القسم الثاني: في العالم اليهوديّ والسريانيّ

القسم الثاني

في العالم اليهوديّ والسريانيّ

نقدِّم في هذا القسم الثاني ثلاثة فصول مرتبطة بخبر يوسف كما نقرأه في سفر التكوين، وهي كما يلي:

1.   الرواية اليوسفيَّة في سفر التكوين.

2.   براشيت ربه حول سفر التكوين.

3.   إيشوعداد المروزيّ في قراءة سفر التكوين.

القسم الثاني

في العالم اليهوديّ والسريانيّ

الرواية اليوسفيَّة في سفر التكوين

حين نقرأ الروايات التي تتحدَّث عن يوسف بن يعقوب، أو عندما نرى الأحلام، نفهم أهمِّيَّة هذا الخبر الذي يمتدُّ على أربعة عشر فصلاً من سفر التكوين: تزاحم بين أبناء يعقوب، حيث يتخلَّى الإخوة عن أخيهم، بل يبيعونه. أو تضامن، ممّا يجعلنا أمام أقصوصة عائليَّة. والمناخ الخاصُّ الذي يُشرف على هذه الفصول، يروح بين الخبر العجيب» والدراما السيكولوجيَّة. أمّا هذه الأقصوصة فتربط بين خبر الآباء، إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وبين خبر الخروج من مصر وعبور البحر الأحمر. والإشارة إلى الله تنحصر في بعض أقوال «مفتاح» أو إشارات تأتي في مكانها، كما جعلها الراويّ. فالله يلعب الدور الأوَّل هنا، بل هو يعمل بسمات عناية خفيَّة، ولا تتوجَّه إليه أي صلاة. واختيار البارِّ في أرض غريبة، تتجلَّى لا في تقواه الدينيَّة الخاصَّة، بل قبل كلِّ شيء في نجاح اجتماعيٍّ مدهش، في إمكانيَّة استباق الأمور وتفسير الأحلام، في جدارة على توجيه الأشخاص، وكدتُ أقول «التلاعب» بهم، ولكن دون أعمال العنف. هل نقرأ هنا شيئًا من البحث عن الهويَّة اليهوديَّة في محيط هلِّنستيّ، في أرض مصر؟ حين سيطر يوسف «المرذول» على المستقبل، على العلاقات البشريَّة، على السلطة في أرض مصر، صار كفيل حياة قدَّام إخوته في كنعان، مع أنَّ هؤلاء الإخوة اعتبروه «صاحب الأحلام» (37: 19). أمّا مصر فتُصوَّر على أنَّها أرض تستقبل الغرباء(1)، قبل أن تتحوَّل في سفر الخروج إلى أرض العبوديَّة(2).

نودُّ هنا في هذه الفصة أن نكتشف التصميم والمضمون، ثمَّ أصل الخبر وتكوينه على مدِّ العصور، أخيرًا مواضيع هذه الرواية ومرماها.

1. التصميم والمضمون

يوسف ومعنى اسمه: الله يزيد، يضيف على ذلك الذي وُلد أولادًا آخرين. ولكنَّ الاشتقاق الشعبيَّ في 30: 23: «نزع»، كما في النصوص المصريَّة. فإنَّ راحيل التي تأخَّرت ليكون لها ولد، وولدت يوسف، هتفت: «أزال الله عاري».

يوسف هو ابن يعقوب وراحيل. لبثت أمُّه عاقرًا، حين كانت أختها تعطي لزوجها الولد بعد الولد. وفي النهاية، صاحت في وجه زوجها: «أعطني ولدًا وإلاَّ أموت» (30: 1)، أو أموت من الحزن، أو ربَّما: أقتل نفسي، لا سمح الله.

وُلد يوسف في حاران (30: 22-24). وتروي بداية ف 37، صباه، أحلامه، حسد إخوته الذين باعوه عبدًا إلى تجّار منطلقين إلى مصر. في 39: 1-23، نشاهد الذلَّ الذي وصل إليه. ولكنَّه فسَّر الأحلام في السجن لساقي الملك وخبَّازه (40: 1ي)، ممّا فتح له الطريق لكي يفسِّر أحلام فرعون، ويرتفع ويصبح الرجل الثاني في مصر (41: 37-57). بما أنَّه حاكم مصر، نال اسمًا مصريًّا: صفنت مفنيح: الله يقول إنَّه حيّ، أو: مخلِّص المملكة، أو: الإنسان الذي يتدبَّر الأمور. وتزوَّج امرأة مصريَّة، أسنات (تخصُّ الإلاهة «نات») بنت كاهن مدينة أون (قرب القاهرة. هي مدينة الشمس) اسمه فوطي فارع (= عطية رع). فأعطته ولدين: منسّى وأفرائيم (41: 51-52).

حين أتى إخوته إلى مصر، ليشتروا حنطة والتقوا به (42: 1ي)، عرَّفهم بنفسه (45: 1-15) ودعا أسرته كلَّها لكي تأتي وتقيم في مصر. ومات يوسف في مصر وهو ابن 110 سنوات، وهو عمر مثاليٌّ لحكماء مصر. وجُعل قبره في شكيم (يش 24: 32).

يوسف هو «إبونيم» (أي معطي الاسم) قبيلة يوسف (عد 13: 11)، «بيت يوسف» (يش 17: 17). هو «إبونيم» يوسف كما يقول سفر التثنية (27: 12). بهذا الاسم يدلُّ الكتاب على قبيلتي منسَّى وأفرائيم. إنَّ سفر يشوع (16: 1-3، 14-18) يتحدَّث عن قبيلة يوسف التي أقامت على الجبل، في وسط كنعان. في الأساس كان كلام عن ماكير (المشترى. في الأصل، هو الابن البكر لمنسّى، تك 50: 23) وأفرائيم، ثمَّ منسّى وأفرائيم.

يوسف هذا الذي ينجح في كلِّ شيء (39: 2)، صار وزير مصر الأكبر، وخلَّص البلاد من المجاعة (41: 33-56)، ونظَّم لها سياستها الزراعيَّة (37: 13-26). أتاح له موقعُه الرفيع، وهو الشقيق الرحيم، أن يخلِّص أسرته من الجوع ويؤمِّن لها الإقامة في أرض جاسان (وادي طوبيلات، بين الدلتا والإسماعيليَّة الحاليَّة)، في أرض رعمسيس (47: 4، 6، 11، 27). هناك توفِّي يعقوب (47: 28-31) بعد أن تبنّى ولدَي يوسف، أفرائيم ومنسّى. وينتهي الخبر بالغفران الذي منحه يوسف لإخوته (مرمى الخبر، 50: 19-20). وموت يوسف (50: 22-26) وإعلان العودة إلى أرض الموعد (50: 24-25).

إنَّ خبر يوسف يؤمِّن الانتقال من الآباء إلى الخروج، حيث يُولَد شعب إسرائيل بقبائله الاثنتي عشرة. غير أنَّ رؤية يوسف تختلف كلَّ الاختلاف عمّا قيل عن الآباء. هذا يعني أنَّها وُجدت بشكل مستقلٍّ قبل أن تدخل في نهاية خبر يعقوب. هي رواية تقويَّة تحمل التعليم الحكميَّ» في إطار مصريّ. كان أمام الكاتب خبرين عن يوسف: واحد، يكون فيه يوسف ابن إسرائيل (37: 4، 13). دافع عنه يهوذا (آ26-27) وبيع للإسماعيليِّين (آ24-25) الذي اقتادوه إلى مصر، حيث اشتراه رجل مصريّ (39: 1ب). وآخر، يكون فيه يوسف ابن يعقوب (37: 34). دافع عنه رأوبين (آ21-22) وسرقه المديانيُّون (آ28-36) وباعوه لفوطيفار. خبران، الأوَّل نبت في جنوب فلسطين (إسرائيل – يهوذا). والثاني في وسط يهوذا (يعقوب، رأوبين). وكلاهما يعودان إلى تقليد قديم في بيت يوسف أو إلى عشيرة ماكير التي اتَّخذت اسمها من سلفٍ بيع في مصر (37: 28؛ 45: 5).

كانت الدلتا نقطة اتِّصال مع آسيا، فعرفت هجرات البدو طلبًا للمراعي، أو اجتياحات ما دُعيَ الهكسوس (حرفيًّا: رؤساء الأراضي الغريبة. قيل: الملوك الرعاة. شعوب أتوا من العالم الساميّ الغربيّ)، الذين حكموا شماليَ مصر قرابة قرنين من الزمن (1720-1550). تتحدَّث الوثائق المصريَّة عن هذه التسلُّلات الأسيوات، ومجهود الفراعنة لضبطها منذ نهاية الألف الثالث(3). حسب نبوءة نفرتي، بنى أمينيسيس الأوَّل (1992-1962) «سور الأمير» ليوقف تسلُّلات الآسيويِّين، مع السماح للبعض بأن يدخلوا ويسقوا قطعانهم (نصوص 446أ). إنَّ لوحة كنوم – حوتب في بني حسن تدلُّ، في أيّام سيسوتريس الثاني (حوالى 1890) على وصول 37 بدويًّا يقودهم رئيسهم إبشا (ربَّما: أبيشار)، وقد سجَّلهم أحد الكتبة (نصوص 22: 9؛ صور 3). وذُكر آسيويّون عديدون في وثائق السلالتين الثانية عشرة والثالثة عشرة (1991-1633). هذه التسلُّلات التي حصلَتْ، بلا شكّ، في حقيقة الهكسوس، تواصلت فيما بعد. في نهاية القرن الرابع عشر طلب بعض الآسيويِّين اللجوء، باسم التقليد، لينجوا بحياتهم، فنالوا قطعة أرض محدَّدة (مدفنٍ حورمحب، نصوص 251؛ صور 5). في عهد مرنفتاح (1224-1204) لاحظ ضابطٌ على الحدود: «انتهينا من انتقال «شاسو آدموم» عبر حصن مرفنتاج الذي هو في تاكو، باتِّجاه المستنقعات فيتوم، لتحفظ حياتهم، هم وقطعانهم» (نصوص 259أ).

ثمَّ، منذ الإمبراطوريَّة الوسطى (2030-1720) استعان الفراعنة بموظَّفين آسيويِّين الذين كثر عددهم في زمن الهكسوس، غير أنَّ معلوماتنا ضئيلة عن هذه الحقبة. ومع أنَّ الهكسوس طُردوا، إلاَّ أنَّنا نجد الساميِّين في خدمة فراعنة الإمبراطوريَّة الحديثة(4)، مع السلالة السابعة عشرة (1552-1310)، وبشكل خاصٍّ مع السلالة التاسعة عشرة (1310-1184) والسلالة العشرين (1184-1070). في أيّام سيتي الأوَّل (1318-1304) ورعمسيس الثاني (1304-1237)، تلقَّى بعض الغرباء، ومنهم الساميُّون، تربية مصريَّة من أجل وظائف رسميَّة(5). وبعض هؤلاء الآسيويِّين اتَّخذ وظائف عالية جدًّا. هناك شخص اسمه «توكو»، الذي وُجد مدفنُه في تل العمارنة، كان لقبه «الفم العالي» في كلِّ أرض بلاط أمينوفيس الرابع (1379-1362)(6). وفي الوقت عينه نجد ساميًّا اسمه ميخانو. يُذكر مرارًا في رسائل العمارنة، ويقوم بوظائف هامَّة في فلسطين. بن آزن. من شمالي شرقيِّ الأردنّ. اتَّخذ اسمين مصريَّين. كان «المنادي الأوَّل» في زمن رعمسيس الثاني، ومرنفتاح الذي أوكله مع الوزير الأكبر أن يعدَّ المدفن له(7). وحسب برديَّة هاريس (نصوص 260أ) استعاد إرسو (من سورية) من قلاقل في نهاية السلالة التاسعة عشرة (حوالى سنة 1200) فأعلن نفسه أميرًا وأخضع البلاد كلَّها يوم كان بعدُ قاصرًا آخر الفراعنة سفتاه.

في هذا الإطار وقع خبر يوسف (في فنٍّ أدبيٍّ خاصّ، مع بطل مثاليّ). شخص عبرانيٌّ اسمه يوسف، كان له مركزٌ رفيع في مصر، فساعد إخوته على الأقامة فيها. متى؟ هذا ما لا نعرفه. بعضهم تحدَّث عن حقبة الهكسوس. وآخرون عن زمن العمارنة (القرن الرابع عشر). وآخرون أيضًا في القرن الثالث عشر. هناك شبه توافق حول خروج مجموعات ودخولها منذ زمن الهكسوس حتَّى زمن الخروج. أمّا الكلام عن اثنتي عشرة قبيلة فهي نظرة لاهوتيَّة، لا تاريخيَّة: الربُّ حرَّر القبائل الاثنتي عشرة من مصر. وهذه القبائل دخلَتْ كلُّها إلى مصر مع يوسف، فأنهاها الله إنهاءً عجيبًا (خر 1: 1-7).

*  *  *

كان هذا المضمون. والآن ها هو التصميم

37: 1  العنوان: وأقام يعقوب...

المطلع: يوسف وإخوته، مشهد أوَّل (37: 2-36).

37: 2-11                يوسف مميَّز بين إخوته

2-4:             الوالد يميِّز يوسف

5-8: حلم يوسف الأوَّل: حزم القمح

9-11: الحلم الثاني: سجود الكواكب

37: 12-36    يوسف يُباع في مصر بعد أن هُدِّد بالقتل

21-22، 29-30: تدخُّل رأوبين

26-27:                   تدخُّل يهوذا

الفصل الأوَّل: مسيرة يوسف في مصر تساعده عناية الله

39: 1-20أ     يوسف عند فوطيفار

39: 20ب- 40: 23: يوسف في السجن: الحلمان وتفسيرهما

41: 1-36: يوسف يُدعى إلى القصر: الحلمان وتفسيرهما

41: 37-57يوسف الرجل الثاني في مصر

37-45: الجلوس على المركبة

46-49: الوفر في مصر. وهكذا تحقَّق الحلم

50-52: ابنا يوسف

53-57: الجوع في مصر. وهكذا تحقَّق الحلم.

الفصل الثاني: يوسف وإخوته. مشهد ثانٍ (ف 42-45)

42: 1ي         سفر أوَّل

42: 6: سجد الإخوة ليوسف. تحقَّق الحلم الأوَّل

21-24، 36-37: تدخُّل رأوبين

43-45 سفر ثانٍ

43: 14-16: الإخوة وبنيامين ساجدون. تحقيق الحلم الأوَّل أيضًا وأيضًا.

44: 11-14: دفاع يهوذا

45: 1-15: يوسف يعرِّف بنفسه

1-8: التعرُّف والغفران

9-15: الدعوة إلى يعقوب ليأتي إلى مصر

45: 16-20: دعوة فرعون ليعقوب

الفصل الثالث: يعقوب في مصر، أو يوسف ووالده (ف 46-49)

46: 1-47: 26: الهجرة والإقامة في مصر

46: 1-7: الهجرة إلى مصر

8-27: لائحة المهاجرين

28-30: لقاء يعقوب ويوسف

46: 31-47: 12: الفرعون يستقبل يعقوب

47: 13-26: سياسة يوسف الزراعيَّة

مديونيَّة المصريِّين واستعبادهم

47: 27-49: 33: موت يعقوب

47: 27-31: وعد يوسف بأن يدفن أباه مع الآباء

48: 1-49: 33: مباركات يعقوب

48: 1-22: يعقوب يبارك أفرائيم ومنسّى

49: 1-28: مباركة الاثني عشر

22-26: مباركة يوسف صدى الحلم الثاني

49: 29-33: موت يعقوب بعد إن جدَّد طلبه.

الخاتمة: يوسف وأبناء يعقوب. مشهد ثالث (ف 50).

50: 1-14      بكاء ودفن يعقوب

50: 15-21: مخاوف الإخوة. يوسف يجدِّد غفرانه ويتكفَّل                                         بإعالتهم.

ليس يوسف محلّ الله.

50: 22-26: موت يوسف.

2. أصل الخبر وتكوينه

نعود هنا إلى تحليل النصّ، حيث نجد انشدادات وتناقضات وتعارضات وتكرارات. من أخذ يوسف إلى مصر؟ المديانيُّون أم الإسماعيليُّون؟ أم هو مرَّ في أكثر من يد كما يقول المدراش؟ من يلعب دور الأخ المسؤول في هذه الرواية؟ رأوبين البكر أم يهوذا الجريء؟ لماذا يشدِّد النصُّ فقط على اهتمام الربِّ بيوسف في ف 39، حيث الكلام عن يوسف الذي ظُلم وزُجَّ في السجن، لا في ف 37 حيث الصراع مع الإخوة، ولا في سائر الفصول التي تروي صعود يوسف في محيط فرعون؟ لماذا يُدعى الأب تارة يعقوب وطورًا إسرائيل دون أن يبرِّر السياق هذا التبديل في التسمية؟ وفوطيفار، أوَّل من اشترى يوسف، هل كان كبير خدم فرعون (أو: أحد الخصيان) أو كاهن أون (ممفيس) ووالد أسنات التي تزوَّجها يوسف؟ ثمَّ كيف نفسِّر أن يجهل التقليد الكهنوتيُّ جهلاً كاملاً أحداث يوسف وإخوته، مع أنَّه جاء متأخِّرًا في الزمن؟ في 37: 10، إشارة إلى أمِّ يوسف وكأنَّها ما ماتت بعد (35: 18-20، وهي تضع بنيامين) هذا يعني أنَّ نواة رواية يوسف هي مستقلَّة عمَّا سبقها، وهي تحدِّثنا عن الصراع بين إخوة يوسف وصعود يوسف السريع في مصر.

هنا نكتشف ثلاث حبكات trames سرديَّة مميَّزة، وكلُّ حبكة تتضمَّن أفقًا موضوعيًّا وأدبيًّا مختلفًا. الحبكة الأولى (صعود يوسف) نقرأها في ف 39-41. تروي مسيرة شابٍّ عبريٍّ سُجن ظلمًا، واشتهر في تفسير الأحلام وانتهى نائب الملك في الأرض التي استقبلته. نجد موضوعات مماثلة في سفر أستير أو دانيال. كما في أخبار آراميَّة من الحقبة الفارسيَّة أو الهلِّنستيَّة، وآتية من خارج البيبليا. ويكون الصراع بين يوسف وإخوته الحبكة الثانية. هذه تنطلق في ف 37 مع ثلاثة أمور (يوسف الابن المفضَّل يروي شرور إخوته، ويحلم الحلمين). وتتواصل مع مجيء الإخوة إلى مصر لشراء القمح. تصرُّف يوسف كسيِّد لا اسم له، وكلِّيِّ القدرة، ففرض على إخوته أن يأتوا بأخيه بنيامين، الابن الأصغر: الخضوع لهذا السيِّد، الاعتراف بالخطأ الذي اقتُرف بشكل متدرِّج، عاطفة التضامن الأخويّ. كلُّ هذا يفتح الطريق أمام المصالحة في ف 45 (وهي تتثبَّت في ف 50). المرمى الرئيسيّ لهذه الحبكة الثانية، هو اعتراف الإخوة بدَين ليوسف، ثمَّ تجاوز هذا الدَين في مصالحة مع أخٍ صار شبه غريب بعد أن ابتعد أو أُبعد عن البيت الوالديّ. هذا يشير إلى شتات يهوديٍّ كبير في مصر. والحبكة الثالثة تصوِّر لقاء يعقوب بيوسف، ولكنَّها تدور بشكل خاصٍّ حول إقامة يعقوب/إسرائيل في أرض جاسان. والإجراءات المتَّخذة ليُدفَن يعقوب في قبر الآباء، في أرض كنعان. هذا يتضمَّن وجود خبر آبائيٍّ يضمُّ ثلاثة أجيال. ثمَّ إنَّ تذكُّر مدفن العائلة يجعل القارئ يميل بنظره إلى أرض كنعان. وذلك منذ بداية الإقامة في مصر. وتبنِّي منسّى وأفرائيم مكان يوسف المهاجر، يركِّز الإطار من أجل الوصول إلى خبر الخروج من مصر.

ونتوقَّف عند الأحلام وتفسيرها وتحقيقها: في إطار الحبكة السرديَّة الأولى (صعود يوسف) إمكانيَّة يوسف لتفسير الأحلام، تفتُّح أبواب السجن ثمَّ القصر الملكيّ. وإذا تمعنَّا في النصِّ وجدنا أن يدين أمسكتا القلم في ف 40-41: واحدة اعتبرت أنَّ موهبة يوسف هذه، هي تعبير عن مهارته (40: 12، 16، 18؛ 41: 12). والأخرى تعتبر أنَّ هذه الموهبة هي عطيَّة من عند الربِّ، الذي يتَّصل وحده بالبشر عبر الأحلام، ويعرِّفهم تفسيرها (40: 8؛ 41: 16، 25، 28، 32). هذا الاختلاف يدلُّ على قراءة ثانية تثبتُها ملاحظات أخرى. في الحبكة الأولى، كان يوسف مفسِّر الأحلام. فصار الحبكة الثانية «حالمًا وصاحب أحلام» (37: 19). ونرى هنا تضخيمًا، لأنَّ حلمه الأوَّل وحده تحقَّق (37: 5-8: الحزم) حين سجد له الإخوة ثلاث مرَّات لا مرَّة واحدة (42: 6؛ 43: 26، 28؛ 44: 14). أمّا الحلم الثاني فلبث معلَّقًا. أمن الصدف أن يعرف هذا الحلم الثاني ما يوازيه في العالم الآراميّ الرافدينيّ (مدوِّنه نبونيد: نصُّ أحيقار السريانيّ). أمّا الحبكة الثالثة، فلا تشير إلى الأحلام، بل إلى خبر الآباء وسفر الخروج.

*  *  *

متى دُوِّنت رواية يوسف؟ آراء مختلفة. من حقبة رعمسيس (القرن 13-12)، إلى الحقبة الهلِّنستيَّة المتأخِّرة (القرن الثاني ق.م.)(8). من الوجهة المنهجيَّة، لا تُقبَل فرضيَّات ترتبط بقبليَّة a priori حول تكوين البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة. ونسأل: هل نستطيع أن نستند إلى براهين آتية من خارج النقد البيبليّ؟ في تفحُّص دقيق للخلفيَّة المصريَّة لهذه الرواية، قدَّم ردفورد(9) ملاحظات مفصَّلة في هذا المعنى: لا شيء يتيح لنا أن نرجع إلى أبعد من السلالة 26 (السلالة السائيَّة، 664-525). فالعناصر الأسمائيَّة (فوطيفارع، عطيَّة الروح. صففنات يفنيح: الله تكلَّم والإنسان نال الحياة) تشير إلى خبر يعود إلى الحقبة السائيَّة أو الفارسيَّة. والخوف من الجواسيس الآسيويِّين (42: 9ي) تحيلنا إلى القرن السادس مع سياق الصراع مع الإمبراطوريَّة البابليَّة، أو إلى القرن الرابع، في حقبة آخر الفراعنة الذين هم من أصل مصريّ (بعد ذلك، جاء خلفاء الإسكندر). هذا من جهة. ولكن من جهة ثانية، هناك عناصر تفهم بصعوبة إذا أعدناها إلى الحقبة السائيَّة: الاتِّجار الفرديّ بالعبيد (39: 1)، الدفع بالفضَّة لشراء كمِّيات كبيرة من الحنطة (42: 25، 35) امتناع المصريِّين عن الأكل مع الغرباء (43: 32). كلُّ هذا يحيلنا إلى الحقبة الفارسيَّة إن لم تكن الهلِّنستيَّة. وإذا كانت البقرات في أحلام فرعون (41: 17ي) تقرِّب من كتابة مرموزة (عن «السنة»)، فهذا ما يوصلنا إلى حقبة البطالسة.

نلاحظ أنَّ هذه الملاحظات الدقيقة، يجب أن تكون مع تقارب من نمط التقليد التدوينيّ. غير أنَّ ملاحظات ردفورد تثبتُ فرضيَّة نموٍّ أدبيٍّ بين القرن السادس والقرن الثالث ق.م.

* في أساس الرواية، منذ الحقبة السائيَّة (القرن 6 ق.م.)، على ما يبدو، روت «قصَّة» من الشتات صعود شابٍّ يهوديٍّ في أرض مصر بطريقة مدهشة، بحيث صار نائب الملك بفضل تمكُّنه من تفسير الأحلام.

* في القرن الخامس، أعطت «رواية يوسف» هذه القصَّة إطارًا أوسع، فصار خبرًا عائليًّا، أشخاصه الرئيسيُّون أبناء يعقوب. هذه الرواية قدَّمت إتيلوجيا أو أسبابيَّة (درس العلل)، كما قدَّمت صورة هويَّة الشتات اليهوديّ، فأكَّدت أنَّهم يتفوَّقون على إخوتهم الذين لبثوا في فلسطين، على المستوى الخلقيِّ كما على المستوى الاقتصاديّ.

* استُعيدت الرواية في فلسطين، فأعادت التوازن مشدِّدة بشكل خاصٍّ على يهوذا وبنيامين، أبوَي اليهود المقيمين في أورشليم وحولها، في الحقبة الفارسيَّة.

* في القرن الرابع، دخلت هذه الرواية في «ملحمة وطنيَّة» وصارت «رواية يوسف» كما نعرفها اليوم. نكاد نرى الشتات في خلفيَّة هذا الخبر، ولكنَّ التشديد تحوَّل على إقامة  معرفته ليعقوب وبنيه في مصر ليصيروا «شعبًا كبيرًا» كمقدِّمة للخروج. وبالنظر إلى هذه العودة باتِّجاه أرض الموعد، أفرائيم ومنسّى اللذان تبنَّاهما يعقوب.

* وجاء مدوِّن بعدكهنوتيّ فقدَّم مصالحة يوسف مع إخوته (50: 15-21)، واستعاد موضوع عظام «بطريرك الشتات»، وراحت هذه العظام باتِّجاه السامرة (50: 25؛ خر 13: 19؛ يش 24: 32)، من أجل توازن بين تقاليد يهوذا وتقاليد السامرة.

3. المواضيع المطروحة

نشير إلى ما سبق وقلنا: الله لا يظهر للوهلة الأولى في رواية يوسف، بل يعمل في سمات «عناية» خفرة. لا يذكر اسم «يهوه» إلاَّ في ف 39 مع حادثة امرأة فوطيفار. بعد ذلك يُذكَر «إلوهيم» (اللهمَّ) بشكل حياديّ فيردُ لا فقط في فم يوسف (39: 9؛ 40: 8...) وإخوته (42: 28؛ 44: 16) أو في فم يعقوب (48: 11، 15، 20-21)، بل أيضًا في فم فرعون الذي رأى في يوسف «رجلاً أعطاه الله كلَّ هذه المعرفة» بحيث إنَّه لا يمكن لإنسان أن يكون «حكيمًا وفهيمًا مثله» (41: 38-39). هو أكثر من مديح! فإعجاب فرعون يعكس نهج فكر دينيٍّ متوسِّع يقع في خلفيَّة مجمل رواية يوسف: في قدرة الله أن يعرِّف مقاصده لكلِّ إنسان، سواء كان مصريًّا أو عبرانيًّا، بواسطة أحلام تنبِّه الإنسان قبل الوقت. غير أنَّ تفسير هذه الأحلام يفترض إلهامًا خاصًّا يحفظ، في رواية يوسف، للعامل الرئيسيّ، الذي هو الله.

حذَّر إخوةُ يوسف من أحلام أخيهم، فسرَّعوا تصحيحهم الخاصّ. في رؤية الكون الدينيَّة هذه، لا يستطيع الإنسان أن يفلت من مصيره، في اتِّجاه الشرِّ أو في اتِّجاه الخير، وما يمكن أن يظهر أنَّه شرٌّ في نظرة سطحيَّة ولاسيَّما إذا نتج حقًّا عن فعل شرِّير، كما كان الوضع بالنسبة إلى يوسف الذي رذله إخوتُه يمكن في النهاية، بواسطة العناية الإلهيَّة، أن ينتج الخير ويزيد (نتذكَّر معنى اسم يوسف) الحياة. ذاك هو التعليم اللاهوتيُّ الرئيسيُّ الذي نستطيع أن نستخرجه من خطبتَي يوسف لإخوته، اللتين تبدوان بشكل اعتراف ومفتاح قراءة لمجمل الخبر: «والآن لا تأسفوا ولا تستاؤوا لأنَّكم بعتموني إلى هنا، لأنَّ الله أرسلني أمامكم لأحفظ حياتكم... أرسلني الله أمامكم ليُبقي لكم نسلاً في الأرض وينجِّي الأحبّاء منكم. فما أنتم الذين أرسلتموني إلى هنا، بل الله» (45: 5-9). ونقرأ في 50: 20: «الشرُّ الذي أردتموه لي، أراده الله خيرًا كما ترون اليوم، لينقذ حياةَ كثير من الناس».

حين نقرأ تك 37-50 من هذه الزاوية، نرى فيه حدثًا متشعِّبًا أو جدليًّا بعض المرَّات، للبركة الإلهيَّة التي مُنحت في الماضي لإبراهيم ثمَّ تجدَّدت لإسحاق ويعقوب. ففي دورة يعقوب، استولى هذا على حقِّ البكوريَّة بحيلة دفعته لأن يمضي إلى منفى طويل، قبل أن يتصالح مع أخيه. أمّا في خبر يوسف، فجاء دورُ يعقوب بأن يتألَّم من شرِّ أبنائه بحيث خسر مرَّتين ابنه المحبوب وطلب الموت لنفسه. فكلُّ من يقارب «رواية يوسف» مع دورة يعقوب في خلفيَّتها، يظنُّ ربَّما أنَّ البركة الإلهيَّة سوف تضيع بشكل نهائيِّ بالنظر إلى شرِّ يعقوب وأبنائه، الذين ضربهم الجوع في أرض كنعان. ولكن في هذا الوقت، وساعة فقدَ يعقوبُ كلَّ أمل (43: 13: «وإن فقدتُ بنيَّ أكون فقدتهم»، كأنَّه لم يكن لي أولاد) عمل "إيل شدَّاي» إله الآباء، منفِّذ برنامج الرحمة (43: 30) بعد أن سهر مرَّة ثانية ليحفظ الابن المرذول.

خبر واسع يتجاوز ما قيل عن سائر الآباء. ونجد فيه كثافة سيكولوجيَّة لا نجد مثلها في سائر التوراة. مثل هذه السمة تشدِّد عليها وفرة الخطب التي تصوِّر مختلف الأشخاص في هذه الدراما، وتوضح البواعث العميقة التي حرَّكتهم. وهكذا نستكشف في هذه الفصول سحرًا سيكولوجيًّا ولاهوتيًّا معًا. وخبر يوسف يتيح لنا أن نتابع هذا التحوُّل البطيء لدى الأشخاص الرئيسيِّين. أوَّلهم يوسف، ابن يعقوب الذي رذله إخوته. كوكب سقط بعد أن تشامخ. وها هو بعد الذلِّ يختبر صعودًا مدهشًا بحيث صار «أبا فرعون» (45: 8). ولكن وجب أن تتسجَّل هذه المسيرة في مشروع الله تجاه شعبه. ثانيًا، يعقوب المحتال، الذي اختار في ف 37-50، مسيرة حداد مطهِّرة. وأخيرًا الإخوة. خطئوا حين احتقروا يوسف وأبغضوه ورذلوه، وكادوا يقتلونه لو اتَّفقوا. وفي سيناريو يمزج الحيلة المدبَّرة والاهتداء الحقيقيّ، أمرَّهم يوسف في خبرة جسديَّة بأن يُسلِّموا بين يدَي رجل غريب، وأجبرهم على أن ينتزعوا من الأب ابنه الثاني. وفي النهاية، أقرُّوا بذنبهم. لن نجد في أيِّ خبر من أخبار التوراة ما يدفعنا هكذا لكي نفكِّر في متطلِّبات المصالحة ومواعيدها(10).

*  *  *

تلك الرواية التي تختار الصداقة لمصر والإعجاب بها، وتنسى العبوديَّة التي سيشدِّد عليها سفر الخروج، هي ما توسَّعت فيه هذه القصائد التي نسبت إلى أفرام السريانيّ. قدَّمنا في جزء أوَّل سبع قصائد وها نحن نقدِّم في هذا الجزء الثاني القصائد الخمس الباقية، ونضيف إليها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM