الفصل العاشر: السلام وبناء جماعاتنا

الفصل العاشر

السلام وبناء جماعاتنا

»بلغت البشريَّة بأسرها فترة حاسمة من تطوُّرها في هذه السنوات بالذات حيث لا نزال نحسُّ بثقل أوجاع الحروب وضيقاتها، تلك التي اجتاحتنا أحيانًا وهدَّدتنا أحيانًا أخرى. فالعائلة البشريَّة تجمَّعت رويدًا رويدًا وأصبحت في كلِّ مكان أشدَّ وعيًا لوحدتها. ولذا، فعليها أن تقوم بعمل لا يمكن أن يتكلَّل بالنجاح إلاَّ إذا عادت بنفسيَّة جديدة إلى السلام الحقيقيّ، أي أن تبني عالمًا يكون حقٌّا أكثر أنسنة ينعم به الجميع في كلِّ مكان. فتسطع حينئذٍ بشارةُ الإنجيل متلألئة بوضوح جديدٍ في أيّامنا هذه إذ تلتقي وتوقان البشريَّة وأسمى مُثُلها معلنة الطوبى لصانعي السلام لأنَّهم أبناء الله يُدعون« (مت 5: 9).

هذا ما نقرأ في المجمع الفاتيكانيّ الثاني، في دستور راعويّ أعطي في رومة، قرب القدّيس بطرس، في 7 كانون الأوَّل 1965. فمنذ خمسين سنة ونيِّف لا يزال هذا الكلام »يُرعد« في مجتمعنا، الذي مزَّقته الحروبُ فصار الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان، والجماعة عدوَّة الجماعة. نسينا أنَّنا بشر فصار العالم غابة، الكبير يأكل الصغير، والقويّ الضعيف، فسيطرت حضارة الموت لا حضارة الحياة. يا ليت الجماعات لبثت بعيدة، الواحدة عن الأخرى، فتجنَّبت الاحتكاك الذي فيه تريد طائفة أن تسيطر على طائفة وبلد على بلد، كما يقول الربُّ في خطبته المتّاويَّة الأخيرة: »تسمعون بالحروب وبأخبار الحروب... تقوم أمَّةٌ على أمَّة، ومملكة على مملكة...« (مت 24: 6-7).

أمّا نحن فنودُّ أن نتكلَّم عن السلام في خطِّ القدّيس بولس، كما في خطِّ العهد الجديد. ونتوقَّف عند ثلاث محطّات: السلام والانعزال مع كبرياء تجعلني أحسب نفسي أكبر من الآخر وجماعتي أعظم من الجماعات الأخرى، فيحقُّ لها السيطرة. والمحطَّة الثانية، السلام والتعصُّب. فالعصبة هي جماعة من الناس، والعصبيَّة تعني شدَّة ارتباط المرء بجماعته والجدّ في نصرتها والمقاومة (التعصُّب) من أجل مبادئها. جماعتي تجاه جماعتك. في الشرق كان العرب والشعوبيّون، وفي الغرب، الحضارة الرومانيَّة تجاه »البرابرة« الذين يُدعَون كذلك لأنَّ لغتهم تفترق عن اللغة اليونانيَّة أو اللاتينيَّة فتصبح غير مفهومة بالنسبة إلى ابن البلاد. والمحطّة الثالثة، السلام والوحدة. عندما يمضي كلُّ واحد في سبيله، يبدأ الاختلاف الذي قد يؤدّي إلى الخلاف. أما هذا الذي حصل في برج بابل؟ ما عادوا يتفاهمون فتوقَّف العمل، وبدل البناء كان الهدم.

1. السلام والانعزال

بدأ المجمع الفاتيكانيّ فقدَّم لنا »جوهر السلام«. ما ليس هو. ثمَّ، ما هو. ليس السلام انعدام الحرب. ليس السلام تأمين التوازن بين القوى المتخاصمة. ولكن إن زال التوازن ماذا يبقى من السلام؟ والسلام لا يتأتّى من سلطة استبداديَّة. أتذكَّر حين كنت على مقاعد الدراسة أنّي رأيت صورة رجل جسيم وعليه ثلاث أرجل: روسيّا، النمسا بروسيا أو ألمانيا الحاليَّة مع عبارة: السلام يسود في فرسوفيا. كانت تلك القسمة الثالثة حيث أخذ كلُّ واحد قسمًا من بولونيا، ومحوا اسمها من الجغرافيا. ما رأيكم بهذا السلام؟ ذاك ما عرفته البلدان التي كانت وراء الستار الحديديّ، وتحرَّرت سنة 1989.

عرف الشعب اليهوديّ الانعزال. لا يلمسون إنسانًا من الوثنيّين إن استطاعوا. وإن لمسوا وجب عليهم أن يأتوا ويغتسلوا، لا من أجل النظافة الجسديَّة، بل لأنَّهم أحسُّوا أنَّهم تنجَّسوا. ويتطلَّعون إلى الوثنيّين وخطاياهم وينسون أنَّهم هم أيضًا خطأة. كما يفتخرون بذلك وكأنَّ هذه المواهب هي من عندهم، لا من عند الربّ. لهذا قال بولس: لماذا الافتخار؟ وأورد كلام إرميا: »من يفتخر فليفتخر بالرب« (1 كو 1: 31). وحسب اليهود أنفسهم أيضًا بلا خطيئة، لأنَّهم أبناء العهد. لأنَّهم يعرفون الوصايا. ولكن هل تكفي معرفة الوصايا؟ أما يجب ممارستها؟ فندَّد بهم الرسول: »وأنت، يا من تسمّي نفسك يهوديٌّا، وتتَّكل على الشريعة، وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميِّز ما هو الأفضل بما تعلَّمته من الشريعة، وتعتقد أنَّك قائد للعميان، ونور لمن هم في الظلام، ومؤدِّب للأغبياء ومعلِّم للبسطاء، لأنَّ لك في الشريعة كمال المعرفة والحقيقة« (رو 2: 17-20).

نلاحظ هنا الكبرياء في انعزاليَّة كوَّنت العداوة بين فئة وفئة. فاليهوديّ عنده شريعة تعود إلى موسى. لا بأس. ولكن ألا يكون للوثنيّ شريعة أيضًا؟ لا شكَّ في أنَّها لم تُحفَر على الحجر، بل في القلوب. قال الرسول أيضًا: »فالوثنيّون الذين بلا شريعة، إذا عملوا بالفطرة ما تأمر به الشريعة، كانوا شريعة لأنفسهم، مع أنَّهم بلا شريعة، فيُثبتون أنَّ ما تأمر به الشريعة مكتوب في قلوبهم وتشهد لهم ضمائرهم وأفكارهم« (آ14-15). فبماذا يستطيع اليهوديّ بعدُ أن يفتخر حين بحسب نفسه أفضل في الآخرين، وينظر إليهم من علياء »كرسيِّه«.

ويعتزل اليهوديّ لأنَّه يعتبر نفسه مختونًا تجاه »اليونان« اللامختونين. وفي تاريخ الشعب العبرانيّ ، حسبوا الآخرين »لامختونين« وما أعطوهم اسمًا آخر (1 صم 14: 6؛ 17: 26). هو اسم سلبيّ. وهكذا يتميَّزون مع أنَّ الذي يميِّزهم هو جرح في الجسد لا يمكن أن يؤثِّر في النفس، على مثال ما يقول الربُّ في الطعام: »ما من شيء يدخل الإنسان من الخارج ينجِّسه، ولكن ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجِّس الإنسان« (مر 7: 15). وهكذا نقول عن اليهوديّ الذي »يُختَن« في الخارج، لا في الداخل، مع أنَّ الكتاب طلب من المؤمنين مرارًا: »اختتنوا للرب« (إر 4: 4). مثل هذا الختان الداخليّ يدلُّ على عهد مع الربّ، لا يكون على مستوى الشفاه، بل يصل إلى القلب. وفي نبوءة إرميا، نقرأ أيضًا كلام الربّ: »وستأتي أيّام أعاقب فيها المختونين باللحم (أي اليهود) مع غير المختونين (من أهل مصر...). فإذا كانت الأمم (الوثنيَّة) غير مختونين في اللحم، فكلُّ بيت إسرائيل غير مختونين بالقلب« (لأنَّهم لم يحفظوا عهد الربّ؛ إر 9: 24). ويروح القدّيس بولس في الخطِّ عينه: »إن عملتَ بالشريعة كان لختانك فائدة. ولكن إذا خالفتَ الشريعة، صرتَ في عداد غير المختونين. وإذا كان غيرُ المختونين يراعون أحكام الشريعة، أفما يعتبرهم الله في عداد المختونين؟« (رو 2: 25-26). في الواقع، إذا مارس اللامختون الشريعة حكم على المختون الذي لا يعمل بحسب الشريعة (آ27).

وهكذا ينعزل اليهوديّ في عليائه: هو »قائد العميان«. فالبشر كلُّهم لا يستطيعون أن يروا. والبشر كلُّهم في الظلام. لهذا دعا اليهوديّ نفسه »النور«. واليهوديّ يؤدِّب »الأغبياء«. والغبيّ أو الجاهل هو الذي يرفض وجود الله، ويستسلم إلى ميوله. واليهوديّ يعلِّم »البسطاء«، لأنَّه كامل في عمله وتصرُّفه. ولكنَّ الرسول يبيِّن له أنَّه خاطئ شأنه شأن الوثنيّ، لأنَّه يقول ولا يفعل (مت 23: 3). أو بالأحرى يعلِّم عكس ما يعيش: »يا من يعلِّم غيره، أما تعلِّمُ نفسك؟ تنادي: لا تسرق، وتسرقُ أنت. تقول: لا تزنِ، وتزني«.

وهكذا صار الناس في زمن بولس فئتين، وابتعد الواحد عن الآخر. اليونان يهزأون باليهود الذين لا يأكلون إلاَّ البقول (رو 14: 2). واليهود يحكمون على اليونان، لأنَّهم لا يأكلون مثلهم (آ3). وهذا التمييز لا يزال حاضرًا في أيّامنا. نسلِّم على الآخر أو لا نسلِّم. نأكل من طعامه أو لا نأكل. ويعلن اليهوديّ: نحن قريبون، والآخرون بعيدون. وهكذا يُوضَع حاجزٌ بين فئة وفئة، والحاجز يتحوَّل إلى عداوة، مع أنَّ يسوع جاء من أجل الفئتين، وكان صليبه الجسر الذي يجمع البشريَّة كلَّها في واحد. ونتساءل بعد ذلك: أين هو السلام؟ وضعه الربُّ في قلوبنا بذلاً وعطاء، فجعلناه عداوة وتقاتلاً في أنانيَّة تنسي كلَّ واحد أنَّه إنسان بكلِّ العمق الذي نجده في هذا اللفظ.

2. السلام والتعصُّب

في التعصُّب يغيب التسامح، فنتَّخذ موقفًا عدائيٌّا من الذين يرفضون آراءنا ومعتقداتنا. وهكذا نتشيَّع لإنسان من الناس أو لعقيدة من العقائد، ونرفض الآخرين وآراءهم. وما يؤسَف له هو أنَّ هذا الرفض يستعمل العنف والسلاح. فإن كنتُ لا أقدر أن أقنع الآخر بالعقل، أقنعه بالقوَّة وفي النهاية ألغيه.

هنا نعود إلى ما حصل في أنطاكية. كان المسيحيّون كلُّهم معًا يأكلون إلى المائدة الواحدة. لا فرق بين يهوديّ ويونانيّ، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة (غل 3: 28). ولكن جاء المتشيِّعون ليعقوب والطالبون بفصل تامّ بين فئة وفئة. لعب التعصُّب لعبته. فقالت الرسالة: »كان بطرس يأكل مع الأمم. فلمّا وصل قومٌ من عند يعقوب، تجنَّبهم وانفصل عنهم خوفًا من دعاة الختان« (غل 2: 12). وهكذا راحت كلُّ »عصبة« في طريقها. فكانت ردَّة فعل بولس قاسية. لا على بطرس، بل على برنابا أيضًا. نلاحظ هنا أنَّ برنابا هو رفيق بولس في أسفاره الرسوليَّة، ولاسيَّما لدى اليونان. فكيف فعل ما فعل؟ عاد إلى عصبيَّته، فجعل جماعته تجاه جماعة اليونانيّين، بحسب القول المأثور: »انصر أخاك ظالمًا كان أو مظلومًا«.

هذا الموقف مارسه الشعب العبرانيّ العائد من المنفى سنة 538 ق م. لا مشاركة مع أحد. نحن نقف في صفٍّ والآخرون في صفّ: الغريب يُفصَل. الخصيُّ يُعلَن أنَّه شجرة يابسة لا تصلح لشيء. وكذا نقول عن العاقر. لكنَّ النبيّ يرفض هذا المناخ. العاقر تصبح أمَّ بنين فرحانة. والغريب يأتي إلى الجبل المقدَّس ويفرح مع جميع الشعوب. والخصيّ ينال جاهًا واسمًا فيتفوَّق على البنين والبنات (إش 56: 1-7).

وكانت فئتان كبيرتان بالنسبة إلى أورشليم. في الجنوب مصر، وفي الشمال أشور. عداء متواصل. والطريق مقطوعة بين الدولتين. ولكنَّ النبيَّ تحدَّث عن طريق مفتوحة »فتجيء أشور إلى مصر، ومصر إلى أشور« (إش 19: 23). ومن الذي يجمع هاتين القوَّتين الضاربتين؟ الله نفسه. فمصر لم تعد شعبًا غريبًا وعدوٌّا. يهتف الله: »مبارك شعبي مصر« (آ25). كان يعتبر بنو إسرائيل أنَّهم وحدهم شعب الله. كلُّ هذا لم يعد له وجود في مخطَّط الله. ويقولون: الله صنع شعبه، بني إسرائيل. ولكن أما صنع سائر الشعوب أيضًا، الصالحة والشرّيرة؟ ويأتي جواب الربِّ بفم النبيّ: »أشور هي صنعة يدي« (آ25). هي شموليَّة رائعة مع رفض كلِّ محاباة للوجوه، فصارت إسرائيل في المركز الثالث.

كانوا يعتبرون أنَّ على الأمم أن تأتي وتجتمع حول أورشليم. ولكن لا. فما يوحِّد البشر ليس موضعًا من المواضع، بل الله بالذات، فقال النبيّ: »ويعبد المصريّون الربَّ مع الأشوريّين« (آ23). وفي سفر يونان، لم يأتِ البحّارة إلى أورشليم لكي يقدِّموا ذبيحة للربّ، بل كانوا في عرض البحر وبين الأمواج. كانوا يقولون إنَّ المياه مركز الشرّ. تبدَّل الوضع. »فللربِّ الأرضُ وما عليها، الدنيا والمقيمون فيها. على البحار أسَّسها، وعلى المياه ثبَّت أركانها«. لهذا كان اهتمام الله بنينوى الوثنيَّة الشرّيرة اهتمامه بأورشليم.

حين نقرأ الأسفار التاريخيَّة، نحسُّ وكأنَّ الله مع شعب من الشعوب. أخذ جانب بيت إسرائيل مهما كانت الظروف. فإن هم يُغلَبون يرسل الله برَدَه »حجارة عظيمة من السماء« (يش 10: 11)، فتصيب الأعداء وحدهم. وإن بانت القوى متفاوتة، جاء المطر فأعاق مسيرة الجيش (1 صم 7: 10).

ويظهر التعصُّب واضحًا في الرسالة إلى أفسس، حيث يفترق اليهود عن غير اليهود. مساكين هؤلاء! »هم دون المسيح« (أف 2: 12). أمّا نحن اليهود فلنا العهود المتواصلة بلوغًا إلى المسيح، منتظر الأجيال. ثمَّ هؤلاء الأمم هم »بعيدون عن رعيَّة إسرائيل«. فإسرائيل رعيَّة والربُّ يرعاها ويأخذها إلى المراعي الخضر والمياه الهادئة (مز 23: 1-2). وغير اليهود هم »غرباء عن عهود الله ووعده«. ما ناله شعب إسرائيل حين قبل الله أن يسير معهم ويعطيهم ضمانة خلاص، لم تنله الأمم. خصوصًا أنَّ »لا إله لهم«. وحده الشعب العبرانيّ يعبد الله الواحد. أمّا الشعوب فتعبد آلهة الحجر والخشب. وإذا كان الوثنيّون في هذه الحالة، فأيُّ رجاء يكون لهم؟

ذاك هو التعصُّب الذي جعل بني إسرائيل خارجًا. اعتبروا نفسهم قريبين فإذا هم بعيدون بعد أن صار الوثنيّون قريبين. قال الرسول فيهم: ما نال بنو إسرائيل ما طلبوا (رو 11: 7)، لأنَّ قلوبهم كانت قاسية. أمّا غير اليهود فنالوا البرَّ الذي من الإيمان.

3. السلام والوحدة

ما هو السلام؟ نحن نعرفه في مفهومنا ابتعادًا عن الحرب فيجلس كلُّ واحد تحت كرمته وتينته (1 مل 5: 5). لا بأس في ذلك. ونعرف السلام حياة في العدالة والاستقامة، حيث يأخذ كلُّ صاحب حقٍّ حقَّه. ذاك ما قاله المجمع الفاتيكانيّ مستلهمًا نصوص إشعيا: »يسكن الذئب مع الحمل، ويبيت النمر بجانب الجدي، ويرعى العجل والشبل معًا وصبيٌّ صغير يسوقهما« (إش 11: 6). لا شرّ ولا إساءة. فجميع المخلوقات تعيش معًا والربُّ هو الذي يقودها ويعتني بها. فالأشبال تزأر وتلتمس من الربِّ طعامها (مز 104: 21). والربُّ جعل لها الليل لكي تربض في مآويها.

والسلام هو ملء بركة الله. فلماذا الاختلاف والتقاتل ساعة الربُّ يغدق خيراته على البشر؟ »الأرض أعطت غلَّتها، فباركنا الله إلهنا« (مز 67: 7). وماذا نقول عن كنيسة كورنتوس التي نالت ملء عطايا الله حين وصلَتْ إليها بشارةُ المسيح. ومع ذلك، فأبناء هذه الكنيسة يتخاصمون، ولا يعرفون أن يكونوا واحدًا. فكيف يمكن أن يعرفوا السلام؟ لا مع رسولهم أوَّلاً، بعد أن اتَّهموه أنَّه رسول من الدرجة الثانية، وأنَّه يحتاج إلى رسالة توصية، ولا فيما بينهم ثانيًا. هذا يقول: أنا مع بولس، وذاك أنا مع بطرس، وآخر أنا مع أبلُّوس، وفئة رابعة: أنا مع المسيح.

في مثل هذا الانقسام، أين تكون وحدة القلوب والأفكار، وأين يكون السلام؟ ففي قلب الطوائف المسيحيَّة نفسها، هناك الاختلافات. كلُّ واحد يطلب ما هو لنفسه، لا ما هو للآخرين، يطلب ما هو لطائفته لا ما يفيد جميع الطوائف. تكلَّمنا على مستوى المسيحيَّة المقسومة منذ القرن الخامس المسيحي، ويمكن أن نتكلَّم عن كلِّ فئة في وطننا. مرَّات عديدة نتساءل: لماذا زرعُ البغض؟ لماذا القتل ولاسيَّما الأبرياء؟ ولا نتحدَّث عن السلب والنهب كما كان الأمر في العصور الجاهليَّة التي لم نخرج منها إلى الآن.

فالرسالة الأولى إلى كورنتوس هي كلُّها رسالة الوحدة. إذا شاركنا في عشاء الربِّ لا نأتي كلُّ واحد بمفرده. وخصوصًا لا نظلم الفقراء فنُبقي لهم الفتات ونستخفّ بكنيسة الله.

والمواهب؟ أهي للافتخار والتبجُّح أم من أجل البناء، حيث يضع كلُّ واحد موهبته »حجرًا« في هذا البناء الذي ينبغي أن يصل إلى ملء قامة المسيح؟ وتأتي صورة الجسد حيث يكون لكلِّ عضوٍ موقعه، كما يكون له عمله. لا يمكن أن نستغني عن أيِّ عضو مهما كان مقامه في نظر البشر. وحين تتعاون الأعضاء يسود السلام، وإلاَّ فلا سلام ولا بناء ولا حضور الله.

الخاتمة

الاعتزال. كلُّ واحد يعيش وحده ويحتقر الآخرين. بل يستغلُّهم من أجل مآربه. والتعصُّب الذي يجعل عيوننا عمياء فنرفض أن نرى الخير عند الآخرين. ما نقوله نحن هو الحقّ. وما يقوله الآخرون هو الكذب والباطل. ونحن نسمع ما يتوافق وأهواءنا. وبعد ذلك، أنعجب إن أبغضنا العالم (1 يو 3: 13)، ورفض شهادتنا؟ وكيف يمكن أن نكون مثل النيِّرات في هذا العالم المظلم؟ فيبقى علينا أن نكون واحدًا بحسب طلب المسيح. ربَّما تختلف الآراء، وهذا خير لاختلاف البشر. إنَّ الاختلاف غنى، أمّا التعصُّب فهو آفة الآفات المرتبطة بالكبرياء التي تفهمنا أنَّنا أعظم من الآخرين وبالتالي يجوز لنا أن نسيطر عليهم، إن لم يكن بالوداعة فبالعنف والقتل.

وننهي كلامنا كما بدأنا راجعين إلى المجمع الفاتيكانيّ الثاني: »إنَّ السلام الأرضيّ الذي ينبع من حبِّ القريب هو نفسه صورة ونتيجة لسلام المسيح الذي يأتي من الله الآب. فالابن المتجسِّد ذاته هو أمير السلام. صالحَ بصليبه الناسَ جميعهم مع الله وأعاد الوحدة بين الجميع في شعب واحد وجسد واحد«. فمتى يأتي هذا اليوم إلى شرقنا العزيز؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM