الفصل التاسع :الله دعاكم إلى الحرية

الفصل التاسع

الله دعاكم إلى الحرية

الحرِّيَّة والاستقلال. كلمتان أُطلقتا بشكل خاصّ في القرن العشرين فارتاحت الشعوب من الاستعمار السياسيّ، لا من الاستعمار الاقتصاديّ. والشابُّ يطالب بحرِّيَّة من أجل بناء شخصيَّته. وبعض المرّات يصرخ في وجه والديه: أنتما فعلتما كذا في أيّامكما، فاتركاني أفعل ما أريد. والشابَّة تريد هي أن تختبر الحياة ولو أخطأت ولا تتبع ما كانت تفعله والدتها. طريقها خاصَّة، طريق الحرِّيَّة. وكذا الشابُّ الذي »يهرب« بعض الوقت من البيت الوالديّ، لكي يوجِّه حياته ومستقبله في الخطِّ الذي يريده هو، لا ذاك الذي يريده له الآخرون. كلُّ هذا رائع، وفي مخطَّط الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله. والرسول يقول لنا كما قال لأهل غلاطية: »دعيتم إلى الحرِّيَّة« (غل 5: 13). الله دعاكم إلى الحرِّيَّة. ولكن انتهبوا لئلاّ تصير هذه الحرِّيَّة »فلتانًا«. انتبهوا إلى استعمال الحرِّيَّة. فقد تقودكم إلى إرضاء الشهوات. وساعة طلبتم أن تكونوا أحرارًا صرتم عبيدًا للخطيئة بعد أن صنعتم الخطيئة.

ونتوقَّف هنا عند أمور ثلاثة: حرِّيَّتنا هي عطيَّة من لدن الله. هو يحرِّرنا أوَّلاً ويدعونا لكي نعيش معه كالأحرار، لا كالعبيد. والمسيح يحرِّرنا من الشريعة والخطيئة، ومن الضعف البشريّ والموت. والنتيجة، تكون حرِّيَّتنا في الروح، خدمة لله ولإخوتنا وأخواتنا، تصبح هذه الحرِّيَّة نداء من عند الله وهدفًا يوجِّه حياتنا.

1-  وحرَّر الربُّ في ذلك اليوم

تلك كانت نتيجة هرب موسى وجماعته من مصر حيثُ كانوا عبيدًا: تركوا الأشغال القاسية في صنع الحجارة من الطين والقشّ. ما عادوا يسمعون لصوت المسخِّرين الذين كانوا ثقلاً على أكتافهم، وانطلقوا إلى الحرِّيَّة. هناك لا يصل إليهم جيش الفرعون، »سيِّد البيت والإنسان المؤلَّه«. فما أجملها عيشة برفقة الربِّ الذي سوف يقول لفرعون: »أطلق ابني من مصر ليعبدني، وإن رفضت أن تطلقه أقتل ابنك« (خر 3: 4). لا. فالعبرانيّون ليسوا بعدُ عبيدًا، لا لفرعون ولا لأحد آخر. هم أحرار، هم أبناء.

ولكنَّ الإنسان يستعدُّ لأن يتخلّى عن حرِّيَّته من أجل مكاسب مادِّيَّة لا تستحقُّ كلَّ اهتمامنا. فالعبرانيّون الذين انطلقوا، صاروا في الجهة المقابلة من مصر وتنشَّقوا هواء جديدًا، عادوا يحنّون إلى هواء مصر المملوء بالعبوديَّة. فتذمَّروا على موسى المرَّة بعد المرَّة: »ليتنا متنا بيد الربِّ في أرض مصر فهناك كنّا نجلس عند قدور اللحم ونأكل من الطعام حتّى نشبع« (خر 16: 2). خاصموا موسى من أجل الطعام. وخاصموه من أجل الماء: »لماذا أصعدتنا من مصر لتميتنا نحن وبنونا ومواشينا بالعطش« (خر 17: 3).

ومع ذلك، فالله يعمل لكي يحرِّرهم. لا طعام لكم، فأنا أعطيكم. لا ماء لكم فأنا أهب لكم الماء من قلب الصخر. لا في الصحراء فقط »حيث تجري الأنهار وينقلب السراب غديرًا والرمضاء ينابيع ماء« (إش 35: 6-7). تحرَّرتم من الطعام المادِّيِّ (الشراب) فتطلَّعوا إلى سيناء حيثُ يعطيكم الله شريعة الحرِّيَّة والوصايا التي تدلُّ على محبَّتكم لله ومحبَّتكم للقريب.

فالإنسان لا يريد، وإن هو أراد فلا يقدر. فالله هو الذي يحرِّر شعبه. قال لهم: »حملتُكم على أجنحة النسور وجئتُ بكم إليّ« (خر 19: 4). فما من طائر يستطيع أن يحلِّق مثل النسر. وما من طائر يجسر أن يقف في وجه النسر. وهكذا يُشبِّه الله نفسه بالنسر. وما تمَّ بالنسبة إلى القبائل التي خرجت مع موسى، ثمَّ بالنسبة إلى إبراهيم وإسحق ويقعوب ويوسف. فمن أخرج يوسف من العبوديَّة وجعله »مخلِّصًا« لإخوته؟ قال لهم: »أرسلني الله أمامكم« (تك 45: 5). وإبراهيم الذي دخل خائفًا إلى مصر، أعاده الربُّ مع امرأته سالمين.

ولكن حين الله يحرِّرنا، فهو يفعل من أجل العهد الذي يقطعه معنا في قبول وصاياه. فالحرِّيَّة التي تُعطى لنا هي حرِّيَّة من أجل الربّ. هنا نفهم بولس الرسول حين يقول للمؤمنين في كورنتوس بأن يسلكوا في حياتهم حسب ما قسم لهم الربّ (رج 1كو 7: 17): »فإن كنتَ عبدًا عندما دعاك الله فلا تهتمّ. ولكن إن كان بإمكانك أن تصير حرٌّا، فالأولى بك أن تغتنم الفرصة. فمن دعاه الربُّ وهو عبد كان للربِّ حرٌّا وكذلك من دعاه المسيح وهو حرٌّ كان للمسيح عبدًا. والله اشتراكم ودفع الثمن، فلا تصيروا عبيدًا للناس« (1 كو 7: 12-23).

كان العبدُ يُشرى ويباع مثل غرض من الأغراض. مثل الثور والحمار والبيت. ويمكن أن يفتديه قريبه أو صديقه ويدفع الثمن. أمّا بالنسبة إلينا، نحن عبيد الخطيئة، فالله نفسه اشترانا. ويقول لنا بطرس الرسول: »لا بالذهب والفضَّة، بل بدم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه، دم المسيح« (1بط 1: 18-19).

في كنيسة كورنتوس، عبيد كثيرون اعتنقوا الإنجيل، فقال لهم الرسول: لم يكن فيكم »الأقوياء والوجهاء« (1 كو 1: 26)، وأصحاب النسب الشريف. فحين يكون الإنسان لله، لا يهتمُّ بعد سواء كان حرٌّا أم عبدًا، بعد أن صار الأسياد والعبيد »إخوة« في الكنيسة (فلم 26: العبد صار لسيِّده: »أخًا حبيبًا في المسيح«). هذا لا يعني أنَّه يرفض الحرِّيَّة إن حصل عليها. وفي أيِّ حال، أيٌّا تكن حالة الإنسان، فحين يكون للربِّ فهو حرٌّ بحرِّيَّة أبناء الله. والرسول يريد أن ينقلنا من »عبوديَّة« إلى »عبوديَّة«، أو بالأحرى إلى »عبادة«. إلى تعلُّق بالربِّ كما العبد يتعلَّق بسيِّده ولا يريد أن يتركه. لهذا دعا بولس نفسه: عبد يسوع المسيح ورسوله. فالعبد في المفهوم البيبليّ هو القريب من سيِّده. فعبد الملك هو الوزير الأوَّل لدى الملك. هكذا يكون الرسول حرٌّا عندما يتَّحد بمن هو الحرِّيَّة بالذات، ذاك الذي »هو في صورة الله« »أخلى ذاته واتَّخذ صورة العبد« (فل 2: 2) وكلُّ هذا ليحرِّرنا، ليخلِّصنا من العبوديَّة.

2-  تحرُّر في المسيح

خلقنا الله أحرارًا، ولكنَّنا نتوق إلى العبوديَّة. هجومات من الخارج ومن الداخل، تهدِّدنا وتجعلنا نخون العهد مع أنَّ الله ما خاننا. ماذا فعلتُ لك، يا شعبي. أو بالأحرى، ماذا لم أفعل من أجلك؟ لهذا، لا بدَّ لنا من عون المسيح لكي يحرِّرنا، فيكون عمل الخلاص امتدادًا لعمل الخلق وتكليلاً له. وهكذا هتف القدّيس أوغسطين إلى الخطيئة: بسببك نلنا خلاصًا عظيمًا. وما نالته الكنيسة، جسدُ المسيح، يناله المؤمن في حياته اليوميَّة.

هو عبد للشريعة. فأنا »ما عرفت الخطيئة إلاَّ بالشريعة... الخطيئة وجدت في هذه الوصيَّة فرصة لتثير فيَّ كلَّ شهوة، لأنَّ الخطيئة بلا شريعة ميتة (رو 7: 7-8). وهكذا صار المؤمن »بشرًا بيع عبدًا للخطيئة« (آ14).

هذه الشريعة التي منعت الشعب الأوَّل من السير وراء يسوع المسيح. هذه الشريعة التي شكَّلت عائقًا في مسيرة بولس إلى الإيمان. ولكن حين فهم أنَّ حياته هي المسيح، زالت الشريعة ووجد بولس نفسه محرَّرًا.

وأعطانا بولس مثل المرأة المتزوِّجة: هي خاضعة لزوجها ما دام حيٌّا. ولكن إن مات زوجها استعادت حرِّيَّتها. وهكذا اليهود ومن يتبعه: يجب أن يموت عن الشريعة، وهكذا يتحرَّر منها، »فيعبد الله في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم« (آ6).

ولكن إن تحرَّرنا من شريعة تقيِّدنا فتكون لنا حملاً ثقيلاً، هل نترك وراءنا كلَّ شريعة؟ هل نجعل نفوسنا مثل بعض »الروحيّين الضالِّين« الذين يعتبرون الوصايا للبسطاء وللفقراء؟ كلاّ. فنحن لنا شريعة المسيح، التي هي متطلِّبة جدٌّا لأنَّها تلخِّص الوصايا وتوسِّعها توسيعًا لا حدود له. فإذا كانت الوصايا تتلخَّص في هذه الوصيَّة: أحبَّ قريبك مثلما تحبُّ نفسك، فمن أحبَّ قريبه لا يسيء إلى أحد. فالمحبَّة تمام العمل بالشريعة« (رو 13: 9-10)، نفهم عند ذاك ما هي شريعة المسيح.

ولكن من يحرِّرني؟ من يساعدني على التخلُّص من خطيئتي، وحالتي تعيسة، تعيسة؟ »الله بربِّنا يسوع المسيح« (رو 7: 25). أحسَّ الرسول بهذا الصراع في داخله. يريد الخير فإذا هو يعمل الشرّ. لا يريد الشرَّ ومع ذلك هو يفعل الشرّ. ويقول: »إذا كنتُ أعمل ما لا أريده، فما أنا الذي يعمله، بل الخطيئة الساكنة فيّ« (آ20). هذا يعني أنَّه ليس حرٌّا. أنَّه عبد. وهو يحتاج إلى المسيح لكي يخلِّصه ويعيده إلى كرامة البنين. هو كلام يوجَّه إلى كلِّ واحد منّا. أنا عبد؟ كيف أعرف ذلك؟ حين أتبع شهواتي، نزواتي، وأسقط في الخطيئة. أنا حرّ؟ أكون كذلك حين أعمل أعمال الروح، فأعيش في المحبَّة والفرح والسلام واللطف والسلام (غل 5: 22).

وتجاه أعمال الروح هناك أعمال الضعف البشريّ في الإنسان، أعمال اللحم والدم: الزنى، الدعارة، الفجور، العداوة، الشقاق، الغيرة، الغضب (غل 5: 19-20). فمن يعمل هذه الأعمال لا يرث ملكوت الله (آ21). هي عبوديَّة فوق عبوديَّة، وهي التي تجعلني أرى في الشريعة »مناسبة للخطيئة«. في وجهه البشريّ، الإنسان سريع العطب، متقلِّب، ملتبس في مواقفه، مرَّة هنا ومرَّة هناك. إذًا هو عبد يتصرَّف به »آخر« بحيث لا يعرف كيف يتَّجه.

والإنسان يعيش بحسب اللحم والدم حين تكون قاعدةُ الحياة عنده معاييرَه الخاصَّة، فلا يعيش إلاَّ لنفسه، فيستسلم إلى رغباته الأوثانيَّة (عبادة المال، عبادة الجنس، العنف، البغض...)، إلى اهتمام بالسيطرة. قال الرسول: ما من انسان يحيا لنفسه، وما من إنسان يموت لنفسه. إن حيينا فلله نحيا وإن متنا فلله نموت. ومن رفض ذلك رفض شريعة الله، وتوجَّه إلى الموت.

في معرض الكلام عن العمل من أجل البرّ، ينبِّهنا الرسول إلى ما يجب أن نختار: نحن عبيد من نطيع. نطيع الخطيئة فتقودنا الخطيئة إلى الموت. نطيع البرَّ فيقودنا البرُّ إلى خدمة القداسة (رو 6: 19). عبادة الخطيئة كانت في الماضي. مع المسيح تبدَّلت الأمور. »شكرًا لله! فمع أنَّكم كنتم عبيدًا للخطيئة، أطعتم بكلِّ قلوبكم تلك التعاليم التي تسلَّمتموها، فتحرَّرتم من الخطيئة وأصبحتم عبيدًا للبر« (آ17-18).

وهذه الحرِّيَّة حصلنا عليها بفضل صليب المسيح. فلا وسيلة غير هذه الوسيلة. والوسائل البشريَّة تبقينا على المستوى البشريّ، بحيث نبقى ملتصقين بالأرض ولا نعرف أن نرفع عيوننا نحو السماء حيث الابن جالس عن يمين الآب.

3-  الحرِّيَّة المسيحيَّة نداء وهدف

الربُّ هو الذي يناديني، يدعوني إلى الحرِّيَّة. وهنيئًا لي إن لبَّيتُ النداء. ذاك هو أساس حياتنا. أمّا الهدف فهو المجد الذي ينتظرنا. أجل، الهدف الأخير للإنسان هو أن يعيش في الحرِّيَّة الكاملة مع الربّ. نحن لا نقول مثل الديانات الهنديَّة: يجب على الإنسان أن يتحرَّر شيئًا فشيئًا لكي يصل إلى ملء الراحة. وإن هو لم يتوصَّل إلى ذلك في حياة واحدة، فهو يعيد حياته، يأخذ جسدًا آخر. ويبقى منتقلاً من جسد إلى جسد إلى أن يصل إلى ملء الحرِّيَّة. يدعونها النرفانا التي تعني إطفاء كلِّ شهوة وخنق ينبوع الشرور فينا وفي العالم، ويالتالي الخروج من ذواتنا.

فالحرِّيَّة عندنا هي حرِّيَّة في الروح. نحن لا نستطيع أن نصل إليها بقوانا، بل المسيح يحرِّرنا من القوى المعادية لكي يصل بنا إلى وضع جديد قال الرسول: »المسيح حرَّرنا لنكون أحرارًا. إذًا، كيف نعود إلى نير العبوديَّة؟!« (غل 5: 1). وهذا الوضع الذي نصل إليه، يجعل الله يفعل في قلوبنا ويعطينا الحياة في يسوع المسيح. هذا يعني أنَّ »شريعة الروح الذي يهبنا الحياة في يسوع المسيح، حرَّرتك من شريعة الخطيئة والموت. وما عجزت عنه هذه الشريعة، لأنَّ اللحم (والدم) أضعفها، حقَّقه الله حين أرسل ابنَه في بشريَّة تشبه بشريَّتنا الخاطئة« (رو 8: 2-3).

عندئذٍ نتقبَّل البنوَّة والميراث. والله يكون الهدف الأخير لتحرُّرٍ وصلنا إليه بواسطة المسيح. ولكن لماذا هذه الحرِّيَّة؟ أهي جائزة ننالها بعد جهاد طويل؟ كلاَّ، وإن يكن الأجر ينتظرنا. أهي نهاية الحياة وكلِّ عمل؟ ومتى تنتهي حياتنا على هذه الأرض؟ هي تبدأ هنا وتتواصل في الآخرة، إذًا لماذا نطلب هذه الحرِّيَّة؟ لكي نعبد الله الحيّ. الناس يريدون أن يستعبدونا ويستخدمونا. أمّا نحن فالحرِّيَّة التي لنا هي في المسيح (غل 2: 4). إذا كانت الخليقة بالمسيح وللمسيح، فمن يكون ملك الخليقة؟

إذًا، حرِّيَّتنا هي للخدمة. وحده الحرُّ يعرف كيف تكون الخدمة على مثال المسيح الذي ركع عند أقدام التلاميذ. العبد لا يفعل ذلك. والعبد لا يستنبط طرقًا جديدة للمحبَّة. فهو مسيَّر. هو آلة يحرِّكها السيِّد. أمّا الحرّ، أمّا الرسول، فاستطاع أن يقول: »أنا رجل حرٌّ عند الناس، ولكنّي جعلتُ من نفسي عبدًا (خادمًا) لجميع الناس حتّى أربح أكثرهم« (1 كو 9: 19). ففي المشاركة مع المسيح ينسى المؤمنون التمييز بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة. لماذا؟ لأنَّنا كلَّنا »تعمَّدنا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا، وارتوينا من روح واحد« (1 كو 12: 13).

ينادينا الله لكي نكون أحرارًا. ونتجاوب معه. كما يدعونا لكي نحافظ على هذه الحرِّيَّة في المسيح. هذا يعني مسيرة لا تتوقَّف وقتالاً متواصلاً نميِّز فيه ما هو خير الكنيسة وما هو العائق من أجل إخوتنا. ولكنَّ الأمور تفرض علينا أن نميِّز ما نقول وما نفعل.  ماذا قال الكورنثيّون؟ »كلُّ شيء يحقُّ لي« (1 كو 6: 12). كلُّ شيء هو مسموح. وأنا أستطيع أن أعمل ما أشاء، بحيثُ لا يمسُّ أحدٌ حرِّيَّتي! ولكن هل كلُّ شيء ينفع، ينفعني وينفع الجماعة التي أنتمي إليها؟ باسم هذه الحرِّيَّة »يحلُّ لي كلُّ شيء«. لا يحرَّم عليَّ شيء. »ولكنّي لا أرضى أن يستعبدني كلُّ شيء«. وراح الكورنثيّون في ضلالهم: الطعام مثل الزنى. أنا آكل حين أجوع، فلماذا لا أزني حين أشتهي؟ هي سفسطة، هي برهان صحيح في ظاهره وكاذب في باطنه. وفي النهاية، يضلُّنا ويضلُّ الذين حولنا. ينزع بولس الغشاء عن هذا الكلام الذي يقود إلى الهلاك: الطعام للبطن، ولكنَّ جسد الإنسان ليس للزنى (آ13).

تركنا نير العبوديَّة ونحن نستطيع أن نعود إليه، فننسى كلام الربِّ الذي أوصانا بأن نأخذ نيره (مت 11: 29) بحيث لا نرزح تحت الأثقال. تلك حالة المؤمنين في منطقة غلاطية: عادوا إلى الوراء. رجعوا إلى شريعة الختان. فذكَّرهم الرسول بخبر هاجر وسارة، ونبَّههم أنَّهم أبناء الوعد، لا أبناء اللحم والدم. وأنهى كلامه: »فما نحن إذًا، يا إخوتي، أبناء الجارية، بل أبناء الحرَّة« (غل 4: 31). فهذا التحرُّر الذي نلناه بالمسيح، لا يمكن أن يكون نهائيٌّا، بل هو هدف نتوق إليه بكلِّ كياننا. وهو طاعة متجدِّدة للروح، لشريعته التي ليست بإكراهٍ خارجيٍّ، بل وصايا يُتمُّها فينا الروح القدس. وفي النهاية، هي مشاركة بين الله والإنسان »لأنَّ الربَّ روح، وحيثُ يكون روحُ الربِّ هناك تكون الحرِّيَّة« (2 كو 3: 7).

الخاتمة

تلك هي الحرِّيَّة التي قدَّمها لنا بولس الرسول منطلقًا من معرفته العميقة بالأسفار المقدَّسة: الله وحده يحرِّرنا، كما حرَّر الشعب العبرانيّ. والمسيح خلَّصنا بصليبه وموته وقيامته، ونحن لا نعرف الحرِّيَّة الحقّة إلاَّ إذا رافقناه على طريق الجلجلة، ومتنا معه لكي نقوم معه. جسدنا لا يموت لأنَّه للقيامة. ولكن تموت فينا الشهوات والخطيئة والموت. وهذا لا يكون بقوانا، لأنَّنا نعرف أنَّ الله يعمل في قلب ضعفنا وأوهاننا لكي يبلغ بنا إلى ملء قامة المسيح، إلى حرِّيَّة تكون من أجل خدمة الله والقريب.

هذه الحرِّيَّة المسيحيَّة، كما يراها بولس، هي بعيدة عن الحرِّيَّة السيكولوجيَّة أو الخلقيَّة. ولا هي خارجيَّة بحيث يُسمَح لنا مثلاً أن نمارس حقوقنا اليوميَّة في المجتمع. الحرِّيَّة لا تكون سطحيَّة، بل جذريَّة. لا تكون محصورة بل شاملة، وهي تتسامى فوق كلِّ ما نتخيَّل من وجهات الحرِّيَّة في عالمنا. إنَّها موهبة من الله، ونعمة رفيعة، تتركَّز كلُّها على المسيح. هي ديناميَّة تحوِّل حياتنا وتعليها لكي توصلها إلى حبِّ الله.

فهل هذه هي الحرِّيَّة التي نتوق إليها؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM