الفصل الخامس عشر
مملكة الشمال: لمحة تاريخية
نجح داود وسليمان في بناء مملكة موحدّة مع مجموعتين من القبائل: فبائل إسرائيل في الشمال، قبائل يهوذا في الجنوب. في الواقع، ظلّ الإنقسام حاضراً، ولقد تبرّم إسرائيل من معاملة هؤلاء الملوك الآتين من يهوذا. وحين مات سليمان سنة 923، إعترفت يهوذا بابنه رحبعام ملكاً، أما إسرائيل فوضع شروطه وهي تخفيف الضرائب وأعمال السخرة. رفض الملك الجديد أن يحادثهم في هذا الأمر، ورفض طلبهم رفضاً قاطعاً. وجاء الردّ قاسياً: عاد إسرائيل "إلى خيامه". وتحطّمت الوحدة بين المجموعتين إلى الأبد (1 مل 12). وصار لنا بعد ذلك مملكتان: ديانة واحدة ولكن وحدتان سياسيتان وعقليّتان مختلفتان. لهذا سندرس وضع كل مملكة على انفراد منذ سنة 933. واحدة (إسرائيل) إمتدت حتى سنة 721 مع هجوم الأشوريين. والأخرى (يهوذا) إنتهت سنة 587 ودخول البابليين إلى أورشليم.
ونبدأ بمملكة الشمال. نقدّم في فصل أول لمحة عن الإطار التاريخي. ونعود بعد هذا في فصل آخر إلى ما تركته لنا هذه المملكة من أثر أدبي سيدخل في التوراة.
أ- إقامة الملكية
كانت مملكة الشمال أوسع من مملكة الجنوب وأكثر غنى وسكاناً. واعتبرت نفسها الوارثة الكاملة للتقاليد الوطنية والدينية. ولهذا فأهميتها تضاهي أهمية مملكة الجنوب بالنسبة إلى التاريخ البيبلي. ولكن وجب عليها منذ البداية أن تحلّ بعض المسائل الشائكة.
1- من يكون الحاكم
إتخذ إسرائيل ملكاً له قائداً مشهوراً عاش في المنفى. إسمه يربعام. كان قد حاول القيام بانقلاب ضدّ سليمان. ولما فشل لجأ إلى مصر (1 مل 11: 26- 40). وقيل أن النبي أحيّا وعده بسلالة ثابتة مثل سلالة داود (1 مل 11: 38). في الواقع خلفه ابنه، ولكن مؤامرة أطاحت به بعد سنة من الحكم. فخلال مئتي سنة تقريباً، عرفت مملكة الشمال 140 سنة من الإستقرار السياسي: بين 886 و747، تسلّمت أسرتان الحكم: أسرة عمري وأسرة ياهو. وفصل السلالتين إنقلاب دموي مخيف. ولكن حدث ثلاثة إنقلابات قبل سنة 886 وأربعة بعد سنة 747. ومهما يكن من أمر، لم يكن يوماً لملوك الشمال الطابع القدسي الذي كان لملوك الجنوب المتحدّرين من داود وحاملي الهالة المرتبطة بوعد ناتان لداود.
وهكذا حكم مملكة إسرائيل تسعة عشر ملكاً. أشهرهم عمري (886- 875)، أحاب ابنه (875- 853)، يربعام الثاني (787- 747).
حافظت الملكية الجديدة بشكل إجمالي على البنى السياسية والإدارية التي وضعها سليمان. ولكنها احتاجت إلى عاصمة. فبعد تبديلات عديدة، إشترى عمري هضبة وبنى عليها مدينة محصّنة وسماها السامرة. وقعت في قلب المملكة على ملتقى الطرق، فأشرفت على ما يحيط بها. ونمت نمواً سريعاً، فظلّت مركزاً هاماً حتى بعد زوال مملكة إسرائيل سنة 721.
2- البنية الدينية
إن البنية السياسية تستند إلى البنية الدينية. وإذ أراد يربعام الأول أن يزاحم هيكل أورشليم الذي بناه سليمان، إختار معبدين مشهوين: دان في الشمال وبيت أيل في الجنوب، وجعل فيهما "عجلين ذهبيين" (1 مل 12: 26- 33). لسنا هنا أمام "آلهة أخرى" كما قال خصومه: فهذان التمثالان اللذان يرمزان إلى القوة والخصب، يكوّنان موطئاً للإله الخفي الذي يتصوّرونه واقفاً على حيوان. ولكن وُجدت حيوانات مشابهة في هياكل الكنعانيين الكثيرة في مملكة الشمال. وكانت الديانات الوثنية تجتذب السكّان الذين اعتبروا أنهم يحتاجون إلى هؤلاء الآلهة: فآلهة الطبيعة والزراعة يؤمّنون النجاح للمحصولات والصحة والخصب للقطعان. هؤلاء الآلهة يؤمّنون الحياة اليومية للناس.
إذن خاطر يربعام حين أدخل الصور الكنعانية إلى شعائر عبادة الرب، فخلط الناس بين الرب والآلهة، وجعلوا إله إسرائيل على مستوى الآلهة الوثنية. وبعد خمسين سنة تطوّر الوضع بصورة أخطر حين تزوّج الملك أحاب إيزابيل. كانت إبنة ملك صور الوثني، فشجّعت ديانة بعل الشبيهة بما في الديانات الكنعانية.
ب- الوضع الإقتصادي والإجتماعي
لم تكن هذه الحقبة أفضل ما يكون بالنسبة إلى صغار القوم في المملكة. لا إستقرار سياسياً. والحروب والجفاف خلقت وضعاً من الضيق العظيم (1 مل 17: 12؛ 2 مل 6: 25- 29). ولكن حتى القرن التاسع، لم تظهر الفوارق الإجتماعية إلا قليلاً. فإحاب يبدو كملك مزارع لا يستطيع إلا بصعوبة أن يضع يده على كرم نابوت جاره (1 مل 21). وخلال حصار السامرة، لم يكن الملك يورام أيسر من سائر الناس (2 مل 6: 27)، رغم ما تؤمّنه التجارة غير المشروعة من طعام للطبقات الميسورة.
في القرن الثامن، تطوّر الوضع تطوراً سريعاً. فكانت في أيام يربعام الثاني حقبة من الإزدهار والتوسّع. ولكن لم يستفد من هذه الحالة إلا فئة قليلة بفضل التجارة الدولية التي كانت في يد الملك وحاشيته. وهكذا وُلدت طبقة غنية عاشت في ترف يشكّك الناس. أما الآخرون فعرفوا الفقر. إستقرضوا من الأغنياء، ولما لم يستطيعوا أن يردوا المال باعوا نفوسهم عبيداً. والقضاة الذين أقيموا لينصفوا المساكين، باعوا نفوسهم إلى الأغنياء الذين استمروا يستغلّون الناس بكل طمأنينة.
ج- السياسة الخارجية
بعد موت سليمان، توقفّت سياسة التوسّع والإمتداد التي قام بها داود. واستعادت الشعوب استقلالها شيئاً فشيئاً. فلم نعد أمام دولة موحدّة بين مصر وبلاد الرافدين، بل سلسلة من "الدول" الصغيرة التي تتحدّ يوماً وتتحارب يوماً آخر. فأراميو دمشق حالفوا بعض الوقت إسرائيل ضد يهوذا (أش 7). ولكنهم خاصموهم مراراً: حاصروا السامرة مرتين (1 مل 20: 1؛ 2 مل 6: 24). وقُتل أحاب وهو يحاربهم (1 مل 22: 34- 35). وخسر يوآحاز كل جيشه بعد أن أباده ملك أرام (2 مل 13: 7).
ولكن أحسّ الجميع أن الخطر الاكبر يأتي من بلاد الرافدين حيث بنت أشورية أمبراطورية عظيمة: تنظيم حربي قويّ جداً، سلطة قمع تقتل بعض الناس وتهجّر الآخرين. ففضّلت الشعوب أن تخضع وتدفع جزية كبيرة لتنجو من الكارثة.
حاول إسرائيل في البداية أن يقاوم. فأرسل أحاب 2000 مركبة و 10000 جندي إلى الحرب، وتحالف مع ملوك آخرين. فقُهروا جميعاً. ونجا بنفسه حين دفع الجزية كما سيفعل بعده ياهو (سنة 841) ويوآش (سنة 803) ومناحيم (سنة 737). كيف نعرف هذه الأخبار؟ من الوثائق الأشورية.
كانت أوقات راحة خفّف فيها الأشوريون من قبضتهم، فاستفاد يربعام الثاني من الوضع ليستعيد دمشق. ولكن الخطر الأشوري بدا من جديد في الأفق مع تجلت فلاسر الثالث (747- 727). ففي سنة 732 تغلّب على حلف أرامي إسرائيلي وضمّ مملكة دمشق وثلاث مقاطعات إسرائيلية. وأراد هوشع (لا نخلطه مع النبي هوشع) آخر ملك في إسرائيل أن يستعين بدمشق، فأسره الأشوريون. وقاومت السامرة ثلاث سنين من دون ملك، إلى أن سقطت سنة 722. وفي سنة 721، عاد الملك سرجون الثاني إلى البلاد، فأجلى السكان ليمنع كل تمرّد في البلاد (2 مل 17: 1- 6). وهكذا أزيلت مملكة أسرائيل عن الخارطة. وحل غرباء محلّ السكان الذين هجّروا من أرضهم (2 مل 17: 24- 41). هذا هو أصل السامريين الذين سنجدهم في الإنجيل.
د- الحركة النبوية
ووُجد في هذا العالم المبلبل أناس وعوا الظلم والجور: ساعدوا الناس على التطلّع إلى الوضع، وطلبوا منهم أن يتحرّكوا. من لعب هذا الدور في مملكة الشمال؟ لا الملوك ولا الكهنة، بل الأنبياء. فلولاهم، لأضاعت مملكة الشمال هوّيتها وخسرت إيمانها. ولكن، من هم هؤلاء الأنبياء؟
وُجد في البلدان المجاورة، ولا سيما في بلاد الرافدين، رجاله إهتموا بأن يعطوا رأي اللُّه في الأحداث. إرتبطوا عادة بالمعابد (أنبياء المعابد) فعاشوا مجموعات، وعرفوا حالات من "الإنخطاف" يحرّكها الرقص والموسيقى. إنتمى بعضهم إلى محيط الكهنة، وكان لآخرين وظيفة رسمية لدى الملوك (أنبياء القصر). وتجاه أنبياء المعابد وأنبياء القصر، خرج أنبياء من الشعب لم تكن لهم مهنة خاصة.
ونجد في إسرائيل منذ البداية مجموعات من المتحمّسين سموا مراراً "بني الأنبياء" (أو: الأخوة الأنبياء، 1 صم 10: 25؛ 10- 11). قابلهم الناس بالجماعات "الروحية" في المملكة، وجعلوهم مع الكهنة والحكماء (إر 18: 18؛ 26: 7). ولكن الأنبياء الكبار يعيشون مراراً خارج الإطار الرسمي. دعاهم الرب يوماً، وما كانوا ينتظرون دعوته (أش 6؛ إر 1). يبدو أن اليشاع وحده ارتبط بمجموعة "بني الأنبياء" (2 مل 9). وكان لسائر الأنبياء تلاميذ تذكّروا كلماتهم فكتبوها إملاءً (إر 36) أو بعد موت النبي.
النبي هو في الوقت عينه رجل الله ورجل من عصره. دُعي من وسط الشعب، فكان متنبهاً لحياة الناس، للظلم والضيق الذي يحلّ بهم، لأنانية الأغنياء وتجاوزات الملوك والقضاة، للمسائل الدولية والمعاهدات والحروب. حدّث النبي العظماء والملك نفسه، دالاً على رفضه للوضع، فكلّفه هذا الرفض الطرد من البلاد، والسجن، والموت...
غير أن هذا العمل لا ينبت من تعليم سياسي أو إيديولوجي. بل يتم باسم الله: كان الأنبياء يعلنون: "هكذا قال الرب". هذا لا يعني أن الله أملى عليهم كلامه إملاءً. ولكنهم أحسّوا في يوم من الأيام بنداء ملحّ يروونه بشكل رؤية رأوها (أش 6). ويقولون إن "روح الرب" أمسك بهم، حرّكهم كما تحرّك الريح الأشجار. ودفعهم هذا النداء لأن ينظروا إلى الحياة كلها بعينَيْ الرب. فما ينير أقوالهم وأعمالهم هو تذكّر تدخّلات الرب في تاريخ شعبه، ولا سيما في وقت الخروج. يشدّدون على الشرائع التقليدية (ولا سيما الوصايا العشر) التي تفرض علينا إكرام الله والقريب. ويبرزون دعوة إسرائيل بأن يكون الشاهد الحقيقي لله وسط الأمم. حكموا على الماضي والحاضر وتطلّعوا إلى المستقبل. قالوا: سيأتي الله ليدين البشر والشعوب. سيعاقب على الخطيئة والشر، ولكنه يخلّص أحبّاءه. فالإله الأمين يهيّئ لشعبه مستقبلاً من السعادة، يهيّئ لهم عالماً جديداً. فالأنبياء هم أهل الأمل والرجاء. ولكنهم يعرفون أن الله وحده يستطيع أن يضع السعادة في العالم. فإذا أردنا أن نبلغ إلى مستقبل من السعادة، نكون له أمناء فنرفض كل خيانة وكل مساومة مع الآلهة الكاذبة.
ونلاحظ أخيراً أن النبي ليس شخصاً منعزلاً، بل يرتبط بالآخرين. فأنبياء الشمال مثلاً يرتبطون بموسى أول الأنبياء، وينتظمون في حلقة حيث الواحد يأخذ المشعل من الآخر: اليشاع وإيليا، أشعيا وعاموس، إرميا وهوشع، حزقيال وإرميا. وسيستعيد تلاميذهم أقوالهم فيرتّبونها ويكملّونها ويؤوّنونها لتكوّن لا مجموعة نصوص ميتة بل تياراً حياً سيصل بالشعب العبراني إلى من هو النبي الحقيقي وكلمة الله، إلى يسوع المسيح