الفصل السابع والعشرون والفصل الثامن والعشرون

الفصل السابع والعشرون

وفي الغد، خرجْنا من عند ميرون وأتينا إلى شاطئ البحر حيث كان مشغلُ الدبّاغين. وواحد منهم، كان يهوديًّا واسمه خاروس([1]). فهذا أخذ يكلِّم يوحنّا ويورد كتابات موسى. فأجابه يوحنّا وبيَّن له ما يقول الكتاب المقدَّس عن تجسُّد ابن الله، عن حاشه (آلامه)، عن دفنه وصعوده إلى السماء. فما ردَّ خاروس إلاَّ بالتجديف. حينئذٍ قال له يوحنّا: «توقَّفْ عن التجديف واصمُتْ». وفي الحال صار خاروس أخرس([2]) وما عاد يستطيع أن يتكلَّم. فاندهش الحاضرون لأنَّ كلمة الله فعلَتْ مثل هذا الفعل بسرعة كبيرة. وبعد ثلاثة أيّام، جاءت زمرة أصدقاء خاروس وقالوا غاضبين: «ماذا فعلت لخاروس بحيث جعلته أخرس؟» فأجاب يوحنّا: «يا إخوتي، لماذا أنتم غاضبون عليَّ، ولماذا تنسبون إليَّ عقابًا سامه له الله بسبب أقواله الكافرة؟ فليسمع الآن بأناة إلى أن تتجلَّى مشيئة الربّ».

حينئذٍ قال يهوديٌّ اشتهر بحكمته: «يا معلِّم، يحصل بعض المرّات أن ينقص من الخمر حلاوة وأن يكون الحليب مرًّا. وهكذا هو الأمر مع الرجال: شرِّير يتفوَّه بكلام صالح، وصالح يقول أقوالاً شرِّيرة». عندئذٍ أتى خاروس ليطلب المغفرة من يوحنّا. ارتمى عند قدميه، واليهوديّ الذي سبق له وتكلَّم، قال: «يا معلِّم، أنت صالح، فحُلَّ ما ربطتَ». فقال يوحنّا لخاروس: «خطئتَ إلى الله فأُغلقَ فمُك باسم يسوع المسيح. فلينفتح الآن باسمه». وفي الحال تكلَّم خاروس وركع لدى قدمَي يوحنّا وقال: «يا معلِّم، نحن نعرف بالكتب المقدَّسة أنَّ آباءنا أثاروا في الماضي غضب الله، ولكنَّه غفر لهم برحمته خطيئتهم. فإن كنتُ خطئتُ إلى الله الذي أرسلك إلى هذه الجزيرة، فاطلبْ منه لكي يغفر لي، وأعطِ عبدك معموديَّة النعمة». فعلَّمه الرسول وعمَّده باسم الآب والابن والروح القدس.

الفصل الثامن والعشرون

وإذ كان الرسول يصنع هذا في بطمس، كان في هذه الجزيرة ساحر اسمه قينوبيس. كان يقيم في برِّيَّة تبعد 40 فرسخًا عن المدينة، ويسكن في مغارة تُعتبَر مسكنَ الأرواح النجسة. وكان السكّان ينظرون إليه كأنَّه إله بسبب المدهشات التي يصنع. فلجأ إليه كهنة أبولُّون حين رأوا أنَّ يوحنّا يعظ بكلِّ حرِّيَّة وأنَّ الوالي لا يفكِّر بأن ينتقم من دمار هيكل أبولُّون. فقالوا له: «اعتدْنا من زمان بعيد أن نلجأ إليك. أمّا اليوم فمساندتك ضروريَّة جدًّا لنا أكثر من أيِّ وقت كان. كُن المحامي عنّا في الشقاء الذي يصيبنا. فيوحنّا، هذا الغريب الذي أُبعد عن وطنه بسبب مساوئه ونُفيَ إلى هنا، استجلب بسحره رضى العظماء. واستقوى بعونهم فحرَّك البلبلة في الأرض. قلبَ هيكلَ أبولُّون، والوالي الذي سبق وسجنه أطلق سراحه بناء على طلب ميرون وأبُّولونيد». فأجابهم قينوبيس: «أنتم تعرفون أنِّي لا أترك عزلتي، فلماذا تطلبون منِّي أن أخرج؟ أتريدون أن أشوِّه مجدي وأجعل اسمي محتقَرًا بسبب إنسان عاديٍّ ليس لي أن أهتمَّ به؟ وَعَدتُ بأن لا أدخل إلى المدينة. أمّا غدًّا فأُرسلُ شيطانًا إلى البيت الذي يقيم فيه هذا الغريب، فيأخذ نفسه وأرسله أنا إلى الدينونة الأبديَّة».

حين سمع الكهنة هذا الكلام، سقطوا على ركبهم أمام قينوبيس وشكروه ورجعوا إلى المدينة. وفي الغد، جمع قينوبيس عددًا كبيرًا من الشياطين، وقال لرئيسهم: «امضِ إلى بيت ميرون وانتزع نفس يوحنّا وجئني بها». فمضى الشيطان إلى بيت ميرون. ولكنَّ يوحنّا عرف بمجيئه. فقال له: «باسم ربِّنا يسوع المسيح، أمنعك أن تخرج من هنا حتّى تقول لي لماذا جئت». وفي الحال وجد الشيطان نفسه وكأنَّه مقيَّد. وقال: «يا رسول الله، أقول لك الحقيقة كلَّها. فأرجوك ألاَّ تغضب عليَّ. فكهنة أبولُّون مضوا إلى قينوبيس وطلبوا منه أن يأتي إلى المدينة ويقتلك. هو ما أراد قائلاً بأنَّه يخسر شهرته إن دخل إلى المدينة. ولكنَّه وعد بأن يرسلني لكي آخذ نفسك وأحملها إليه. لهذا جئت».

أجاب يوحنّا: «هل حصل في ما مضى وكُلِّفتَ بمهمَّة مماثلة؟» فأجاب الشيطان: «أجل، ولكنِّي ما حملتُ إليه النفوس التي طلب». فقال يوحنّا: «ولماذا تطيعونه؟» فقال الشيطان: «لأنَّ كلَّ قوَّة إبليس هي فيه، فتعاهد مع رؤسائه كما نحن تعاهدنا معه». فقال يوحنّا: «يأمرُك رسول يسوع المسيح بأن لا تفعل شيئًا يسيء إلى البشر. ولا ترجعْ إلى ذاك الذي أرسلك، بل اخرج من هذه الجزيرة». وفي الحال خرج الشيطان.

وإذ رأى قينوبيس أنَّ الروح الشرِّير لم يرجع، دعا آخر وأعطاه الأمر عينه. فأمره يوحنّا بأن يخرج من الجزيرة. عندئذٍ أرسل قينوبيس روحَين آخرين، وقال لهما: «امضيا إلى يوحنّا. ولكن ليقتربْ واحدٌ منكما وليبقَ الآخر عند الباب ويلاحظْ ما يحصل، وليعلَمْ لماذا رفيقاكما لم يرجعا». فقال يوحنّا للروح الذي اقترب منه: «أنا أعرفُ لماذا أتيتَ. فآمرُك بأن لا تعود إلى قينوبيس، بل أن تخرج في الحال من الجزيرة». فأطاع الشيطان أمر رسول الله، في الحال. والشيطان الآخر الذي لبث عند الباب، عاد إلى قينوبيس وروى له ما شاهد. عندئذٍ دعا قينوبيس جمهورًا من الشياطين لا يُحصى، وقال لهم: «طرد يوحنّا رفاقكم من هذه الجزيرة، وهو يطردكم منها أيضًا فتتألَّمون آلامًا كبيرة إذا كنتُم لا تقاومونه بعزم. فأدخل أنا إلى المدينة متقوِّيًا بمساندتكم وأقلبُ حيله وأهلكه».

ثمَّ دخل قينوبيس إلى المدينة يرافقه فقط ثلاثةُ شياطين، وأمر الآخرين بأن يلبثوا خارج المدينة. وحين دخل، سيطر على السكّان كلِّهم شعور عظيم لأنَّه لم يكن يخرج أبدًا من عزلته. اجتمع الجمهور ووجَّهوا إليه عددًا من الأسئلة، فأجاب على كلِّ سؤال. فقال لي يوحنّا: «يا بروخور، كنْ ثابتًا ولا تتزعزعْ، لأنَّ قينوبيس يُنزل علينا كثيرًا من الضيقات والقلاقل». حينئذٍ اجتمع كلُّ الإخوة الذين عمَّدهم يوحنّا لكي يسمعوا تعليماته، وبحسب أمر يوحنّا لبثنا عشرة أيّام في بيت ميرون، وما خرجنا قطُّ بسبب الضجيج الذي حرَّكه قينوبيس في المدينة. وكان الرسول يعزِّينا ويقوِّينا قائلاً: «اثبتوا وسوف تتأكَّدون من حضور الله».

واجتمع كلُّ سكّان المدينة ليستمعوا إلى قينوبيس، وكانوا يصغون إلى أقواله. ومرَّت عشرةُ أيّام، فقال لي يوحنّا: «لنخرج يا ابني». ومضينا إلى إحدى ساحات المدينة، وكان جمهور من الناس مجتمعين ليستمعوا إلى كلام يوحنّا. وإذ رأى قينوبيس أنَّ السامعين يحيطون بيوحنّا، قال: «يا رجالاً عميانًا وبعيدين عن الحقيقة. لو أنَّ يوحنّا بارٌّ، ولو أنَّ كلامه وأعماله صالحة لآمنتُ به، ولكنَّ الواقع أنَّه جائر وأعماله شرِّيرة، ساعة أعمالي صالحة. فآمنوا بي لا به». وطلب قينوبيس من شابٍّ كان هناك إن كان والدُه حيًّا. فأجاب: «كلاَّ، هلك حين انكسرت السفينة». عندئذٍ قال قينوبيس ليوحنّا: «إن كان ما تقول هو الحقيقة، فبيِّنْ ذلك وأعد الوالد إلى هذا الولد». فأجاب يوحنّا: «لم يرسلني الله لكي أقيم الموتى، بل لأعلِّم وأخلِّص الناس الذين يغشُّهم إبليس». فقال قينوبيس للشعب: «أما ترون، يا سكّان هذه المدينة، أنَّ يوحنّا ساحر يجتذبكم بحيله؟ احتفظوا به إلى أن أعيد أمامكم، إلى هذا الشابّ، أبًا مليئًا بالحياة».

حينئذٍ اقتاد قينوبيس الشعب إلى شاطئ البحر. وإذ مدَّ يديه أحدث ضجَّة كبيرة. وفي الحال اختفى عن كلِّ العيون، فاستولى الرعبُ على الجميع. وصاح الجمع: «عظيم هو قينوبيس، ولا إله أعظم منه» وفي الحال، خرج من البحر ومعه شيطان شكله شكل والد الشابّ. وقال قينوبيس للشابّ: «أهذا أبوك؟» فأجاب: «نعم يا سيِّدي». عندئذٍ ركع الشعبُ كلُّه أمام قينوبيس وسجدوا له، وأرادوا أن يقتلوا يوحنّا. ولكنَّ قينوبيس قال لهم: «لا تفعلوا به شيئًا، لأنَّكم سوف ترون أشياء أعظم من هذه ثمَّ تعاقبونه بقساوة». ودعا قينوبيس رجلاً آخر وسأله: «هل عندك ابن؟» فأجابه: «كان عندي، يا سيِّدي، ولكن عدوًّا حركته عاطفةُ الحسد فقتله». عندئذٍ تفوَّه قينوبيس بضحيح كبير، ودعاهما باسمهما. وللحال ظهر شيطانان، واحد له صورة الشابّ الذي قُتل. فسأل قينوبيس الأب: «هل هذا ابنك؟» فقال: «نعم، يا سيِّدي». فقال قينوبيس ليوحنّا: «أما تندهش من المعجزات التي ترى؟» فأجاب يوحنّا: «كلاَّ». فأردف قينوبيس: «إن كانت هذه المعجزات لا تحرِّكك، فسوف ترى أعظم منها، ولن أتوقَّف إلى أن أنتصر عليك بالمعجزات التي أقوم بها». فأجاب يوحنّا: «معجزاتك تزول معك». فقال الشعب ليوحنّا: «يا هاربًا، مخفيًّا، مجهولاً، لماذا تجدِّف على قينوبيس القدير؟» وارتموا عليه مثل وحوش كاسرة فقلبوه على الأرض وأرادوا أن يمزِّقوه. وإذ ظنَّ قينوبيس أنَّ يوحنّا مات، قال للجميع: «اتركوه بدون أن يُدفَن فتأكله طيور السماء ووحوش الأرض، وترون إن كان المسـيحُ الذي يبشِّر به سوف يقيمه». وإذ ظنَّ السكّان أنَّ يوحنّا قُتل، مضوا فرحين كـلُّ واحد إلى بيته. ولبث يوحنّا نائمًا في هذا المكان حتّى الساعة الثانية من الليل. وأتيتُ مستسلمًا لحزن كبير لأرى إن كنت سأجدُ معلِّمي. ولمّا اقتربتُ منه، قلتُ له: «كيف تجد نفسك، يا سيِّدي؟» فأجاب: «امضِ سريعًا إلى ميرون. فجميع الإخوة مجتمعون وهم مستسلمون لحزن عميق. بشِّرهم، بنعمة يسوع المسيح، أنَّني ما زلتُ حيًّا([3]) ثمَّ تعود إليَّ.» فمضيتُ مسرعًا إلى بيت ميرون، فوجدتُ هناك الإخوة مجتمعين وهم محزونون جدًّا بسبب شقاء يوحنّا. ولمّا سمعوني أقرع الباب، ما تجرَّأوا أن يفتحوا إذ خافوا فخاخ المتشيِّعين للساحر قينوبيس. وإذ استمررتُ أقرع وأصرخ عرفني أحدُ عبيد ميرون، فأعلن أنَّ بروخور يقرع الباب([4])، فتحوا لي. وحين رأوني، أخذهم الذهول لأنَّهم ظنُّوا أنِّي متٌّ مع يوحنّا. وحين علموا أنَّ يوحنّا ما زال حيًّا، ركضوا بفرح إلى حيث كان. فوجدناه راكعًا يصلِّي إلى الربِّ يسوع المسيح. ولمّا أنهى صلاته([5]) قبَّلوه. فأخذ يوحنّا يعلِّمهم وينبِّههم بحيث لا يُؤخَذون بأقوال قينوبيس أو بأعماله. وقال: «كلُّ ما يعمله هو مظهر وحيل من الشيطان. ولكنَّكم سوف ترونه هالكًا مع حيله، بنعمة يسوع المسيح. امضوا إلى ميرون، واثبتوا في الصلاة إلى أن يكشف الله مشيئته». فمضوا بعد أن قبَّلوه.

ولمّا كان الصباح، جاء بعض الناس يخبرون قينوبيس أنَّ يوحنّا ما زال حيًّا. حينئذٍ دعا قينوبيس شيطانًا أعانه مرَّات عديدة وقال له: «كن مستعدًّا لتنفِّذ أوامري». فأتى مع الشيطان إلى المنزل الذي كنّا فيه ورافقه جمهورٌ كبير. فقال ليوحنّا: «أردتُ لك أن تحمل هذا الألم وهذا الخزي، ولهذا أبقيتُك حيًّا. ولكن أريد الآن أن نمضي إلى البحر بحيث يرى الجميعُ مجدي ويفرحوا بتعثُّرك ودمارك». ثمَّ أمر الحاضرين بأن يحتفطوا بيوحنا إلى أن يروا المعجزات التي يقدر أن يصنع.

 


[1](1)                Charus. نلاحظ أنَّ اليهود يلاحقون يوحنّا كما كانوا يلاحقون بولس. رج أع 13: 50ي؛ 14: 19.

[2](2)  ذاك ما فعل بولس مع عليما الساحر الذي صار أعمى. رج أع 13: 11.

[3](1)  نتذكَّر أنَّ بولس رُجم وحُسب ميتًا. رج أع 14: 19-20.

[4](2)  مشهد مماثل حين عودة بطرس من السجن. رج أع 12: 13ي.

[5](3)  كان يسوع يصلِّي وتركوه حتّى أنهى صلاته، رج لو 11: 1ي.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM