الفصل الخامس: الرسالة في أورشليم واليهودية والسامرة

الفصل الخامس
الرسالة في أورشليم واليهودية والسامرة
ف 1- 12
إن أع يبدو تحقيقاً للتعليمات التي أعطاها يسوع لتلاميذه بعد قيامته من بين الأموات: "لا تتركوا أورشليم، بل انتظروا فيها ما وعد به الآب" (1- 4). "ستكونون لي شهوداً في أورشليم واليهودية كلها والسامرة، حتى أقاصي الأرض" (1: 8). سنتوقف في هذا المقال على تنفيذ الربنامج الرسولي الذي أعلنه يسوع. وسنكون أمام مراحل متعاقبة ستختبر فيها الكنيسة الفتية الإنفتاح على الآخرين. وكل مرحلة تبدأ بعنصرة: عناك عنصرة اليهود (2: 2- 41)، وعنصرة السامريين (8: 5- 25) وعنصرة الوثتيين(10: 1- 11: 18). وها نحن ننطلق من مرحلة إلى أخرى، فنكشف الرسالة التي دُعيت الكنيسة للقيام بها.
أ- عنصرة اليهود أو البدايات في أورشليم
حين تعمّد يسوع نال الروح (لو 3: 22) فقام برسالته. ويعلن أع 1: 21- 23 أن المعمودية كانت بداية هذه الرسالة: "طوال المدة التي قضاها الرب يسوع بيننا، منذ أن عمّده يوحنا إلى يوم ارتفع عنا".
وقبل أن يبدأ الرسل بالمهمة الموكلة إليهم، تقبّلوا معمودية الروح مثل يسوع. إن حدث العنصرة هو الجواب لما حصل في الأردن.
وها نحن نتوقّف بصورة خاصة على ف 2: "ولما جاء يوم العنصرة" (2: 1). تلك هي عبارة البداية. والنهاية: "فانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة ألف نفس" (2: 41). ففي البداية، وقبل حلول الروح نحن أمام مجموعة صغيرة تتألف من الاثنى عشر (وربما 120). وفي نهاية ذلك اليوم وُلدت الكنيسة، وكان عدد المؤمنين فيها يقارب 3000 نفس. وينتهي ف2 بالاجمالة الأولى (2: 42- 46) عن حياة الكنيسة الناشئة.
هناك أولاً قسمان اخباريان. الأول (2: 1- 4) يصوّر الحدث وعطية الروح الظاهرة التي ترافقه من التكلّم باللغات. الثاني ( 2: 5- 13) يخبرنا عن دهشة اليهود وتساؤلهم. ثم تقدّم خطبة بطرس تفسير الحدث (2: 14- 36). النتيجة ولادة الكنيسة.
القسم الأكبر من خطبة بولس التي تتضمّن ثلاثة أقسام وإعلاناً أخيراً: يتوسّع القسمان الأولان في موضوعين يرتبط الواحد بالآخر ارتباطاً وثيقاً: من جهة، الروح الموعود به في الأيام الأخيرة هو السبب الحقيقي لهذه الظاهرة الغريبة التي هي التكلّم بألسنة (2: 14- 21). ومن جهة ثانية، الله أقام يسوع (2: 22- 32). أما القسم الثالث (2: 33- 35) فيربط بين القسمين الأولين: يسوع الذي أقامه الله هو الذي أعطى الروح. إذن، نحن على مستويين تفسيريين: ننطلق من الحدث الخارجي، فنصل إلى عطية الروح. ثم ننطلق من عطية الروح، فنعود إلى السبب الأساسي الذي هو المسيح: بعد أن قام رُفع إلى يمين الآب وها هو يعطي الروح (2: 33- 36).
سنتوقف هنا على الحدث في علاقته مع إسرائيل، ثم في علاقته مع الشمولية الآتية:
1- الحدث في علاقته مع إسرائيل
هناك المستوى الواضح والمستوى الضمني.
أولاً: المستوى الواضح
إن العودة إلى الشعب اليهودي واضحة، لا سيما في خطبة بطرس (2: 14- 36). من جهة، يتوجّه بطرس إلى اليهود، وهم المعنيّون الأولون بحدث العنصرة. يبدأ خطبته فيقول "يا رجال يهوذا، ويا سكان أورشليم" (2: 14). وينهيها: "فليعلم بنو إسرائيل كلهم" (2: 36). وفي وسط الخطبة، يتوجّه بطرس إلى السامعيين فيقول: "يا بني إسرائيل اسمعوا هذا الكلام" (2: 22).
ومن جهة ثانية، نلاحظ أن التأكيدات الكبرى في الخطبة ترتكز على الأسفار المقدسة. حين أراد بطرس أن يُبرز مضمون الحدث، عاد إلى مخطّط الله المكشوف لشعبه عبر الأسفار المقدسة. وهكذا يرتبط القسم الأول (2: 14- 21) بنص يوئيل 3: 1- 15 والقسم الثاني (2: 22- 32) بنص مز 16: 8- 11، والقسم الثالث بنص مز 110: 1.
ثانياً: المستوى الضمني
إن ولادة الكنيسة كما يرويها خبر العنصرة، هي ولادة شعب العهد الجديد. يسدّد الكتاب حقاً على دور الاثني عشر ومضمون رسالتهم. إن هؤلاء الاثني عشر يمثّلون شعب إسرائيل الجديد. وعليهم يرتكز إيمان الكنيسة التي ستنتشر في العالم كله.
وإن عيد العنصرة يرتبط بأحداث سيناء التي أسست شعب الله في القديم. عيد العنصرة هو عيد العهد وإعطاء الشريعة لدى الشعب اليهودي. وهو يدل هنا على عطية الروح في إطار تيوفانيا (أع 2: 12- 4) تلعب فيها النار دوراً هاماً. على جبل سيناء، اجتمع الشعب كله قرب سيناء (خر 19: 8، 11، 16، 17). وفي أع كان الرسل كلهم مجتمعين معاً (آ 1 ب) فامتلأوا كلهم من الروح القدس (آ 4).
2- الحدث في علاقته مع الشمولية الآتية
وهكذا يقدّم ف 2 العنصرة كحدث اسكاتولوجي يتم فيه رجاء شعب إسرائيل. وفي الوقت عينه يرى فيه لوقا حدثاً يتجاوز ببعده ومضمونه هذا الإطار الخاصاني ليعلن انتشار الكنيسة في المسكونة كلها. وهذا يبرز خاصة في التماثل بين اللذين شهدوا حدث العنصرة وبين اللذين سمعوا كرازة العنصرة. ولقد أورد لوقا البلدان التي جاء مناه الشهود فقال: "برتية، ماداي، عيلام، بلاد الرافدين، كبادوكية، البنطس..." (2: 9- 11). كل هؤلاء يقيمون في أورشليم. وهكذا تحقّقت المرحلة الأولى من المهمة الرسولية التي حدّدها يسوع في 1: 8: ستكونون لي شهوداً في أورشليم. ولكن هذه الشهادة هي تسبيق للشهادة "حتى أقاصي الأرض". لا شك أن البشارة لم تصل إلا إلى أورشليم، ولكن بفضل هؤلاء الشعوب المقيمين في أورشليم، اتخذت بعداً شاملاً. نحن هنا أمام مشهد تسبيق، والكنيسة الشاملة والآتية تجتمع بصورة رمزية في اليوم الأول من ولادتها في أورشليم.
إذن تمثّل "عنصرة اليهود" للإيمان المسيحي مرحلة أولى ومحدودة في الانفتاح على الآخرين، على العالم اليهودي، ولكنها أيضاً لا محدودة وقد دخل إليها 3000 نفس. ويتم هذا الانفتاح بواسطة الشهادة. ولكن الشهادة لا تكفي. فلا بدّ من عطية الروح لكن اللذين ينفتحون على هذا الإعلان. إرتباط المؤمن بالمسيح هو ثمرة محاولة الإنسان وعطية الله، لأنه لا يقدر أحد أن يقول "يسوع هو الرب" إلا بالروح الدس (1 كور 12: 3).
ولكن الإعلان المسيحي لن يتم دون عطية الروح. أعلن الرسل الإيمان، فتممّوا المهمّة التي أوكلت إليهم بأن يكونوا شهود القيامة. ولكنّهم نالوا الروح (1: 8 أ) ليقدروا أن يقوموا بهذه المهمة، "تعمدوا في الروح القدس" (1: 5). تكلّم الله على سيناء فتحوّل صوته إلى نار محرقة حين أعطى الوصايا. وفي أورشليم تكلّم أناس نعموا بقدرة الروح القدس وامتلأوا من النار الإلهية (لو 12: 49): جئت لألقي ناراً على الأرض، وكم أتمنى أن تكون اشتعلت". هي نار العنصرة.
في أساس تجمع الكنيسة، نجد عطية الروح وعمل المسيح القائم من الموت: "فلما رفعه الله بيمينه إلى السماء، نال من الآب الروح القدس المدعو به فأفاضه علينا" (2: 33).
ب- عنصرة السامريين أو انتشار الكنيسة في اليهودية والسامرة
وبعد أن يتحدّث لوقا عن ولادة الكنيسة في أورشليم يقدّم لنا الشهادة الرسولية حتى نهاية ف 7. وسنجد صورة عن نشاط الرسل وشهادتهم مع حياة الكنيسة الداخلية.
2: 42- 47- حياة الكنيسة الداخلية.
3: 1- 4: 22- نشاط الرسل وشهادتهم.
4: 23- 5: 11- حياة الكنيسة الداخلية.
5: 12- 42- نشاط الرسل وشهادتهم.
6: 1- 7- حياة الكنيسة الداخلية.
6: 8- 8: 1- نشاط اسطفانس وشهادته.
نحن نرى أن القسم الأخير (6: 8- 8: 1) لا يتعلّق مباشرة بالرسل، بل باسطفانس، أحد السبعة الذين وضع عليهم الرسل الأيدي في 6: 6.أما ف 8 فيتحدث عن فيلبس وهو أيضاً أحد السبعة.
هناك الآيات: بطرس ويوحنا (13: 1- 8)، الرسل إجمالاً (5: 12 أ، 15- 6) واسطفانس (6: 8). وتأتي ردة الفعل على هذه الآيات. من قبل الشعب: 3: 9- 11: أمتلأوا حيرة وعجباً؛ من قبل مجلس الكهنة: 4: 1- 3: استاؤوا لأن بطرس ويوحنا يعلمان الشعب؛ 6: 9- 15: اشتدت نقمة رئيس الكهنة. أمسكوا الرسل والقوهم في السجن؛ 6: 9- 15: هيّجوا الشعب وخطفوا اسطفانس وجاؤوا به إلى المجلس.
وهناك الشهادات: شهد يوحنا وبطرس (3: 12- 26) أمام بني إسرائيل: "ما بالكم تتعجّبون مما جرى؟ ولماذا تنظرون إلينا كأننا بقدرتنا أو بتقوانا جعل هذا الرجل يمشي". وشهدا أيضاً أمام حنان وقيافا ويوحنا واسكندر (4: 5- 22): "فاعلموا جميعاً، وليعلم شعب إسرائيل كله، أن هذا الرجل يقف أمامكم صحيحاً معافى باسم يسوع الناصري الذي صلبتموه أنتم، وأقامه الله من بين الأموات". (رج 5: 27- 32). وشهد اسطانوس الشهادة الحسنة حتى الموت (7: 1- 8: 1).
وإذا أخذنا 3: 1- 8 نرى أ، الآية تقوم بشفاء كسيح عند باب الهيكل على يد بطرس ويوحنا. أثارت الآية ردة فعل طيبة لدى كل الشعب، فشهد أمامهم بطرس على قيامة يسوع. ولكن هذه الآية كانت السبب في توقيف بطرس ويوحنا ومثولهم أمام مجلس الكهنة حيث أعلن بطرس من جديد إيمانه بالقيامة. ما نلاحظه في ف 2- 7 هو أن إعلان الإنجيل ينطلق من آية تُدهش أو توجّه سؤلاً إلى الحاضرين. وينطلق الرسول من الآية فيعود إلى يسوع القائم من الموت والحاضر في أعماله القديرة. لا يحتاج الرسل أن يبحثوا عن طريق إلى الآخرين، فالآيات تفتح لهم الطريق.
1- نظرة إجمالية
يعرض ف 8 مجمل النشاط الرسولي الذي تمّ في السامرة. ولكن أيضاً في اليهودية وفي الجليل. فبعد أن قدم لوقا نشاط فيلبس ونشاط بطرس ويوحنا تكلّك عن وجود كنائس مزروعة في "كل اليهودية والجليل والسامرة" (9: 31). وأقحم بين 8: 40 و9: 31 خبر ارتداد بولس، فسبّق على المرحلة الثالثة من التبشير التي ستصل إلى "أقاصي الأرض".
انتهت المرحلة الأورشليمية كما قال لوقا في أع 8: 1: اضطُهدت كنيسة أورشليم فتشتّتت "في أرياف اليهودية والسامرة". ووجد التبشير في هذا التشتت مناسبة للإنتشار خارج أورشليم. بقي الرسل في أورشليم (8: 1 ب)، وانطلق التبشير في غيابهم. أما الدور المركزي في اليهودية والسامرة، فقد لعبه فيلبس أحد السبعة (6: 1- 6). ويذكر ف 8 نشاطه الرسولي في إحدى مدن السامرة (8: 5- 3)، ثم على الطريق بين أورشليم وغزة (8: 26- 39)، وأخيراً في كل المدن من أزوت (أو أشدود) حتى قيصريّة (8: 40).
ويتحدّث 8: 14- 25، لا عن نشاط فيلبس، بل عن نشاط بطرس ويوحنا. "سمع الرسل في أورشليم أن السامريين قبلوا كلام الله، فأرسلوا إليهم بطرس ويوحنا" (8: 14). فذهبا أولاً إلى السامريين الذين ردّهم فيلبس (8: 14- 24)، ثم "رجعا إلى أورشليم وهما يبشّران قرة كثيرة في السامرة" (8: 25). ما يلفت النظر هو أن الشهود للمسيح في هذه في هذه المناطق ليسوا الرسل الذين إليهم سلّمت مسؤولية التبشير في اليهودية والسامرة (1: 8). لقد انتقلت المبادرة إلى أحد الذين اختارتهم الجماعة "لخدمة الموائد" (6: 2). تشتّت الجماعة، فوجد فيلبس نفسه مبشّراً بالكلمة و"إنجيلياً". وهو ظاهر من العبارات التي يستعملها لوقا. يقول إن "الجموع أصغت بقلب واحد" إلى تعليم فيلبس (8: 5)، يصوّر لوقا تبشير وارتداد منطقة كاملة. وهذا ما نقرأه في 8: 14: "سمع الرسل أن السامرة قبلت كلام الله" (8: 14).
نحن إذن في المرحلة الثانية من الانفتاح على الآخرين. كيف تم هذا الانفتاح؟ سنرى كيف تدشّنت الرسالة في السامرة. في القسم الأول (8: 5- 13) نتعرّف إلى نشاط فليبس وتأثير كلامه. وفي القسم الثاني نتعرف إلى نشاط بطرس ويوحنا (8: 14- 24). يتوقّف لوقا في هذين القسمين عند السامريين أولاً (8: 5- 8؛ 8: 14- 17)، ثم عند سمعان الساحر (8: 9- 13؛ 8: 18- 24).
2- رضى الله على الرسالة
تبيّن 8: 14 أن ارتداد السامريين بين الإيمان المسيحي، تضمّن في نظر الرسل أمراً شاذاً وفير عادي. فأرسلوا بطرس ويوحنا ليتحقّقا من الأمر ليعيدا "النظام" إلى الكنيسة، أو أقلّه ليقرَّا بالواقع الجديد.
أذلم تبشّر السامرة على أيدي الرسل كما طلب منهم (1: 8)؟ هل اتُخذت مبادرة حمل البشارة إلى السامرة دون الأخذ برأي أورشليم؟ هل أراد لوقا أن يربط بالاثني عشر المرحلة الثانية من الإنفتاح على الآخرين؟ هل تحفّظ الرسل لأن السامرة تعتبر ضالة وغير طاهرة وشبيهة بالعالم الوثني (رج 10: 14)؟
أولاً: عماد من دون الروح
وقدّمت آ 51- 16 الجواب: ذهب بطرس ويوحنا إلى السامريين لينالوا الروح القدس. آمن هؤلاء الناس (8: 12 آ) وتعمّدوا (8: 12 ب). ولكن الروح القدس لم يكن بعد نزل على أحد منهم. فقد كانوا فقط اعتمدوا باسم الرب يسوع. ولكن كيف نفهم هذا القول؟ كيف استطاع السامريين أن يعتمدوا دون أن ينالوا الروح القدس؟
هناك مقاطع في أع تربط الروح القدس بالمعمودية. مثلاً 2: 38: "توبوا وليتعمّد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح، فتغفر خطاياكم ويُنعم عليكم بالروح القدس". ونجد الشيء عينه في خبر ارتداد بولس. فقد قال له حنانيا (9: 17): "يا أخي شاول، أرسلني إليك الرب يسوع حتى يعود البصر إليك وتمتلئ من الروح القدس". وتدلّنا آ 18 على أن بولس نال الروح القدس بالمعمودية: "فتساقط في الحال من عينيه ما يشابه القشور وعاد البصر إليه. فقام وتعمّد". إذن، كيف نفسّر أن يكون السامريون قبلوا المعمودية ولم ينالوا الروح، وأن الروح سينزل عليهم حين يضع بطرس ويوحنا أيديهم عليهم(8: 17)؟
ثانياً: عماد في الروح
يتحدّث أع عن "معمودية باسم يسوع المسيح"، ويتحدّث أيضاً عن معمودية "في الروح القدس". في 1: 5، نحن أمام اختبار جماعي سينعم به الرسل يوم العنصرة. وفي 11: 16، نحن أمام اختبار الوثنيين المجتمعين حول كورنيليوس. قال بطرس عنهم: "فلما بدأت أتكلّم، نزل الروح القدس عليه كما نزل علينا نحن في البدء فتذكّرت ما قال الرب: عمّد يوحنا بالماء، وأما أنتم فتتعمّدون بالروح القدس" (11: 15- 16). ويشير النص مرتين إلى أ، الروح القدس نزل على هؤلاء السامعين. نقرأ في 10: 44: "وبينما بطرس يتكلّم، نزل الروح القدس على جميع الذين يسمعون كلامه". وفي 11: 15: "فلمّا بدأت أتكلّم، نزل الروح القدس عليهم".
ويستعمل الخبر المتعلق بالسامريين الفعل عينه: "لم يكن الروح بعد نزل على أحد منهم" (8: 16). أما يكون هذا أمراً شاذاً؟ لم تحصل عنصرة عند السامريين، لم يظهر الروح بصورة خاصة كما ظهر في أورشليم (2: 1- 4) وكما سيظهر عند الوثنيين (10: 44- 46). يبدو أ، ظهور الروح يجب أ، يسبق مبادرة التبشير والعميد. لا يجب أت تتقدم الرسالة إلا إذا أعطى الله أوامره بذلك.
قد يكون السامريون نالوا الورح القدس بطريقة فريدة، ولكن الخبرة الجماعية لحضور الروح لم تظهر، فتساءل أهل أورشليم: هل يوافق تبشير السامرة مخطّط الله؟ وحين أعطى العماد في الروح (العنصرة، عند كورنيليوس)، كانت آيات خارجية وظواهر خارقة رآها الناس وسمعوها. نقرأ في 2: 4: "فامتلأوا كلهم من الروح القدس. وأخذوا يتكلّمون بلغات غيرهم، على قدر ما منحهم الروح القدس أن ينطقوا". وفي 2: 11 ب: "نسمعهم يذيعون في لغاتنا أعمال الله العظيمة". وفي 10: 44- 46: "وبينما بطرس يتكلم... تعجّب أهل الختان لأنهم سمعوهم يتكلّمون بلغات ويعظّمون الله".
أما السامريون فستكون لهم عنصرتهم (أي ظهور الروح الخارجي) حين يضع بطرس ويوحنا أيديهم عليهم (8: 17). لن نسمعهم يتكلّمون بالألسن، ولن نرى آيات خارجية ساطعة. ولكن 8: 18 تشير إلى أن شيئاً مشابهاً حصل، لأن سمعان الساحر استطاع أن يرى أن الروح أعطي بوضع أيدي الرسولين.
في ف 2 وف10، ظهر الروح فبيّن للرسل أن الحصاد نضج. إن الساعة أتت من أجل تبشير منطقة من المناطق أو مجموعة من الناس (3: 38؛ 10: 47؛ 11: 17). وسيكون الأمر كذلك في ف 8. في البداية. إقتبل الناس البشارة في منطقة جديدة دون أن يدل الروح على أن الزمان تمّ من أجل البشارة. ولكن حين ظهر الروح، بشّر بطرس ويوحنا السامرة (8: 25). وفيلبس اليهودية من اشدود إلى قيصرية (8: 40).
تبدو نظرة لوقا متماسكة كل التماسك. إن المراحل الثلاث الحاسمة للرسل (1: 8) قد تدشّنت بواسطة الروح. هذا واضح بالنسبة إلى المرحلة الأورشليمية التي تدشّنت في ف 2 وامتدت إلى 8: 1. وهذا سيكون واضحاً في "عنصرة الوثنيين" (10: 44- 46). أما في مرحلة اليهودية والسامرة التي يرويها 8: 1- 9: 43، فالروح يضع خاتمه ويطلق الرسالة من جديد. وهكذا بدا النشاط الكنسي على أنه يوافق قصد الله وينبع من مبادرته.
ج- عنصرة الوثنيين أو الانفتاح على العالم كله
قال لوقا: "وكانت الكنائس في جميع اليهودية والجليل والسامرة تنعم بالسلام. وكانت تمتد وتسير على خوف الرب وتتقوّى بمعونة الروح القدس".
إن هذه الاجمالة التي أقحمها لوقا في أع 9: 31، تدل على أن الرسل اجتازوا المرحلة الثانية، وأنه لم يبقَ لهم إلا المرحلة الثالثة. سنرى أن هذه المرحلة ستتمّ مع رسالة بولس في ف 13 وما بعد. ولكن عنصرة الوثنيين ستدشّن هذه المرحلة حين تتحدّث عن تبشير كورنيليوس وعماده مع جميع أهل بيته.
1- إلى الوثنيين أيضاً (11: 18).
قبل ف 10، لم تُعلن البشارة إلا على اليهود والسامريين. هذا ما فعله الاثنا عشر (ف 2- 5) واسطفانس. ستكون الأمور أقل وضوحاً في ف 8- 9. لا شكّ في أن فيلبس وبطرس ويوحنا يتوجّهون إلى السامريين في 8: 4- 25، وأن بولس يتوجّه بعد ارتداده إلى اليهود في دمشق ثمّ في أورشليم (9: 20- 30). ولكن قسلبس بشّر وزير ملكة الحبشة (8: 26- 39)، وقا بطرس بنشاط في لدة ويافا (9: 32- 43). لا يقول 9: 35- 42 إن المرتدين هم يهود، ولكن لا شيء يفترض العكس: هذا كلّه يحدث في فلسطين، ولكن يحتفظ بطرس كما سوف يتحفّظ حين يتوجّه إلى الوثنيين. ولكن ماذا نقول عن هذا الغريب الذي علّمه فيلبس وعمده (8: 26- 39)؟ اما كان وثنياً؟ الأمر ممكن. ولكن لوقا يمتنع عن مثل هذا القول، بل هو يعطينا إشارتين تجعلاننا نحسب هذا الحبشي وكأنه يهودي أو أحد المرتدين إلى الديانة اليهودية. يقول أولاً: جاء إلى أورشليم للعبادة (8: 27). ويقول ثانياً: كان يقرأ في سفر أشعيا (8: 30 : 33). ومهما يكن من أمر هذا "الوثني"، فان لوقا لا يشدد على ارتداده. فالرسل وبطرس هم الذين يدشّنون المرحلة الأخيرة في الانفتاح على الوثنيين.
2- دور بطرس
في الواقع، لسنا أمام وثنيين بكل معنى الكلمة في ف 10. فكورنيليوس وأهل بيته هم من المتقين لله (10: 2- 22)، أي يهود أخذوا ببعض وجهات الإيمان اليهودي وممارساته دون أن يختتنوا. غير أنهم لم ينضمّوا إلى شعب الله وبالتالي ظلّوا في وضع الوثنيين.
إن أع يجعل "المتّقين" (لله) كالوثنيين. قال بولس في 13: 16: "يا بني إسرائيل، ويا أيها الذين يتّقون الله". وفي 13: 26 قال: "يا اخوتي يا أبناء إبراهيم، ويا أيها الحاضرون معكم من الذين يتّقون الله". إذن يميّز أع بين اليهود والمتقين لله. وان ف 10- 11 واضحان في هذا المعنى. فكلمة وثني (اتنوس) ترد أربع مرّات لتدل على مورنيليوس وأهل بيته. حينئذ قال بطرس: "أرى أن الله في الحقيقة لا يفضّل أحداًَ على أحد. فمن خافه من أية أمة كانت وعمل الخير كان مقبولاً عنده" (10: 34- 35). "تعجّب أهل الختان الذين رافقوا بطرس حين رأوا أن الله أفاض هبة الروح القدس على الوثنيين أيضاً" (10: 45). "وسمع الرسل والأخوة في اليهودية أن الوثنيين أيضاً قبلوا كلام الله" (11: 1). "فلما سمع الحاضرون هذا الكلام، هدأوا ومجّدوا الله وقالوا: أنعم الله إذن على الوثنيين أيضاً بالتوبة سبيلاً إلى الحياة" (11: 18).
وهذا ما يظهر أيضاً من خلال رؤية بطرس (10: 11- 16؛ 11: 5- 10). فالصوت الآتي من السماء حرّضه لكي يذبح ويأكل دون أن يميّز بين حيوان وحيوان. مثل هذا الموقف غير مقبول لدى اليهودي، والشريعة تمنعه من أكل لحم بعض الحيوانات (لا 11: 1 ي). هذه المحرّمات لم تكن تعني الوثنيين أو المتقين لله. فعبر رواية الحيوانات والأمر بالأكل دون الأخذ بعين الإعتبار ما هو "طاهر" وما هو "نجس" (حسب الشريعة)، نكتشف الانفتاح على الوثنيين. وهذا ما فهمه بطرس في النهاية: "تعرفون أن اليهودي لا يحلّ له أن يخالط أجمبياً، أو يدخل بيته. لكن الله أراني أن لا أحسب أحداً من الناس أو دنساً" (10: 28).
إذن جاء وقت الانفتاح على الوثنيين. وقد خطت الكنيسة تلك الخطوة حين قرّر بطرس قبول كورنيليوس وأهل بيته فيها (10: 47 ي). بعد اليوم، صار الانفتاح شاملاً. غير أن هذه المتضمنات لم تظهر بوضوح. فالمؤمنون اكتفوا بأن يلاحظوا: "أنعم الله على الوثنيين بالتوبة" (11: 18). ولكن الحركة انطلقت ولن تتوقف. وسيروي لنا لوقا حالاً (11: 19- 21) بعد هذا الحدث تأسيس كنيسة أنطاكية وارتداد اليونانيين، أي أناس غير مختونين.
ولكن ستبقى مسألة عالقة: هل يُفرض على الوثنيين الداخلين إلى الكنيسة أن يحفظوا الشريعة؟ ستجد هذه المسألة حلّها في 15 وفي مجمع أورشليم. في هذا الوقت ستظهر الأهمية الرئيسية للأحداث المروية في ف 15- 11. نلاحظ أن العودة إلى أحداث قيصرية ستلعب دوراً حاسماً. ذكرها بطرس (15: 7- 9) فاستخلص استنتاجات في خط الشمولية وفي التحرّر من نير الشريعة (15: 10- 11). وما إن ذُكر النجاح الذي لاقاه بولس ورفاقه لدى الوثنيين (15: 12). حتى عاد يعقوب وذكر أيضاً حدث كورنيليوس (15: 13- 18) ليستخرج متضمنات تشبه تلك التي أشار إليها بطرس (15: 19- 21).
وهكذا يكون تسلسل الأحداث كالآتي: قبل بطرس بعض الوثنيين في الكنيسة (10: 1- 11: 18). وحذت حذوة الرسالة المسيحية في أنطاكية (11: 19- 26) وفي آسية الصغرى (13- 14). فطُرح سؤال حول الموقف الواجب اتخاذه تجاه الشريعة (ف 15). إن حدث قيصرية هو بداية مسيرة على طريق الانفتاح، بل هو يبرّر هذا الانفتاح. وإن مجمع أورشليم سيجعل ممّا فعله بطرس في قيصرية مبدأ تسير عليه الكنيسة فتصل إلى القول: لا يهودي ولا يوناني (غل 3: 28). وإذا استعملنا صورة بولسية قلنا: مع كورنيليوس دخل إلى الكنيسة "باكورة" الوثنيين (روم 16: 5؛ 1 كور 16: 15).
3- تدشين المرحلة الأخيرة من مراحل الرسالة
إذا دشّن بطرس الرسالة لدى الأمم، دشّن في الوقت عينه المرحلة الأخيرة التي يتحدّث عنها 1: 8. إن هذا المقطع لا يتحدّث عن الرسالة إلى الوثنيين، بل عن شهادة تصل "إلى أقاصي الأرض". ولكن هذا يعني الشيء عينه بالنسبة إلى القديسين لوقا. ففي المقطع الموازي، في لو 24: 47، تتحدّث المهمة الموكلة إلى الاثني عشر بالنسبة إلى كل الأمم (كلمة اثنوس). ثم ان عبارة "إلى أقاصي الأرض" ستعود في 13: 47 في إيراد لأشعيا مع توازٍ مع "نور الأمم": أقمتك نوراً للأمم لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض".
وسيستند بولس وبرنابا إلى هذا المقطع (أش 49: 6) ليؤكدا عزمهما "على التوجّه إلى الوثنيين" (13: 46). ويشدّد خبر 10: 1- 11: 18 فيقول إن الانفتاح على الوثنيين يوافق مخطط الله، بل إن الله نفسه هو في أصل المسعى الذي قادنا إلى هذه النتيجة. أولاً: ظهر ملاك الرب لكورنيليوس (10: 3، 30؛ 11: 13 أ) وأمره بأن يأتي ببطرس إلى بيته (يردّد لوقا الأمر أربع مرات: 10: 5- 6، 22، 32؛ 11: 13 ب). ثانياً: وسمع بطرس من جهته صوتاً يناديه ثلاث مرات (10: 13، 15- 16؛ 11: 7- 10). وفي النهاية يقنعه الروح بأن يذهب إلى كورنيليوس (10: 19- 20؛ 11: 12). الله هو الذي يقود العمل كما يفسر ذلك بطرس نفسه في 10: 28- 29. تحفّظ بطرس في الذهاب إلى الوثنيين، ولكن الله أناره ووجّهه: "أراني الله أن لا أحسب أحداً من الناس نجساً أو دنساً. فلما دعوتمونب جئت من غير اعتراض". ثالثاً: وحين وصل بطرس إلى بيت كورنيليوس، لم يتخذ مبادرة تعميد بيت كورنيليوس وقبوله في الكنيسة. فالله تدّخل عبر عطية الروح، فأعلن بطرس: "هل نقدر أن نمنع ماء المعمودية عن الذين نالوا الروح القدس مثلنا" (10: 47):؟ وقال في معرض دفاعه عن نفسه أمام كنيسة أورشليم: "فإذا كان الله وهب هؤلاء ما وهبنا نحن عندما آمنا بالرب يسوع، فمن أكون أنا لأقاوم الله" (11: 17)؟ أجل، إن الانفتاح على الآخرين يفترض الانفتاح على الآخر، على الله. فهو وحده يوجّه الأحداث.
بدأت الرسالة في أورشليم، إمتدت إلى السامرة. وهي ستصل إلى أقاصي الأرض، إلى رومة، إلى هناك سيحملها بولس ورفاقه. هذا ما نقرأه في القسم الثاني من أع وعنوانه: "إلى أقاصي الأرض".

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM