الفصل الثالث عشر
التاريخ اليهودي
نتوقّف الآن عند الكتابات التي عرفتها الملكية الناشئة. ونبدأ أولاً بالتاريخ اليهوهي، على أن نترك لفصل لاحق تاريخ داود وسلالته مع ما رافق هذا التاريخ من مزامير ملوكية وأمثال قديمة نسبت إلى سليمان.
أ- قراءة أولى لأحداث التأسيس
نحن هنا أمام خبر يبدأ ببدايات البشرية، ويصل بنا إلى زمن الخروج، بل أبعد منه. سُمّي التاريخ اليهوهي لأنه يسمّي الله يهوه أي الإله الذي هو. هو يشدّد على موضوع البركة منذ البداية، ويتطلّع إلى زمن داود الذي باركه الرب وبارك نسله فصار كالنجوم في السماء وكالرمل على شاطئ البحر.
نطرح هنا ثلاثة أسئلة. من كتب هذا الخبر؟ متى كتبه، ولماذا كتبه؟ هو كاتب من أرض يهوذا ومن حكمائها. خطّ التمتمات الأولى في القسم الثاني من عهد سليمان. ولكن النص النهائي هو ثمرة تدوينات متعاقبة وكتّاب مختلفين. وقد لعب التقليد الشفهي في هذا التدوين دوراً كبيراً جداً. ونستطيع القول إن اللمسات الأخيرة وُضعت في زمن ما بعد المنفى.
عاش الكاتب في الزمن الملكي، فحاول أن يقرأ الماضي على ضوء الأحداث المعاصرة. إستقى من أخبار تتردّد في الأفواه والآذان منذ أجيال وأجيال، وضمّ إلى "مؤلَّفه" نصوصاً يمكن أن تكون دوّنت في الماضي. فبرز هذا المؤلف في ثلاثة أقسام: خبر البدايات، إبراهيم والآباء، موسى والخروج.
ب- خبر البدايات
يبدأ التاريخ اليهوهي بخبر خلق الرجل والمرأة اللذين جعلهما اللُّه في الفردوس الأرضي. لن نبحث هنا عن تصوير علمي لبدايات البشرية. فعلوم ذاك العصر كانت في المهد. ولم يكن الكاتب البيبلي يعرف أكثر من معاصريه في بلاد الرافدين، أو مصر، أو كنعان. إستعمل سُطُر هذه البلدان ورموزها، فذكر الإله الفخاري والجنة العجيبة والشجرة التي تمنح الخلود، والحيّة التي تتكلّم.
تعود أصالته وجرأته إلى الإيمان. فقد أكدّ مع مؤمني شعبه أن الله الذي هو في أصل البشرية كلها هو الرب نفسه الذي أخرج شعبه من مصر. هذا الإله "صنع" الانسان لا عن نزوة او تسرّع، أو من أجل فائدته كما تقول الأساطير الوثنية. بل خلقه ليحيا ويتفتحّ ويغتذي ويشارك سائر البشر في العمل والعيش. وقد نال هذا الإنسان إمكانية النمّو، وتنظيم نفسه في عائلة وجماعة وشعب، واختراع التقنيات والمهن (تك 4: 17- 22).
ولكن الكاتب لا يخفي علينا الأمور الدراماتيكية الواقعية التي تطبع البشرية بطابعها منذ القدم. تساءل: من أين جاء الشر؟ من أين جاء الموت؟ قال إن الحية هي السبب فدلّ على أنه لا يعرف. ومهما يكن من أمر، فمسؤولية الإنسان ظاهرة بوضوح. فحين يخون مشروع الله، تتفجرّ في هذا العالم كل أنواع الشرور: تسلّط الرجل على المرأة (تك 3: 16)، العمل المضني (تك 3: 19)، العمل العدائي والقتل (تك 4: 8)، العنف (تك 4: 24)، إحتقار الآخرين وفساد الأخلاق (تك 9: 22)، عدم التفاهم بين الأفراد والشعوب (تك 11: 9).
غير أن الرجاء حاضر منذ البداية. ونحن نستشفّه في هذا الصراع بين نسل المرأة ونسل الحية (تك 3: 15). ويدلّنا خبر نوح والطوفان على إله قريب من الإنسان البار، فيخلّصه ويعطيه نسلاً كبيراً. وعبر سلسلة الأنساب (طريقة قديمة لكي نروي التاريخ)، يوجّه الكاتب خبر اللعنات التي تلقي بثقلها على الوضع البشري نحو نداء إبراهيم، ذلك الرجل الذي به ستمتدّ البركة إلى كل عشائر الأرض.
حين روى الكاتب خبر البدايات، لم ينطلق من الماضي (الذي لا يعرفه) لكي يصل إلى الحاضر. بل إنطلق من الحاضر وحاول أن يقدّم له جواب الإيمان. ما يعيشه هو اليوم قد عاشه أول إنسان على الأرض. هو يموت وكذلك مات أول إنسان على الأرض. بقي عليه أن يبرّر الله الذي خلق الكون جميلاً، الذي لم يخلق الشر. إنطلق الكاتب من واقع يوميّ أو خبر قديم، وجعله في سطرة عاد بها إلى بداية الكون. إستعمل ما في الحضارات المجاورة من أساطير وأدخلها في نظرته التوحيدية. وهكذا قدّم لنا تعليماً عن العائلة التي يباركها الله، حيث الرجل والمرأة متساويان، حيث الرجل والمرأة واحد. وأعاد قراءة خبر الطوفان فربطه بخطيئة البشر وشرورهم.
تاريخ البدايات هو نظرة إيمان إلى الكون، لا نظرة علم إلى أمور جهلها الكاتب. وهي ستكون نظرتنا نحن الذين نعرف اليوم أيضاً الشر والألم والموت.
ج- إبراهيم والآباء
مع دعوة إبراهيم يبدأ تاريخ آباء الشعب العبراني. جمع "الكاتب" اليهوهي أخباراً قديمة تدلّ على أن الرب إتخذ البادرة فجاء بابراهيم وعشيرته من بلاد الرافدين. طريق طويلة من إبراهيم إلى داود وسليمان. وعد اللّه منذ القديم، وها هو يفي بوعده فيجعل من شعبه "أمة عظيمة" (تك 12: 2).
تدلّ عدة سمات في تاريخ الآباء على أن الكاتب هو إنسان من عصره. إبراهيم رجل غني بالفضة والذهب مثل سليمان. ومسألة النسل تذكّرنا بصراعات نهاية حكم داود. يروي لنا تك 26 ما قاساه إسحق مع الفلسطيين. ولكن الفلسطيين جاؤوا فيما بعد. وكان ليعقوب صعوباته مع الأراميين كما حدث لداود. إن هذا الكاتب يرى في خبر الآباء صورة مسبقة عن تاريخ أبنائهم وتنقلاّتهم وصعوباتهم المادية ومشاكلهم السياسية، وصراعهم وحيلهم لكي ينالوا البركة.
البركة هي الكلمة الأساسية في هذا الخبر، وهي تدل على عطايا اللّه، من قوة الحياة إلى النجاح والسعادة. وستمتدّ هذه البركة إلى الآخرين (تك 12: 3)، فتدلّ على أن للشعب دعوة بالنسبة إلى العالم الذي يعرفه.
وفي ف 37 يبدأ خبر يوسف، أحد أبناء يعقوب، الذي باعه أخوته فاقتيد بالقوة إلى مصر حيث صار في النهاية وزير فرعون. وبفضله نجت عائلته من المجاعة فأقامت في مصر. عُرف هذا الخبر في الشمال حيث اعتُبر يوسف جدّ قبيلتي إفرائيم ومنسىّ. ولكن حين انضمت كل القبائل تحت لواء داود، صارت الأخبار المحليّة أخباراً "وطنية". نجد أن الكاتب اليهوهي الذي هو إبن الجنوب، سيبرز دور إبن آخر ليعقوب هو يهوذا. فيهوذا هو الذي يخلّص يوسف (تك 37: 26- 27) وإخوته (تك 44: 18- 44)، وفي هذا تلميح إلى دور الملكية الموحدة. وقبل أن يموت يعقوب سيسلم الصولجان وعصا الحكم إلى يهوذا (تك 49: 10). وهكذا قرأ الكاتب اليهوهي الماضي على ضوء الحاضر.
د- موسى والخروج
1- ضيق وتحرّر
وبعد حقبة الآباء، يحدّثنا الكاتب عن مولد الشعب المؤلم عبر تاريخ من الضيق والتحرّر. وذلك ليبيّن أن الرب سيحرّر شعبه ويجمعه ويقوده إلى أرض الآباء بفضل رجل إسمه موسى. وعملُ موسى هذا هو صورة مسبقة لما سيعمله الملوك. موسى هو القائد والقاضي (خر 2: 14) الذي سلّمه الله مسؤولية من أجل خلاص شعبه. وقُربَ موسى نجد هارون الذي سيرى فيه الكاتب صورة عن الكهنة العائشين في أيامه. فعلى بني إسرائيل أن يؤمنوا بموسى ويسمعوا كلامه (4: 1.). فهو الذي يواجه الفرعون عبر محادثات طويلة تتوزّعها سلسلة من "الضربات" التي يرسلها الله ليتغلّب على مقاومة العدو. وحين تأتي ضربة موت الأبكار، ينتهي الضيق: وارتبطت بنهاية هذه الأحداث الدراماتيكية عادةُ أكل الحمل الفصحي والخبز الفطير (من دون خمير). وبعد انتصار عظيم أُحرز على المصريين في بحر القصب، توجّه الشعب إلى جبل سيناء. ولن تصل هذه السفرة الخطرة عبر الصحراء إلى غايتها إلا بفضل عمل موسى وشفاعته. إنه وسيط حقيقي بين الله والشعب، وموُفَد الشعب إلى اللّه.
2- الوصول إلى سيناء
مع الوصول إلى سيناء يتوسّع الكاتب في موضوع عزيز على قلبه هو "خدمة" الله أي إقامة الإحتفالات وشعائر العبادة. وقد نستطيع أن نسمّي خبره: من العبودية إلى العبادة، من عبودية فرعون إلى عبادة الله الواحد. فالعبادة التي يؤديها الشعب في هيكل أورشليم، قد بدأت على جبل سيناء. هناك ظهر الله في الغمامة وفي النار (خر 19). هناك كان اتحاد سرّي بين اللُّه وشعبه خلال مأدبة شارك فيها موسى وبعض المميّزين في حضرة الله (خر 24: 9- 11).
في التقليد اليهوهي تتعلّق وصايا سيناء بصورة رئيسية بشعائر العبادة والإحتفال بالأعياد (خر 34). هذه هي إهتمامات الكهنة. وهناك خبر آخر يحدّثنا عن أصل الكهنة اللاويين (خر 32: 25- 29). في كل هذا يبرز دور موسى الفريد. فهو وحده يقترب من الله (خر 24: 2)، ومعه يعقد عهد سيناء (خر 34: 10).
3- نحو أرض الميعاد
وينطلق الشعب إلى أرض الميعاد برفقة الرب نفسه (خر 33: 12- 17). وسيدلّ على هذا الحضور دلالةً ملموسة تابوتُ العهد الذي هو عربون الإنتصار في الحروب (عد 10: 35- 36).
إهتم الخبر اليهوهي بعالم الجنوب، برجاله وأحداثه المعروفة: حوباب القيني (من قبيلة قايين)، وإمرأة موسى الكوشية (من كوشان في مديان) (عد 12: 1)، وكالب وتجسّسه في منطقة حبرون (عد 13: 17- 30)، وقبائل الجنوب وانتصارها في حرمة (عد 21: 1- 3). ونجد آخر المقاطع اليهوهية في خبر بلعام، ذاك الرائي المشهور الذي جاء به ملك موآب ليلعن إسرائيل فباركه. أجل، لقد استعمل الله أتاناً لكي يصل إلى هدفه. فتجاه الحية التي كانت سبب لعنة في البداية، شاركت أتان في حمل البركة إلى بني إسرائيل. ونحن نجد في قولات بلعام مواضيع اليهوهي المفضّلة: إعلان ملك في أرض إسرائيل: يسعى كوكب من يعقوب، يقوم صولجان من إسرائيل (عد 24: 17).
خاتمة
نحن هنا أمام نظرة شاملة إلى أحداث التأسيس. ونجد فيها إهتمامين. الأول، نقل التقاليد القديمة بأمانة و"تدوينها". الثاني، تأوين (أي قراءتها الآن، في حاضر الكاتب) هذه التقاليد لكي تقدّم معنى يفهمه معاصرو الكاتب الذي بدأ عملاً في زمن الملوك سيجد نهايته بعد المنفى. وما وجّه هذا العمل هو اليقين بأن الله يكشف عن نفسه في تاريخ البشر عامة، وفي تاريخ شعبه خاصة. ففي قلب بشرية ممزّقة بسبب اللعنة التي حملتها الخطيئة، بدأ الله عمل مباركة، فنادى الآباء، وحرّر شعبه من العبودية، وعقد عهداً في سيناء، وسار مع شعبه إلى أرض الموعد بأنتظار مملكة داود...
نقرأ هذه الأخبار، بل نسمعها لأنها رُويت في ظل المعابد قبل أن تدوّن على "الورق". نجد فيها نفحة شعبية ونظرة إلى مختلف أوضاع الحياة. هناك الرجال. وهناك نساء لعبن دوراً هاماً مثل سارة ورفقة... في هذا التقليد نجد الله قريباً جداً من البشرية وهو لا يزال حاضراً في حياتها، حاضراً في حياتنا اليوم