الفصل السابع عشر من تقاليد الشمال

الفصل السابع عشر

من تقاليد الشمال

نتوقّف في هذا الفصل عند التقليد الالوهيمي الذي وُلد في مملكة الشمال، كما وُلد التقليد اليهوهي في الجنوب. بعد هذا نقرأ خر 3 ولقاء موسى مع الرب.

أ- التقليد الإلوهيمي
نحن هنا أمام قراءة ثانية لأحداث التأسيس. سيشدّد فيها أهل الشمال على مخافة الله، على حفظ وصاياه.
كانت الأحداث التي ارتبطت بأصول الشعب العبراني مهمّة جداً، فاستعادها كل عصر على طريقته، وكل منطقة بحسب روحانيتها. في الجنوب، ربط اليهوهي هذه الأصول بزمن سليمان، وبيّن كيف أن الله بارك شعبه. في الشمال، جاء الالوهيمي (يسمى الله الوهيم أي الله في صيغة الجمع كعلامة للجلالة. يسميه اليهوهي: يهوه، فيدل على أنه الكائن). فربط هذه الأصول بتعاليم الإنبياء. إنطلق من إبراهيم، أبي شعب إسرائيل، فوصل بنا إلى سيناء والمسيرة في البرية.

1- نظرة إجمالية
عاد الالوهيمي إلى إبراهيم مع الإقامة في فلسطين (إبراهيم في جرار، تك 20: 11: خوف الله في هذا المكان) وذبيحة إسحق (تك 22: 12: عرفت أنك تخاف اللّه). ثم يأتي خبر يعقوب الذي لعب دوراً مهماً في بيت إيل، المعبد الملكي في الشمال (تك 28: 11- 12، 17- 18، 20: 22؛ 35: 1- 4، 6- 8). ثم يتكلّم هذا التقليد عن يوسف أبي قبائل الشمال. وبعد هذا يقدّم خبر موسى ولقاءه بالله ومواجهته مع الفرعون، والفصح وعبور الأحمر والعهد في سيناء والمسيرة في البرية وتذمّرات الشعب المتواصلة. وينتهي الخبر الالوهيمي بمباركة موسى للأسباط الإثني عشر (تث 33)، وهي مباركة تشدّد على شخص يوسف (جدّ قبائل الشمال) لا على يهوذا (جدّ قبائل الجنوب).

2- روح التقليد الالوهيمي
إنطبع التقليد الالوهيمي بمحيطه واهتماماته والتيارات الفكرية التي فيه.
* دوّن هذا النص في الشمال، فأعطى مكانة هامة لقبائل الشمال ولجدّيها يوسف ورأوبين ولمعابدها ولا سيما بيت إيل.
* دوّن هذا النص في وسط لم يقدّر الملكية كل قدرها ولم يمنحها طابعاً قدسياً، كما فعل أهل الجنوب بالنسبة إلى ملكية داود. فالالوهيمي يرى أن المجموعة أهمّ من رئيسها. فالشعب هو الذي يسمّى بكر الله (خر 4: 22، لا الملك كما في الجنوب)؛ فالله يقيم عهداً مع الشعب كله، لا مع الملك وحده (خر 24: 3- 8). وموسى مُحاط بمشاركين له يقاسمونه مسؤوليته (خر 18؛ عد 11). وهو رجل صلاة يتحلى بالتواضع أكثر منه قائداً مقتدراً (خر 17: 8- 16؛ 32: 30- 34؛ عد 12: 1- 3).
* دوّن هذا النص في عالم لعب فيه الأنبياء دوراً رئيسياً. فيقدّم لنا الآباء الأولين كأنهم أنبياء؛ إبراهيم هو نبي سيتشفّع من أجل أبيملك (تك 20: 7). وموسى هو أيضاً نبي بل أعظم من نبي (عد 12: 6- 8): يحدّث اللّه بأسم البشر (خر 33: 7- 11، 18- 23)، ووجهه يشع نوراً (خر 34: 29- 35). حوله معاونوه يتنبّأون (عد 11: 25). ويتمنّى لو كان الشعب كلّه أنبياء (عد 11: 29).
* نجد في هذا النص ما يدلّ على تعميق الإيمان. لا نعود نرى الله يظهر للبشر بشكل إنتروبومورفي تشبيهي (كأنه إنسان من الناس). عرفنا مع الأنبياء أن نلتقيه في أحداث الحياة اليومية. إنه الخفي وهو يُرسل مرسالاً، يرسل ملاكه (تك 21: 17؛ 31: 11؛ خر 14: 19). ويشدّد هذا التقليد على نوعيّة الإيمان المطلوب من المؤمنين والذي يسمّى "مخافة الله". لسنا أمام ارتعاد العبد من سيّده، بل أمام رغبة عميقة بأن نعمل إرادة الله، ونتجاوب مع نداءاته مهما كانت محيّرة (ذبيحة إسحق، تك 22: 12)، ونحترم البشر (تك 42: 18؛ خر 1: 17) ولا نسيء إليهم.
* وأخيراً نجد في هذه النصوص، إنفتاحاً على الأمم الغربية وتقبلاً للوثنيين. فابيملك الوثني هو صدّيق وبار تجاه إبراهيم (تك 20). هاجر وابنها إسماعيل هما موضوع احترام (تك 21: 19- 21). إنفتحت مملكة الشمال سياسياً على سائر الشعوب، فعرفت الإنفتاح الديني.
وهكذا يتقدّم الفكر البيبلي: من عصر إلى آخر، من منطقة إلى أخرى. يستعيد المؤمن الذكريات عينها ويتأمّل فيها على، سوء حياته، فيجد فيها غنى جديداً.

ب- لقاء موسى مع الرب (خر 3)
1- النص
حدّثنا التقليد الألوهيمي عن محاولات الفرعون لإفناء الشعب العبراني. ولكنه فشل بسبب "مخافة الله" التي تحلّت بها قابلتان مصريتان. ثم حدّثنا عن ولادة موسى (خر 2: 1- 10). لا نعرف إلا النذر القليل عن شبابه.
نجده هنا في البرية مع قطيعه، حيث يمتزج التقليد اليهوهي (العليقة الملتهبة. النار علامة قدرة الله) بالتقليد الالوهيمي.
"ساق موسى الغنم إلى ما وراء البرية (الصحراء) حتى وصل إلى جبل الله، إلى حوريب. ناداه الله: موسى، موسى. فأجاب: هاءنذا (نعم). قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم، إله إسحق، إله بعقوب. فستر موسى وجهه وخاف من أن ينظر إلى اللّه. قال اللّه: ها صراخ بني إسرائيل وصل إليّ، ورأيت كيف يجور المصريون عليهم. فتعال أرسلك إلى فرعون لتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى لله: من أنا حتى أذهب إلى فرعون وأخرج بني أسرائيل من مصر؟ قال الرب: أنا أكون معك. وهذه علامة لك على إني أنا أرسلتك: إذا أخرجت الشعب من مصر، فأعبدوا الله على هذا الجبل فقال موسى لله: حسناً. سأذهب إلى بني إسرائيل وأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإن قالوا: ما اسمه؟ فماذا أجيبهم؟ فقال اللّه لموسى: أنا هو الذي هو. وقال: هكذا تكلّم بني إسرائيل: هذا الذي هو أرسلني إليكم. وقالى الله لموسى أيضاً: هكذا تكلّم بني إسرائيل: الرب إله آبائكم، إله إبراهيم، إله إسحق، إله يعقوب أرسلني إليكم. هذا هو إسمي إلى الأبد. هكذا يدعونني من جيل إلى جيل" (خر 3: 1- 5).

2- عمل الله
يقول لنا هذا النص أفضل من أي نص آخر من هو الله في التقليد الالوهيمي. ويقول لنا ما يقول بشكل غني جدأ.
هذا الإله قد التقاه موسى على الجبل، بعيداً عن الأماكن المأهولة. قد تكون هذه الشعوب الجبلية عرفت الله باكراً. وسيعود إيليا إلى حوريب "ليبحث" عن الله على خطى موسى.
غير أن هذا الإله يهتمّ بما يحدث لدى البشر. يقول إنه تعلّق بشعبه منذ زمن بعيد، منذ إبراهيم وإسحق ويعقوب. قد يكون الآباء عرفوه باسم آخر، ولكنه الإله ذاته. إعتبر الالوهيمي أن موسى اكتشف الله، ولكنه لم يكتشف إلهاً جديداً.
وعمّ يتكلّم الله؟ عن الضيق الذي يصيب شعبه: سمع، رأى، ولن يرضى بهذا الشقاء. هو إله يعرف ضيق البشر ويشاركهم في اهتمامهم بتحرير أنفسهم. غير أنه لا يتدّخل بشكل مباشر. إنه لا يعمل بيده، بل يعمل بواسطة البشر. في الخبر اليهوهي (خر 3: 8) قال الله: "نزلت لأخلّص شعبي" (هذه وجهة من تدخّل الله). هنا طلب من موسى أن يُجرج شعبه، ووعده بأنه يكون معه (3: 12): هو لا يتخلىّ عن الناس الذين يُرسلهم إلى "الحرب" ضد قوى الشر.

3- إسم الله
وحين تجندّ الله من أجل شعبه، كشف عن اسمه. فمن عرف اسم شخص، إقترب منه ودخل في صداقته. وهذا لم يكن ممكناً إلا بعد أجيال عديدة، منذ زمن إبراهيم. وقال الله اسمه فاكتشف الإنسان من هو هذا الإله. إسمه يهوه (الإله الذي هو). وهو إسم مقدس لا يتجرّأ اليهود أن يتلفظوا به فيقولون: السيد (أدوناي).
من الصعب أن نفهم إسم يهوه هذا. في البداية هو الإسم الذي أعطته القبائل الجبليّة لإلهها. قابله التقليد الالوهيمي باسم آخر (خر 3: 12): "أنا هو" (يسوع سيسمّي نفسه بهذا الإسم في يو 8: 24، 28؛ 13: 19؛ تؤمنون بأني أنا هو). يرتبط يهوه بفعل كان، وُجد. الرب هو الكائن، هو الموجود، هو الذي يعطي الوجود لكل شيء.
وتوسّع الكاتب أخيراً في اسم الله فقال: أنا هو الذي هو. وهذا يعني:
- الله موجود دائماً. هو دوماً حاضر هنا. وهو هو لا يتبدّل.
- الله هو كما يشاء. لا حساب يقدّمه لأحد. لا نستطيع أن نحدّده.
- اللُّه حاضر في حياة البشر، في مستقبلهم. يجب أن نحيا معه لنفهم أننا نتعرّف إليه من خلال أعماله.
تفاسير عديدة وكلها صحيحة. ولكنها كلها لا تستطيع أن تعطينا التعبير الكامل عن الله. لقد رفض الكتاب المقدس أن يقدّم جواباً واحداً على كل تساؤلاتنا، ولكنه فتح لنا الطريق، وطلب منّا أن نتابع بحثنا عن الله، لأن من يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM