أعمـال يوحنـا: المـدخـل

أعمــال يوحنــــا

المـدخـــل

كتاب ظهر في القرن الثاني، وفي اللغة اليونانية. ولكنه ضاع أو تفكّك. ثم أُعيدت أجزاؤه. وها نحن ننقله كما في النسخات العلميّة، ونُسبقه بمقدّمات تجعله في إطار الأعمال المنحولة التي ظهرت أول ما ظهرت في القرن الثاني المسيحيّ، وتواصلت حتى القرن الرابع وفيما بعد.

أع يو مؤلَّف يونانيٌّ من القرن الثاني، يتحدَّث عن نشاط وموت الرسول يوحنَّا في آسية الصغرى. اعتبره بعض الآباء هرطوقيًّا، ورآه النسّاخ طويلاً جدًّا، فما وصل إلينا كلُّه، لهذا أعاد الدارسون بناءه انطلاقًا من الوثائق المختلفة. فالتأليف ليس متناسقًا: فهناك جزء آتٍ من الحلقات الغنوصيَّة (94-102 ثمَّ 109) أُدرج في كتاب ليس بالهرطوقيّ إطلاقًا، بل يشهد على نظرة إلى المسيحيَّة مطبوعة بالطابع الروحيّ.([1])

1- مؤلَّف مشبوه

إنَّ الأساقفة الذين اجتمعوا في نيقية سنة 787 في المجمع المسكونيّ السابع، قرَّروا، بعد أن قرأوا ثلاثة مقاطع من أع يو، أن الكتاب يحمل التجديف وبالتالي يجب أن يُحرَق. هذا الحكم الذي جاء بعد عدَّة أحكام محقِّرة أعلنها لاهوتيّون كنسيّون منذ القرن الرابع([2])، يُدهشنا اليوم. ولكنَّه يُتيح أقلَّه أن نفهم لماذا لم يصل إلينا هذا الكتاب كلُّه.

اشتُبه بأنَّ أع يو مرتبط بالهرطقة. ألَّفه وشوَّهه الهراطقة، وكان جدالٌ في الحلقات الهترودوكسيَّة([3]). في هذا الوضع، لم تعترف به الكنيسة على أنَّه الخبر الصحيح لحياة يوحنّا وموته. وهكذا، هُمِّش الكتاب واستُبعد، وحلَّ محلَّه كتبٌ تتوافق مع الهاجيوغرافيَّة الأرثوذكسيَّة([4]). مثل أعمال يوحنّا بيد بروخور (أع يو برو) الذي يعود إلى القرن الخامس في العالم البيزنطيّ، وإلى أفضال (أو: معجزات) يوحنّا (أف يو) الذي قُرئ في العالم اللاتينيّ وعاد إلى القرن السادس. وفي العالم السريانيّ، إلى خبر يوحنّا السريانيّ (خب يو سر) الذي قُرئ في كنيسة أنطاكية وعاد إلى القرن الرابع.

مصير أعمال يوحنّا راح إلى النسيان أو إلى التدمير. ومع ذلك لبث «حيًّا» في ثلاثة أحوال رئيسيَّة: أوَّلاً، بشكل مستقلّ، في مخطوط يتضمَّن ف 87-105. ثانيًا، في قراءات احتَفظت بها الكنيسةُ لتحتفل بعيد الرسول. وهكذا حُفظ خبر موت يوحنّا بحسب أع يو 106-185 في المخطوطات الهاجيوغرافيَّة، اليونانيَّة والشرقيَّة. ثالثًا، في أخبار يوحنّاويَّة جُعلَتْ هنا لكي تحلَّ محلَّ أع يو. مثلاً، هناك بعض شهود أع يو برو تتضمَّن أع يو 18-55؛ 58-86؛ 106-115. وغيرها يتضمَّن ف 56-57. ونجد صدى لما في أع يو 62-86، وبصورة متقطعة 62-86 في أف يو.

حُفظت هذه الأجزاء بشكل خفيّ وغير مباشر ودون الإشارة إلى المرجع، أي أع يو، وهذا يعني أنَّ هذا المؤلَّف لم يُرفَض في الكنيسة كلِّها، بل وَجَد له قرّاء في داخل الكنيسة.

من هم هؤلاء القرّاء؟ لا نعرف عنهم الأشياء الكثيرة. ولكن صدفَ أن عرفنا أنَّ ديديم الأعمى، المفسِّر المصريّ في نهاية القرن الرابع([5])، عاد إلى أع يو.

والقدِّيس أوغسطين الذي كان متحفِّظًا بالنسبة إلى هذا المؤلَّف، استعمل أع يو من أجل تقديم برهانه([6]). والأساقفة البيزنطيّون أوردوا أع يو في مجمع هياريا سنة  754([7]) للكلام عن تدمير الصور.

مقابل هذا، نمتلك معلومات حول القارئ الهاترودوكسي لأعمال يوحنّا بدءًا بالزبور المانويّ([8])، الذي انتقل إلى اللغة القبطيَّة، وعادَ أصلُه السريانيّ إلى نهاية القرن الثالث. نجد فيه أصداء عن أع يو. إنَّ اهتمام الجماعات المانويَّة لهذا المؤلَّف (وسائر الأعمال المنحولة)، أمرٌ يُثبته في الغرب عددٌ من الكتّاب ومنهم القدِّيس أوغسطين، حيث يُعظَّم أشخاصٌ الرسل وأفرادٌ عاشوا بقربهم ومارسوا صراع العفَّة وتجاوزوا مِحَن العذاب والألم.([9])

وهي أسباب مشابهة لهذه تُفهمنا استقبال أع يو استقبالاً راضيًا في تيّارات مسيحيَّة أخرى مهمَّشة أو هاترودوكسيَّة: أوساط مسيحيَّة قديمة في سورية. حلقات التعفُّفيَّة (تيّارات نسكيَّة منشقَّة) في آسية الصغرى، في القرن الرابع، بحسب شهادات عديدة، بعضها صريح جدًّا لدى أمفيلوك، أسقف إيقونيوم (373/374-398/404). ثمَّ تيّارات بريسقيليانيَّة([10]) في إسبانية وفي جنوب غاليا (فرنسا القديمة) منذ نهاية القرن الرابع، بحسب قول القدِّيس أوغسطين وكتّاب كنسيِّين آخرين.([11])

هذا لا يعني أنَّ أع يو مملوء بالأفكار المشبوهة والمشكوك بها، بحيث يَنشر الهرطقة في كلِّ مكان. فالبلاغ الذي ينقله والقيم التي نجدها، ليست مشبوهة. ما عدا ف 94-102 التي لا تنتمي إلى النصِّ الأوَّل. أمّا انتشار أع يو في الأوساط الكنسيَّة وأبعد من هذه الأوساط، فيرتبط بطابعه القصصيّ واهتمام المسيحيِّين بصورة يوحنّا الرسول.

2- تصميم أع يو

بقيَتْ خمسةُ أجزاء من أع يو وهي تمثِّل ثلثَيْ الكتاب الأوَّل أو أقلّ من ذلك. روى هذا المؤلَّف تنقُّلات الرسول ونشاطه في مدن عديدة من آسية الصغرى. ولعبت مدينة أفسس في الخبر دورًا مركزيًّا: أقام فيها يوحنّا مرَّتين، وحصلت فيها الأحداثُ العديدة. وعند باب هذه المدينة حُفر القبرُ حيث يرقدُ وينام. وارتبط بأفسس أو بأسفار باتِّجاه أفسس، في أربعة أجزاء من خمسة.

ننطلق من تلميحات إلى النصِّ وإلى شهادات خارجيَّة لكي نكوِّن بعض عناصر الأجزاء التي ضاعت، بحيث ترتسمُ أمامنا فكرةٌٌ عامَّة عن أع يو.

- هناك فجوة أولى بسبب ما ضاع من بداية الخبر. فهي تحوي في ما تحوي إقامة الرسول في ميليتس (ف 18). كان المؤلَّف سوف يبدأ (لو بدأ!) بمشهد الإرسال حيث تُعطى آسية (الصغرى) ليوحنّا([12])، أو بخبر اهتداء الرسول إلى البتوليَّة، كما تدلُّ على ذلك التلميحات في ف 113. ([13])

- شكَّلت ف 18-36 أوَّل جزء من النصِّ الذي حُفظ لنا. هي تتحدَّث عن سفَر قام به يوحنّا من ميليتس إلى أفسس، وعن الأحداث الأولى لإقامته الأولى في هذه المدينة: خبر ليكوميد وكليوبتره، خبر الصورة وشفاء النساء العجائز في مسرح أفسس.

- وكانت فجوة ثانية حرمَتْنا نهايةَ خبر العجائز (رج ف 36)، وروايةً مركَّزة على دروسياني وأندرونيك. يمكن أن تُكوَّن هذه الرواية في خطوطها الكبرى، انطلاقًا من بعض تلميحات من داخل أع يو (ف 87، 63، 73، 74، 82) ومن خارجها (الزبور المانويّ). اهتدت دروسياني بواسطة يوحنّا، فعزمت أن تمارس العفَّة. فانتقم أندرونيك زوجُها فسجنها في قبرٍ كما سجن يوحنّا. عندئذٍ تجلَّى الربُّ للصبيَّة «في سمات يوحنّا وفي سمات شابّ» (ف 87). حُرِّر السجينان بعد 14 يومًا، واهتدى أندرونيك بدوره.

- ارتبطت ف 87-105 ارتباطًا مباشرًا بهذه الرواية، فتضمَّنت خطبة طويلة من يوحنّا إلى الإخوة.

- وانقطع الخبر بفجوة ثالثة حيث كانت أحداث أخرى هامَّة أُخذت من إقامة يوحنّا الأولى في أفسس.

- روت ف 37-55 نهايةَ هذه الإقامة الأولى في أفسس، ومشروعَ سفَر الرسول في سميرنة (تقابل إزمير الحاليَّة)، وفي «مدن أخرى».

- وكان لفجوة رابعة، قصيرة، أن تحمل جوابًا بالإيجاب على طلب أهل سميرنة. وظروف الانطلاق من أفسس.

- روى ف 56-57 وصول يوحنّا إلى سميرنة وشفاء ابن أنتيبتروس.

- والفجوة الخامسة والأخيرة تعني نهاية الإقامة في سميرنة وباقي السفر «في مدن أخرى» من آسية، الذي ينتهي في لاودكيَّة (راجع العنوان الثاني في ف 58). كان هذا القسم الناقص سيحتوي أحداثًا مختلفة ومرتبطة بأشخاصٍ جُددٍ ذُكروا في ف 59.

- نقرأ الجزء الأخير في ف 58-86 وف 106-115. انطلق يوحنّا من لاودكيَّة إلى أفسس من أجل إقامة ثانية فيها، حيث يرِدُ خبرُ دروسياني، كلِّيماك وفورتوناتوس، وكلُّ هذا ينتهي بخبر موت الرسول.

*  *  *

وكانت نصوص أخرى ترتبط ارتباطًا حرفيًّا مع أع يو، فجاءت صدى أخبار كانت ستجد محلَّها في هذه الفجوة أو تلك.

برديَّة بهلنسة 850، وهي وريقة تعود إلى القرن الرابع، نقلت آثار حدثَين يكون فيهما يوحنّا البطل: ارتبط الأوَّل بشخص اسمه زوكسيس، والثاني بمواجهة بين الرسول وشابّ يرتدي لباس جنديّ. ونجد بشكل لامتوقَّع، وفي صورة مختلفة، الخبرَ التامّ لهذين الحدثين في تقميش إيرلنديّ يعود إلى القرن الخامس عشر([14]). وتضمَّن هذا المؤلَّف أيضًا، بين هذين الحدثين، معجزة ربطتها بأعمال يوحنّا أو بشخص يوحنّا، شهادات قديمة من لاتينيَّة ويونانيَّة. ويمكن أن تكون هذه الأحداث الثلاثة في الفجوة الثالثة.([15])

وأخيرًا، رسالة منسوبة إلى تيطس. هي مرافعة لاتينيَّة حامية من أجل العفَّة. قد يعود تأليفها إلى سنة 400 تقريبًا، بعد أن استقت الكثير من النصوص المنحولة. هي تقدِّم ثلاثة «إيرادات»: إيراد قريب من ف 113. والإيرادان الآخران (مواجهة شيطان – هجوم الرسول على زواج عُقد بمناسبة عرس) يعودان أيضًا، على ما يبدو، إلـى أعمـال يوحنّـا، ولكنَّنا لا نعرف أين نضعهما.([16])

مقاطع آتية من العالم الغنوصيّ (ف 94-102 ثمَّ 109)

في الماضي، تقلَّبَ البحثُ حول أع يو بين قطبين: من جهة، اعتَبرَ كتّاب عديدون أنَّ الكتاب أبصرَ النور في حلقات هرطوقيَّة، فتضمَّنَ شكلاً من أشكال الغنوصيَّة المسيحيَّة. غير أنَّ هذا الحكم المبنيّ بشكل شبه حصريّ على دراسة خطبة 87-105، لا ينطبق بسهولة على مجمل النصّ. لهذا ومن جهة ثانية، فضَّل كتّابٌ آخرون أن يحدِّدوا موقع أع يو داخل الكنيسة الكبرى، ونسبوها إلى شكل من المسيحيَّة الشعبيَّة التي لا تهتمُّ كثيرًا بنقاوة العقيدة. لهذا مالوا إلى تفسير المقاطع المطبوعة بالغنوصيَّة، في معنى «أرثوذكسيّ».

إنَّ هاتين النظرتين المتضاربتين، تدلُّ على أنَّ أع يو لا تشكِّل مولَّفًا متناسقًا، ولا يمكن أن تنتمي كلُّها إلى تيّار فكريّ واحد. فإنَّ ف 94-102 وخصوصًا ف 109، تتميَّز عن سائر الكتاب بخصائص أدبيَّة وتعليميَّة تشهد على أصلها الغنوصيّ.

فالمديح (ف 94-96) والوحي حول صليب النور (97-102) يتميَّزان عن سائر الخطبة اليوحنّاويَّة المدرَجان فيها. فالأمر بالصمت الذي يُنهي ف 93، يضع حدًّا لعرض الأشكال العديدة لظهور المسيح حول إقامته على الأرض. وتجد الخطبةُ تتمَّتَها المنطقيَّة في ف 103 الذي يرتبط مع موضوع «نعمة الربّ» (ف 91). هذه الخطبة هي من النوع الإرشاديّ، وهي تتوخَّى أن تُثبت إيمانَ الإخوة الذي زعزعته وجوه الربِّ المتنوِّعة. إنَّ ف 94-102 هي من فنٍّ أدبيّ آخر، فنِّ الأدب الغنوصيّ: هي خطبة الوحي المعدَّة لنقل معرفةٍ محفوظةٍ لعدد قليل.

ويَبرز التجذُّر الغنوصيّ لهذه الفصول في ألفاظ وموضوعات متميِّزة، لا نجدها في ف 87-93 وف 103-105، ولا في سائر الكتاب. حينئذ تعود مرارًا الألفاظُ المتعلِّقة بالمعرفة أو بالألم، وتتبيَّنُ حقائقُ أساسيَّة يُدعَى السامع (الغنوصيّ) أن يتبنّاها. وعبْرَ طقس التنشئة في المديح وفي الرقص، يُفهَم «سرّ» الألم الحقيقيّ (الذي هو من النظام الروحيّ) المرتبط بالإقامة في العالم السفليّ، ويُكتَشف في الوقت عينه كائنُه الحقيقيّ (ف 101). وبفضل وحي صليب النور، يُعرَف أنَّ المسيح هو غريب كلَّ الغربة عن الآلام التي تُصوِّرُها أخبارُ الآلام الإنجيليَّة، التي لا علاقة له بذلك الذي يموت على صليب الخشب (ف 99).

ولِوَحْيِ ف 94-102 بُعدٌ إيزوتيري (باطنيّ) وهجوميّ، لا يصل إليه إلاَّ الذين – مثل يوحنّا – ينتمون إلى «قرابة» المخلِّص، إلى «طبيعة الإنسان الإنسان»، والمعدَّون أوَّلاً ليُجمَعوا في صليب النور، ثمَّ ليرتفعوا فوق الصليب. ومجموعة المختارين هذه تعارض جمهور الشعب، «الطبيعة السفلى»، التي تَلبثُ حول الصليب والتي هي موضوع اعتبار أو هزء، لأنَّهم «في خارج السرّ» (ف 100). ووراء هذا الجزء من أع يو، نكتشف بدون صعوبة، جماعةً غنوصيَّة تُعلن هويَّتها بشكل هجوميٍّ تجاه الكنيسة والتفسير المشترك للأخبار الإنجيليَّة.

وتتيحُ دراسةٌ مفصَّلة لما في ف 94-102 وف 109 لكي نحدِّد أصلها في قرب  مباشر من الغنوصيَّة الولنطينيَّة أو في داخلها. وبين نقاط الاتِّصال الأكثر دلالة، نشير إلى التفسير الميثيّ([17]) للصليب كحدٍّ يفصل العالم الإلهيّ عن العالم السفليّ، وتثبيت للحكمة وترتيبها، وهي الإيّون([18]) الضالّ الذي يشخِّص مجمل الكائنات الروحيَّة (ف 98-99). وتلميح ف 95 إلى رقصة الصور الإلهيَّة التي تميِّز الميثة الولنطينيَّة: النعمة، الثامونة([19])، العدد 12، الكلّ. وهناك عناصر أخرى تشير أيضًا إلى قرابة أكثر دقَّة مع ممثِّلي المدرسة الولنطينيَّة الشرقيَّة. تيودوت ومرقس الساحر. الفصل الجذريّ بين المسيح ومصلوب أورشليم، الذي يتضمَّن نظرةً محض روحيَّة لـ»جسم» المخلِّص. نقلُ المعرفة عبر طقس الرقصة القريب من الممارسات الأسراريَّة المحبوبة لدى الولنطينيَّة الشرقيَّة.([20])

واستعمال كتابة لفظ سريانيّ (في ف 97) يعني الجمعة (ع ر و ب ت ا)([21])، يدلُّ بلا شكٍّ أنَّ الجزء الغنوصيّ في أع يو أبصر النور في سورية. وما يسند الكلام على هذا المكان، هو تقارب ف 94-102 من مواضيع تميِّز إنجيل يوحنّا، ممّا يدلُّ على تواصل مع الجماعات اليوحنّاويَّة([22]) الذي يُحدَّد موضعُ ثقله في هذه المنطقة عينها. وقرابة النصِّ مع تمثُّلات الولنطينيَّة في الشرق، تدعونا لأن بأن نقول التأليف حصلَ بين سنة 150 وسنة 175.

بعد ذلك، أُدرجَتْ ف 94-102 وف 109 في نصّ أع يو، وتمَّ هذا الإدراج في زمن قديم، لأنَّ الزبور المانويّ (القرن 3) يتضمَّن آثارًا من استعمال ف 94-102 وسائر المنحول. ويمكن أن نَنسب ضمَّ النصَّين الواحد إلى الآخر إلى مانويِّي سورية أو إلى جماعة غنوصيَّة أخرى مرتبطة بصورة يوحنّا وبتعليمه.

4- الميزات الأدبيَّة واللاهوتيَّة في أع يو (ما عدا 94-102، 109)

بعد أن اعترفنا باختلاف ف 94-102، 109، عن سائر الكتاب، وَضُحَ أنَّ بقية أع يو لا ترتبط أبدًا بالغنوصيَّة. فالمؤلَّف غير إزوتيريّ ولا هجوميّ. وهو يتوجَّه إلى حضور واسع، في لغة بسيطة، كما يحمل تعليمًا دينيًّا لا يحتاج إلى أيِّ مرجع خارجيّ لكي يُفهَم. هو لا يعود إلى العهد القديم ولا إلى الأناجيل ولا

إلى الرسائل، كما لا يعود إلى تعليم آخر يمكن أن يشكِّل قاعدة حياة. كلُّ شيء يجري وكأنَّ الديانة المعلَنة بيد يوحنّا كانت بلا ماضٍ ولا ترتبط بتاريخ إسرائيل

ولا بأحداث من حياة يسوع. والبرهان هو ندرةُ الإيرادات أو التلميحات إلى الأناجيل وإلى سائر نصوص العهد الجديد، ما عدا ف 87-93. فحين يريد أحدُ الأشخاص أن يقدِّم صورة ملموسة عن أعمال الله الحسنة، فهو يَذكر أمورًا رُويَتْ من قبل (ف 77، 82، 103).

لا نستطيع أن نضع أع يو في فنٍّ معيَّن من الأدب القديم، رواية، سيرة فيلسوف، دراسة فضائل. كما لا نستطيع أن نرى فيه اقتداء بأعمال الرسل القانونيَّة. فالمؤلَّف، في مجمله، هو خلقٌ أصيل ولا يرتبط بأيِّ نموذج معروف.

ومع ذلك، فالكاتب ينتقي موادَّ وأشكالاً وأساليب مأخوذة من آداب عصره. ويستلهم روايات الحبِّ الهلنّستيَّة في أحداث نرى فيها أشخاصًا تحرِّكهم عاطفةُ الحبّ (ف 18-25، 48-54، 63-86). ومرثاة ليكوميد، وأعمالُ العنف حيث الابن يقتل أباه، والرغبةُ المرَضيَّة عند كلِّيماك، كلُّ هذا يمكن أن يكون مكانه في رواية من الروايات. وحدثُ الصورة (ف 26-29) وخبرُ البقّ (ف 60 وف 61) هما من نوع آخر ويشيران إلى النكبة الفلسفيَّة والتعليميَّة. والكاتب لا يُجمل أيضًا أساليب البلاغة، كما أنَّ بعض الخطب يمكن أن تُقرَأ في يدويّ مدرسيّ (ف 33-36، 67-69).

ويتميَّز لاهوت أع يو أوَّلاً بالتماهي بين الله ويسوع. فـ»إله يسوع» (ف 42-44) اسمه يسوع المسيح، الإله الصالح، الوحيد، اللامتغيِّر، المتسامي المطلق (ف 77 وف 107). لا يعرف النصُّ تمييزًا بين الآب والابن، ولا رجوعًا إلى العهد القديم، إلى التجسُّد، إلى آلام يسوع أو قيامته. هذه النظرة إلى المسيح محيِّرة وتُفلت من التصنيفات التقليديَّة في تاريخ العقيدة، وإن رُبطَتْ بالهرطقات المونارخيانيَّة([23]) أو الشكلانيَّة([24]). إنَّها شكل ديانة روحانيَّة في

جذريَّتها، ألغَتْ من البلاغ المسيحيّ السماتِ التي يمكن أن تشكِّك سامعين وثنيِّين.

وأهمِّيَّة اهتداء النفس وتنسيب المعجزة، هما تجلٍّ آخر لهذه الروحانيَّة المتطرِّفة. لا شكَّ في أنَّ أع يو تتضمَّن عددًا كبيرًا من المعجزات: أشفية، إقامة موتى، تدمير الهيكل. ولكنَّ هذه الأعمال الخارقة لا قيمة لها في حدِّ ذاتها، بل هي باطلة إذا كانت لا تؤول إلى تبدُّل روحيّ (ف 47). ففي كلِّ حدث، يعلن الخبر أنَّ الجوهر هو حياة النفس. وينبغي على هذه النفس أن تتحرَّر من الاضطراب ومن الأهواء التي تُبلبلها، وأن تتوجَّه نحو الله، بحيث تبلغ إلى الطمأنينة والحياة الحقَّة.

أين نحدِّد تأليف أع يو، ومتى؟ تدعونا ميزاتُ الكتاب الأدبيَّة واللاهوتيَّة أن نرى في المؤلِّف كاتبًا مسيحيًّا من أصل وثنيّ، اهتدى حديثًا. هو من وسط مثقَّف ومطبوع بديانة روحيَّة تميِّز وثنيَّة القرن 2-3. يبدو من المستبعد أن نحدِّد موطنه في آسية الصغرى، لأنَّ من الواضح أنَّه لا يعرف طوبُّوغرافيَّة (تحديد الأماكن) هيكل أرطاميس في أفسس. وهناك إشارات مختلفة تجعل بالأحرى موطنه مصر، ولاسيَّما في استعمال لفظ نادر «قميص مع زَافَين» (أو: هدبين)([25]) الذي هو خاصٌّ بمصر وبالمناطق المجاورة. ويبدو أنَّه دُوِّن في النصف الثاني من القرن الثاني. فالطريقة الفريدة والبريئة التي بها يماهي الله ويسوع، تُفهَم فهمًا أفضل في حقبة متأخِّرة، وفي تاريخ أقرب إلى سنة 150 منه إلى سنة 200.

5- دراسة النصّ

حين نشر بونِّه([26]) في نسخة نقديَّة أع يو سنة 1898، جمع مجمل الوثائق التي وجدها هو أو وجدها الذين سبقوه. وأخذ بعين الاعتبار أيضًا، رفْدَ النصِّ اللاتينيّ في أفضال يوحنّا([27]) (من أجل ف 62-86 وف 106-115)، ورفدَ الترجمات الشرقيَّة (ف 106-115). هذا العمل استُعيد مع الاستعانة بمخطوطات أخرى، ونُشر سنة 1983([28])، وقُدِّمت النصوص الرئيسيَّة والمقاطع القديمة حول شخص الرسول يوحنّا.([29])

أخذت النشرةُ الحديثة بترقيم بونِّه. ولكنَّ ف 1-17 في بونِّه تتضمَّن نصوصًا غريبة عن أع يو التي تبدأ في عدد 18 وتنتهي في عدد 115. ثمَّ إنَّ بونِّه جعل في مكان سيِّئ ف 87-105. هذا الجزء يجب أن يُوضَع بين ف 36 وف 37. وهكذا نقرأ أع يو بحسب الترتيب التالي: ف 18-36، 87-105، 37-86، 106-115.

إنَّ ف 106-115 التي تروي موت يوحنّا، تمثِّل الجزء الذي نُسخ في المخطوطات العديدة. ولا عجب في ذلك، لأنَّ هذا الجزء استُعمل بشكل قراءة في يوم عيد الرسول، في 26 أيلول. وُجد في اليونانيَّة، في ثلاثة أشكال مختلفة، ووُجد في السريانيَّة والقبطيَّة والأرمنيَّة والجيورجيَّة، وبشكل آخر في اللاتينيَّة. وبين الترجمات الشرقيَّة، الثمينة من أجل ضبط النصّ، الأرمنيَّة التي هي مهمَّة جدًّا: الأمانة التي بها حُفظ النصُّ في الأرمنيَّة يعود إلى أنَّه جُعل في البيبليا الأرمنيَّة.

أمّا ف 87-105 التي تمثِّل بلا شكّ الجزء الأكثر أصالة في المؤلَّف، فوصلتْ إلينا في شاهد واحد، يعود إلى القرن الرابع عشر. هو مخطوط فيينّا([30]) بنصِّه المشوَّه بحيث تصعب قراءته واكتشاف معانيه.

وأخيرًا، نلاحظ خاصِّيَّة هامَّة في نقل ف 18-55، 58-86 الموجودة (كلِّيًّا أو جزئيًّا) في أعمال يوحنّا المنسوبة إلى بروخور. فالكتبةُ الذين نسخوا أحداث أع يو هذه، اعتبروا أنَّ النصَّ الأوَّلانيّ، ولاسيَّما في الصلوات والخطب، مهذار وكثير الكلام. فاقتطعوا مقاطع واختلفوا في عمل هذا الإنقاص. أمّا الشاهد الأكثر مصداقيَّة وطولاً فهو نصٌّ جهله بونِّه هو الكودكس 102([31]) في مكتبة البطريرك الأرثوذكسيّ في اسطنبول. ولكنَّه لا يسلِّم إلاَّ النذر القليل من غناه: هو على طرس([32]) ويُقرأ بصعوبة.

وأعطت أف يو نسخة حرَّة للفصول 62-86. وفي بعض المرّات، يتيح اللاتينيّ اختيار اختلافات النصِّ اليونانيّ، ويُثبت، في النصِّ الأوَّلانيّ، وجودَ عناصر ألغاها هذا الناسخ البيزنطيّ أو ذاك.([33])

 


[1](1) تتميَّز روحانيَّة أع يو خصوصًا بالتماهي بين يسوع والله، بغياب الاهتمام بمصير المسيح على الأرض، بالأولويَّة المعطاة لحياة النفس، بالتفسير الروحيّ للمعجزات.

[2](2)            أوَّلهم أوسيب القيصريّ في التاريخ الكنسيّ. الكتاب الثالث، ف 25/6-7: «ووجدنا من الضروريّ أن نضع كذلك لائحة هذه الأخيرة (أي: المتنازع عليها) فاصلين الكتب المقدَّسة... عن الكتب التي ليست عهديَّة، بخلافها، إنَّما متنازَعٌ فيها... وتلك المعرَّف بها لدى الهراطقة... أعمال أندراوس، يوحنّا، الرسل... هذه الكتب هي اختراعات هراطقة. وبالتالي، لا ينبغي حتّى إحلالها بين المنحولات، بل ينبغي طرحها باعتبارها منافية للعقل وكافرة تمامًا» (ترجمة اسكندر شديد، دار حرمون). راجع E. JUNOD –J.-D. KAESTLI, L’Histoire des Actes apocryphes des apôtres du IIIe au IXe siècle, Lausanne, 1982.

[3](3)  hétérodoxe (تفكير آخر)، عكس orthodoxe (إيمان مستقيم).

[4](4)  hagiographie (الكتابة المقدَّسة). تتحدَّث عن حياة القدِّيسين وتكريمهم.

[5](5) DIDYME, Commentaire sur Zacharie, IV, 210 (SC 85, Paris, 1962)

«وكذلك يوحنّا التلميذ الذي كان الربُّ يحبُّه: يُذكر في كتاب أعماله سكّانُ أورشليم الذين وجدهم». هناك أكثر من لقاء  بين يوحنّا وأناس صاروا تلاميذه في رومة وبطمس وأفسس وسميرنة. أمّا جيروم فتجنَّب ذكر هذا المنحول ومثله يوحنّا الذهبيّ الفمّ.

[6](6)  AUGUSTIN, Traité sur Jean, CXXIV, 2

في مجال الكلام عن بطرس الذي سأل يسوع عن مصير التلميذ الحبيب: «نعلن أنَّ الرسول يوحنّا يحيا دائمًا، لأنَّه، في قبره في أفسس، غرق بالأحرى في رقاد أكثر منه في حالة حقيقيَّة من الموت. والبرهان الذي نستطيع أن نورده، هو أنَّ على قبره يتحرَّك التراب بشكل ملموس ويبدو كأنَّه يغلي بفعل تنفُّسه... ويضيف كثيرون إنَّه ظهر على الجبل مع المخلِّص». إذًا هو يُشبه موسى الذي لا يُعرَف موضعُ قبره (تث 34: 6).

[7](7)            Hiéria. في جوار القسطنطينيَّة الآسيويَّة. في قصر الإمبراطور قونسطنطين الخامس Copronyme اجتمع 338 أسقفًا، وقرَّروا تدمير كلِّ الصور. كما لاحق الإمبراطور خصوم هذا المجمع. رج Histoire des Actes. ص 119-126.

[8](8)  رج  Histoire des Actes., p. 50-56. ونصوص الزبور أو المزامير نقرأها في A Manichean Psalm-Book, 2, édité par C. R. C. ALLBERRY, Stuttgart, 1938, p. 142, 22-26; 143, 11-14; 192, 29-193, 2 : 179, 25-180, 31; 191, 2-3.

[9](9) بالنسبة إلى شهادات كتّاب غربيِّين، واستعمال المانويِّين لـ أع يو. وفرضيَّة مجموعة مانويَّة للأعمال المنحولة، رج Histoire des Actes p. 37-81. وتثبَّت اهتمامُ المانويِّين بـ أع يو في اكتشاف حصل مؤخَّرًا في واحة دكله المصريَّة، لبرديَّة يونانيَّة من أصل مانويّ تتضمَّن نصًّا قريبًـا ممّا في أع يو 84-85؛ 106؛ 109. راجـــع G. JENKINS, « Papyrus 1 from Kallis. A Greek Text with Affinities to the Acts of John » dans J. N. BREMMER, The Apocryphal Acts of John (“Studies on the Apocryphal Acts of the Apostles”, 1), Kampen, 1991, p. 197-216.

[10](10) Priscillien. رجل من العوامّ، ذات محتد رفيع وشخصيَّة فذَّة. بدأ يعظ منذ سنة 370-375 تعليمًا نسكيًّا قاسيًّا عرف نجاحًا كبيرًا. رفضت الكنيسة تعليمه في شخص أساقفتها. قُطع رأسه بعد أن اتَّهموه بالسحر الأسود. استفاد متشيِّعوه من حالة الاستشهاد فانتشروا انتشارًا واسعًا.

[11](11) نجد هذه الشهادات في Histoire des Actes. ص 23-47 et 87-102. يجب أن نبرز شهادتين: شهادة أمفيلوك الذي دوَّن مؤلَّفًا حول «الكتّاب المزعومين عند الهراطقة»، وقد= =بقيَ منه ثلاثة مقاطع، حيث يتوجَّه الثالث ضدَّ مقطع من أع يو. AMPHILOQUE, Opera, fragment X, 1-3 (« Corpus christianorum, Series Graeca », 3), p. 235-236 ou Acta Joannis, p. 398-401.

وشجب أوغسطين استعمال جماعة برسقليان لمديح يُقرأ في أع يو 94-96. راجع الرسالة 237.

[12](12)             بدأت أع تو بمشهد من هذا النوع: «إذ كان جميع الرسل منذ بعض الوقت في أورشليم، سمعان بطرس وأندراوس، يعقوب ويوحنَّا، فيلبُّس وبرتلماوس، توما ومتّى العشّار، يعقوب بن حألفى وسمعان الكنعانيّ ويهوذا بن يعقوب، اقتسموا المناطق لكي يكرز كلُّ واحد منهم في منطقة آلت إليه وفي أرض أرسلَهُ الربُّ إليها». Actes Apocryphes Chrétiens I, Gallimard, 1997, p 1331.

[13](13)                 صلّى يوحنّا قال: «أنتَ يا من حفظتني لك حتّى هذه الساعة نقيًّا وبتولاً من كلِّ اتِّحاد مع امرأة».

[14](14) اسمه Liber Flavus Fergusionum

[15](15) راجع ملحق: كتاب فلافوس.

[16](16)  راجع ملحق: رسالة منسوبة إلى تيطس.

[17](17) mythique. نسبة إلى mythe: الخبر الشعبيّ أو التمثُّل الرمزيّ.

[18](18) eon. في اليونانيَّة aiwn: قدرة أزليَّة. وهنا هي الحكمة Sagesse

[19](19)   Odgoade

[20](20)   رج Acta Joannis ص 583-677.

[21](21)   في السريانيَّة،ܥܪܘܒܬܐ arobaton.

[22](22) J. D. JUNOD, « Le mystère de la croix de lumière et le johannisme. Actes de Jean 94-102 » in Foi et Vie. Cahier biblique, 26 (1987) 35-46.

[23](23) monarchianisme. تشديد على الإله الواحد monothéisme. الله الآب تبنّى الابن adoptianisme.

[24](24)   modalisme: الله واحد ويتَّخذ أشكالاً.

[25](25)   Chemise à double frange: dikrossion

[26](26)               M. BONNET, Acta Joannis dans R. A. LIPSIUS et M. BONNET, Acta apostororum apocrypha, t. I, Leipzig, 1898; réimpression, Darmstadt, 1959, p. XXVI-XXXIII et 160-216.

[27](27)  Virtutes Joannis. أو: أعمال يوحنّا المدهشة.

[28](28)           É. JUNOD et J.-D. KAESTLI, Acta Ioannis, (« Corpus Christianorum, Series apocryphorum », 1-2), Turnhout, 1983.

[29](29)           قدَّمت «إيراداتُ» الرسالة المنسوبة إلى تيطس، ثلاثة أحداث حول يوحنّا في كتاب فلافوس الإيرلنديّ، أعمال يوحنّا بيد بروخور، خبر يوحنّا السريانيّ، حاش (أو: آلام) يوحنّا المنسوب إلى مليتون، كما خبر يوحنّا والحجلة (الملحق 3)

[30](30) Historicus Graecus 63

[31](31)           Codex 102 du monastère de la Sainte Trinité de Halkilbibliothèque du patriarcat orthodoxe d’Istanbul)

[32](32) palimpseste

[33](33)               É. JUNOD et J.-D KAESTLI, in Actes apocryphs chrétiens, I, Gallimard, 1997, p. 975-986.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM