الفصل الحادي عشر: إفرحوا في الرَّب كلَّ حين

الفصل الحادي عشر

إفرحوا في الرَّب كلَّ حين

حين كان بولس في سجن أفسس،  والموت ينتظره رميًا أمام الوحوش، كتب إلى أهل فيلبّي واضعًا أمامهم صورة »المسيح يسوع« (فل 2: 5) الذي »أطاع حتّى الموت، الموت على الصليب« (آ8). ودعاهم في هذا الوضع قال: »افرحوا في الربِّ كلَّ حين، وأقول أيضًا افرحوا. وليشتهر صبركم عند جميع الناس« (فل 4: 4-5). كيف يمكن الإنسان أن يفرح وسط الصعوبات والآلام والفشل؟ هذا ما نكتشفه في رفقة بولس الرسول.

1- الفرح والإيمان

الفرح، عند بولس، يرتبط بالإيمان بالمسيح وبخصوبة النعمة في الجماعات المسيحيَّة. حين كتب الرسول أوَّل رسالة إلى كنيسة من الكنائس، بل أوَّل ما نقرأ من كتابات العهد الجديد، حدَّث التسالونيكيّين الذين أُجبر أن يتركهم سريعًا، »بعد ثلاثة سبوت«، كما يقول سفر الأعمال (أع 17: 2). خاف على إيمانهم من التزعزع (1 تس 3: 3). ولكن حين جاءته الأخبار، لم يعد يتمالك من الفرح فكتب: »فمن سيكون رجاءنا وفرحنا وإكليل افتخارنا أمام ربِّنا يسوع المسيح يوم مجيئه؟ أما هو أنتم؟ نعم. أنتم مجدنا وفرحنا!« (1تس 2: 19-20). ويواصل الرسول في الرسالة عينها، بعد أن عرف ثبات المؤمنين في الإيمان: »فأيُّ شكر نقدر أن نؤدِّيه إلى الله من أجلكم على كلِّ هذا الفرح الذي نشعر به أمام إلهنا بفضلكم؟ وكم نسأل الله ليلاً ونهارًا أن نرى وجهكم ونكمّل ما نقص من إيمانكم؟« (3: 9).

وسوف يقول الرسول الشيء عينه لمؤمني رومة: »ما من أحد إلاّ عرف طاعتكم. ولهذا أنا أفرح بكم« (رو 16: 19). أمّا كنيسة كورنتوس العزيزة على قلب الرسول، وفيها ما فيها من صعوبات يواجهُها هؤلاء المؤمنون الجدد، فكتب إليها بعد أن حمل له المسؤولون الأخبار الطيِّبة: »وسرَّني مجيء استفاناس وفورتوناتوس وأخائيكوس، لأنَّهم قاموا مقامكم في غيابكم، وأنعشوا قلبي كما أنعشوا قلوبكم« (1 كو 16: 17-18).

هذا الفرح هو قوَّة خفيَّة توجِّه حياة الإنسان، وتجعله يعي الأمور على ضوء الإيمان. الفرح بعيد عن »الكيف« الذي يجعلنا ننسى ذواتنا فيبدو كالمخدِّر الذي يريحنا بعض الشيء بانتظار أن ينتهي مفعوله. »والكيف« يكون في الخارج، مثل موج البحر، يتحرَّك، يعطي الزبَد وتنتهي الأمور والسمك يكون في الأعماق. أجل، الفرح هو في أعماق الإنسان حيث يقيم الله ويملأ الإنسان رجاء في قلب الصعوبات والعوائق. الفرح يشرق على حياتنا، وهو ثابت طالما جعلْنا يدَنا بيد الله. عندئذٍ، لا الشدَّة، ولا الضيق ولا الاضطهاد ولا الجوع ولا العري ولا الخطر ولا السيف (رو 8: 35)، لا شيء يفصلنا عن المسيح. وإذا كان المسيح معنا (آ31) من يستطيع أن يسلب منّا فرحنا؟ لا أحد.

2- الفرح في قلب الألم

ما هو الهدف من حياة الرسول؟ أن يُعلَن الإنجيل. والباقي لا قيمة له، ولا يمكن أن يقف في وجهنا. ذاك ما قاله بولس حين كان في سجن أفسس، وعرف ما يحوك له من »دسائس« أولئك الذين يُفترَض فيهم أن يساندوه. وصلت إليه الأخبار بأنَّ البعض »يبشِّر بالمسيح عن حسد ومنافسة« (فل 1: 15). بدا بولس نورًا، فما استطاعوا أن يروه أمامهم، يؤسِّس الكنائس هنا وهناك ويرفض أن يبني على أساس غيره. هو الآن في السجن. إذًا، استراحوا من وجوده وسوف يَبرزون هم! مساكين هؤلاء، لأنَّهم لا يهتمُّون بالبشارة، بل بأنفسهم. وقال بولس عن أناس مثلهم: إلههم بطنهم، وهمُّهم في أمور الأرض.

كان بإمكان بولس أن يثور على هؤلاء »الحاسدين« الذين يعملون لكي يزيدوا قيوده قيودًا. لم يفعل. كان بإمكانه أن يتكلَّم عنهم وعن مستوى رسالتهم بما فيها من سطحيَّة ومحاولة البحث عن رضا الناس. ولكنَّه لم يفعل. كان بإمكانه أن يكشف ما في قلب هؤلاء المبشِّرين من »نجاسة«. لا، ليس هذا دأبه. ترفَّع فوق كلِّ هذه الأمور. وأعلن: »حسبي أنَّ المسيح يبشَّر به« (فل 1: 18). وأضاف: »وبهذا أنا أفرح«. وشدَّد: »بل سأفرح أيضًا«. فالضيقات التي نعيشها في المسيح تصبح خصبة، على ما قال الربُّ عن حبَّة الحنطة: »إن لم تقع في الأرض وتموت، تبقى وحدها. وإذا ماتت أخرجت حَبٌّا كثيرًا« (يو 12: 24). هذا يفترض أنّنا نتخلّى عن نفوسنا، عن أنانيَّتنا وكبريائنا، وكأنَّ عمل البشارة هو في الدرجة الأولى عملنا، وكأنّنا نحن ننمي عمل المسيح، لا. بل الله هو الذي ينمي. ثمَّ، أنريد من بولس أن يحبَّ نفسه؟ لو فعل لكان خسرها (آ25). وهو في أيِّ حال، سوف يقول في الرسالة إلى فيلبّي: الموت والحياة سيّان عندي. الحياة ربح لأنّها تساعدني على حمل الرسالة. والموت ربح لأنَّه يجعلني أترك هذه الحياة لكي أكون بسرعة مع المسيح. وفي مثل هذا الوضع، لا مكان للحزن ولا للهموم، بل للفرح وللفرح العارم.

وإن شئنا أن نتحدَّث عن الضيقات والصعوبات التي لاقاها بولس في كورنتوس، يمكن أن ننصحه بأن يترك هذه الكنيسة التي هو أبوها، التي ولدها للمسيح، التي كرَّسها لتكون عروسًا لا عيب فيها ولا غضن.

في مثل هذه الكنيسة، أُهين الرسول في شخصه أو في من بعثه. قال: »فالذي كان سببًا للحزن ما أحزنني أنا وحدي، بل أحزنكم كلَّكم بعض الحزن« (2 كو 2: 5). ذاك الرجل ما زال مرتبطًا بشرائع العالم اليهوديّ من ختان وامتناع عن بعض الأطعمة. وهكذا هاجم الحرِّيَّة المسيحيَّة من خلال بولس. ذاك كان الهجوم الأوَّل. والهجوم الثاني: من هو بولس؟ رسول من الدرجة الثانية، يحتاج إلى رسالة توصية لكي يبشِّر. فهو لا يشبه »السوبر الرسل«. فهو ما رأى المسيح، ولا رافقه خلال حياته العلنيَّة على طرقات الجليل واليهوديَّة. فالأفضل أن يترك الرسالة لغيره.

ذاك الرجل عاقَبَتْه الجماعة. وماذا كان جواب الرسول؟ »يكفي هذا الرجل من العقاب ما أنزله به أكثركم (لا شكَّ في أنَّهم تركوا التعامل معه، وكأنَّه في حُرم). والآن، خير لكم أن تصفحوا عنه وتشجِّعوه« (آ6-7). صفح بولس وطلب من الجماعة أن تصفح. وما الذي دفعه إلى هذه الكتابة؟ ما قاله لجماعة المؤمنين: »وكتبتُ لكم هذا عينه حتّى إذا جئتُ لا يكون لي حزن من الذين كان يجب أن أفرح بهم، واثقًا بجميعكم أنَّ فرحي هو فرح جميعكم« (آ3). إن نجحت الرسالة، فرح الرسول. وإن فشلت، حزن. أمّا في مجال هذه التوبة، فقلبه فرِحٌ بفرح المؤمنين، كما قال في الرسالة إلى فيلبّي: »فرحتُ في الربِّ كثيرًا عندما رأيتُ أنَّكم عدتم أخيرًا...« (فل 4: 10).

كانت صعوبة أولى، في كنيسة كورنتوس، حين نال الرسول »لطمة« من فرد واحد، ربَّما دفعه تيّار واسع سيعارض بولس طوال حياته، ولا سيَّما في كنائس غلاطية. أمّا الصعوبة الثانية، فلم تأتِ من فرد واحد، بل من جماعة هم الرسل الكذّابون. هاجموا بولس مثلاً لأنَّه ليس بالإنسان »الفصيح« (2 كو 11: 6). ولكن لا بأس، فالمعرفة لا تنقصه، كما أجاب. هاجموه لأنَّه يخدم الكنيسة مجّانًا، واعتبروا أنَّه يحتقر الكورنثيّين، ولا يتنازل لقبول عطائهم، وقالوا للمؤمنين: »رسولكم لا يحبُّكم« (آ11). وفي النهاية، حاول هؤلاء الرسل أن يُبعدوا هذه الكنيسة عن »الولاء الخالص للمسيح« (آ3)، فشابهت »حوّاء التي أغوتْها الحيَّة بحيلتها«.

لا شكَّ في أنَّ الرسول دافع عن نفسه، لا كرامةً لنفسه، بل من أجل الرسالة. وسوف يقول: »لئلاّ أكون تعبتُ عبثًا«. هاجموه بالضعف، فقال: »أفرح بضعفي«، لأنَّ الله يُظهر قوَّته في الضعف. في هذا الإطار من المعارضة، تحدَّثت الرسالة عن »خلاف وحسد وغضب ونزاع وذمّ ونميمة وكبرياء وبلبلة« (2 كو 12: 20). وجاء كلام الرسول: »كم نفرح عندما نكون نحن ضعفاء وأنتم أقوياء« (2 كو 13: 9). ويُنهي الرسالة: »والآن، أيُّها الإخوة، إفرحوا واسعوا إلى الكمال« (آ11). فما الذي يجعل من الضيق فرحًا؟

3- الفرح في الصلاة

في بداية الرسالة الثانية إلى كورنتوس، حدَّثنا بولس عن الضيقات التي احتملها وطلب العزاء له وللمؤمنين. ولكن أين وجد هذا العزاء؟ في الصلاة. قال: »فإذا كنّا في شدَّة فلأجل عزائكم وخلاصكم، وإذا تعزَّينا فلأجل عزائكم والذي يمنحنا القدرة على احتمال تلك الآلام« (2 كو 1: 6).

ويتحدَّث الرسول عمّا حصل له: »لا نريد أيُّها الإخوة أن تجهلوا الشدائد التي نزلَتْ بنا في آسية (أو: جزء من تركيا الحاليَّة)، فكانت ثقيلة جدٌّا وفوق قدرتنا على الاحتمال حتّى يئسنا من الحياة« (آ8). فعلى من نتَّكل في هذا الحالة؟ على أنفسنا؟ كلاّ، كما قال الرسول. على البشر؟ الاتِّكال على الله خير من الاتِّكال على البشر، كما يقول المزمور. فلا يبقى لنا سوى الله الذي »يقيم الأموات« (آ9). وهذا الإله »أنقذنا من هذا الموت وسوف ينقذنا« (آ10). والوسيلة؟ الصلاة. وهذا ما اكتشفه الرسول بعد أن عبرت الشدَّة. فقال للمؤمنين: »وستعينوننا أنتم بصلواتكم. فإذا بارَكنَا الله استجابةً لصلوات كثير من الناس، فكثير من الناس يحمدون الله من أجلنا« (آ11).

أجل هي الصلاة في حياة الرسول، من أجل الفرح بين الإخوة وفي الصراع من أجل الإنجيل. وهذا ما دفع بولس إلى رفع صلاة الشكر من أجل ما تمَّ على يده: »أشكر الله كلَّ مرَّة أذكركم. (وأشكره) دائمًا في كلِّ أدعيتي، ودعوتُ لكم جميعًا بفرح في جميع صلواتي لمشاركتكم في خدمة الإنجيل من أوَّل يوم إلى الآن« (فل 1: 3-5).

هذه الخبرة التي يعيشها الرسول، يريد أن يوصلها إلى المؤمنين، فيحثُّهم في نهاية الرسالة ويقول: »افرحوا دائمًا. واظبوا على الصلاة. اشكروا الله على كلِّ حال، فهذه مشيئة الله لكم في المسيح يسوع« (1 تس 5: 16-18). وفي آ25، يقول الرسول: »صلُّوا لأجلنا أيُّها الإخوة«. فهؤلاء المؤمنون هم »فرح« الرسول وإكليله (فل 4: 1). وهم يكونون كذلك حين يكونون ثابتين في الإيمان. ومثل هذا الثبات يستند إلى الصلاة التي تنعش فينا الإيمان.

الخاتمة

الفرح هو في قلب الإنجيل. لهذا أنشده الرسول ولو في قلب الضيقات والأحزان التي يعرفها الإنسان. فبولس لا يتوقَّف كثيرًا لدى ما هو سلبي، بل ما هو إيجابيّ. تُمارَس المحبَّة عند فيلمون، ابن كولوسّي، فيعلن الرسول: »كم كان سروري وعزائي عظيمين بمحبَّتك، أيُّها الأخ!« (فلم 7). أطاع مؤمنو رومة نداء الإنجيل، ففرح بهم الرسول (رو 16: 19). والفرح يرافق المؤمن حين يتغلَّب على التجربة (1 تس 1: 6)، وحين ينتصر الحقُّ ويُقهَر الظلم (1 كو 13: 6). يعطي المؤمنُ للمحتاجين فيفرح على مثال ما حصل لأهل مكدونية: »فرحوا فرحًا عظيمًا، وتحوَّل فقرُهم الشديد إلى غنى بسخائكم« (2 كو 8: 2). فهم تعلَّموا كلام الربِّ كما في سفر الأعمال: وجدوا في العطاء فرحًا لم يجدوه في الأخذ. واكتشفوا أنَّ لا قيمة للعطاء إن لم يرافقه الفرح والسرور (2 كو 9: 5). وأخيرًا، يملأ قلبَ الرسول الفرحُ حين يرى الوحدة في الجماعة، وتوافُقَ الأفكار والقلوب، بالرغم ممّا يمكن أن يكون حولها من نزاعات ومزاحمات وحسد وخصومة. وبهذا ننهي كلامنا كما بدأناه في الرسالة إلى فيلبّي: »فإن كان من عزاء في المسيح، ومن هناء في المحبَّة، ومن مشاركة في الروح، ومن حنان ورأفة، فتمِّموا فرحي بأن تكونوا على رأي واحد وقلب واحد وفكر واحد« (فل 2: 1-2).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM