القصيدة الحادية عشرة: موت يعقوب.

القصيدة الحادية عشرة

في موت يعقوب، كيف ومات وتوفِّي

انتهت قصَّة يوسف وها هما قصيدتان مضافتان. أمّا هذه فتتحدَّث عن موت يعقوب ودفنه. أحسَّ الشاعر أنَّه فقير فطلب أن يغتني لكي يستطيع أن يواصل الكلام. فتحدَّث عن طلب يعقوب من يوسف ابنه بأن يدفنه في أرض كنعان، حيث دُفن الاباء. وعد يوسف وأقسم. ثمَّ طلب البركة لابنيه منسّى وأفرائيم اللذين حسبهما يعقوب مثل رأوبين وشمعون: هما سبطان بين الأسباط الاثني عشر. باركهما يعقوب ثمَّ بارك يوسف قبل أن يبارك أبناءه كلَّهم ولاسيَّما يهوذا. وأحسَّ الأبناء أنَّ أباهم مائت فودَّعوه بالبكاء وطلبوا صلاته. ومات يعقوب فحنَّطه يوسف وعملوا له مناحتين، دامت كلٌّ منهما سبعين يومًا.

مسكين يطلب الغنى

في الرواية الأولى كتبنا عن يوسف

وفيها اختلط معنا ما مُزج في وجداننا.

أذهل الخبرُ السامعين وأكثر منهم القائلين.

أستسقى عقلي من نبعه حلاوة أسيرُ بها

5          فمن يهب للخاطئ أن يدخل إلى كنوز الأبرار؟

ومن يهب للمحتاج أن يختلط بين الرؤساء؟

في شروري لبست الرقيع وها أنا ألبس الحرير معطفًا.

وخطاياي جلبت لي الفقر وها أنا اشتهيت أثواب البرّ.

كيف يقدر المتسوِّل أن يكون قريبًا من الملك؟

10         وكيف يقدر الخاطئ أن يتردَّد بين الصدِّيقين؟

يا إلهًا عارفًا بالعقول، قوِّ وجداني الضعيف

أحببتُ مراحمك فتبتهل لكي أقترب إليك بأسبابها.

مملكة البشر ذهب نقيٌّ نفيس.

والمساكين بعيدون عن الأغنياء أميالاً بلا حدود.

 

15         أنت أيُّها الملك الحقيقيُّ، كلُّ وجدان عزيز إليك

إن كان نقيًّا من الإثم يتكرَّم في الملكوت.

حقيرٌ لك الذهب الضارُّ وترتاح للأفكار.

فما من مسكين إلاَّ ويقدر أن يقترب منك.

لكلِّ إنسان منهم وإن طلب لا يكون ظالمًا لك.

20         زد الفهم في وجداني لكي يتميَّزك ويكرمك

تعلَّمت أن أكرم حقَّك وأتذكَّره.

عرفتُ أنَّ آثامي كثيرة فتمسَّكت بالأبرار ملجأ.

طلبتُ أن أخدم معهم وأجد عونًا في أخبارهم.

 

طلب يعقوب من يوسف

عاش يعقوب بين المصريّين عشر سنين وأربعًا وثلاثًا

25         والمميَّز الذي يقرأ يعلم أنَّ في العدد ألغازًا.

فحين كان يوسف لدى أبيه لبث سبع عشرة سنة.

وبصلاة أبيه أرسل لكي يكون معه سنة كاملة.

أحزن أباه بذكرياته

والمصريّون أحصوا السنين بواسطة أفراحه.

30         "والآن إن متُّ، قال يعقوب لحبيبه،

أحصيتُ أفراحي التي بادت، فلا أموت لأنِّي رأيتك.

تعال، ادخل لديَّ يا ابني يوسف فأراك قبل وفاتي.

فأنت عكّازة شيخوختي، عليك استند وجداني.

عتقت حياتي ثمَّ تجدَّدت لأنِّي بك خلقتُ شبابي.

35         وها الله أتمَّ لي كلَّ ما وعدني به.

حين نزلت إلى مصر خفتُ من الله

فتجلّى لي في رؤية الله: هو ينزلني وهو يصعدني.

والله الذي يمتحن الجميع كشف لي وأراني أنَّه يريحني:

يوسف حبيبُك يضع يده على عينيك

40         في ساعة موتك.

شكرتُه وسبَّحته لأنَّه وهب لي ما طلبتُه.

رأيتُه كما في حلم وعرفت أنَّ الربَّ تكلَّم معي.

تأهَّبتُ وأتيت متَّكلاً أنَّ بك يصنع أفراحي.

قال لي: أنا أُصعدك وزرعُك من داخل مصر.

45         وبما أنَّ كلامه صادق لا يتركنا داخل مصر.

توسَّلتُ إليه قبل أن أموتَ فصنع لي بعد انفصالي.

وما دامت لي قوَّة الكلام أُريه ما أريد بسؤالاتي.

العبد الصالح الذي لا يرفض أقوالي بعد وفاتي.

 

ضع يا ابني يمينك تحت فخذي واصنع إلى أبيك نعمة

50         واحلف لي وأرح وجداني بأنَّك ستقبرني مع آبائي.

ولا تتركني بين المصريِّين بحقِّ من وهبك هذه العظمة.

أنتم لا تُبقَون هنا فلا تتركوني لديكم (في مصر).

انقلني لدى أبي إسحاق إلى قبر إبراهيم البارّ.

سعيتُ بحسب أعمالهم فأستريح على عظامهم.

55         هذا آخر ما أسأل فأتحقَّق أنَّك فاعله.

ومتى علمتُ هذا منك أغادر كلَّ شيء بلا أسف.

تمَّت كلُّ حاجاتي التي تريحني بين الجسديّين (المائتين)

إلى أن أقول لله: هب لي أجرَ فلاحي".

ثمَّ بارك ابنيه

سمع يوسف هذه الأقوال فحزن وفاضت دموعه.

60         "لا تحزن يا أبي الشيخ، حاشا لي أن أعصى إرادتك.

سوف أنقل شيخوختك إلى قبر أبيك إبراهيم.

فتستريح نفسك أيُّها البارُّ مع الأبرار الذين أحببت".

"بأقسام أطلب منك يا ابني يوسف، أرحْ شيخوختي.

وأنت مثلي تطلب أن ترقد في قبر أبيك.

65         كن متذكِّرًا الأقسام لتأتيك البركات وتُقبل إليك

من البارِّ ثمَّ انتقل. سمع يعقوب صوت ابنه

فاستقام وجلس على الفراش وامتلك قوَّة كبيرة،

لأنَّه سمع عن حبيبه: الله، إله آبائي

تكلَّم معي في أرض كنعان، وقال لي: أنا أكثرك

70         ومن زرعك تكون جموع. أمّا ابناك هذان اللذان ولدت

فيكونان في عدد الأسباط. أحسبُ أفرام مثل رأوبين.

ومنسّى مثل ابني شمعون. وإن وَلدتَ بعدهما

يتَّكئون باسم يوسف.

أمّا هذين اللذين شاهدت فأعدَّهما باسم ابني.

75         من أجل أمِّك التي تذكَّرتُ أطلب أن أذكرها قدَّامك،

بأنَّها ما كانت موضوعة في قبر آبائي الأمُّ التي ولدتك.

قبرها غير بعيد من أفراتة إلاَّ مسافة ميل واحد

والآن احسب مثل حكيم قوَّة أقوالي.

كما بارك يوسف

أجاب يوسف أباه وقال: "أصنع أيُّها الشيخ ما يريحك.

80         فافتح فمك وبارك ابنيَّ لأنَّك مرتحل لدى ربِّك.

ابنيَّ هذين اللذين رزقني الله بصلواتك

ولتحفظ بركاتُك من وهبتْهما لي طلبتُك".

فقرَّب يوسف ابنيه لكي يتقبَّلا البركات.

احتضنهما وقبَّلهما وفاضت دموعه على عنقيهما.

85         "ما كنتُ أظنُّ، يا ابني يوسف، أن أرى وجهك أنت أيضًا.

فأراني الله اليوم ابنين خرجا من صلبك.

الله الذي امتلك السماوات يُنمي ويكثر نسلك

وبك تقوى الشعوب المولودة من أعضائك.

والملاك الذي رافقني هو يرافق ابنيك.

90         ليكن اسمي باسميهما واسم آبائي بأبنائهما.

بعصاي عبرتُ النهر وهو وحده رافقني.

وعُدت وصعدتُ من حاران بالأبناء والمواشي.

تمسَّكت بالله ملجأي فوجدتك بقربي يا ابني.

وكما خدمناه أنا وأنت يشكره منسّى وأفرائيم.

 

وبارك أبناءه

95         ولمّا أكمل يعقوب البركات التي بها بارك يوسف،

أمر بأن يُدعوا إليه أبناءه لكي يباركهم كلَّهم.

ولمّا وصل إلى يهوذا، بيَّن قوَّة في بركاته.

يأتي لكي يبطل المُلك من العبرانيّين.

وإذ حبس أعمالهم رواها في بركاته.

100       ووصل إلى يوسف حبيبه فضاعف له بركاته:

"إله أبيك يعقوب يكون لك معينًا.

ويكثر لك البركات إيل شدَّاي الذي أحببتُ.

عرفتُ أنَّهم أبغضوك وأكثروا فارتدَّت قوسك بشدَّة.

فلم يتركك الله الذي كفاني إسرائيل.

105       وفي هذه الساعة التي أرقد فيها أُودعك وصاياي

فلا تنسَ بعد موتي الأقسام التي أقسمتَ لي.

ولا تفكِّر أنَّ إخوتك باعوك أنت أخاهم للتجّار.

وإن بقيت في هذا التفكير لا ينجون من الفزع.

فكرامتك لا تنحدر إن أنت لازمتَ أبناء أبيك.

110       بأقوال فمي يجتمعون ويجعلونك أبًا بدلاً منِّي.

 

ها التأديب الدائم يرافقهم بسببك

ولا يقولوا بعد موتي: أنت أكرمتَهم لأجلي.

فليتباهوا بنور شمسك وبضياء جمالك الشهيّ.

والأشعَّة التي من دائرتك لتمتدَّ على أعضائك.

115       لتعطك الأرضُ طيِّباتها، والسماء من بركاتها.

وبثمار الندى ينمو بسلام الابنان اللذان منك.

تكونون شعبًا عظيمًا كما الله وعدني.

سلِّموا ميراث حبٍّ لأبنائكم من بعدكم،

لتكن مشورتك حكيمة وليسمع لها صغار العقول.

120       وليكن بينهم زرع الاتِّفاق الذي هو سيِّد المحبَّة.

فترى مصر وتنشد إلفة أبنائكم.

فلا تحتقر الشعوب الغريبة زرع إبراهيم.

إبراهيم أبو إسحاق الشيخ أورث لابنه البرارة.

ولي وهبها إسحاق الشيخ وورثها أمامكم كلِّكم

125       والذي أدخلكم إلى مصر منها يُخرجكم.

وعدُه صادق هو، وعدني: أنا أصعدك

انقلوني واقبروني هناك في قبر أبينا إبراهيم.

فأختلط مع آبائي، سارة وإسحاق وإبراهيم.

أقمتُ في الأرض غريبًا مئة وسبعًا وأربعين سنة،

130       فانتقالي ليس بشيء إن بقيتُ في هذا العالم.

وكما وصاياي اليوم هكذا تُفرحون أبناءكم

وباركوا أنتم أبناءكم مثل بركاتي الحسنة".

 

وودَّع الأبناء أباهم

وبعد أن أنهى يعقوب الشيخ وصاياه وبركاته،

تأثَّر أبناؤه ألمًا من كلماته وذرفوا دموعهم.

135       الموكب كلُّه اغتمَّ لأنَّه يُحرَم من الشيخ

واجتمع العبرانيُّون كلُّهم ليشاهدوا موت الصدِّيق.

كلُّ إنسان بادر فطلب أن يكون أوَّلَ من ينال البركة.

كلُّ واحد أمسك ابنَه بيده ليدخل ويأخذ الذخيرة.

فتح الصدِّيق فمه فلبس السامعون الأسى.

140       "اذهب بسلام أيُّها المجدُّ الذي تعب منذ حداثته.

في كلِّ أرض ما تركته (= الله) في كلِّ بلد كان رفيقك.

امضِ بسلام يا والدنا إلى الله الذي خدمتَه.

امضِ بسلام أيُّها البارُّ فيك تُصان جماعتنا.

امضِ وارتح من عنانك، طال تعبك على جسمك.

 

145       ها هو إبراهيم يفرح بك وإسحاق يخرج للقائك.

في القبر تزداد فرحة الأبرار حين يرون جثمانك.

طوبى للموتى الذين يشاهدونك، والفزع للأحياء الذي يتخلَّون                         عنك.

أنت تحلُّ في الراحة وتتركنا نحن بين المتاعب.

انفصلتم عنّا، يا أبرار، وأنتم ثلاثة عواميد.

150       غادرتم جماعتنا التي تعمل منذ الان يتيمةً

ابتهلوا معنا في قبوركم على ذنوب كانت لنا.

أدعيتُكم تستجاب مثلُ أحياء حقيقيّين

تركتم لنا عمودًا واحدًا فاطلبوا الآن ليبقى قائمًا.

عمودُنا أخونا يوسف وهو يحملُنا مثلكم.

155       وإذا حصل له وغضب، فأنت أرضه بضراعتك.

ولأنَّه صنع كلَّ راحة كبيرة فلا يضيَّق (علينا) بعد موتك.

أنت أنزلتنا إلى مصر وبسببك نلنا الكرامة.

ولأجلك أيضًا أهمل يوسف ذنبنا وصفح.

موتك اليوم، يا أبانا، موتٌ لفَّ رأسنا

160       ما خدمنا لنكون يتامًا وهو اليوم حضر اليتم وأتى.

من يكشف لنا إرادة الله،

يوسف هو ابنك الحبيب يملأ مكانك، يا أبانا.

حين أتى لابان علينا، صلاتك حفظت معسكرنا.

ولأجلك ما تركه الله يسيء إلينا.

165       وأتى عيسو للقائنا متوعِّدًا أربع مئة رجل.

فكانت طلبتك حصنًا في داخله استترنا".

 

وسلَّم يعقوب روحه

وإذ كانوا يبكون وينتحبون ويتوجَّعون وينسحقون

بسط يعقوب الشيخ رجليه وأودع روحه بيد إلهه.

أسرع يوسف وأغمض عينيه ولكي يحنِّط أباه الشيخ

170       لكي تتمَّ الكلمة التي قيلت: يضع يوسف يديه على عينيك.

"أشكرُ الله الذي ما حرمنا من هذا الوقت

فأستقبل في هذه الساعة كلَّ احتياجي واتِّكالي.

عظيمٌ هذا للآباء وهو حبيب للأبناء.

بأن يكفِّن الأحباب الشيخوخة التي انفصلت (عنهم).

175       أيُّها البارُّ الذي ابتدأ وانتهى وحفظ برارته زاهية،

من يقدر مثلك أن يمارس برارتك في أعماله.

ومضوا فدفنوه في كنعان

أمرَ يوسف فتوقَّف البكاء وأبطل إخوتُه النحيب

أرسل في الحال فجاء بكلِّ عبيده الأطبّاء.

وجلب لجسم (أبيه) العذب المرَّ والعطر الثمين

180       حنَّط يعقوب كما يليق بالملوك الذي حُنِّطوا

وصنعت له مصر مناحة فاقت مناحة أبنائه.

لأجل يوسف وكرامته أكثروا الأبَّهة للشيخ.

ولمّا كملت السبعون يومًا من الحزن الذي صنعوه لأبيه.

طلب يوسف أن يبرَّ بقسمه الذي أقسمه قبل أن يموت (يعقوب).

185       بيَّن لفرعون إرادة يعقوب الشيخ وملتمسه.

طلب منه أن يأخذ أباه ويقبره في أرض آبائه.

فأمر فرعون أمرَ حبٍّ: "اصعد يا يوسف بسرعة

لئلاَّ تخطأ قدَّام إلهك فتَتمَّ راحةُ أبيك.

وخذ معك نبلاء مصر ورؤساء مملكتي كلِّها.

190       مثلك الشيخوخة التي ولدتك تستحقُّ أن تكرَّم من الجميع".

فجلس يوسف في المركبة وربوات من الناس معه.

دخلوا أرض كنعان وانتهوا إلى موضع قبر إبراهيم.

وصنعوا أيضًا مناحة سبعين يومًا في أرض الكنعانيّين.

ووضعوا عظامه على عظام آبائه الأبرار الذين أحبَّ

195       وأتمَّ يوسف قسمه الذي قسمه ليعقوب الشيخ.

فمن عمل هكذا يصنع راحة لأبيه

أكثر وأكرمه في حياته وفعل إرادته في موته.

ومن ولد مثل يعقوب حتّى يُكرَّم نظيره.

فالأب الصالح كافأه ربُّه بولد، بنعمةٍ منه

200       فالمجد لله ربِّه منّا كلِّنا. آمين وآمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM