القصيدة الثانية عشرة: موت يوسف

القصيدة الثانية عشرة: موت يوسف

تُعرِّفنا كيف توسَّل الأخوة إلى يوسف لئلاَّ يذكر لهم ذنبهم،

كما تُعرِّفنا موت يوسف الشجيّ

بعد موت الوالد، أتى الإخوة يتوسَّلون إلى يوسف، ثمَّ طلبوا أن يغفر لهم جهالتهم. وقالوا له: "حقًّا أذنبنا، ولكنَّ ذنبنا أوصلك إلى هذه الرفعة. فأجابهم يوسف مجدَّدًا الغفران الذي منحهم إيّاه قبل موت يعقوب. ودنت ساعة موت يوسف، كما سبق ومات يعقوب، فودَّعه إخوته ورثاه العبرانيُّون والمصريُّون معًا. وأنهى الشاعر معتذرًا إن هو لم يعرف من قبل عظمة هذا العبد الذي هو بارٌّ بين الأبرار.

توسُّل الإخوة إلى يوسف

حين عاد يوسف من دفن أبيه وأتى إلى مصر،

خاف إخوته: ربَّما يذكر الذنب الذي غُفر.

ويل لنا. ربما سخط علينا وأبونا الشيخ غير قريبٍ منّا.

من يقدر أن يسيِّج علينا بعد أن انتقل أبونا الشيخ.

5          كم أحزننا اليوم موتك أيُّها البارُّ الذي رقد.

ربَّما افتقدتنا وتوسَّلت لأجلنا كعادتك،

أجاب يهوذا وقال لإخوته: "نروي له خبر أبيه.

وهو يعرِّفنا بضميره وإن كان شيء مخفيٌّ علينا.

من ربوات كلامنا يبقى ذكرُ أبينا،

10        فإن هو رقد، فيتكلَّم معه وكأنَّه حيّ.

نقتربُ منه كلُّنا معًا وبألم نسجد قدَّامه.

وحين يأذن لنا بالكلام نقدِّم له السبب التالي:

"أبوك يعقوب حين كان بعد حيًّا، أمرنا واستحلفنا

أن نطلب منك بكلمة ونتوسَّل على ذنبنا.

15        لئلاَّ تذكر وقاحتنا التي أريناك إيَّاها في البرِّيَّة.

ولئلاَّ تتكرَّر بين شفتيك لما وهبه لنا غفرانك".

 

وطلبوا منه أن يغفر لهم

فنظر يوسف إلى إخوته وقال: "لماذا أنتم خائفون هكذا؟

من أجل الشيخ حزنتم فأنا أملأ لكم مكان الآباء".

"يا أخانا، لأجل أبينا نحن حزانى ومضايقون.

20        فقدنا شمسًا بهيَّة كانت تنير جماعتنا.

فلو لم نتَّكل عليه لما كنّا نزلنا إلى المصريّين.

صبغ الحياء وجوهنا أن نشاهدك بدونه.

أبونا الشيخ أمرنا أن نأتيك ونطلب منك

قبل موته أمرنا أن نكشف لك (قلبنا) بعد موته.

25        ونسترضيك بسبب إثمنا بحيث لا تذكر الأمور السابقة.

نطلب منك، يا يوسف، اغفر إثمًا أثمنا به إليك

وانضح المراحم والنعمة على كلِّ من طلب أن يضايقك.

 

قلنا له: من لبس معطف الجود حاشا له أن يخلعه.

بيَّن لنا بداية صالحة وسيبيِّن لنا خاتمة مُحبَّة.

30        وإن فعل يوسف هذا خُيِّل إلينا أنَّه استوفى ديننا.

هو لا يقدر أن يذكر إثمنا دون أن ينقص من برارته.

وها نحن اليوم اجتمعنا لنتحقَّق من قسم أبينا.

ومع (قسم) أبينا هذا، نطلب ألاَّ نذكر ذنبنا.

ولا تملْ بنظرك عنّا بحقِّ من دبَّر أبانا يعقوب.

35        وبحقِّ من وهب لك هذه العظمة بأن تضع يدك على عينيه.

فأرنا بعد موته جودك كما في حياته

بحيث لا تنسى بعد موته عهده وأقسامه.

لا تبيِّن لنا أنَّ سراج أبيك انطفأ من قدَّامك.

وهذا النور الذي حجب نفسه فيك تُقبَل شعاعاته.

40        فحتّى موتنا لا يفارقنا الهوان الذي سيطر علينا.

وحين تهمل عقابنا، تصطك ركبنا وظهورنا.

وبدل تعريتك في البرِّيَّة أنت تلبس الحرير معطفًا.

ولأنَّك احتملت القيود القاسية وُضع خاتم الملك (في يدك).

ولأنَّ الأغلال سقطت على رجليك رُميَت القلادة في عنقك.

45        ولأنَّنا أخذنا ثمنك، يا أخانا، ها أنت اشتريتنا من الشدَّة.

ولأنَّنا ألقيناك في جبِّ خرب ها أنت جالس على المركبة.

فما أعدل حكمك وما أعظم كرامتك!

ما تركناك لتكون معنا راعيَ غنم.

وُهب لك اليوم أن تدبِّر الرؤساء والأشراف.

50        ولم يكن من اللائق أن تبقى حكمتك مخبَّأة في الجبل.

وربَّما فعلنا حسنًا حين بعناك بحيث لا تُسمّى بعد راعيًا.

ولم يكن واجبًا علينا في البرِّيَّة أن نكون من الساجدين لك.

إلى أين بلغ إكرام عشرة رجال بالعدد؟

ها نحن أرسلناك من البرِّيَّة لتأتي إلى الجموع الكثيرة،

55        ونقدَّم لك طلباتُنا مع الآلاف وقدَّام الآلاف.

فمن يشبهك حين تحكم وتكون رحيمًا على قاتليك.

ومن مثلك بين القتلى يدين ويُحيي قاتليه.

وليس مثلنا بين القتلة إلاَّ قايين القاتل.

وما من غافر مثلك بعد أن صوَّرت سرَّ ربِّنا.

60        طبيعتك الصالحة لا تقدر أن تعود وتكون مثلنا.

هبْ جوابًا حسنًا فتفرح قبالتك الجماعة.

كن أخًا وأبًا ثانيًا ولا يسقط رمزك قدَّامنا.

فنحن العبيد وأنت لنا السيِّد فاقتنِ الرحمة وهب الغفران.

ولو لم تبيِّن موهبتك لما كان حنان على شرِّنا".

 

فأجاب يوسف

65        ففتح يوسف فمه وقال: "لا ترتهبوا من هذا

حاشا لي أن أطالب بأمرٍ مرَّ عليه الزمن.

هو عمل الله، لمن منكم تدعونه.

فالعجيبة أعظم منكم لا تضعوها وراءكم.

فمن أجلكم وأجل أبنائكم نزلت وأتيت إلى مصر.

70        لئلاَّ تتناثر أوراق جفنةِ يعقوب الشيخ من الجوع.

أبونا ولد وربَّى وأنا أعول وأقوت.

ورَّثني إيمانه وفيكم أراح إرادته.

وأُقسم بنفس يعقوب التي هي إكرم من كلِّ شيء،

بأنِّي أسكت وأتغاضى ولا أنتقم لأنَّكم بعتموني كعبد".

75        فلمّا سمع إخوة يوسف هذا الكلام تشجَّعوا،

لأنَّه حلف بآبائه الأبرار أنَّه لا يطالب بذنوبهم.

وهكذا كانوا في مصر زمنًا كثيرًا بعد يعقوب،

أقاموا فيها إقامة الراحة في عهد يوسف الذي عرف الأمان.

 

ودنت ساعة موته

لمّا بلغ زمن موته وعرف أنَّه مثل أبيه

80        دعا نسله وبيت أبيه وأوصاهم وقال لهم:

"ها بلغ زمن انتقالي ووصلت النهاية وأتت.

فلحتُ الأرض فكانت الخيرات وفي مصر غرستُ البرّ.

رششتُ المراحم على الأشرار وعلى الأحياء أمطرت المراحم.

في التراب طمرتُ شرور الناس الذين جازوني بالبغضاء.

85        ليوم الارتحال هذا وضعتُ لنفسي هذه الدراهم.

حسنًا (فعلت) حين ابتعدتُ عن الشرِّ في عالم منه طُردت.

هذا نسل العبرانيّين لن يبقى هنا في مصر،

يخرجه الله كما وعد أبانا يعقوب.

في مصر، من بعدكم، لا تتركوا عظامي في القبر.

90        احملوها معكم في الطريق لئلاَّ تبقى بين السحرة.

أصعدوا عظامي من هنا إلى أرض أبينا يعقوب.

ولأنِّي منحت حقيقة إبراهيم أحلُّ في حضن إبراهيم.

أتمُّوا هذه الأقسام التي أقسمتم، يا أحبّائي

كما رأيتموني حيث سمعتُ لأبيكم".

 

فودَّعه إخوته

95        تقبَّل إخوتُه نصائحه وشرعوا يبكون هم أيضًا

"من أبينا حُرمنا وها نحن اليوم نُحرَم منك.

تتركوننا يتامى أيُّها الآباء المملوؤون رحمة.

فمن حمل نظيركم ثقل العبرانيّين.

حين مات يعقوب الشيخ أودعنا في يدك، يا أخانا

100      فمن يكون لنسلنا بعد أن تركَنا رئيسُ نسلنا

كان يعقوب الشيخ فيك حيًّا لأنَّ تشابيهه وُضعت فيك.

اليوم رقد يعقوب لأنَّك ترتحل أنت اليوم

بعد وفاتك، يا أخانا، انطفأت شمسُنا ملء الانطفاء

ربَّما السور الذي كان يحيط بنا سوف ينقض".

 

ورثوه

105      كان يوسف بين المصريّين تسعين سنة وثلاثًا

أمّا سنو حياة يوسف فكانت مئة وعشرًا كما كُتب.

ولمّا كان زمن موته ووقتٌ فيه ينتقل.

اجتمعت مصرُ كلُّها وكلُّ نسل العبرانيّين.

وبكوا بكاء شديدًا ذاك العقل المملوء فهمًا.

110      بكاه الملوك والنبلاء بعد أن حُرموا من سياسته.

بكته العبرانيّات برثائهنَّ الرخيم.

وبكته المصريّات بنغماتهنَّ الشجيَّة.

 

"امضِ بسلام أيُّها المدبِّر يا من اشترانا من فم الموت.

تفتقدك مصرُ كلُّها لأنَّك سندتها مثل عمود.

115      ويل لنسل العبرانيّين الذين يطلبون أيّامك.

ساروا فيها (مصر) مثل أسياد وها موتك أذلَّهم.

يطلبك نبلاء مصر الذين تعلَّموا منك الحكمة.

يطلبك الرؤساء أيضًا لأنَّهم اقتنوا منك الرصانة.

لتكن لك مصر أمًّا ولنسلك مثل وحيدٍ لها.

120      لأنَّك مشورتك الحكيمة وهبتَ الحياة لأبنائها.

موتك يرتدُّ عليها لأنَّ مواتها بُعث بك.

كانت عليلة وأنت قوَّيتها، مرميَّة وأنت أقمتها.

كانت مهدومة وأنت ثبَّتها، محتقرة وأنت رفعتها

بك استنار ظلامُها بل اغتنى فقرُها.

125      وهبت لها الطوبى الأراضي، البعيدة منها والقريبة.

طوباها مصر التي استحقَّت أن تمتلك مثل هذا المدبِّر.

ارتوينا من الحزن لأنَّك ما امتلكت غنى واحدًا.

بصورتك هذه المملوءة خيرات عظَّمتَ الآخرين.

أيَّ فم نسأل لنا لنقول به أعماله.

130      فأنت خلَّصتنا من الجوع ومنعتَ الضيقات عنّا.

كما باركك يعقوب، باركنا أنت أيضًا يا يوسف.

ها بلغت ساعةُ انتقالك فأودعنا فيها في يد الله.

أترك للمصريّين السلام وللعبرانيّين البركات".

 

كلُّ الجموع المجتمعة كانت جوقًا واحدًا للصلاة

135      وإذ كانت تروي هذه الأمور وتضيف إليها أفضل منها

بسط يوسف البارُّ رجليه وأسلم روحه لله.

فاقترب إخوتُه وسقطوا عليه وهم يبكون بكاء شديدًا.

"اذهب بسلام، يا سترنا ويا سورنا داخل مصر

بارك أفرائيم ومنسّى ليكونا ابنيك نظيرنا.

140      فرحتَ لأنَّك مضيت إلى يعقوب ونحن تضايقنا لأنَّنا فقدناك.

في هذه الساعة، ساعة انتقالك، صلِّ إلى إلهك وأطلب

لئلاَّ يتركنا الله بين المصريّين، بعد موتك.

 

يكفينا حتّى الآن ما روَينا عن موته.

فهو عظيم وبارٌّ ومجيد جلاله، فمن يقدر أن يقول خبره.

145      وفي خاتمة حياته ينبغي علينا أن نرتاح الآن ونسهد كلمتنا.

يصعب علينا أن نقيس الهواء كما يعسر علينا أن نحيط به.

وما قلناه قليل من كثير فهكذا استطاع تفكيرنا.

توقَّف عقلنا لأنَّه غلب العبد واشتهر البارُّ الذي امتدَّ خبره.

فلا تسخط علينا يا ربّ لأنَّنا استخففنا بأخبار العبد

150      فهب لي قوَّة بيمينك لأتشدَّد فأكتبها.

وتتعلَّم ذراعاي أن أسبِّح وأغوص في بحر الأبرار.

وأشقَّ بقامتي الأغوار وأصعد منها التفاسير.

لكي أتلذَّذ معهم هنا في مآثر جهاداتهم.

فهب لي أن أتقبَّل هناك من نثار موائدهم.

وبصلوات البارِّ يطهر الآثم من إثمه.

155      ها هو يلقي نفسه ليرث ويأتي مناه واحدًا بمئة.

لتختفِ في ملابسهم النقائص البغيضة التي اقتنيت.

ولتُعالَج بصلواتهم القروح حين تجاوزت إرادتك.

المجد لتلك القوَّة الخفيَّة التي تُرافق في كلِّ وقت عبيدها

فلترافقني، أنا الخاطئ، إلى جيل الأجيال، آمين وآمين.

160      ولترافق الكاتب الخاطئ الذي تعب وكتب هذا الخبر

ولتفض المراحم على القارئين والسامعين. آمين(1).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM