الفصل السادس عشر نصوص ملكية ونبوية

الفصل السادس عشر

نصوص ملكية ونبوية

هناك جزء كبير من التوراة وُلد في مملكة الشمال: كتب كاملة مثل سفر عاموس وسفر هوشع. ونصوص جُمعت في إطار البنتاتوكس (هذا ما نسميه المرجع الالوهيمي) أو في إطار التاريخ الإشتراعي.
سنقدّم هنا على التوالي بعض الوثائق الملكية الرسمية، بعض النصوص عن الأنبياء، وقراءة الأحداث المؤسّسة لدى المؤمنين في الشمال.

أ- وثائق ملكية
وُجد في البلاط الملكي كتبة يدوّنون النصوص المختلفة ويحفظونها. نذكر بصورة خاصة كتاب حوليات ملوك إسرائيل الذي يذكره كتاب الملوك مراراً (1 مل 14: 19؛ 16: 20 أخبار ملوك إسرائيل). لم يصل إلينا هذا الكتاب، ولكن كتاب الملوك إستقى منه عدداً من معلوماته.
ووُجدت شرائع. فأهل الشمال هم الذين احتفظوا لنا بنص الوصايا العشر، بدستور العهد الذي يتضمّن شرائع تعود إلى ما قبل الوصول إلى أرض كنعان. ستكمل هذه النصوص فيما بعد في تث 12- 26. إنها شرائع دينية حفظها اللاويون (موظّفون في المعابد) الذين عارضوا مراراً
الحكم الملكي. نجد فيها أحكاماً قديمة كتلك التي تساعد على اكتشاف قاتل مجهول (تث 21: 1- 9)، وشرائع تحدّ من سلطة الملك (تث 17: 14- 20)، أو تحدّد مكانة الأنبياء وصدق أقوالهم (تث 13: 18)، أو تدافع عن الفقراء (تث 24: 14- 22). كل هذا يهدف إلى المحافظة على مجتمع تسيطر فيه الأخوّة والمساواة ويُحترم المساكين والضعفاء. ولكن أين الوسائل لوضع هذه الشرائع موضع العمل؟

ب- نصوص نبوية
عاش أقدم أنبياء الشمال في فترة لم يتعوّد الناس فيها أن يدوّنوا أقوالهم كتابة. لهذا لم تدوّن مثلاً أقوال إيليا وأليشاع وغيرهما كما ستدوّن أقوال هوشع وعاموس. لا نعرف ماذا قالوا للناس خلال حياة الشعب اليومية، ولكننا نملك أخباراً تشدّد على أحداث إنطبعت في ذاكرة الناس (وخصوصاً المعجزات). نقرأ أخبار إيليا وأليشاع في كتاب الملوك، وقد جُمعت مرة أولى حوالي سنة 800، أي بعد موت أليشاع. وستُعاد قراءتها قبل أن تدخل في التاريخ الإشتراعي الذي يبدأ مع سفر يشوع وينتهي مع سفر الملوك الثاني.

1- إيليا
إسمه إيلي ياهو أي الرب هو إلهي. عاش إيليا وحيداً وبدت أعماله غريبة. لم يظهر إلا في الأوقات الحاسمة وكان هدف ظهوره تعريف الناس بالإله الحقيقي. لهذا قام بحرب لا هوادة فيها ضد بعل، إله فينيقية، الذي بنت له الملكة إيزابيل معبداً في السامرة.
هناك مشهدان من حياته يحدّثاننا عن جوهر رسالته: الأول على جبل الكرمل حيث قدّم ذبيحة (1 مل 18). هناك واجه إيليا وحده 450 من أنبياء البعل وخاطر بحياته. ولكنه جعل شعبه يعرف الإله الواحد الحق. الثاني على جبل حوريب (1 مل 19): بدا إيليا يائساً، فهرب إلى الصحراء وطلب الموت لنفسه، ولكنه تسلّم طعاماً إلهياً أتاح له أن يحجَّ إلى حوريب (سيناء) على خطى موسى. هناك التقى الرب لا في العاصفة ولا في الزلزال ولا في النار، كما في الماضي، بل في صوت نسيم خفي. وأُمر بأن يستعيد عمله مؤمناً بمستقبل شعبه.
وكان إيليا أيضاً المحامي عن الفقراء (1 مل 17: 8- 24) والمدافع عن الذين يسحقهم الحكم بتسلّطه (1 مل 21: نابوت اليزرعيلي). رُويت نهايته في نص غريب طبع بطابعه شعبه (2 مل 2): مرّت مركبة نارية، جاء الله وأخذه إليه (كما يؤخذ الأبرار الأعزاء على قلبه)، فظنوا أنه سيعود في نهاية الأزمنة (ملا 3: 23- 24؛ رج مر 9: 11- 12).

2- اليشاع
تبدو النصوص المتحدّثة عن أليشاع بشكل أخبار شعبية. دعاه إيليا يوماً (1 مل 19: 19- 21)، فعاش مع "بني الأنبياء" الذين كوّنوا جماعة من المؤمنين العائشين على هامش مجتمع فاسد يعبد الأوثان.
إجترح اليشاع، رجل الله، معجزات مختلفة ليساعد الناس في حياتهم اليومية: كسّر الأرغفة (2 مل 4: 42- 44)، أصلح المياه (2 مل 2: 19 - 22) والحساء (2 مل 4: 38- 41). شفى المرضى وأقام صبياً من الموت (2 مل 4: 32- 37)، بل أزال صبياناً هزئوا به (2 مل 2: 23- 24).
ولعب اليشاع دوراً سياسياً: كان معروفاً لدى الملك الإسرائيلي، شفى وزير ملك أرام في دمشق من البرص، فقاده إلى الإيمان (2 مل 5). بل ذهب إلى دمشق يعلن تبدلاً في الحكم (2 مل 8: 7- 15). وفي بلاده حرّك انقلاباً على الملك. دفع ياهو، فأزال أسرة أحاب التي خانت الرب، واستلم الحكم بعد أن أعاد الإيمان الحقيقي إلى ما كان عليه. ولكن ياهو هذا سيقوم بمذبحة شنيعة سيندّد بها هوشع.
كان اليشاع شخصاً غريباً، ومع ذلك كان شاهداً للإيمان في عالم يختلف عن عالمنا.

3- عاموس
وننتقل مع عاموس إلى أنبياء دوّنت أقوالهم. فعندما نقرأ نبوءة عاموس بفصولها التسعة نتأثّر بها: نرى أمامنا عالماً حياً يواجهه المؤمن بقوّة إيمانه وبقدرة كلمة الله.

أولاً: عالم يعيش الفوضى
عرف بعض الناس في أيام يربعام الثاني حياة الرفاهية: البيت الشتوي والبيت الصيفي، وزينة المنازل بالعاج (عا 3: 15) والفرش والطنافس المريحة، والولائم الفخمة ترافقها الأغاني والخمور المعتقة (6: 4- 6). لا شيء ينقصهم وهم المترّبعون في السامرة على زوايا الأسرّة الفاخرة (3: 12). بل يقيمون الإحتفالات الدينية الفخمة ويقدّمون الذبائح السخية مع مزيج الأغاني ونغم العيدان (5: 21- 22).
ولكن هذا جزء صغير من الواقع، لأن أعمالهم تشكّك النبي وتجعله يثور عليهم: يدوسون الفقير، يأخذون منه ضريبة القمح، يظلمون المزارعين الصغار ويحرمونهم من أملاكهم (2: 6). المحكمة لا تنصف (5: 12)، والغش يسود في التجارة، يبيع المحتكرون الفقراء سلعاً فاسدة ويقبضون عليها أغلى الأسعار (8: 4- 6). وهكذا كانت الحياة قاسية للعدد الأكبر من الشعب (4: 1؛ 7:5، 10- 11؛ 6: 12).
وإذا تجاوزنا حدود المملكة لم تكن الأمور أفضل: فالشعوب لا تشفق على بعضها بعضاً: هناك الدمار والمذابح وإجلاء السكان بلا شفقة. هذا ما رآه عاموس عند كل شعوب المنطقة (1: 3- 2: 3).

ثانياً: مؤمن يرفض الوضع الراهن
هذا الواقع صدم عاموس صدمة عميقة. فالناس في نظره يجب أن يعيشوا أحراراً كل واحد على قطعة أرض تخصّه. هذا هو مثال المساواة القديم في عشائر إسرائيل. وإذ شهد النبي تطورّاً يهدّد هذا المثال، أحسّ أن الله يدعوه لكي يتدّخل.
لا يقول لنا عاموس عن هذه الدعوة إلا بضع كلمات تساعدنا على تحديد موقعه. أصله من مملكة الجنوب، من تقوع القريبة من بيت لحم. كان مالك قطعان أو بالأحرى مسؤولاً عن قطعان الملك وأراضيه. ويوماً من الأيام دُعي الريفي القاسي الذي لا يعرف المواربة، دُعي ليكون نبياً في الشمال (7: 14- 15): "تكلّم الله، فمن لا يتئبأ" (3: 8)؟
توجّه إلى الشعب كما إلى العظماء. وندّد بالطمأنينات الكاذبة والعواطف الدينية السطحية. هناك أناس ينتظرون "يوم الرب" كيوم سعادة سهلة، كيوم يزيل بعملية سحر كل الهموم وكل الأعداء. أجابهم عاموس بأن ذاك اليوم سيكون يوم العقاب القاسي (5: 18- 20؛ رج 2: 13- 16؛ 3: 2). بل تجرّأ فأعلن دمار معبد بيت إيل (5: 5- 6)، ذلك المعبد الذي أسّسه يعقوب (تك 28)، واختاره يربعام الأول كأحد المقامين المقدّسين في مملكة الشمال. لهذا، حين جاء عاموس إلى بيت إيل، إستقبله الكاهن المسؤول هناك إستقبالاً سيّئاً، ووشى به إلى الملك، وأمره بأن يعود إلى بلاده.
لم يخف عاموس، ولم يتأثر بمثل هذا الكلام، بل هدّد الكاهن نفسه بالعقاب (7: 10- 17)، غير أنه طرد، فعاد إلى بلاده. ولكن النبي لم يكن خصماً لأحد، بل رجلاً مسؤولاً أراد أن يحذّر إخوته من الكارثة. عرف أن يصلّي لكي يعفو الرب عن شعبه (7: 1- 6). ووعد أن من يطلب (يبحث عن) الرب، من يطلب الخير لا الشر، يجد الحياة (5: 4، 14).

ثالثاً: سفرعاموس
لم يكتب عاموس أقواله. بل كان يتلفّظ بها فتأتي قصيرة قاطعة وتؤثر في الشعب: "أيتها السيدات المترفات، يرفعكن العدوّ بالكلاليب، ويأخذ وصيفاتكن أخذاً بالصنانير" (4- 2).
"كما ينقذ الراعي من فم الأسد ساقين أو طرفاً من أذن الفريسة" (3: 12).
"أهزّ بيت إسرائيل هزّ الحنطة في الغربال" (9: 9).
دوّنت هذه الأقوال بيد بعض تلاميذ النبي في الشمال، وتردّدت في الجنوب، فنُسخت وجُمعت. وهكذا كان لنا أول كتاب نبوي في التوراة. وقد حاول الذي الّفه أن يرتب النصوص: أقوال ضد الأمم الوثنية (ف 1 - 2)، أقوال ضد (مملكة) إسرائيل (ف 3- 6)، رؤى (ف 7: 9 خمسة أخبار قد تكون أمثالاً) وبعض أقوال أخرى، ثم خبر المواجهة في معبد بيت إيل. وفي النهاية قول رجاء يتوجّه إلى المملكتين (مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا). فعاموس يتحدّث عن "خيمة داود" أي مملكة يهوذا.

4- هوشع
عاش هوشع أيضاً في مملكة الشمال، بعد عاموس ببضع سنوات. أصله من إسرائيل لا من يهوذا. وجد نفسه أمام الوضع عينه، فكانت ردة الفعل لديه قاسية وإن مختلفة. إرتبطت حياته الشخصية إرتباطاً وثيقاً بتعليمه. ففي حياته اكتشف أن الرب هو إله محبّة.

أولاً: حب بشري وحب إلهي
يلعب عالم الجنس دوراً كبيراً في الديانات الكنعانية، ديانات الطبيعة حيث الإله الذكر يخصب الأرض الأنثى. وهكذا تتم أعمال مجامعة في شعائر العبادة لتدّل على علاقة الإله بالأرض. لم يكن شيء من هذا في عبادة يهوه. لا وجود لإلاهة أنثى، لا تدخّل لعالم الجنس في شعائر العبادة. ولكن مع هوشع، سيقوم رباط مختلف بين الحب البشري وإيمان إسرائيل.
نقرأ خبر هوشع الشخصي في ف 1- 3. كان هوشع نبياً تزوّج جومر التي شاركت في شعائر العبادة الكنعانية مع الممارسة الجنسية. فكان له منها ثلاث أولاد، صبيّان وبنت أعطاهم أسماء رمزية: "الرب يزرع. لا مرحومة، لا شعبي". هذا ما سيفعله أشعيا (7: 3؛ 8: 3) فيربط حياته العائلية بحياة شعبه.
وفي يوم من الأيام، تركت جومر البيت وعادت إلى الهيكل الكنعاني تمارس الزنى المكرّس. رفض هوشع أن يرضخ للواقع ويتقبّل شقاءه. ذهب في طلب امرأته التي ما زال يحبّها واستعاد الحياة معها بعد أن امتحنها فترة من الزمن.
قصة دراماتيكية مع أنها تحصل مراراً. ولكنها كانت بالنسبة إلى هوشع نقطة انطلاق من أجل تفكّر ينبع من إيمان عميق. أحسّ أن الله هو مع شعبه مثل هوشع مع امرأته: إله محب، يخيب أمله، ولكنه يستعد دوماً لبداية جديدة. واستعاد هوشع أسماء أولاده فأعلن أن شعبه سيُزرع من جديد في أرضه. واللامرحومة ستصير مرحومة (محبوبة) والذي لم يكن شعبي سيصبح شعب الله.
نحن هنا أمام ثورة في معرفة الله. لم يعد الله ذاك السيد صاحب النزوات، بل ذاك المحبّ. لم نعد أمام طاعة مليئة بالرعدة، بل أمام جواب على الحب. وإذا كان الله "غاضباً" كما تقول التوراة مراراً، فهذا الغضب ليس قساوة وإحتقاراً من قبل سيد يريد الإنتقام، بل ردة فعل لحب خاب أمله، وإنذاراً للناس حتى يعودوا إليه. وهكذا نرى أن الله عريس إسرائيل هو أبعد ما يكون عن الآلهة الذكور لدى الكنعانيين. ما قالته الديانة الوثنية لعب دوراً في تفكير هوشع. ولكن النبي حوّل كل شيء وعمّقه في خط إيمانه، حيث الله هو إله التاريخ أكثر منه إله الطبيعة.
ولا يستعمل هوشع فقط صورة القران الزواجي. فنحن نجد في ف 11 صورة المحبّة الأبوية، والمحبة الأمومية لدى إله يحنّ على ابنه ولا يستطيع أن يسيء إليه أو يريد له شراً.
ويجب أن نقرأ أيضاً 6: 1- 6 الذي يتكلّم عن الحب ومتطلّباته. لا يكفي أن نتلفّظ ببعض الكلمات الحلوة لندلّ على أننا نودّ أن نعود إلى الرب. نحن بحاجة إلى أمانة حقة لا تتبخّر سريعاً مثل ندى الصباح.

ثانياً: لغة العهد
إذا أراد رجل أن يعلن رسمياً أنه يتّخذ إحدى النساء زوجة، كان يقول لها: "أنت امرأتي وأنا زوجك". وإذا أراد أن يطلّقها يقول: "ما هي إمرأتي ولا أنا زوجها".
إنطلق هوشع من هذه اللغة الرسمية في العلاقات بين الزوجين، وخلق لغة العهد (الميثاق) بين الله وشعبه. كان أول من جعل في فم الرب هذا الكلام: "أقول: أنت شعبي. ويقول إسرائيل: أنت إلهي" (2: 25). وستصبح هذه العبارة "عبارة إنتماء". وستُستعمل مراراً فيما بعد: "تكونون شعبي وأكون إلهكم" (إر 7: 23؛ حز 36: 28؛ لا 26: 12).
وستتوسّع في الشمال خاصة فكرةُ رباط قوي (رباط زواجي) بين الله وشعبه ككلّ. أما في الجنوب، فهناك بالأحرى تشديد على رباط شخصي بين الله والملك: "أكون له أباً ويكون لي إبناً" (2 صم 7: 14).

ثالثاً: السياسة والإيمان
جاءت كلمات عاموس في المجالس الإجتماعي. أما هوشع فتوقّف عند السياسة. فإذا قرأنا مثلاً ف 7- 10 نجد تنديداً بفوضى عامة: إختاروا ملوكاً ولم يعودوا إلى الرب. قاموا بطقوس عبادة ظلت عند الشكليات دون القلب. ردّدوا شرائع لم يطبّقوها يوماً. توجّه الحكّام تارة نحو مصر وطوراً نحو أشورية. وفي النهاية، ستلتهمهم مصر ثم أشورية. لا يرى النبي المستقبلَ مسبقاً، ولكنه واعٍ لأخطار كبيرة تهدّد مملكة لا تعرف أين هي ذاهبة.

رابعاً: سفر هوشع
يبدو أن هوشع توفي سنة 722، ساعة سقطت مملكة الشمال. فلجأ بعض الناس إلى الجنوب، فحملوا معهم ما حفظوه في الذاكرة وفي "الكتب". دوّنوا سفر هوشع ولم يرتّبوا أقواله: جعلوا في البداية ما يتعلّق بزواج هوشع، وفي النهاية أقوال الرجاء. وزادوا في ذلك الوقت تلميحات إلى يهوذا (1: 7؛ 4: 15؛ 6: 11؛ 8: 14). وهكذا أوّنوا النص لأهل الجنوب فاستطاعوا أن يقرأوا النص وكأنه كلمة تتوجّه إليهم. وسينطبع إرميا، إبن الجنوب، في العمق بأقوال هوشع ولا سيما حين يتحدّث عن حب الله لشعبه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM