الفصل الثالث: الحمّامات العامَّة

الفصل الثالث

الحمّامات العامَّة

لمّا بُنيَت (الحمّامات)، قيل إنَّ الأبالسة نشروا في هذه المناسبة كلَّ حيَلهم. ووقتَ كانوا سيحفرون الأساسات، أقنعوا بعض السحرة بأن يدفنوا فيها صبيَّة حيَّة، وقالوا إنَّ هذا فألٌ حسن للبناء. ولكن حصل عكس ذلك كلِّيًّا. لأنَّ إبليس كان مقيمًا في ذلك الموضع ويتلاعب بالناس، وثلاث مرَّات في السنة كان يخنق في هذه الحمّامات شابًّا أو صبيَّة. فلاحظ أحدُ سكّان أفسس، واسمه ديوسكوريد، في أيِّ وقت اعتاد هذا الشقاء أن يتجدَّد. كان له ابنٌ عمرُه عشرون سنة، وكان جميلاً جدًّا. نصب له إبليس الفخاخ وسعى لكي يخنقه. فجاء يومًا إلى الحمّامات يرافقه أحدُ خدمه، وكنتُ (بروخور يتكلَّم) هناك ماسكًا الإناء الضروريّ لكي أقوم بوظيفتي. ولكنَّ إبليس النجس قفز فجأة فخنقه ومدَّده ميتًا. فانسحب خدَّامُه رعبًا وحزنًا، وقالوا: «آه! كم نحن تعساء! ماذا نفعل وسيِّدنا مات؟» وحين علمت روميكا بذلك، حلَّت الشريط الذي يزيِّن رأسها، و«حلشت» شعرها، وأخذت تطلق الصراخ الكبير وتقول: «ويل لي، أنا التعيسة! ماذا أقول لسيِّدي ديوسكوريد حين يعلم أنَّ ابنه الوحيد مات؟ يا ديانا، عظيمة الأفسسيِّين، تعالَي إلى معونتنا وبيِّني قدرتك تجاه هذا الشابّ. نحن كلُّنا، سكّان أفسس، رجالاً ونساء، نقرُّ أنَّك تدبِّرين كلَّ شيء، وأنَّ معجزاتٍ كبيرة تتمُّ بواسطتك. اسمعي أَمَتك، وأعيدي ابنَ سيِّدي لكي يعلم كلُّ الذين يرجونك كم سلطانك واسع. أعيدي لنا هذا الشابَّ وأَصلحي هذا الشقاء، لأنَّك الإلاهة الحقيقيَّة، ولأنَّ لا إله قدير مثلك!»

وبعد أن «حلشت» شعرها ولبثتْ في هذا الحزن، منذ الساعة الثالثة حتّى التاسعة، اجتمع جمهور كبير، بعضهم يبكي الشابَّ وآخرون يحزنون بسبب روميكا.

وإذ حصل هذا، وكان يوحنّا أنهى مهمَّته، فاقترب منِّي وقال لي: «يا ابني بروخور، ماذا يقولون عن هذا الحدث؟» وإذ رأت روميكا أنَّنا نتكلَّم معًا، وقبل أن يكون لي وقتٌ لكي أجيب، جاءت وأمسكت يوحنّا وقالت له: «يا عبدًا هاربًا، السحر الذي مارستَه من يوم جئتَ إلينا، كُشف اليوم. فبسببك تخلَّت عنِّي ديانا. أو تردّ ابن سيِّدي ديوسكوريد أو أنزع منك حياتك في هذه الساعة». فأجاب يوحنّا: «ماذا حصل لك، يا سيِّدتي؟ اخبريني». فبكت سخطًا وجعلت تضربه وتقول: «أيُّها العبد الشرِّير، السريع في الأكل والكسلان حين ينبغي أن تعمل، أما يعرف كلُّ سكّان أفسس بما حصل؟ وأنتَ تأتي إليَّ وتفرح شاتمًا لي وتتظاهر أنَّك تجهل أنَّ ابن ديوسكوريد، سيِّدي، مات في الحمّامات». عندئذٍ ابتعد يوحنّا عنها، غير محتفظ بحقد أو بحزن لما حصل له. وبعد وقت، دخلَ إلى الحمّامات، وطرد منها الروح النجس، وبقدرة يسوع المسيح ربِّنا، أرجع نفس الشابِّ إلى جسده، وخرج من الحمّامات وهو يمسك الشابَّ بيده، واقتاده إلى روميكا وقال لها: «تقبَّلي ابنَ سيِّدك». حين رأته، صعقها الرعبُ وارتمت على الأرض كأنَّها ميتة ومحرومة من الإحساس، فأخذها يوحنّا بيدها، وأنهضها بهدوء، وكانت مضطربة جدًّا حين رأت مثل هذه المعجزة الكبيرة، ولبثت جامدة مثل الحجر. وبعد ساعتين من الزمن، استعادت حواسَّها. وما كانت تجرؤ أن تنظر في وجه الرسول. بل امتلأت خجلاً عميقًا، وفكَّرت في نفسها: «كيف أجرؤ أن أرفع عينيَّ إلى ذاك الذي جعلته عبدي ساعة لم يكن عبدي، والذي رفعتُ عليه الأكاذيب؟ ما كان يستحقُّ أيَّة معاملة سيِّئة. يا للتعيسة! ماذا فعلت؟ يا موت! أدعوك تعال وابتلع شقيَّةً مثلي». وفي الحال سقطت على الأرض مُغمًى عليها. ولمّا رآها يوحنّا تبدَّلت بهذا الشكل، أخذها بيدها وأنهضها وزوَّدها بإشارة الصليب المقدَّس. ولمّا عادت إلى نفسها، سقطتْ عند قدمَيْ الرسول وهي تبكي، قائلة: «أطلبُ منك بإلحاح، قُلْ لي من أنتَ، لأنِّي متأكِّدة أنَّك إله أو ابن الله، لأنَّك أجريتَ هذه المعجزة».

فأجابها يوحنّا: «لستُ إلهًا ولا ابن إله، بل أنا تلميذ الربِّ يسوع المسيح، ابن الله الحيّ، وارتحتُ على صدره، وسمعتُ منه أسرارًا أبشِّر بها. إن آمنتِ به تكونين خادمته كما أنا عبدك». عندئذٍ، قالت روميكا للرسول يوحنّا وقد غطَّى (وجهَها) الاحمرار والخجل: «يا رجل الله، أتوسَّل إليك أن تنسى جميع الإساءات التي أسأتُ بها إليك. سامحْني لأنِّي ضربتك، عاملتُك بقسوة، شتمتك. وخصوصًا لأنِّي استعملت شهادات الزور تجاهك وتجاه رفيقك فكذبت لأنِّي قلتُ إنَّكما عبداي». قال لها يوحنّا: «آمني بالآب والابن والروح القدس فتُغفَر ذنوبك».

فأجابت روميكا (وقالت) للرسول: «يا رجل الله، أؤمن بكلِّ ما أسمعُ من فمك». وإذ كان هذا، اجتمع جمهور كبيرٌ جدًّا، وأحدُ خدَّام ديوسكوريد ركض يبشِّره بما أجرى يوحنّا رجلُ الله وكيف أنَّ ابنه كان ميتًا في الحمّامات، وكيف أنَّ يوحنّا أقامه، وكيف أنَّ جمعًا كبيرًا من الشعب كان يقبِّله بعد أن عاد إلى الحياة. حين علم ديوسكوريد بموت ابنه، سيطر عليه الحزن والهلع فأسلم الروح. والذي حمل إليه هذه البشرى رجع إلى الحمّامات حيث كان يوحنّا يعلِّم، وحيث كان أيضًا ابنُ ديوسكوريد. وأخذ يصرخ: «ويلاه! مات سيِّدي ديوسكوريد».

وحين سمع تيون([1]) ابن ديوسكوريد بوفاة أبيه، قام في الحال. وترك يوحنّا وركض إلى أبيه فوجده بلا حراك، ممدودًا على الأرض. فرجع إلى يوحنّا وهو مسلَّم إلى حزن مرير، وارتمى عند قدمَيْ الرسول وقال: «يا رجل الله، أنت الذي أعدْتَني إلى الحياة بعد موتي، أستحلفُك بأن تأتي إلى معونتي، لأنَّ أبي فارق الحياة منذ سمع بموتي. لا تتركْ ذاك الذي انتزعتَه من الموت أن يعود إلى الموت بعد أن يحطِّمه الألم». فقال له يوحنّا، المليء بالطيبة: «لا تضطرب، يا تيون، فموت أبيك سيكون حياة لك وله». وأمسك تيون بيده وقال له: «لنمضِ إلى أبيك ديوسكوريد». وتبعته روميكا وجمهور كبير من الناس استسلموا  للحزن وذرفوا الدموع. فأدخل تيون يوحنّا لدى أبيه. فأمسكه يوحنّا بيده وقال له: «يا ديوسكوريد، قمْ، فأنا أكلِّمك باسم ربِّنا يسوع المسيح ابن الله الحيّ».

وفي الحال، قام ديوسكوريد وهو ممتلئ حياة. ولمّا رأى جمهورُ الحاضرين هذه المعجزة، امتدحوا عظمة الله. ولكن كان بينهم من قال إنَّ يوحنّا هو ساحر. وأكَّد آخرون بحكم صائب: «لا يستطيع السحرة أن يقيموا الموتى».

وحين عاد ديوسكوريد إلى نفسه، قال ليوحنّا: «أما أنت، يا رجل الله، ذاك الذي أقام ابني من بين الأموات؟» فأجاب يوحنّا: «ما أنا هو الذي أقامه، بل يسوع المسيح ابن الله الذي يكرز بفمي، هو الذي أقامه». وفي الحال، سقط ديوسكوريد عند قدميه وقال: «ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص([2]) وأصير خادمَ يسوع المسيح ابن الله؟» فأجابه يوحنّا: «آمن باسم الآب والابن والروح القدس واقبل المعموديَّة». فقال ديوسكوريد ليوحنّا: «أنا وابني نضع بين يديك كلَّ ما نملك».

فأجاب يوحنّا: «هذه الخيرات الأرضيَّة ليست ضروريَّة لله ولا لي». ومنذ تلك الساعة، تبع ديوسكوريد وتيون يوحنّا. فعلَّمهما قائلاً: «الله الذي نشر رحمته على الجميع، أرسلَ على الأرض ابنه الذي تألَّم ومات ودُفن ونزل إلى الأسافل. وحين انتزع المؤمنين منتصرًا على الموت، قام في اليوم الثالث. وبعد قيامته، تراءى لنا أربعين يومًا، نحن الرسل الاثني عشر. أكل وشرب معنا، وأمرنا بأن نمضي ونكرز الإنجيل في العالم كلِّه، وأعطانا القوَّة على كلِّ شيء، وجعلنا قادرين أن نشفي جميع الأمراض ونقيم الموتى ونطرد الشياطين ونعمِّد البشر لغفران خطاياهم. ما منحَنا نحن فقط هذه القوَّة، بل أعطاها أيضًا للذين يؤمنون به بكرازتنا. وخصوصًا الذين يتميَّزون بتقواهم وغيرتهم، يكونون أهلاً لأن يعينونا في الخدمة المقدَّسة. أمّا الذين لا يؤمنون فيُحكم عليهم».

وحين أنهى يوحنّا خطبته، اقترب منه ديوسكوريد وابنه وطلبا منه أن يعمِّدهما، فقال لهما يوحنّا: «ليقبلك الله ويقبل ابنك!» وإذ كان يتكلَّم بعد، حملت روميكا الوثائق التي نظَّمتها لكي تؤكِّد عبوديَّتهما (يوحنّا وبروخور)، وسلَّمتهما إلى معلِّمي يوحنّا فمزَّقهما في الحال. ثمَّ عمَّد ديوسكوريد في بيته وابنه تيون وروميكا. وحين خرجْنا من عند ديوسكوريد، أتينا إلى الحمّامات حيث عملنا مثل عبدَين. فطرد يوحنّا إبليس الكريه الذي سبق له وخنق تيون، وأعادنا ديوسكوريد إلى بيته. فجلسنا إلى المائدة ونحن نؤدِّي الشكر لله. أكلنا وشربنا ولبثنا معه إلى المساء.

 


[1](1)  Theon. ارتباط بـ qeoV: الله

[2](2)  أع 16: 30. كلام سجّان فيلبِّي.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM