنسان لا يقبله الله. هناك انفتاح على الإنجيل، على الجديد الذي يقدمه الله كل يوم في حياتنا. الإنغلاق يشبه إلى حد بعيد الخطيئة، والروح القدس الذي يدفعنا إلى الأمام لا يريدنا أن نرجع إلى الوراء، بل يريد أن يجدّدنا بقوة الإنجيل ويجدّد بنا وجه الأرض.
كيف بدت خطبة بطرس؟ ربط كلامه بالواقع (آ 34- 35)، ثم بدأ الكرازة (آ 36- 43). قدّم البراهين الكتابية (آ 43 أ)، دعا كورنيليوس والحاضرين إلى التوبة (آ 42، 43 ب).
آ 36- 38. استعد الحاضرون للسماع، فبدأ بطرس بإعلان الإنجيل. وتبدو الخطبة فريدة بين خطب أع، لأنها تلفت إنتباهنا إلى حياة يسوع على الأرض، بدلاً من أن تنطلق من رفض اليهود للرب وصلبه. أما سبب ذلك، فلأن لوقا أراد التنوّع الأدبي. ثم إن هذه الخطبة تتكيّف مع غير اليهود الذين لا يعرفون عن يسوع ما يعرفه أناس خطب فيهم بطرس في أورشليم. ولكن هناك من يعارض فيقول: بدأ بطرس خطبته فقال: أنتم تعرفون، فبدا وكأن كورنيليوس كان عارفاً بالخبر ولم يكن يحتاج إلى مزيد من السماع. وهناك من اعتبر أن كورنيليوس وجميع أهل بيته كانوا قد ارتدوا قبل أن يحدثهم بطرس، بحيث اكتفى بتثبيت معرفتهم الموجودة ولإيمانهم الحاضر. نحن نحسّ بضعف هذه النظرية التي تعتبر أن معرفة كورنيليوس كانت ناقصة. فكما قال له بطرس أنت تعرف، كذلك كان قد قال لليهود "كما أنتم تعرفون" (2: 22). يبدو أننا أمام طريقة أدبية يستجلب بها الخطب إنتباه السامعين.
عاد لوقا إلى التقليد، واتخذ مضمون الخطبة، ونسّقها بطريقته الخاصة. إن آ 36 تتضمّن تلميحات إلى نصين من العهد القديم، مز 107: 20 "أرسل كلمته"؛ أش 52: 7 "أقدام من يحملون الأخبار الطبية، من يبشرون بالسلام". وبدأ الإعلان فقال إن الله قد أتمّ وعده في العهد القديم في يسوع: حمل السلام إلى شعبه، إلى بني إسرائيل. والسلام يدل هنا على الخلاص في معناه الكامل (لو 1: 79؛ 2: 14؛ روم 5: 1؛ أف 2: 17؛ 6: 15). لا يدل فقط على غياب العداوة بين الله والإنسان، بل على البركة التي تجعل حالة المصالحة هذه تمتد في الزمان والمكان. ولكن هذا التعليم ينحصر باليهود. فإن أرسل إلى إسرائيل، فهو يتوجّه أيضاً إلى كل إنسان. قال بطرس: يسوع هو حامل السلام، هو رب كل العالمين. نجد هذه العبارة الأخيرة لدى الكتّاب اليهود والكتّاب المسيحيين، وهي ستساعد بطرس على الانطلاق في حديثه.
حينئذ شدّد "الواعظ" على أن بشرى السلام وصلت في أيان يسوع. كان لسامعيه بعض المعلومات، وإن غامضة، عمّا حدث في اليهودية كلها، إن إنجيل لوقا يميّز بالقول إن رسالة يسوع إمتدت كلها، أي الجليل والمنطقة الواقعة إلى الجنوب من أورشليم والتي تسمى اليهودية بحصر المعنى (لو 4: 44؛ 7: 17؛ 23: 5). بدأت خدمة يسوع في الجليل (لو 23: 5)، وارتبطت بخدمة يوحنا العمادية (أع 1: 22؛ 13: 24). نلاحظ هنا كيف أن أقدم الأناجيل، إنجيل مرقس، يبدأ تعليمه في هذه النقطة أيضاً.
بعد هذا نسمع خبراً قصيراً عمّا حدث: الله مسح يسوع بالروح. هنا تُستعمل كلمة أش 61: 1 (روح السيد الرب علي، مسحني لأبشّر المساكين) لتفسّر ما حصل ليسوع في الأردن، ولتقدّم خطبة يسوع في الناصرة (لو 4: 18؛ رج أع 4: 27). إن عطية الروح توصل القوة، وبهذه القوة استطاع يسوع أن يحمل العون والشفاء (مز 107: 20) للشعب الرازح تحت سلطان الشيطان. الفكرة التي نقرأها هنا هي أن عجائب الشفاء تخلّص الناس من سلطة الشرير الذي هو المسؤول عن آلامهم (لو 13: 16). كان يعمل الخير (يحسن). هكذا كان يسمى العظماء أنفسهم (لو 22: 25، المحسنون). استعمل لوقا هذا الفعل ليبين أن يسوع هو المساعد الحقيقي للناس والمحسن الحقيقي إليهم. أجل إن حكم الله الذي جاء يسوع يؤسّسه، سيجد المعارضة من قوى الشيطان، ولكنه سيتغلّب عليها (لو 11: 17- 20). تحدّث بطرس في آ 36 عن كرازة يسوع، فاكتفى هنا بالحديث عن أعماله العظيمة. وهكذا بدت الكرازة والعجائب كأنها أفعال الله العامل في يسوع ممثله.
نجد مقابلة بين خطبة بطرس التي تبدأ في آ 36 مع خطبة بولس في أنطاكية بسيدية. تتوجّه الخطبتان إلى النوع نفسه من السامعين: تكلّم بولس إلى اليهود وإلى الذين يتّقون الله (13: 26). لقد كان لوقا "وجماعته" من هؤلاء المتقين. قال بولس: "إلينا (هناك إختلافة تقول: إليكم) أرسلت كلمة الخلاص". فقابل كلام بطرس: أرسل كلمته إلى بني إسرائيل. وتدل الكلمة (لوغوس) في الخطبتين على تعليم الخلاص المسيحي، لا على كلمة الله كما يقول يوحنا في إنجيله (يو 1: 1). وإذ أرسل الله تعليمه (عبر الرسل)، أعلن السلام بينه وبين البشر، سلاماً أقامه بابنه يسوع. وإذ قال بطرس إن يسوع هو رب العالمين، حاول أن يصالح بين رسالة تتوجّه إلى شعب خاص وأخرى تتوجّه إلى جميع البشر.
آ 39- 41. يعود بطرس بطريقة عادية في خطبة إلى الرسل الذين هم شهود لحياة يسوع منذ يوحنا حتى القيامة، الذين هم لكافلون للتقليد الصحيح في الكنيسة. أدخل لوقا الجليل في عالم اليهود، فأدخاه في التحرك المسيحي الذي إمتد من اليهودية كلها (ربما فيها الجليل)إلى السامرة.
الرسل الاثنا عشر هم الذين رافقوا يسوع منذ بداية حياته العلنية (1: 21 ي). ولهذا يقدرون أن يعتبروا نفوسهم شهوداً لهذه الحياة في اليهودية بصورة عامة، وفي أورشليم بصورة خاصة. إعتاد بطرس في هذا المكان من خطبته التي تتوجه إلى اليهود. لهذا ألمح إلى موت يسوع على يد اليهود بصورة عابرة. هذا الموت قد أعلن مسبقاً في العهد القديم. والعبارة "علّقوا على خشبة" (أي: صلبوه) هي صدى نص تث 21: 22 ي (تودّد أيضاً في أع 5: 30) الذي رأى فيه بولس تتميماً لما حدث ليسوع (غل 3: 13).
ويسوع هذا الذي صلبه اليهود، قد أقامه الله من بين الأموات في اليوم الثالث. وفي 1 كور 15: 3 نجد الإيرادين الفريدين (خارج الإنجيل) اللذين يتحدّثان عن القيامة في اليوم الثالث. وقد أعطاه الله أن يراه جماعة من الشهود اختبروا سابقاً. فالقيامة لم تكن ظاهرة للشعب. والسبب في ذلك هو أن الذين رأوا يسوع، صاروا شهوداً لأناس عديدين لم يروه. إنهم استعدوا طويلاً بحياتهم مع يسوع ومشاركتهم له في عمله ورسالته. ولقد شدد لوقا على واقع خبرتهم معه حين قال: "أكلوا وشربوا معه" (1: 4؛ لو 24: 30، 43).
آ 42- 43. بعد القيامة أمر يسوع الرسل بأن يحملوا البشارة إلى الشعب، أي الشعب اليهودي (بالدرجة الأولى). وإن جزءاً من رسالتهم يدفعهم إلى أن يشهدوا أن الله جعل يسوع ديّاناً لكل البشر، الأحياء منهم والأموات. هذه هي وظيفة ابن الإنسان في الواقع الذي ذكرته الأناجيل الإزائية. ويشهد لوظيفة يسوع هذه 1 تم 4: 1 (الربّ يسوع المسيح الذي سيدين الأحياء والأموات عند ظهوره)؛ 1 بط 4: 5 (سيؤدّون حساباً لله الذي هو مستعد أن يدين الأحياء والأموات). وإن التعليم الأول أعلن أن ابن الإنسان يجلس عن يمين الله ويشاركه في عمل الدينونة (يو 5: 22، 27). وفي النهاية قال لوقا: "كل من يؤمن بيسوع ينال باسمه غفران الخطايا" (لو 24: 46- 47). إلى أية نبوءة لمّح بطرس حين قال: "يشهد له جميع الأنبياء"؟ إلى أش 33: 24: "لن يقول ساكن في أورشليم: أنا مريض. فالشعب الذي يقيم في أورشليم يحل من خطاياه"؛ رج 53: 4- 6؛ إر 31: 34؛ دا 9: 24.
6- المشهد السادس (10: 44- 48): نهاية الخطبة.
آ 44. إن عودة بطرس في آ 43 إلى "كل من يؤمن به" تعني كل من يؤمن به من بني إسرائيل. ولكن في نظر آ 34- 35، هناك معنى أوسع. وفي أي حال، وقبل أن يزيد بطرس أي شيء، نزل الروح القدس على الذين سمعوا التعليم: تابوا وآمنو (11: 17- 18). هذا يعني أمرين. الأول: إن الوثنيين الحاضرين لبّوا النداء بإيمان. الثاني: إن الرب قبلهم وختم إيمانهم بعطية الروح. كانت هذه المناسبة الأولى التي فيها يسمع الوثنيون التعليم. فتجاوبوا معه فقبلهم الرب. هذه الآية تدل على نهاية ديانة خاصة بشعب من الشعوب، وبداية تتوجّه إلى كل الشعوب بدءاً بكورنيليوس وأهل بيته وأصدقائه، بعد أن شهد بطرس ومسيحيو يافا لهم عن المسيح.
آ 45- 46. هنا بدأ رفاق بطرس يلعبون دورهم في الخبر. قد يكن بطرس تعجّب أو لم يتعجّب. أما هم فتعجّبوا. أن نحمل البشارة إلى الوثنيين هو شيء، وأن نرى الخطبة تقطع بعلامات واضحة تدلّ على ارتدادهم وقبولهم لعطية الروح القدس، هو شيء آخر. لا شك في ما حصل. وكما نال أول اليهود المؤمنين الروح ومجدوا الله في لغات أخرى يوم العنصرة، كذلك نال اليوم الوثنيون عطية الروح عينها. لا نستطيع أن نقول: إن الألسن ترافق حلول الروح دائماً. ولكن تُذكر مراراً وينظر إليها لوقا كعطية لا توهب لكل أعضاء الكنيسة. فهذا يعني أنها لم تكن العلامة الدائمة للآرتداد. إن قبول الموهبة في هذه المناسبة أبرزت واقع إرتداد الوثنيين بحيث لم يبق أي مجال للشك. من الممكن أن يتظاهر الإنسان فيما يخص موهبة الألسن لا فيما يخصّ المديح الصادق لله. وهكذا تحرّر الوثنيون من الشعور بأنهم أقل مستوى الدين، وعبّروا عن شعورهم بطرق غير عادية.
سمّى لوقا رفاق بطرس: "أهل الختان". إنهم المسيحيون المتهوّدون، الذين سنعرف موقفهم فيما بعد. قالوا: "حل الروح القدس على الوثنيين أيضاً". ولن يكون هذا الحلول ظاهرة معزولة حدثت مرة واحدة. نحن هنا أمام قرار إلهي يدرك العالم الوثني كله (11: 18؛ 15: 7).
لم يتحدّث عن لغات أخرى، بل قال: "يتكلّمون بالألسن وينشدون عظائم الله". ما قاله لوقا هنا سيقوله في 19: 6 عن التلاميذ الذين تعمّدوا في أفسس: كلمات وأناشيد دلّت على أنهم "خُطفوا". وإن فرح الإيمان جعلهم وكأنهم لم يعودوا من هذا العالم.
آ 47- 48. ويُطرح السؤال على اليهود المسيحيين الستة الذين حضروا هذا المشهد. ويُطرح دائماً على القارئ: من يمكنه أن يمنع ماء المعمودية من هؤلاء؟ والجواب: لا أحد. إذا كان الله قد قبل الوثنيين، فعلى الكنيسة أن تقبلهم. وهكذا صار العماد العلامة الخارجية لدخول الإنسان إلى شعب الله. كان علامة التنقية من الخطايا والغفران (3: 38)، ولكنهُ أعتّبر في الوقت عينه الرفيق والعلامة الخارجية للذي عمد بالروح. بما أن الوثنيين تعمّدوا بالروح القدس، فقد إختارهم الله لينالوا معمودية الماء. لهذا طرح بطرس هذا السؤال على المسيحيين المتهودين الذي معه، الذين هم كشهود للكنيسة. قد تكون كلمة "منع" التي استعملت أيضاً في 8: 36 (ما يمنع أن أتعمد) إنعكاساً لعبارة مقبولة استعملت في العماد.
لا شيء يمنع، لا إعتراض. فأمرَ بطرس أن يتعمدّوا. إن الرسل لا يعمّدون بأنفسهم (19: 5، 7؛ 1 كور 1: 14، 17). لهذا أمر بطرس المسيحيين الحاضرين أن يقوموا بالرتبة، وهو سيكمّلها كما فعل (مع يوحنا) بالنسبة إلى السامريين الذين قبلوا كلام الله (8: 14).
نلاحظ أن الخبر لا يقول إن كورنيليوس أو أصدقاءه إختتنوا. سموا في 11: 3: قوم غير مختونين. أقام بطرس عدّة أيام في بيت كورنيليوس، فكان هذا البيت الكنيسة التي عاش فيها الوثنييون قرب اليهود في جماعة واحدة: "يجعلون كل ما عندهم مشتركاً بينهم" (2: 44).
ووصل الخبر إلى أورشليم قبل أن يعود بطرس إليها، بل وصل إلى اليهودية كلها (8: 14؛ 11: 22): إن الوثنيين قبلوا أيضاً كلام الله.
7- المشهد السابع (11: 1- 18): بطرس يبرّر نفسه في أورشليم.
آ11: 1. كاد خبر ارتداد كورنيليوس يكون ناقصاً في نظر لوقا، لو لم يزد هذا المشهد السابع الذي يصور فيه تأثير الحدث على الكنيسة. يتحدّث لوقا عن الرسل كقوّاد الكنيسة وعن الأخوة كاعضائها العاديين (1: 15) ويتكلم عن الكنيسة التي في اليهودية (8: 1؛ 9: 3) والتي تتألف من مجموعة أورشليم مع المسيحيين المنتشرين في المناطق المجاورة. إن ردة فعل هؤلاء المسيحيين المتهودين على تجاوب الوثنيين مع الإنجيل، هو أمر مهمّ بالنسبة إلى المستقبل.
آ 2- 3. ما ان عاد بطرس إلى أورشليم حتى سأله "حزب" (أهل) الختان (أي الذين كانوا يهوداً قبل أن يرتدوا إلى المسيحية). لم تظهر هذه المجموعة كفئة مميزة داخل الكنيسة. ولكنها ستتقوى فيما بعد. ستحاول أن تفرض نفسها على الكنيسة كلها حتى بعد مجمع أورشليم. لم يكتفوا بالسؤال، بل انتقدوا بطرس وخاصموه، لأنه أكل مع الوثنيين. ظل المسيحيون المتهودون مرتبطين بالشرائع اليهودية حول الطعام، فما استطاعوا أن يشاركوا المسيحيين الأمميين (وبالحري الوثنيين الذين لم يتعمدوا): على هؤلاء الوثنيين أن يختتنوا ويحفظوا الشرائع المتعلقة بالأطعمة، ليحقّ لهم أن يشاركوا اليهود في حياتهم اليومية.
لم تكن هذه المسألة وليدة مخيّلة لوقا. فقد ظهرت بقوة في الحادثة التي رواها غل 2: 11- 14 (تراجع بطرس). خاف المسيحيون المتهوّدون من مهاجمة اخوتهم اليهود الذين لم يرتدوا، خافوا أن يصيبهم ما أصاب اسطفانس ورفاقه.
يتوسع النص الغربي في آ 2 فيقول: "وبعد وقت طويل، قرّر بطرس أن ينطلق إلى أورشليم. وبعد أن كلّم الأخوة ليثبتهم في الإيمان، ذهب عبر القوى يلقي العظات ويعلّم الناس. وحين وصل إليهم (أي جماعة أورشليم)، أخبرهم بالنعمة التي منحها الله (للوثنيين). ولكن الأخوة المختونين خاصموه".
آ 4. وبدأ بطرس خطبته بصورة احتفالية: بدأ بطرس يروي لهم كل ما جرى بترتيب. هو لم يدافع عن نفسه، بل اكتفى بأن يقول لسامعيه ما حدث ليفتح قلوبهم على القرار الذي اتخذه.
آ 5- 16. أخبر بطرس سامعيه بترتيب (رج لو 1- 3، بتدقيق). ما وصل إليهم كان "تقريراً ناقصاً ومشوهاً". فدلّهم على أن الله هو الذي وجّه عمله.
ويقدم لنا لوقا الخبر من جديد، يرويه بطرس بصيغة المتكلم المفرد: كنت أصلي في مدينة يافا فرأيت...
بدأ الخبر فروى اختبار بطرس لا اختبار كورنيليوس: اختطف حين كان يصلي ورأى رؤية. سماط نازل من السماء وعليه كل أنواع الحيوان (زاد هنا: حيوان البر أو الوحوش). ويتكرّر خبر الحوار بين بطرس والصوت السماوي بدون تبديل يُذكر. وحالاً بعد "الحلم"، وصل ثلاثة رجال إلى قيصرية، وعدوا بطرس. سمع بطرس نداء الروح يدعوه لأن يذهب معهم من دون خوف أو وسواس، أو بالاحرى بدون تمييز (رج 10: 17- 20). أي بدون أن يعاملهم بطريقة تختلف عن معاملته لليهود.
وراح برفقة أصدقائه الستة إلى بيت الرجل. هذا الرجل هو كورنيليوس. لم يُذكر اسمه لأن سامعي بطرس (عرفوا بعض الشيء عن الخبر) وقارئي لوقا يعرفون من تعني هذه الكلمة. قال هانشن: لم يكن الخبر مفهوماً لدى سامعي بطرس. ولكن من تعارض بين خبر 10 وخبر ف 11؟ ورأى هانشن أيضاً تعارضاً في الخبر. كيف وُجد هؤلاء الرجال الستة في يافا، وكيف كانوا مستعدين لمرافقة بطرس إلى قيصرية حين وصل مراسيل كورنيليوس؟ كل هذه أسئلة نافلة لم يتوقّف عندها لوقا.
روى بطرس بإيجاز كيف رأى كورنيليوس الملاك (آ3). هنا نعرف أن الملاك وعده أنه سيسمع تعليماً يحمل الخلاص له ولأهل بيته (آ 12). هذا التفصيل يفسّر تصرف كورنيليوس حين أرسل رجاله إلى بطرس (10: 22- 33). يتكلم الملاك لغة المبشرين المسيحيين الأولين (16: 31) في معرض حديثه عن الخلاص. ولكن تعبيره قريب مما نجد في العهد القديم، وهو مفهوم لدى اليهود والمرتدين. قال بطرس: بدأت أتكلم... لم يكن قد انتهى من كلامه حتى حلّ الروح القدس.
وبيّن "تفسير" بطرس أن اختبار المرتدين من الوثنية هو اختبار الذين اقتبلوا الروح في البدء، أي في يوم العنصرة. وهو يقابل خبرة الوثنيين بخبرة الذين كانوا في العلية، لا بخبرة أول المرتدين من اليهود. لسنا أمام مرتدّين من الدرجة الثانية. فالمرتدّون من اليهود والمرتدّون من الوثنيين يرتبطون بالشهادة الرسولية الواحدة التي انطلقت من العلية على يد الاثني عشر رسولاً.
ثم ان بطرس رأى في ارتداد الوثنيين تتميماً لقول يسوع في 1: 5: ذكّر تلاميذه أن يوحنا عمّد بالماء. أما هم فسيعمدون بالروح القدس. هذا يعني أولاً أم قبول الروح يُعتبر بالنسبة إلى الوثنيين عماداً في الروح على مثال العنصرة التي كانت أول تتميم لنبوءة يسوع في 1: 5. ثانياً، إذاً كان الوثنييون تعمّدوا بالروح، فهم مختارون لأن يعمّدوا بالماء. إن يوحنا عمّد فقط بالماء، أما أنتم فستتعمّدون لا في الماء فقط، بل بالروح القدس. أنهى بطرس خطبته بعبارة قالها يسوع، وسينهي بولس خطبته لشيوخ أفسس بعبارة قالها يسوع (20: 35).
آ 17. إذا كان الله منح موهبة الروح للمسيحيين الجدد كما للقدماء، فما يمكن أن يفعله بطرس في هذا الموضوع؟ هل يقاوم الله؟
آ 18. سمع معارضوا بطرس، سمع الحاضرون وهم الأحد عشر مع الجماعة الأولى الخبر، فتوقّفوا عن انتقاد بطرس ولكنهم لم يسكتوا فقط، بل مجّدوا الله لأنه أنعم على الوثنيين كما أنعم على اليهود أ يتوبوا عن خطاياهم وينالوا الحياة الأبدية (5: 20؛ 13: 46، 48). وهذا حصل بفضل الكرازة بالإنجيل.
أظهرت خطبة بطرس أن الوثنيين هم أعضاء كاملون في الكنيسة، وبالتالي الختان وحفظ الشريعة الموسوية ليسا ضرورين للخلاص. وتضمّنت الخطبة أيضاً كلاماً يقول إن التمييز رزال بين طعام وطعام، بين شعب وشعب. كان هذا تدميراً للنظرة اليهودية، فلم يُقبل من دون جدال وتعب القلب. لم يهتمّ لوقا بهذا الموضوع حالاً، ولم يقل لنا كيف تحققّت في أورشليم نتائج عمل بطرس. سنرى في ما يلي انتقال الرسالة إلى الوثنيين، إلى أنطاكية. إذا لم يكن واضحاً إلى أي حدّ استعدت كنيسة أورشليم لتتبع بطرس. لن نأخذ آ 18 بطريقة حرفية، بل نعتبر أن كنيسة أورشليم كلها غارت على الرسالة إلى الوثنيين. على كل حال. الرسالة لا تنتظر، ولن يضيع لوقا وقته هنا، بل إنه سينتقل إلى كنيسة أنطاكية حيث سيسمى الأخوة للمرة الأولى مسيحيين، نسبة إلى المسيح الذي به وحده نخلص.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM