القصيدة العاشرة: إبلاغ البشرى إلى يعقوب

القصيدة العاشرة

حين نقلوا الخبر الطيِّب إلى أبيهم يعقوب الشيخ

مع هذه القصيدة العاشرة، خفَّت قوَّة الدراما بعد أن عرَّف يوسف بنفسه. أرسل يوسفُ إخوتَه إلى أبيهم بعد أن ودَّعهم متأثِّرًا. ولكن كيف يُبلِّغ الإخوة أباهم أنَّ يوسف حيٌّ بعد أن كذبوا عليه؟ ولكنَّ فرحهم حين وصلوا إلى البلاد أنساهم هواجسهم، وتولَّى يهوذا الأمر: أوَّلاً قدَّم بنيامين الذي كفله، ثمَّ أمر إخوته بأن يلبسوا الحلل الملوكيَّة. رأى يعقوب الحلل، فسأل فأخبروه بأمر يوسف، ولكنَّه لم يصدِّق في بادئ الأمر، ولكن حين تسلَّم الفضَّة، وبَّخهم أباهم على فعلتهم الشنيعة حين باعوا أخاهم. ولكن لا مجال لإضاعة الوقت. ومضى يعقوب إلى بئر سبع، فقدَّم ذبيحة وأتى الله إليه في الحلم ودعاه للذهاب إلى مصر، وهناك سوف يَكثر نسله. وهكذا وصلوا إلى أرض جاسان، فاستقبلهم يوسف في ثياب الملك. والتقى الموكب الآتي من كنعان بذلك الآتي من مصر. وكان لقاء مع فرعون، ثمَّ سكن إخوة يوسف في أرض جاسان. وهكذا أنهى الشاعر قصَّة يوسف كما قال، فأنشد المجدَ للآب والتعظيمَ للابن والحمدَ للروح.

إبلاغ البشرى إلى يعقوب

وحمّل يوسف اخوتَه البشرى

حين خرج العبرانيّون من مصر بعد أن تزوَّدوا،

خرجَتْ معهم الجموعُ لكي تواكبهم بسلام.

«امضوا بسلام أيُّها العبرانيّون، وعودوا إلينا عاجلاً.

ليُذكرْ نسلكم، أيُّها الناس، أيَّ رجل أرسلتم إلينا؟

5          أَحضِروا أباه عاجلاً، ليأتي ويرى يوسف في هذا المجد.

فإن كان شيخًا يعود فتًى برؤية ابنه الحلوة».

بلغ الوقت حيث يبقى المصريّون، وينطلق العبرانيّون في الطريق.

ففاضَتْ دموع يوسف حين افترق إخوتُه عنه.

اقترب يوسف من بنيامين، وضمَّه مدَّة طويلة:

10        «بلِّغ السلامَ إلى أبي يعقوب، يا ابن راحيل، يا من وجد أخاه.

أخبرْ أباك عن الكرامة التي لأخيك بين المصريّين.

وإذا سمع عن رفعتي يتقوّى ويأتي إليَّ».

واقتربوا كلُّهم وتوسَّلوا إلى أخيهم الذي أذنبوا إليه.

«أُثبتْ على مواعيدك بحقِّ من وهبك هذه العظمة.

15        بالله الذي أراك أخاك، والذي سيريك أباك يعقوب،

لا تذكرْ لنا ذنبنا وامحُ الإثمَ الذي فعلنا».

«حاشا لي أن أجازيكم على الشرِّ الذي صنعتُم بي،

لئلاّ تتضايق إرادةُ الله الذي كان رفيقًا لي».

 

ولكن كيف يوصلوها

بعد أن فارقوا مصر، شرعوا يفزعون من يعقوب:

20        «ماذا نقول لأبينا، وبماذا نبرِّر نفوسنا قدَّامه؟

إن قُلنا له الأمور الكاذبة، يُعلمونه بالأمور الحقيقيَّة.

فليس هناك من حيلة بها نخبِّئ كذبنا.

إن قلنا: ما بعناه، يُعلمونه أنَّنا قيَّدناه.

ونقول: ما احتقرناه، فيُعلمونه أنَّنا عرَّيناه من ثيابه.

25        في مصر، يوسف حنَّ علينا، ويعقوب ربَّما يلعننا!

لا نقدر أن نقف قدَّامه إن تشدَّد غيظُه (علينا).

كُشف احتيالُنا وأُعلن مكرُنا.

هذا القميص الذي أوصلْنا إليه، يشتُمُ وقاحَتنا.

أريناه القميص وكأنَّ أخانا قُتل.

30        إن قلنا ابنُك يوسف يطلبك (لتقيم) بين المصريّين،

فأيَّ جواب نقدِّم حين يسألنا كيف دخلنا.

سهلٌ علينا وهيِّن أن نقول له: يوسف حيٌّ باقٍ،

ولكن صعب علينا أن نبيِّن له الأحداث التي حصلَتْ لأخينا».

 

فأجاب يهوذا وقال لإخوته: «لا تضطربوا لأجل هذا الأمر.

35        فأبونا بارّ، وحين يسمع يندهش لهذا الأمر ويقول: هذا من

لدن الله.

فلو أذنبنا إلى أبينا ربوات الشرور والخطايا،

فهو يغفرها لنا كلِّها، حين يسمع أنَّ حبيبه يوسف حيٌّ باقٍ.

وإن بشَّرتُه، اتَّخذتُ البركات عن لسانه.

هو حَسبَ يوسفَ كأنَّه ميت، وأنَّا أبعثُهُ كأنَّه حيّ.

40        نطلب هذه البشارة فيقول لنا بلسانه:

وإن أذنبتم إليَّ يا أبنائي فالله يصفح عنكم".

فلو حصل وتخلَّينا عن بنيامين بسبب الكأس،

لكان هذا شرًّا يفوق كلَّ الشرور السابقة.

له ذوقه وخبرته، وله حكمتُه وفهمه.

45        ما من إنسان في الخليقة عظيم مثل أخينا يوسف.

أعطيناه درجة محتَقَرة، فصعد إلى كرامة عالية.

من عند أبيه إلى الغنم، ومن عند الغنم إلى التجّار.

ومن التجّار إلى داخل مصر، ومن العبوديَّة إلى المركبة الملوكيَّة.

حسبْنا أنَّنا بعناه وأسلمناه إلى العبوديَّة،

50        مدَّت العبوديَّة نفسه فداست قدماه الأحرار».

 

وبلغوا أرض كنعان

راحوا في الطريق كلِّها يتحدَّثون على عظمته،

وعن حكمته وفهمه، وما اقتناه بواسطة فهمه.

وحين بلغوا أرض كنعان حيث يُقيم يعقوبُ الشيخ،

فرحوا وأتوا مثل أناس وجدوا أخاهم يوسف.

55        وكانوا يتنازعون فيما بينهم: من يدخل الأوَّل؟

طلب كلُّ واحد منهم أن يحمل البشرى:

دخل الخبر إلى يعقوب الشيخ أنَّ زمرة أبنائه وصلت.

ترك كلَّ أبنائه وعلى بنيامين سأل.

وأتت العجلات التي أرسلها فرعون وراء زمرتهم،

60        يلازمها مصريُّون عارفون بفنّ (القيادة).

حلُّوا الأحمال عن دوابهم، وأسرعوا فدخلوا

ليبشِّروا أباهم على يوسف وعلى بنيامين.

انتظر يعقوبُ البشرى إن كان بنيامين عادَ،

ولم يُدرك في الحال أنه سيسمع البشرى عن يوسف حبيبه.

65        وقالوا كلُّهم الواحد للآخر أن يسلِّموا الأمر إلى يهوذا:

«هو كان لنا فمًا في مصر، وهو يستعطف أبانا يعقوب.

لا نرمِه بين يدي الكثيرين، لئلاَّ تقع البلبلة.

يهوذا أخونا حكيم، وهو يمهِّد لنا الطريق.

وهو كفل بنيامين ويتباهى بأنَّه عاد معنا.

70        فيكلِّمه بثقة، لأنَّه ردَّ إلى أبيه عاريته».

 

ودخلوا إلى أبيهم

دخلوا كلُّهم وسجدوا له، ويهوذا في رأس زمرتهم.

وقرَّب إلى أبيه بنيامين كقربان الأفراح:

«يا أبي يعقوب، إقبلْ من كفيلك ما استعار منك:

فالربا الذي جئتُك به يغلبُ رأسَ المال.

75        كفلتُ لك واحدًا من ابنَي راحيل لينزل معنا إلى مصر،

وعادت مصر فوهبت لنا ابن راحيل، الأخ الآخر.

فالله ما (أراد أن) يضايقك بعد أن اتَّكلتَ عليه،

وها نحن أتينا بالصغير عزاء لشيخوختك هذه».

فترك الشيخ أبناءه وأمسك بنيامين وعانقه:

80        «تعالَ بسلام، يا نورَ عينيَّ، رأيتُك فجبرتَ خاطر أبيك.

فضُمَّني إلى صدرك، واشفِني من جرح أخيك يوسف.

مبارك الربُّ، هو ما تركني أنزلُ إلى القبر حزنًا عليك!

مبارك أخوك يهوذا، ما أرخى بك الأيدي!

فما رجع وأتى ببنيامين، بل صعد معه شمعون أيضًا.

85        في مثل هذه الساعة التي عدتُم من البرِّيَّة من دون يوسف،

هكذا تألَّمتُ على شمعون الذي بقي لدى المصريّين.

تضايقتُ على بنيامين، وها إلهي شاء وأعيد.

بقيَ الهمُّ على يوسف، فمتى يعبر هذا الهمُّ؟

فيا إله سيِّدي إبراهيم، أعبرْ عنِّي عار حبيبي.

90        وإن كنتُ لا أقدر أن أراه، انزع من فكري حزني عليه.

ولا تطلق قليلاً قليلاً النفس التي صعدَتْ عليها الضيقات.

فإن هو حيٌّ فهبْ لي أن أراه، وإن هو ميت امحُ الحزنَ عليه».

 

وتكلَّم يهوذا

«افتحْ فمك يا يهوذا، وقلْ لأبيك على يوسف!

ولتكن كلمتك عمودًا فتستند إليه شيخوخةُ أبيك».

95        «دخولنا مليء بالأشجان، ببكائه نقابل أشجاننا.

وحينئذٍ أزرعُ في أذنيه خبرًا يريح شيخوخته.

ولا يقيم أذنه فيسمع لنا في وقت دخولنا.

فحين يسكن الاضطرابُ لديه، تخرج الكلمة لراحته».

«أنا كفيل بنيامين، قال يهوذا لأبيه.

100      هل لي أن أفتح فمي بعد أن أتممتُ كفالتي؟».

ففتح يعقوب فمه وقال: «لتكن مباركًا يا يهوذا

وليكن فمك حكيمًا ونبعًا يُجري مياهَ الحكمة.

لينمُ سبطُك على أسباط إخوتك، فلا يدرك عدَدَهُ إنسان.

وبقدر ما فرَّحتني، ليكثرْ زرعُك ويُبارَك».

105      «يا أبانا الشيخ، صادفنا حدثٌ عجيب بين المصريِّين،

ونحن أضعف من أن نرويه لك، لأنَّه حدث عجيب من عند الله.

يراه إنسان فيظنُّ أنَّه أمر بشريٌّ،

أمّا البارُّ فإذا رآه تأكَّد أنَّه من الله».

«كنتم أحد عشر أخًا وها أنتم عدتم أحد عشر.

110      فما هو هذا الحدث العجيب الذي يصعب عليك جدًّا أن                                                                                                        تخبر به؟»

 

فقال يهوذا لإخوته: «امضوا، يا إخوتي، واخلعوا ثيابكم،

واكتسوا الثياب الحلوة التي وهبها يوسف لكم.

وحين يراكم (أبوكم) لابسين يسأل: من أين لكم هذه الملابس؟

حين يرى الملابس الحلوة تقولوا له في ذلك الوقت:

115      هذه من يوسف حبيبك». ولبث العبرانيّون لابسين،

ومنتظرين الشيخ أن يراهم حتّى إذا سأل كشفوا له الحقيقة.

 

وسأل يعقوب الشيخُ

ففتح يعقوب البارُّ فمه وسأل أبناءه قائلاً:

«من أين لكم هذه الثياب التي لا تليق إلاَّ بالملوك؟

كنتم أحد عشر وأشهر السنة هي اثنا عشر.

120      ومثل شهر نيسان، هكذا يُطلَب يوسف بينكم.

من الذي كساكم، يا أحبّائي، بهذه الحلل؟

ولأيِّ سبب اتَّشحتْ أجسامُكم بهذا المجد؟»

فردَّ يهوذا وإخوتُه الجواب وقالوا ليعقوب:

«ابنك يوسف زيَّننا بهذه الزينة الحلوة.

125      لأجلك حفظ إلهُك حبيبَك في الحياة.

هو جُعل سيِّدًا على مصر وآمرًا على المملكة.

ذلك الرجل الذي حسبَنا جواسيس، هو يوسف الذي امتحننا.

وذاك الذي فصل شمعون عنّا، هو الذي أرسلنا بالحدو والغناء

فاذكر يا أبانا أنَّنا أخبرنا عن عظمته قدَّام شيخوختك،

130      وعن محبَّته وعن حكمته وعن سلطانه وملكه.

فأنت تحمل ثقل الحزن عليه، ومصرُ تحمله وتزيِّحه.

فابنك جالس كالملك الثاني، وأنت تبكيه كأنَّه مفقود.

انظر الملابسَ التي ألبسَنا، كم هي مجيدة ونفيسة!

عبيد ابنك الذين في مصر يغلبوننا بملابسهم».

 

135      سمع يعقوب الشيخُ هذه وما انحدر لكي يصدِّقه.

«لعلَّكم تروون أحلامًا، وها أنتم تهتفون ليوسف.

أَذكرُ قميصه الملطَّخ والمصبوغ بالدم.

صرختم على وحش (افترسه)، ودمه أعلن موته.

ربَّما رآكم ساحرٌ وأنتم بسيطون أغبياء،

140      فشُبِّه لكم مثل يوسف وترككم مثل الجهّال.

من هذين الأمرين اللذين قلتُ، واحد منهم ليس بكاذب.

أو أنتم تروون أحلامًا أو أضلَّكم السحرة».

«أمِّنْ لنا وصدِّقنا، لأنَّنا لا نتكلَّم أمورًا كاذبة:

حبيبُك يوسف هو حيٌّ، وسوف تراه وتتعزَّى به.

 

145      «لا نلومك يا أبانا، لأنَّك لا تريد أن تؤمِّن لنا،

فليس الأمر بحقير لكي تصدِّقنا بسرعة.

ثلاث مرّات قال لنا: أنا، أنا يوسف أخوكم.

ومن الدهشة التي سيطرت علينا، ما صدَّقناه فورًا.

والساحر الذي يمسك العيون، لا يُرسل المركبات.

150      وإن كان فنُّه مكرًا، فهو لا يدعوك بارًّا.

فهذه مركباته أُرسلت إكرامًا لك.

ولماذا نكثر لك الكلام، فإنَّ قلبك سيراه فعلاً.

وأَمَرنا أن نوصلها إلى أبينا، ولا يلبث عاجلاً أن يأتي إليه،

وها هو أَرسل معنا للطريق، زادًا على عشر أُتن.

155      يجب أن تؤمِّن للأحلام إن كنت لا تصدِّقنا نحن.

فالأحلام سبقت القميص والدم الذي عليه.

وإنَّ جوقنا نزل إلى مصر إنجازًا لأحلام أخينا،

وهذه الحزم التي كان يراها، نزلت وانحنت قدَّامه.

خفنا بسبب أحلامه وما (استطعنا) أن نهرب ممّا كشَف لنا

160      فذاك الذي زارنا بجانب الغنم، قبلناه في مصر».

فأتت على بال يعقوب أحلامُ ابنه فتعزَّى،

وقال: «الله قادر أن يكرم من يحبُّه،

وربَّما أراد فأتمَّ نعمته هذه مع عبده.

ووهب لي أن أرى حبيبي فأنتقل بسلام من (هذه) الحياة».

 

فقرَّبوا له الفضَّة

165      وقرَّبوا له بعد ذلك الثلاثمئة من الفضَّة التي أرسل إليه،

وخمسةَ أزواج الملابس التي وهبها (أو: سلّمها) له أخوه بنيامين.

وأمَّن لنا (بل: لهم) يعقوب، وصدَّق أنَّ يوسف ابن راحيل حيّ.

ارتاحت روحه التي تألَّمت، وشكر الله وسبَّحه.

وقام الشيخ مثل جبّار و (وهبّ) العتيقُ مثل فتى أمرد.

170      الحصنُ الذي ضَعف بُنيَ، لأنَّ يوسف كان صانعه.

فتح فمه وقال لحزنه: «اهرب عني أيُّها الغُّم لأنَّك قتلتَني.

اليوم أنا أخلعك بعد أن كنتَ لي كساء، السنينَ الطوال.

قلْ لي الآن، يا بنيامين: أين التقاك أخوك؟

هل عرفك حالما رآك، أو تميَّزك بعد وقت؟

175      وماذا شابَهَ قلبُه حين قابلك في الغربة؟

كنت اشتهي أن أراكم، والواحد يُقبل إلى الآخر».

«أنا أصغر من أن أروي لك الهبة التي وُهبَتْ لي:

بها ارتفعت صنائعي وبدأ العزاء لك.

رأيتُ أخانا حين نزلتُ، فاتَّقدت أحشائي حين قابلته.

180      أحببته حبَّ الأخ، وأنا ما كنتُ أَعرفه بعد.

لم يكن لي أخ في إخوتي، فأخذتُ أخًا لي في مصر.

وبمشورة الأخ الذي أمتلكُ، يتدبَّر فرعونُ الملك.

فهو ينتظرك منذ الآن، لأنَّ عينيه شاخصتان لمرآك.

فمرآك يا أبانا أعظم له من عظمته كلِّها.

185      وإن شاء الله أن تنزل لديه إلى مصر،

تسمع أنت من فمه الخبر الذي عذَّبنا به.

يَجمل به أن يقول لك بأيِّ حيلة عمل.

فالفم أضعف من أن يخبر كم من الآلام حصلت لنا».

 

وسمع يعقوب وتساءل

وسمع يعقوب كلام ابنه فأجرى الدمعَ من عينيه:

190      «مبارك من جاءني بالخبر، فبعثني من الموت بواسطة أبنائي.

أمُّك راحيل، يا بنيامين، قامت اليوم من القبر.

لم يعد لنا ميت مطمور في القبر لأنَّ مصر بعثت يوسف

(من الموت).

تضاعفت أفراحي وتكاثرت، اثنان حصلا اليوم لي.

بهذا الذي سمعت أنَّ (يوسف) بُعث (حيًّا) والذي شدَّدني

في الإيمان

195      حياة الأموات بعيدة، ولكنَّها اليوم سبَقَتْني.

إبراهيم مضطجع في قبره، فرُئيَ الانبعاثُ في أبنائي».

 

«هل أخبركم يوسف كيف دخل إلى مصر

وهل كشف لكم (سرَّ) قميصه، ولأيِّ علَّة نُزعَتْ عنه؟

ربَّما لكي يكرَّم إكرامًا، وهذا يصعب تصديقه

200      أو ربَّما أخذه أناس منه وتركوه عريانًا.

وإن كانوا اشتهَوا جماله (= القميص)، فلماذا ملأوه نجاسة.

إذا عرفتُم منه الحقيقة لا تُخفوا عنِّي هذا الأمر العجيب.

فمِن كلِّ سكّان الأرض صادفتُم القميص وحدكم.

من الذي تقبَّل ثوبه وطواه وحفظه إلى أن مضيتم إليه؟

205      فالذي عرَّاه وتركه حيًّا (كان عمله) منَّةً منه:

كيف ترك القميص القصير نصيبًا لآخر؟».

 

فأجاب يهوذا

فأجاب يهوذا وقال لأبيه: «أيُّها البارُّ، كما أنت حكيم!

وأفضل من فهمك، غنى إيمانك.

سُمع من فمك أنَّ هذا الفعل هو من الله.

210      وها أنا أكشف لك الأمرَ كلَّه: الله فعله بأيدينا.

هذه البشارة (التي نحملها) في دخولنا تهبُنا في عينَيّ أبينا

أن لا يتلظَّى وجدانُك بسبب آثامنا فتشتمنا.

فحسابُنا كلُّه كان جاهلاً ودنيئًا.

اجتهدنا بأن نُبطل الأحلامَ التي بيَّنها الله:

215      قصَّها علينا يوسف، فأغاظ كلامُه وجداننا.

فبالحزَم التي سجدَتْ له، أخبرَنا لكي يعذِّبنا.

ثمَّ عاد وسحق روحنا بما قال لنا عن الشمس.

بالشمس سوّاك بنا، فشقَّ علينا أنَّه خلطك معنا.

ما اكتفى بالإخوة، فطلب أن يُخضع الأبوين.

220      فغمُّنا وغيرتُنا كانا علَّة قبائحنا.

الملاك قسم لك الوقار، وهو الذي تَحارَبَ معك وقُهر.

الملائكة انحدرت إلى وقارك، وابنُك تجاسرَ واستهانَ بك!

أشفقنا على شيخوختك لئلاَّ نرى أبانا يُحتقَر،

والفتوَّة خفيفة فلا تبصُّ في الأعماق.

225      وحين أرسلتَه إلى الغنم، أتى لنا فوجدنا:

طلبَنا واعتنينا أن نقتصَّ ممَّن احتقرَكَ.

فألقيناه في الجبّ، في البرِّيَّة، لأنَّه تعالى على برارتك.

تشاورنا وأصعدناه من الجبِّ، لئلاَّ نُخطئ ضدَّ استقامتك.

ولئلاَّ نقتل أخانا يوسف، تشاورنا الواحد مع الآخر:

230      نبيعُهُ للتجّار النازلين إلى مصر.

ولكي لا يعرف التجّار أنَّه أخونا فيتركونه،

كنّيناه باسم عبد لكي نغويهم بالثمن

 

«فأينما تنظر يا أبانا، هي إرادة ربِّك:

فعلَ الله بأيدينا فعلاً أقسى منّا.

235      أخذنا قميص أخينا وضرَّجناه نحن بالدم،

لنطغيك أيضًا، بصناعتنا، عن الطريق الذي نهجَهُ شرُّنا.

لكي تظنَّ بالدم المرمي على الثياب أنَّ رجلاً قتله.

لا يأتِك فكرٌ أنَّنا أبغضنا ابنك،

ولو أنَّنا ما وجدناه لما بيَّنا لك اليوم (عملنا).

240      تميَّزنا أنَّ هذا من الله، وقلناه قدَّامك أيُّها المختار.

أخونا يوسف تجاوز (على أثمنا)، لأنَّه منك تعلَّم البرارة.

وبما أنَّ المعلَّم غفر لنا، فالمعلِّم لا ينتقم منّا.

أخطأنا إليه فأقسم لنا: لا أذكر ما صنعتم.

ولأنَّ البرارة هي منك، بها يُعالَج ذنبُنا».

 

يوسف غفرَ ويعقوب غفرَ

245      فتح الشيخ فمه وقال: «يا أبنائي، فعلتم جنحة كبيرة.

فالبرارة تشكوكم، لأنَّكم أحدرتموها إلى العبوديَّة.

أنا أترك هذه كلَّها، ولا أذكر ما حصل لي.

فإن كان الله غفر لكم، فأنا أفرح معه.

والآن أتجاوز (عن إثمكم)، لأنَّ ابني يوسف ما طالب به.

250      وأُقلِّل كلَّ تعقُّب: كيف بيع ولماذا بيع؟

فأدعو إلهي أن لا يدينكم كما فعلتم.

وأن لا يجعل بين أيديكم الضيقات التي حملَتْ شيخوختي.

قلتم لي إنَّه قُتل، فبكيتُه (وصرتُ) مثل أخرس.

فليُجز الله بحنانه غضبي عن قاتليه».

وكلَّم الإخوة أباهم

255      بعد هذه، أجاب إخوةُ يوسف وقالوا لأبيهم:

نعم، آمين، يا أبانا يعقوب، ليغفر الله إثمَنا.

منذ تعرَّف إلينا أخونا، اهتممنا بالأفراح.

وما كان لنا مناسبة لكي نتفحَّص كيف أخونا رُفع.

تعلَّمتَ يا أبانا العظمة: كم هي رهيبة وشديدة!

260      وكم هي رهيبة وجوهُ الملوك عند المصريّين!

قال لنا أن نسبق ونخبرك عن التبدُّل لديه.

في مدَّة قصيرة ارتفع من العبوديَّة إلى المركبة.

حين تمضي قدَّامه لا تحرِّك لنا هذا الخبر.

أخفِه في وجدانك، واقبره لئلاَّ تحقِّر نسلك».

 

265      «أعِدُّوا لنا زادًا للطريق، لأذهب وأرى ابني يوسف.

وما دمتُ حيًّا، ترتاحُ عيناي اللتان أجرتا دموعهما حزنًا عليه.

ماذا أهبُ لك، يا يهوذا، لأنَّك بشَّرتني في ما يخصُّ يوسف؟

ها أنا أباركك البركات وأزيد لك بركة أخرى.

حين نبلغ إلى مصر ونصل إلى تخومها،

270      أجعلك أوَّل من يقول ليوسف إنِّي أتيت.

فمن أخيكَ يا ابني، تنال الجزاء الذي يهبُهُ لك على هذه البشرى.

حين تقول له: وصل أبوكُ، يُكثر كرامتك بدلاً عنِّي.

قوموا نمضي الآن كلُّنا كما أمرَ فرعون الملك.

نجعل نفوسنا بيد الله الذي يوجِّه طرقَنا.

275      لا تُشفقوا على أوانيكم، ولا يرتخِ وجدانكم،

في يد الله أجعلكم، وهو يقدر بقوَّته أن يحفظكم».

 

وبارك الجمعُ الله

«مبارك من أعبر الحزن عنّا بعد أن لبسناه سنوات!

مبارك من أبهج لنا وجه الشيخ الذي سحقَتْهُ المضايق!

فالأفراح تليق كثيرًا بشيخوخة مثل شيخوختك.

280      فالرجل الذي يفرح وجدانُه، يعود فتى وإن كان شيخًا.

ضعفَتْ شيخوختك من الشقاوات، وبلغت (إلى نهايتها).

مبارك من جلب إليها من مصر عصًا تتعكَّز عليها»!

حملوا كلَّ أوانيهم على المركبات التي أُرسلتْ إليهم،

وهيَّأوا الزاد للطريق، واستعدُّوا ليمضوا إلى مصر.

285      فصلَّى يعقوب وهو خارج، وبارك المكان الذي أقام فيه.

وجعل نفسه في يد الله، وفاضت الدموعُ من عينيه.

«حاشا لي أن أنساك أيَّتها البلاد، ففيك سمعتُ الخبر الصالح.

وسأكون إلى الأبد متذكِّرًا أنَّ فيك سمعتُ البشرى».

ارتحلت العرائس بالفرح، وأبناء البنين بالسلام،

290      واتَّشح الأبرار والعبيد بالفرح، متَّجهين إلى مصر.

 

وبلغوا إلى بئر سبع

ولمّا بلغ يعقوب إلى بئر سبع أصعد هناك القرابين،

وذبح الذبائح لله، لأنَّه كافأ يوسف بالأفراح.

وفكَّر الصدِّيق أيضًا: «كيف أنزل إلى مصر

وفيها العرّافون الكثيرون والسحرة الذين لا عددَ لهم،

295      ويُسجَد فيها للكثير من الآلهة والإلاهات؟

فيدخلها أبناء العبرانيّين ويتدنَّسون بين المصريّين.

لن أدخل إليها اليوم وأقيم في داخلها،

لئلاَّ أتنجَّس بين السحرة إذا أكثرتُ فيها المنازل.

فعينُ الإنسان رخوة، وحين ترى الجمال تشتهيه.

300      ربَّما دخلها العبرانيّون واختلطوا بالمصريّين.

كنتُ طلبتُ من الله أن يبيِّن لي ماذا أصنع:

هل أنزل إلى مصر، أو أبقى هنا، أو أنزل أو ألبث هناك؟

وهل يعود ويُصعدني، أو يَتركني داخل مصر؟

لأن دخولنا حسن، أردتُ أن أعرف كيف ينتهي.

305      وبسبب كبر الطريق، لا أخرج ممّا يجب،

ما دام ابني يوسف حيًّا في مصر.

سواء يلبث نسلنا هنا، أو يعود (الله) أيضًا فيُصعدنا.

ليكشفِ الله لعبده كيف ننزل إلى مصر».

 

فكلَّم الله يعقوب في الحلم

رأى الله أفكار يعقوب البارِّ حبيبه،

310      فرغب أن يكشف له سؤالاته، ويبيِّن له رغباته.

إذ كان يعقوب نائمًا، ساكنًا في الليل في وسنه كعادته،

انحدر الله من العلاء فتكلَّم في رؤيا معه.

مضى الصوت في الرؤيا وسمعه يعقوب البارّ،

فارتاع يعقوب وولول وخاف، لأنَّ عينيه رأتا الملائكة.

315      فاقترب إليه الصوت المخيف، وبيَّن له ما طلب.

«يعقوب، أنا، أنا إلهك، إله أبيك أسحاق!

ها أنا أقول لك في الرؤيا: لا تخف من (النزول) إلى مصر.

تربو فتصير شعبًا، وأُكثُر زرعَك في (تلك) الأرض.

ولا تظنَّ أيُّها البارُّ أنِّي أتركك فيها،

320      فأنا أنزل معك، ومن هناك أُصعدك.

ها أنا سمعتُ صلواتك، وصلواتك من أجل يوسف.

وفي اليوم الذي تكمل نهايتك، هو يضع يديه على عينيك.

تنزل إلى مصر بدون فزع، وبلا خوف إلى تخومها.

فأنا هو الله الذي أعانك في حاران».

 

استيقظ يعقوب وشكر الله

325      استيقظ يعقوب من نومه، وانذهل بهذه الرؤية التي رأى.

فسجد لله وشكره، على أنَّه لا يُهمل عمل يديه.

فدعا أبناءه وقال لهم: «قوموا نَمضي ونَرتحل الآن.

رفقةً عظيمة وجدنا، وهي تنزل معنا إلى مصر،

فالله تكلَّم اليوم معي في رؤية الليل:

330      «أنا أنزلُ معك وأنا أُصعدك من هناك».

فقاموا وارتحلوا بالفرح من بئر سبع، وأتوا إلى مصر:

نساؤهم مع أثقالهم، بنوهم مع عبيدهم.

وأخذوا معهم المقتنى الذي اقتنوه في أرض كنعان.

اختلطت القطعان بالقطعان، والحملانُ وثبَت بالفرح.

335      أخذ يعقوب البارُّ معه أبناءه وأبناء أبنائه،

ونساء بنيه، والعرائسُ مضين وهنَّ يرقصن من الفرح.

 

صافية كانت الطريق قدَّامهم، لأنَّ يوسف قائم على رأسها

في كلِّ منزلة حلُّوا، تركوها بسلام وتجاوزوها.

يوسف جالسٌ في مصر، ويُشرق مثل الشمس في الطريق.

340      ويعقوب الشيخ تجدَّد، وسار مثل فتى في الطريق.

مضوا بثقة إلى مصر تلك المخيفة.

فتحوا فمهم وأدُّوا المجد لله لأنَّه تدبَّرهم.

فجأة نبع من مصر مخلِّصٌ لبني يعقوب.

الأمان يحلُّ قدّامهم، والسلام حين يرتحلون.

345      حين يحلّون في الفرح يحلُّون، ويتَّكلون على الله حين يرتحلون.

الماشون لا يتعبون، لأنَّهم يستندون إلى السماع ويمضون.

والذين لا يقدرون أن يمشوا، يجدون القوَّة لدى الأوَّلين.

«الله الذي رافق أبانا يعقوب في لابان،

هو يرافق موكبنا حين يرتحلُ متَّكلاً عليه».

 

مضوا فوصلوا إلى أرض جاسان

350      ولمّا بلغ يعقوب إلى أرض جاسان التي هي في تخوم مصر،

أوقف فيها موكبه، لأنَّه وجد مرعى للغنم.

استراح الناس من (عناء) الطريق، وتوقَّف الماشون بعد أن تعبوا.

ارتاحَ الناس، وربضَ الغنم الذي وجد المرعى والماء.

فدعا يعقوب ابنه يهوذا ليرسله فيدخل قدَّامه:

355      «ادخل أيُّها الرسول الحكيم، وبشِّرْ أخاك بوصول أبيك،

واستعلِمْ منه كيف يجب أن يدخل الموكب.

ننتظرك هنا حتّى تأتي وتُعلمنا حول إرادته.

كلِّمْ أخاك عن الموكب والمقتنيات الغزيرة،

كلِّمه على الناس الذين عددهم ليس بقليل».

 

360      فافترق عنهم يهوذا الذي أرسله (يعقوب) الصدِّيق،

ودخل ليبشِّر أخاه: «بلغَتْ (إلى مصر) شمسُ أبيك».

رآه يوسف ففرح، لأنَّ الخبر عزيز على قلبه.

«أين أبي يعقوب الشيخ وموكب إخوتي الجميل؟»

«الموكب كلُّه، يا أخانا، حلَّ في أرض جاسان.

365      أبونا معافى وينتظر متى يقابل وجهك.

وهو يتطلَّع أن أنقل إليه المشورة التي ترتاح إليها.

ويتطلَّع موكبنا كلُّه وينتظر أيضًا أن يراك.

 

«قلنا لأبينا كلَّ ما رأينا وما حصل لنا،

فحسبَنا هكذا، في الابتداء، مثل أناس يُخبرون أحلامًا.

370      وكلَّمناه عن كرامتك فحسبَنا مجانين:

"إن كان هذا ابني يوسف، فلماذا لم يكشف عن نفسه؟

وكم حمَّلكم من ضيقات في الطريق التي سبقَتْ هذه"!

فاقترب أولاً رأوبين البكر، فما أراد أن يصدِّق الأمر العجيب.

ولاوي وشمعون أقسما له فحسبهما دجّالين.

375      ودخلتُ أنا وحلفتُ مثل إخوتي، فازدراني كما ازدراهم كلَّهم.

كلُّ الأقسام كانت باطلة، لأنَّ العجيبة كانت شديدة.

أريناه ملابس الملك الشهيَّة لعلَّه يصدِّق،

والمركبات التي نزلت معنا والأتن، فما أمَّن لنا.

قرَّبنا إليه حبيبه (بنيامين) لعلَّه يقبل كلامه،

380      فأراه بنيامين لباسه، فلبث ضميرُه متردِّدًا.

بأقواله التي عرَّفت إرادتَه، ذكر القميص،

فما لُمناه على ذلك بعد أن حسبَنا دجّالين.

لأنَّ العجب تغلَّب عليه كما كان كبيرًا بالنسبة إلينا.

ولمّا أمَّن لنا بالجهد، أريناه الحقيقة كلَّها.

385      فأمر حينئذٍ: أخبروني كيف وصل (يوسف) إلى مصر.

 

«ولمّا رأينا أنَّه بجوابه يضطرُّنا ويُكرهنا،

سألنا، يا أخانا، صلاتك وبيَّنا له كلَّ شيء.

قلنا له عن الثمن الذي أخذناه من التجّار،

وأوضحنا له، يا أخانا، كلَّ عملنا كما هو،

390      لئلاَّ يأتي ويَعلم منك ويشتعل غضبه ويلعنُنا.

فبركاته صادقة ولعناته شديدة.

ومن يقدر أن يقوم قدّامه إذا فتح فمه ولعن.

فتحنَّنَا، أيُّها العبرانيّان البارَّان، أنت الشيخ وابنك يوسف.

بهذا يعظم الصدِّيقون حين يرحمون الخطأة.

395      قلنا لأخينا يوسف، صلِّ لكي تعبر جهالتُنا،

وأنت أيضًا اختم مثله لأنَّ البرارة منك نبعَتْ.

فبمن نتشبَّث إذا أنتما تركتمانا؟

في ما بينكما، أيَّها البارَّين، تعالَج جراحات جوقنا.

ومنذ تجاسر لساننا وأقرَّ الذنوب التي صنعَتْ أيدينا،

400      أقسم أنَّه يُعبر جهالتنا، لهذا ارتاح وجدانُنا».

 

وأسرع يوسف للقاء أبيه

وأمر يوسف قيِّم بيته بأن يسوِّي له المركبة.

لا مركبة له وحده كالعادة، بل ومعها مركبات رفيقات.

ولمّا تهيَّأت المركبات، صعد يوسف وتسامى،

وتزيَّن بلباس المُلك الجليل ليبان حسنُه.

405      وعلَّق في عنقِهِ القلادة، وجعل في يده خاتم الملك،

وأتى معه، إكرامًا له، نبلاء مصر ورؤساؤها.

 

تطلَّع يعقوب وانتظر متى يأتي يهوذا،

ورفع عينيه فرأى ضجَّة شعب كثير،

ورأى المركبات، فعرف أنَّ يوسف وصل وانتهى إليه.

410      ودخلوا وقالوا لأبيهم: «اخرج أيُّها الشيخ واستقبل ابنك».

فرفع يعقوب الشيخ عينيه وشاهد المركبة من بعيد،

فظنَّه فرعونَ الملكَ الجالس الآتي إلى لقائه.

فرح الأطفال والرضَّع في أكتاف أمَّهاتهم.

وامرأة رأوبين رئيس (إخوته)، أمسكت رفيقاتها بيدها:

415      «هَبْنَ الطوبى للتي ولدته، فهي حيَّة باقية في ابنها يوسف.

جسمنا لن يبلى في القبر، إن كان يلد مثل هذه الثمرة.

القبر لأمِّه هو جنان، لأنَّها تركت وراءها هذا النبت المجيد.

فليس بالبنين الكثيرين تكون الحياة للآباء،

وإذا شاء ربُّ البرايا ملأ المكان بالكثيرين».

 

وكان العناق والبكاء

420      ولمّا وصل يوسف وبلغ إلى موكب يعقوب الشيخ،

أوقف مركبةَ وقارِه، ونزل للقاء أبيه.

رآه الموكبُ كلُّه، فبركوا وسجدوا كما (قالت) أحلامه.

سجد الرجال، ودخلت بعدهم النساء مع أولادهنَّ.

ولمّا اقترب يوسف ووصل إلى أبيه، رفع يعقوب عينيه فرآه.

425      فاقترب يوسف وعانق أباه وهو يبكي على عنقه.

«يا أبي يعقوب، أخذتُ الطوبى لأنِّي رأيت شيخوختك في الحياة».

فمن يستطيع أن يحتمل الألم الذي حصل والحداد،

حين قابل الشيخُ ابنَه وضمَّه إلى صدره بالقبلات!

ومن يهب لراحيل أن تقوم من القبر

430      وترى هذا الوقار الذي يُصنَع لملك مصر؟

«قومي يا راحيل واشهدي الفرح ونحن نعانق بعضُنا بعضًا،

أنا ويوسف حبيبك، بعد أن فُقد من زمن بعيد.

فعانِقْني يا ابني حتّى أعانقك، وأشبعَ وأفرح برؤيتك.

زمنًا طويلاً حُرمتُ من محادثتك العذبة.

435      فكم من آلام احتملتْ شيخوخةُ أبيك المسكين!

وكم مرارة اسقيْتَني من يوم اختفيت، يا حبيبي!

توشَّحَ أبوك بقميص الحزن، وهو ملطَّخ بالتراب والرماد.

ولا يمكن التكلُّم عن عويله الذي كان يعوِلُ به ويتفجَّع».

وفتح يعقوب فمه وقال: «سلام لك يا من خلعتَ عنِّي أحزاني

440      التي اكتسيتُ بها سنواتٍ عديدة، وها نزعتُها عنِّي حين رأيتُك.

أَسجدُ لله  الذي وهبني هذه العظمة.

فها الله أكمل لك أفضل من أحلامك،

ولا أستطيع أن أروي الحزن الذي رأيتُ في سحقك.

ولا أستطيع أن أشكر الله على فرحك.

445      فلا يهملْ إنسانٌ الصلاة لئلاَّ يُهملَه الله».

 

واختلط الموكبان

واجتمع الموكب كلُّه واختلط الموكب بالموكب،

وشابه كلاهما أشجارًا تحمل قطرات الندى.

وأنصت كلُّ إنسان ليعقوب ليسمع ما يقول.

دخل الموكب، وتوقَّف يعقوب وابنه في الوسط.

450      «حشا أبيك المنقبضة انتعشت برؤيتك.

طارت أوجاعي وأمراضي بريحِ رحمةٍ فاحَتْ منك.

جعلني الفكرُ مقبورًا فلا أعرف الأمور الآتية.

جعلك الله عظيمًا فما طغيتَ كالبشر».

واقترب المصريّون وتوسَّلوا إليه: «لا تبكِ في يوم أفراحك.

455      ها أنت تحمَّلت الحزن أيّامًا طويلة، فاتركه في رؤية ابنك».

 

فتوقَّف يعقوب عن الزفرات، ويوسف أوقف بكاءه.

دعا إخوته فأتوا إليه، فسلَّموا عليه وسجدوا له.

فاقترب وقبَّل أبناءهم وفرح في مقابلة نسائهم.

سجدت له أولاَّ النساء الحرَّات، وبعدهنَّ الإماء.

460      وسُرَّ بهذا الموكب كلِّه الذي أصعده أبوه من حاران:

البقر وقطعان الغنم. فرِحَ يوسفُ، وفرح معه المصريّون بمقتنى أبيه.

«سلام لموكبك، يا أبانا، فصلاتك أنمته إنماء.

وطلبتُك منذ صباك قامَتْ له مثل سور.

وما اقتنى إخوتي هذا الغنى الكبير بقوَّتهم واجتهادهم.

465      وأنا لم أبلغ إلى هذه العظمة بفلاحي.

هذا المقتنى نما وكثر بصلاتك،

وكثرت لي الكرامة في مصر من طلبتك التي طلبتَها».

 

«فمن الآن لا تَنشدوا بلادكم الأولى ولا تطلبوا،

فأرضُ مصر أطيبُ من أرض الكنعانيّين

470      وَفرعونُ الملك أمرَ أن تقولوا له ما هي صنعتكم.

قولوا له: ربينا بين الغنم فلا يدعوكم إلى مكان آخر.

وحين يسمع بماشيتكم وأنَّكم رعاة غنم،

يهب لكم أرض جاسان التي أحببتم من أجل الغنم.

أتركوا الموكب كلَّه هنا، وحلُّوا في أرض جاسان،

475      بينما ندخل ونرى أيَّ جواب يأمر فرعون».

 

وحضر الإخوة أمام فرعون

وأخذ خمسًا من إخوته، رجالاً حكماء ومملوءين  بالذوق،

ليبيِّنوا للملك فرعون جوابًا كلُّه حكمة.

سأل الملكُ يوسف: «من أين هؤلاء الرجال؟»

إذ رأى وجوههم لا تشبه وجوه المصريّين.

480      «هؤلاء هم إخوتي، يا سيِّدي، أتوا من مكان بعيد.

أمرَتْ عظمتك هؤلاء أن تمضي معهم المركبات.

فها الموكب كلُّه أتى مع أبي يعقوب البارّ،

واستقرَّ في أرض جاسان يرافقهم متاعُهم.

قال فرعون الملك: «قولوا لي ما هي صنعتكم؟

485      قولوا ما هي صنعتكم، فآمرَ أن تجدوا راحتكم».

 

فأجاب إخوة يوسف وقالوا هكذا لفرعون الملك:

«قبل (الجواب)، هو لنا أمر عظيم أن تقرِّبنا من مملكتك.

وبما أنَّك سألتنا نصرِّح لك عن نوع عملنا.

ربينا في غنم أبينا وهو أيضًا ألِفَ هذه (المهنة).

490      وما نطلبه منك من أجل الغنم الذي اقتنينا،

أن تهب لنا أرض جاسان لأنَّ فيها مرعى لقطعاننا».

أجاب فرعون وقال ليوسف: «هي الأرض كلُّها قدَّامك،

فكلَّ أرض تستحسنُ، هناك يستقرُّ إخوتك.

ها مصر كلُّها بين يديك، وسكّانها لك خاضعون (سامعون).

495      ليلتذَّ غنمُ أبيك بحُسنِ الأرض وسمنها.

وإن عرفتَ أيضًا، أيُّها الشريف، إن كان بين إخوتك أناس حاذقون،

فاجعلُهم قوَّادًا يدبِّرون جيش مصر».

فسجد يوسف وشكر فرعون، ورجع وهو متقبِّل نعمته.

فخرج يوسف من بيت فرعون ومضى وأخبر أباه،

500      وكيف استقبلهم (فرعون) بحبٍّ وسلام.

 

ودخل يعقوب

ودخل يعقوب أيضًا إلى فرعون، وسجد له وجلس قدَّامه:

«مبارك أنت يا فرعون فوق الملوك الذين أُقيموا في مصر.

بعلَّة طيبةِ سياستك، أحبَّ العبرانيّون سلطانك.

فالله منحك عطاياه وبارك مملكتك».

505      ففتح الملك فرعون فمه وتكلَّم مع البارّ:

«مبارك صُلبُك، أيُّها الشيخ، الذي وَلد هذه الثمرةَ المباركة!

فهو الذي وهب الحياة لمصر، وأنقذها من فم الموت.

مباركةٌ قوَّتُك التي ولدت لنا مدبِّرًا قهر الموت!

وإذا عبرتَ في أسواق مصر، تسمع البركات التي بها يباركون ابنك.

510      وأجواقًا وأجواقًا يهبون الطوبى لأبيه وهم يهتفون.

فانظر إلى ولدك الذي وجدتُه عمودًا يحمل السفينة.

ومن ثمرتك عُرف أن أصلك مبارك.

طوبى للآباء الذين يكرَّمون هكذا من قبل أولادهم!

وطوبى للأب الذي راى ابنه، كما أنت، فنتطلَّعُ في ابنك.

515      فالغنى والسلطان ليسا أفضل من العقل الحكيم.

فغنيٌّ لا ترافقه الحكمة هو فقير جدًّا.

فَهْمُ ابنك غنى، وعقلُهُ غمرٌ متفجِّر.

ازدان جدًّا بهذه الصفات، وها هو ثريٌّ جدًّا بالغنى.

 

«وأنت يا يعقوب الشيخ، كم هي سنوُّ حياتك.

520      فها أنا أرى شيخوختك تدلُّ على فتوَّتك».

«سنواتي مئة وثلاثون، وليس لي في الأرض مسكن.

صادَفَتْني أوجاعٌ وأمراض كانت أكثر من أيّامي.

سنوات حياتي ليست كثيرة، مثل سنوات آبائي.

في الضيقات صرفتُ سنواتي القصيرة القليلة.

525      وبواسطتك، أيُّها الملك، تأتيني موهبةٌ عظيمةٌ جدًّا،

فأنسى مضايقي في أفراحي، وأنتقل من هنا بسلام».

وبعد أن خرج يعقوب من عند فرعون، فتح فمه وقال:

«أشكرك يا الله، لأنَّك أبهجت بيوسف شيخوختي.

رأى في أحلامه إخوته وحدهم يكرِّمونه ويسجدون له،

530      وها ملك مصر وبلاده يكرِّمان ابني، كما أراد الله».

 

وأقام الأب والإخوة في جاسان

وبعد أن خرج يوسف من عند فرعون، أخذ أباه وإخوته.

فأقام موكبُهم كلُّه في أرض جاسان كما طلبوا.

وورثوا بين المصريّين ميراثًا في أحسن موضع في الأرض.

وبسبب يوسف، تدبَّروا في البلاد مثل أسياد البلاد.

535      وأخبر يوسف أباه كلَّ شيء رآه في مصر:

سقط في السجن، ظلمَه أسيادُهُ.

وأخبر كيف فسَّر الأحلام لعبدَيْ الملك،

وبسبب هذه التي فسَّرها قُرِّب إلى الملك.

شقَّ عليه أن يكشف لأبيه كيف باعه إخوتُه،

540      لأنَّ يوسف عرف وأدرك أنَّ هذا هو عمل الله.

واستقرَّ هناك العبرانيّون واستُقبلوا استقبال الملوك.

ومن أجل يوسف، تمسَّكتْ بهم مصر وأكرمَتْهم.

دخلوها سبعين شخصًا، فباركهم الله فكثروا ونموا.

وسارع كلُّ إنسان فأكرم الإخوة إرضاء ليوسف.

 

إلى هنا الخبر

545      إلى هنا روينا خبر يوسف، تكلَّمنا،

اعتنينا، فروَينا ما يتعلَّق ببَيْعه (للتجَّار) وكرامته،

تاركين لخبرٍ آخر الخفايا المطمورة فيه،

ومعاذ الله أن نكون ظالمين عباده.

تعلَّمنا بخبر يوسف أنَّ من يخدم الربَّ يُرفَع.

550      فبدل الجبِّ أخذ المركبة، فكان جزاؤه أعظم من ألمه.

وبدل القيود في رجليه، قبل القلادة في عنقه.

حسده عشرةٌ من إخوته، وسجد له ألوف الآلاف.

وبما أنَّ يديه قبلتا الأغلال، حلَّ إخوته من الضيقات.

وبدل القميص الذي عُرِّي منه، تجلَّل باللباس الملكيّ.

555      وبدل الحرِّيَّة التي أخذوا منه، ها المَلك يحيّيه بالسلام.

فالجزاء غلب المَضايق، هذا ما لا شكَّ فيه.

فلا نخف من الآلام، فهي تكمِّل مجازاة (محتملها).

فمن فلح الشرور، حُفظت له المبغضات.

ومن أقام في الحقِّ، لا يفزع من الأضرار.

560      ومن يبغضْ إخوته يأخذ له يوسف مثالاً.

ومن يفتري عليه أسيادُه، لينظر إلى ابن يعقوب.

 

خاتمة أخلاقيَّة

أعملتُ الفكر وتعبتُ في خبر يوسف حبيبك

زدهُ بعدُ فهمًا لئلاَّ يبرح من بابك.

قوِّ عقلي يا الله، لأتكلَّم عن أخباره التي خفيَت.

565      أقول أسراره مثل إنسان كامل، فأعطي الحكمة للجهّال.

لينلْ عقلي حكمة في سرِّك، فلا تصدَّني إرادتي الرخوة.

خاف عقلي مثل طفل من الطريق التي أمسكتُ رأسها.

هم الأبرار يضرعون إليك، لكي تُستجاب لديك صلاتي.

لأقول مآثرهم ها أنا تعبتُ من أجلهم.

570      المجد لإله الكلِّ الذي عظَّم مآثر عبيده.

التعظيم لابنه الذي لا يتخلّى عن المجاهدين.

والحمد للروح القدس الذي يعلِّمنا الخفايا!

منه يأخذ الخطباء ليزيِّنوا المقاتلين.

لهذا السرِّ الثالوثيّ، وضعتُ الختم طبعًا.

575      به أطلب مثل أساس يحمل البنيان الذي أضعه.

أسماء ثلاثة كتبناها هي قوَّة واحدة متوافقة.

من فمنا كلِّنا معًا، له المجد إلى دهر الدهور(1).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM