الفصل الثاني عشر الإطار التاريخي للملكية

الفصل الثاني عشر

الإطار التاريخي للملكية

نترك زمن القضاة، وندخل في الحقبة الملكية التي ستمتدّ في مرحلة أولى من سنة 1050 إلى سنة 933 ق. م.
دخل بنو إسرائيل إلى أرض كنعان وتحضرّوا بحضارتها، فوصلت بهم الأمور إلى تأسيس الملكية وتطويرها على يد داود وسليمان. لقد جاءت الساعة لكي يخلق هؤلاء البدو القدماء دولة تتجاوب وحاجتهم إلى الإستقرار والطمأنينة. سوف نتعرّف إلى الظروف التي فيها وُلدت الملكية، وإلى التبدّلات التي تمّت على مستوى النظم. ولقد وُلدت في هذه الحقبة أيضاً أولى الآثار الأدبية في التوراة. نبدأ بالإطار التاريخي، ونترك إلى فصل لاحق الآثار الأدبية التي وُلدت في هذا الإطار.

أ- أزمة خانقة
نحن حوالي سنة 1050 ق. م. شكّل الفلسطيون قوة متنامية. أقاموا على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط، فتغلغلوا شيئاً فشيئاً في عمق الجبال الفلسطينية الوسطى، وقد يصيرون أسياد الأرض الحقيقيين. حاول بنو إسرائيل أن يقاوموهم ولكن عبثاً. فقُهروا في معركة أفيق، وسقط تابوت العهد في أيدي الأعداء. هذا التابوت الذي حملوه إلى المعركة ليتأكدوا أن الله معهم، صار مع الفلسطيين (1 صم 4).
ومنذ ذاك الوقت، بدت سيطرة الفلسطيّين على قبائل الوسط أمراً واقعاً. وجعل الفلسطيون في هذه المناطق الجديدة وُلاة كما في جبع (1 صم 15: 5؛ نقرأ مع الترجمة الأرامية: "تصل إلى جبعة الله حيث يقيم الولاة الفلسطيون). ومنعوا على بني إسرائيل مهنة الحدادة لئلا يصنعوا أسلحة (1 صم 13: 19- 22). واستفاد العمونيون، المقيمون في الشرق، من الوضع ليوسّعوا تخومهم.
في هذا الإطار الدراماتيكي، عاد مشروع الملكية على بساط البحث، بعد أن لامسه زمن جدعون وخسر اعتباره بعد مغامرة أبيملك (قض 9). فوجد أرضاً مؤاتية في وعي وطني وديني تبع هزيمة أفيق، وتجسّد في صموئيل رجل الإنتقال في هذا الوضع المتأزم. هناك كتابان يحملان إسم صموئيل، وهو يحتل فيهما مكانة كبرى مع أنه لم يكتبهما. إنهما يشكلان مع سفرَيْ الملوك الينبوع الأول لمعلوماتنا عن هذه الحقبة.
وأحسّ الناس أن النظم القبلية القديمة صارت مهلهلة وقريبة من السقوط. وبدا لهم سقوط شيلو كعقاب من اللّه ضدّ رؤساء دينيين أكلهم الضعف والفساد (1 صم 2: 27- 32). إذن، لا بدّ من سلطة ثابتة يعترف بها الجميع، وتستطيع أن تضع حداً للضيق الآتي من الخارج وللتجاوزات الذي يسبّبها أهل الداخل.
وكان تبني الملكية الجواب الوحيد الوافي. فقابل رسمة تطوّر المجتمعات التي انتقلت من حياة البدو إلى حياة الحضر وتكوّنت ممالك، مثل العمونيين والموآبيين أو الأدوميين. سيسير أبناء عمِّهم (بنو إسرائيل) على خطاهم فيتبعون التطوّر العادي. والوضع الأولي الذي تميّز في تلك الحقبة كما في سابقتها بضعف الممالك الكبرى، لم يقف حاجزاً بوجه هذا التطوّر.

ب- مع النظام الجديد أو ضده
لم يتمّ هذا التطوّر من دون صعوبات داخلية. وتدلّ النصوص البيبلية على أن وجهات النظر اختلفت، بل تعارضت. فهناك أخبار تساند الملكية بوضوح، مثل خبر "أتن شاول" (1 صم 9: 1- 15: 16). إنه يروي كيف أن صموئيل عيّن إبن مزارع في قبيلة بنيامين (إسمه شاول) ليخلّص الشعب الذي يضايقه الفلسطيون. وفي 1 صم 11 سنرى شاول ينطلق إلى الحرب على العمونيين وينتصر عليهم إنتصاراً باهراً. حينئذ أعلنه الشعب ملكاً في الجلجال. وهكذا شدّد هذان الخبران على مبادرة الله في اختيار شاول. ولكن الخبر الثاني أقرب إلى التاريخ والواقع.
وهناك نصوص أخرى خصوصاً 1 صم 8 و 12 حيث تُنسب هذه المبادرة إلى الرب. فالناس أرادوا لهم ملكاً. لم يوافقهم صموئيل الرأي، ولم يقبل الرب إلا على مضض. من الواضح أن هذه النصوص التي ترفض الملكية ترتبط بأوساط أخرى وتيارات فكرية مختلفة. ويظنّ الشراح أن تدوينها يعكس تفكيراً يعود إلى حقبة متأخرة إختبر فيها الشعب تجاوزات النظام الملكي. قد يكون هناك انتقادات قديمة للنظام الملكي، والأخبار الموافقة للملكية ستسمّي هؤلاء المعارضين "بني بليعال" (أدنياء، لا يساوون شيئاً) (1 صم 10: 27؛ 11: 12- 13).
لماذا هذه المعارضة؟ بسبب المنازعات والحسد بين القبائل. فبنيامين، قبيلة شاول، وجبعة مدينته، كانتا قد نالتا درساً قاسياً من الجيران (قض 19- 21). ثم إن الملكية بدت للأوساط الدينية التقليدية تجديداً خطيراً يقف حاجزاً بوجه الرب ملك شعبه ومخلّصه الوحيد. وأخيراً، أقلقت الملكيهّ مزارعين يغارون على حرّيتهم وحقوقهم، وستصطدم مصالحهم مع "حق الملك" على الشعب (1 صم 8: 11- 17): "يأخذ بنيكم... وبناتكم... وحقولكم وكرومكم وأفضل زيتونكم...".
وإذا كان النظام الجديد قد فرض نفسه رغم كل شيء، فهذا عائد إلى الخطر الذي يشكلّه الفلسطيون على القبائل. فبنو إسرائيل إنتظروا من ملكهم، أول ما انتظروا، أن "يخلّصهم" من أعدائهم.

ج- محاولة أولى مع شاول (1030- 1010 تقريباً)
بشرّت بدايات شاول بالخير. جمعَ حوله فرقة من المحاربين الأشدّاء لمواجهة الفلسطيين. وبفضل أعمال فردية ومعارك انتصر فيها، حرّر الجبل في وسط البلاد وأعاد الأعداء إلى أرضهم (1 صم 13- 14). ويبدو أنه حارب أيضاً الموآبيين والعمونيين والأدوميين وملوك أرام وانتصر عليهم (1 صم 14- 17).
كان شاول بأسلوب حياته وطريقة عمله شبيهاً "بالقضاة" مثل جدعون ويفتاح وشمشون. ومع هذا، ظهر شيء جديد: أعلن الشعبُ شاول ملكاً، فاستعمل للمرة الأولى طقس المسح بالزيت الذي جعل من شخص عادي رجلاً مكرساً. لم تعد سلطته مؤقتة ومرتبطة بعمل محدّد. نشير هنا إلى أن المصريين والكنعانيين عرفوا الدهن بالزيت المقدس، الذي يدلّ على القبول والإكرام، ويعد بالخير والبركة. المسح بالزيت يدل على اختيار الله للملك وتعلّق بالله. وبهذا يصبح "مسيحاً" وممسوحاً.
وهكذا شهدنا تطوراً تمّ على مراحل خلال أيام شاول: كانت مهمّة القوّاد محدّدة في زمن القضاة، فصار للملوك سلطان منظمّ ومتواصل. وإرتسم هذا التطوّر في مجالات عديدة. ففي زمن القضاة، كان الناس يلجأون في وقت الحاجة إلى رجال "الحرب". وحين يزول الخطر، يعود كل واحد إلى بيته. أما الآن، فتكون بجانب "الجيش الشعبي" نواة جيش محترف يجندّه الملك (1 صم 14: 52). وسنجد في 1 صم 20: 25 لوحة عن "حاشية" شاول: هناك "هيئة أركان" مؤلّفة من يوناتان إبن شاول، وأبنير إبن عم الملك وقائد الجيش، وداود حامل سلاحه. وهناك مقطع آخر يصوّر لنا الملك في جبع جالساً تحت البطمة التي على التلّة (لا: في الرامة). بيده رمحه، وعبيده يقفون حوله (1 صم 22: 6). وإذ أراد شاول أن يربح ولاء عبيده (أي قؤاد الجيش)، وزّع لهم الحقول والكروم. غير أن النص لا يقول على حساب من تمّ هذا السخاء الملكي.
لا عاصمة بعدُ لهذا الملك الذي يقيم في مسقط رأسه، في جبع. وقد وُجدت هناك بقايا قلعة تعود إلى هذه الحقبة. ومن جبع، كان يحكم "أرضاً" تشتمل على جلعاد في شرقي الأردن وأشير (؟) ويزرعيل في الشمال، وإفرائيم وبنيامين في الوسط (2 صم 2: 9). وقد نزيد على هذا جبال يهوذا في الجنوب. لا وصول له إلى البحر المتوسط. كما أنه كانت مدن كنعانية لم يستطع شاول أن يسيطر عليها، مثل أورشليم التي تبعد 6 كلم إلى الجنوب من جبع.
رغم هذا النجاح الأول، إصطدم حكم شاول سريعاً بمعارضة قوية. ففي المعركة ضد العماليقيين، سنرى صموئيل يقف بصورة واضحة في وجه الملك. ويعلن أن الله رذله (1 صم 15: 22- 23). لماذا؟ السبب الظاهر هو أن شاول لم يأخذ بشريعة الحرب المقدّسة (إحتفظ بالغنائم). وفي الواقع، النظرة إلى عمل الله في تاريخ شعبه تبلبلت. ثم إن طبع شاول بما فيه من قلق وحسد كدّس الصعوبات. فنتج عن ذلك سلطة ضعيفة إنتهت به إلى المأساة. ولكن بانتظار ذلك، خرج رجل من الظلّ واستعد ليلعب الدور الأول: كان اسمه داود.

د- صعود داود
كان داود إبن يسّى من قرية بيت لحم في يهوذا. وبفضله دخلت قبيلة يهوذا في التاريخ.
عاش داود مع شاول فحمل له سلاحه. كان أحد المحاربين المشهورين الذين جمعهم شاول حوله (وأحاطت به أخبار أسطورية مثل مقتل جليات، 1 صم 17). وكان في الوقت عينه شاعراً وموسيقاراً موهوباً (1 صم 16: 23) نُسب إليه تأليف عدد من المزامير.
أقام مع شاول، فكانت إقامته تهيئة بعيدة لحياته المقبلة. تزوّج ميكال، إبنة الملك، وصار صديق يوناتان ابنه. وتميّز بحروبه ضد الفلسطيين، فنمت شعبيته إلى درجة أثارت حسد شاول الذي اعتبره مزاحماً خطراً له. وحين شعر داود أن حياته مهدّدة، هرب إلى موطنه في الجنوب (1 صم 20- 21).
فانضم إليه في منطقة حبرون بضع مئات من الرجال تضايقوا من الوضع أو من الحياة، فصار رئيسهم (1 صم 22: 2). كيف يقوت هذه المجموعة؟ يفرض الخوة على الناس ولا سيّما على الأغنياء. لاحقه شاول، فاتخذ قراراً خطيراً: إلتجأ إلى الفلسطيين، وقدّم خدماته لملك جت (1 صم 27). ولكنه حافظ على صداقة مواطنيه، فخلّصهم من غزوات بدو الجنوب، ووزّع عليهم الأسلاب، وتعلّم لدى الفلسطيين مهنة الحرب واستعمال السلاح.
وحين أراد الفلسطيون أن يثأروا لنفوسهم من شاول، هاجموه في جبل الجلبوع. وكاد داود يُجبر على محاربة شعبه. وقُهر شعب إسرائيل. فحين شهد شاول هزيمة شعبه وموت أولاده الثلاثة، إرتمى على سيفه فمات (1 صم 31). عمل يائس ختم به فشل حكمه. واستعاد الفلسطيون سيطرتهم على البلاد.
وإذ أراد أبنير أن يوقف الخطر المتزايد، جعل إشبوشت إبن شاول خلفاً لأبيه، وجعله يقيم في محنائيم، في عبر الأردن، ليكون بعيداً عن الفلسطيين (2 صم 2: 8- 9). ولكن رجال يهوذا لم ينضموّا إلى الملك الجديد، فأعلنوا داود ملكاً ومسحوه بالزيت المقدس. كان ذلك في حبرون (2 صم 2: 4). وهكذا صار داود ملكاً على يهوذا، وظل تابعاً للفلسطيين.
وبدأت العداوة بين سلطتين متزاحمتين، بين إسرائيل (الشمال) ويهوذا (الجنوب). بدت قبائل الشمال مضعضعة، وما استطاع إشبوشت أن يسيطر على الوضع. والحل؟ إنضم أبنير إلى داود، ثم جاءه شيوخ إسرائيل إلى حبرون وعرضوا عليه أن يكون ملكاً عليهم. وتمّ هذا المشروع بعد أن قُتل إشبوشت. وهكذا انضمت جميع القبائل إلى داود، ولكنها ظلّت مجموعتين منفصلتين: مجموعة إسرائيل ومجموعة يهوذا. وهكذا استندت وحدة المملكة إلى شخص داود.

هـ- ملكية موحّدة في أيام داود (1010- 970 تقريباً)
إن تجمّع القبائل حول داود بلبل الوضع السياسي في المنطقة. وكانت ردّة الفعل الأولى لدى الفلسطيين. ولكن داود وضع حداً لتسلّطهم في معركتين حاسمتين (2 صم 5: 17- 25).
ونقصت المملكة عاصمةٌ حقيقية. كانت حبرون بعيدة عن قلب البلاد، ومرتبطة إرتباطاً وثيقاً بقبائل الجنوب. تطلّع داود إلى مدينة اليبوسيين التي تفصل بين يهوذا وإسرائيل، فاستولى بالحيلة على أورشليم التي تحميها قلعة إسمها صهيون (2 صم 5: 6- 10). وجعل من هذه المدينة الكنعانية القديمة موضع إقامته. وكمّل هذا العمل بمبادرة دينئة سيكون لها بعدها: نقل تابوت العهد من شيلو إلى العاصمة الجديدة (2 صم 6).
واستفاد داود من ضعف مصر وأشورية، فأنطلق في سياسة توسعية، جعلته سيد "أمبراطورية" واسعة. ضمّ إليه المدن الكنعانية في سهل مجدو. وفرض الجزية على ملك موآب فصار تابعاً له (2 صم 8: 2). واحتل كل مملكة أدوم وجعل عليها حاكماً من قبله. وعاقب العمونيين عقاباً قاسياً، لأنهم أساؤوا معاملة موفديه (2 صم 10: 1- 14؛ 12: 26- 31). وقهر حلفاءهم الأراميين، فوصلت جيوشه إلى الفرات (2 صم 8: 3). وأقام داود علاقات صداقة مع ملك حماة الأرامي (2 صم 8: 9- 10) ومع ملك صور في فينيقية (2 صم 5: 11).
وظهرت في الداخل إدارة مركزية حسب النموذج المصري. ولنا فكرة عن هذه الإدارة في لائحة الموظّفين (2 صم 8: 15- 18؛ 20: 23- 26). قائد الجيش هو الأول. وهناك حرس ملكي مؤلف من غرباء مرتزقة أصلهم من فلسطية. المسجِّل يعلن الأوامر الملكية. وكان الكاهنان صادوق وأحميلك من رجال الحاشية. الكاتب يهتم بالمراسلات الملكية. ونلاحظ وجود المسؤول عن أعمال السخرة: لقد رافق مجيء الملكية بداية تشييد الأبنية العظمى مثل قصر داود (2 صم 5: 9- 12).
كانت السلطة القضائية في يد الملك (2 صم 8: 15). فمنه كانوا ينتظرون "العدل والحق". وتظهر النصوص أن الناس كانوا يلجأون إليه في صعوباتهم (2 صم 14: 4- 11؛ 1 مل 3: 16- 28). والسلطة التشريعية هي أيضاً في يده. فهو يخلق سنّة وحكماً لإسرائيل (1 صم 30: 25) لتكون بجانب الشرائع التقليدية التي يحتفظ بها الكهنة.
واجتاز القسم الثاني من حكم داود أزمة خطيرة سبّبها صراع أبنائه من أجل خلافته. وأصعب ما كان ثورة ابنه أبشالوم الذي أجبر الملك الشيخ على مغادرة أورشليم والإلتجاء إلى عبر الأردن (2 صم 15). قُمعت الثورة، ولكنها كشفت نقطة الضعف في المملكة وهي المواجهة بين الشمال (إسرائيل) والجنوب (يهوذا). فأبشالوم لم يفرض نفسه بعض الوقت إلا بفضل مساندة الشمال.
وكانت نهاية الحرب من أجل الخلافة لصالح سليمان الذي لم يكن البكر: عملت لأجله أمه بتشابع، وساندها النبي ناتان والكاهن صادوق والحرس الملكي (1 مل 1).

و- مملكة سليمان (970- 930 تقريباً)
وصل سليمان إلى الملك في ظروف صعبة لم تنقصها تصفية الحسابات، ففرض نفسه كخلَف لداود. إستطاع أن يحتفظ بإرث أبيه السياسي. ولكنه لم يستطع أن يمنع هدد الأمير الأدومي من العودة من منفاه الجبري في مصر، ولا رزون القائد الأرامي من إعلان نفسه ملكاً في دمشق (1 مل 11: 14- 25). لقد كرّس سليمان كل قواه من أجل نشاط سلمي. الأبنية، الإدارة، الصناعة، التجارة، الثقافة.
قام بأعمال ضخمة. عقد صفقة تجارية مع ملك صور الذي أرسل إليه خشب البناء والصنّاع من نجّارين وبّنائين وحدّادين (1 مل 5: 15- 32). وسّع الملك أورشليم إلى الشمال، وشيدّ جملة أبنية منها قصره الخاص وقصوراً أخرى، كما شيّد معبداً يظلّل تابوت العهد (1 مل 6- 8). كان الهيكل أو بيت الرب بناء طوله 30 متراً، عرضه 10 أمتار، علّوه 15 متراً. وكان مقسوماً ثلاثة أقسام: الرواق، القاعة الكبرى، قدس الأقداس وفيه تابوت العهد. تزّين المعبد بالذهب، وأحاطت به ساحة كبيرة يجتمع فيها الشعب من أجل أعياده واحتفالاته. وشيّد في وسط الساحة وأمام الرواق في الهواء الطلق مذبحاً كبيراً من البرونز لتقدمة الذبائح. ويحدّثنا 1 مل 9: 15- 19 عن أبنية أخرى لا سيما في المدن المحتلّة: أسوار، قصور، مخازن ملكية. ويظن علماء الآثار أنهم اكتشفوا آثار "إصطبلات الملك سليمان". من قام بهذه الأعمال؟ أسرى الحرب، الكنعانيون، قبائل الشمال.
وتابع سليمان عمل التنظيم الذي قام به أبوه، وأنمى الإدارة المركزية. ونلاحظ في لائحة الموظفين الكبار (1 مل 4: 1- 6) مهمات جديدة مثل رئيس المدراء. خلق سليمان المدراء مقتفياً خطى الممالك الكبرى، وكلّفهم بجمع الموظفين والجنود والعمّال والخيرات من أجل حاجات القصر. يذكر النص 12 مديراً لإسرائيل (أي مملكة الشمال). ويبدو أن يهوذا (أي مملكة الجنوب) كانت معفاة (1 مل 4: 19) من أعمال السخرة والضرائب.
وظهر التجديد في الصناعة والتجارة. ففي عصيون جابر، قرب إيلات، عمل رجال سليمان في صناعة الحديد والنحاس المستخرجين من العربة جنوبي البحر الميت. وتكوّن أسطول ينطلق من البحر الأحمر ليجلب الذهب من أفريقيا أو عرابية (1 مل 9: 26- 28). ونظّم رجال الملك تجارة الخيول والعربات بين مصر وآسية الصغرى وسورية (1 مل 10: 26- 29).
فرض سليمان نفسه على الساحة الدولية، فتزوّج ابنة فرعون (1 مل 3: 1). وعقد سلسلة من الزواجات السياسية فكبر عدد حريمه وتوسّعت علاقاته مع الشعوب المجاورة (1 مل 11: 1). ودلّت زيارة ملكة سبأ على علاقات سليمان بجنوب عرابية (1 مل 10: 1- 13). ورغم استياء الشعب من أعمال الظلم هذه، سيتذكّر التقليد سليمان بأنه كان ملكاً مجيداً وحكيماً.

ز- نظرة إجمالية إلى هذه الحقبة (1030- 930 تقريباً)
مرّت مئة سنة تقريباً بين بداية الملكية وموت سليمان. ولكن هذه الحقبة كانت حافلة بالتغيّرات على جميع الصعد.

1- على مستوى السياسة
الإنقطاع واضح. إنتقلنا في بضعة عقود من السنين من تنظيم قبلي مع رابطة القبائل والحرب المقدسة مع "قضاة" (يقضون في الناس) مخلّصين، إلى تكوين "دولة" بمؤسساتها: جيش محترف، هيئة من المرتزقة، إدارة مركزية تحلّ محلّ إطار القبائل القديم، عاصمة واحدة، عدالة ملكية، الضرائب... هذا على المستوى الداخلي. وعلى المستوى الخارجي، تكاثر التبادل مع الشعوب المجاورة وامتد إلى البعيد. وكان اتصال عميق مع الكنعانيين الذين بدأوا يندمجون في المملكة.

2- الإقتصاد
ظلّت الزراعة وتربية المواشي أساس الإقتصاد. ولكن برزت نشاطات جديدة لا سيّما في عهد سليمان. كانوا يستوردون المعادن الثمينة لتحل كنقود في التجارة محلّ المقايضة. ولكن، بدأت "الدولة" تنظمّ التبادل، وجاء "مثقال الملك" ففرض نفسه (2 صم 14: 26). ثم إن الأعمال الضخمة التي قام بها أخصائيون غرباء (خاصة من فينيقية)، رافقت نشاطاً صناعياً في أعمال البناء وشغل المعادن وإنتاج الحلى.

3- المجال الاجتماعي
كان لهذه التحوّلات تأثيرها في المجال الإجتماعي. إن ظل معظم السكان فلاّحين، إلا أنه كان تنوّع في الصناعة أبعد بعضَ الناس عن إطار رتيب عرفه المجتمع القبلي القديم. ونلاحظ خاصة ظاهرة بناء المدن الذي دفع الإسرائيليين واليهوذاويين إلى نمط حياة يبتعد عمّا في الريف.
وتبدّل المناخ الإجتماعي. توحدّت الملكية، فأمنت للبلاد الأمان، كما جلبت إليها الغنى والتقدّم. مقابل هذا، نبتت طبقة "عبيد الملك" (أي الموظفون الكبار، قوّاد الجيش، الكهنة والأنبياء المرتبطون بالقصر) الذين أقاموا في أورشليم وفي المدن الرئيسية. فتبلبلت العلاقات بين الناس. ضاعت المساواة، وبرزت السلطة بل التسلّط. وإدخالُ أعمال السخرة وفرضُ ضريبة على المحاصيل، خلقا مناخاً من الضيق يصعب تحملّه. واتسع التفاوت الإجتماعي بين الناس. وفي زمن داود نفسه، كانت ردة الفعل عنيفة تجاه بعض وجهات السياسة الملكية، ولا سيّما في قضية الإحصاء الذي اعتبر مساً بالحرية والعدالة (2 صم 24). وبعد موت سليمان، كانت الثورة على الظلم السبب الحاسم للإنفصال. كل هذا يدل على أن الإنتقادات الحي أوردها التيار المعارض للملكية كان لها أساسها في الواقع.

4- العقليّات والثقافة
وفي مجال العقليّات والثقافة، أنبأت أيام داود وسليمان بتبدّلات عميقة في العقول. تمّ الإنتقال من عقلية تقليدية يسيطر عليها العالم القدسي مع طقوسه وأخباره وأساطيره، إلى عقلية منفتحة، وأكثر عقلانية وأكثر "حداثة".
وكان اتصال بالمدن، فانتشر استعمال الكتابة من أجل "دولة" يعمل فيها الكتبة. وساعد التبادل على انفتاح العقول، كما عند سليمان (1 مل 5: 9). في هذه الحقبة وُلدت أولى التمتمات الأدبية في التوراة.

ح- موقع الإيمان وسط هذه التقلبّات
ونتحدّث أيضاً عن أزمة في مجال الإيمان، ولكنها أزمة تجاوزها الشعب.
1- إنتقال من عالم إلى عالم
أخذ الشعب بنظام سياسي غريب على تقاليده، فصار التوحيد في خطر. ففي الشرق القديم، إرتبطت الملكية وأصول ممارستها بعالم من التمثّلات الميتولوجية المرتبطة بتعدّد الآلهة. فالملك هو تجسيد الإله على الأرض، مع كل ما يرافق هذا التجسيد من تسلّط وإستبداد. ثم إن فاعلية هذا الشكل الجديد من الحكم، إجتذب وراءه نسيان التقاليد الدينية القديمة واحتقارها. فحين طلب العبرانيون ملكاً، كانوا كأنهم يرفضون مُلك الرب (1 صم 8: 7). وخافوا أن يكون الإله الذي صنع مآثر من أجل شعبه، قد "تجاوزته" الأحداث فلم يعد يسيطر عليها. وإذا أراد إسرائيل أن يكون مثل سائر الأمم (1 صم 8: 20)، فكيف سيكون في المستقبل شعب اللّه الخاص؟
وبرز موقف أول أمام هذه المسألة: المحافظة على النظرة القديمة إلى الإيمان كما كانت في الماضىِ. ففي قضية الإحصاء (2 صم 24)، إتخذت المعارضة للملك طابعاً دينياً، لأن المعارضين وجدوا في أساليب الحكم، "الحديثة" مسّاً بحقوق الله. ونجد شيئاً مشابهاً في جواب ناتان إلى داود الذي أراد أن يبني هيكلاً للرب (2 صم 7: 5): لا تبنِ بيتاً للرب، لإله سار دوماً مع شعبه وأقام في خيمة على مثال البدو! هذا يعني أن اللّه يرفض عالم الحضر ولا يريد أن يعيش في المدينة، كما لا يريد أن يُحسب إلهاً كنعانياً. مقابل هذا، كان موقف انفتاح على كل أشكال الحياة الجديدة وأفكارها، من أي جهة أتت. لم تكن هذه الظاهرة جديدة، ولكن عالم المدينة والدولة حمل معه التأثير الخارجي مع خطر ديانة تلفيقية (أي مزج إيمان بأفكار وعبارات خاصة بديانات أخرى). وقد ندّدت التوراة بسليمان، لأنه سقط في مثل هذه الديانة: تأثّر بنسائه الغريبات، فمال عن الرب، وبنى في أورشليم معابد لآلهة أخرى (1 مل 11). وهكذا تعرّض الإيمان للذوبان في العالم الذي يحيط به.
وتجاوز الشعب الأزمة، لأن الإيمان تجسّد في مؤسستين جديدتين: الملكية الداودية والهيكل.

2- الملكية
فرضت الملكية نفسها في إطار تاريخي وسياسي محدَّد. لم تنزل من السماء منذ الأزل، كما قال البابليون. ولا يُعتبر الملك إلهاً كما في مصر حيث يلقّب فرعون "بأبن رع". غير أن المؤمنين إكتشفوا في نجاح داود الباهر عمل إله إسرائيل الذي يريد أن يجمع شعبه ويخلّصه من الخطر. وحين اختار داود لهذه المهمة، أبان طريقة جديدة في العمل في التاريخ.
فالتاريخ يمرّ الآن كما في الماضي عبر الإنسان (الملك) وعبر مؤسسة هي الملكية. وقالت النصوص إن الله عقد عهداً مع داود (2 صم 33: 5؛ مز 132: 12). واعتُبرت ملكية داود كأنها ملكية الله نفسه على الأرض (1 أخ 28: 5). وكفلت نبوءة ناتان (2 صم 7) إختيار الله النهائي. وأكدّ حلم سليمان في جبعون (1 مل 3) عوناً وعد به اللّه من أجل السلالة. ونلاحظ أن إيمان إسرائيل إرتبط بالإيديولوجية الملكية في عصره دون أن يتبدّل. فالملك لا يؤلّه أبداً في التوراة، رغم ما عنده من كرامة ومسؤولية خارقة. إنه على اتصال خاصّ باللّه. إنه يُسمَّى إبن اللّه (2 صم 7: 14؛ مز 2: 7). ففي يوم تنصيبه يتبنّاه الله. وعلى كل حال، يجب على الملك أن يبقى خاضعاً لمتطلّبات إله الخروج (رج 2 صم 12 وما قاله ناتان لداود).

3- الهيكل
الهيكل هو المؤسسّة الأخرى الجديدة. مُنع داود من بنائه لأسباب دينية، فحققه خلفه الذي قال: "قال الرب إنه يسكن في الدجن (الظلمة)! وإني قد بنيتُ لك بيتاً ملوكياً، مكاناَ تسكن فيه إلى الأبد" (1 مل 8: 12- 13).
"بدّل" اللُّه رأيه، فدلّ على حضوره في الهيكل بواسطة غمامة ملأت المعبد يوم التدشين (1 مل 8: 10- 11). وصار الآن باستطاعة المؤمنين أن يلتقوا بالله في أورشليم، على جبل صهيون، حيث أراد أن يسكن مع البشر مثل البشر.
لا شكّ في أن هيكله يشبه هياكل الآلهة المجاورة، ولكن حضور تابوت العهد ربطه بأصرح التقاليد في الخروج. كانت أورشليم منذ زمن قريب مدينة وثنية. وقد يكون الهيكل بُني حيث كان معبد اليبوسيين، وكان صادوق كاهناً لذاك المعبد. غير أن هذا لم يمنع الإيمان من أن يجد نفسه في هذه المؤسّسة الجديدة. واعتاد المؤمنون أن "يصعدوا" إلى الهيكل ليقدّموا ذبائحهم، ليعبدوا الله، ليطلبوا بركة الرب وخلاصه. وكانوا مقتنعين أن خطر الرب في الهيكل يجعل هذا المكان منيعاً.
وسيأتي وقت يقود فيه الرب التاريخ فيعلّم الشعب على تجاوز هذه المؤسسات وعلى تقبّل الخلاص بشكل آخر. يكفي أننا بينّنا في حقبة بدأت بأزمة هددت نظم المرحلة السابقة، أن جواباً أعطي للمؤمنين الباحثين عن الله في التاريخ. ظلّ الإيمان حياً رغم هذه الأزمة الحضارية، بل اغتنى بمواد جديدة ساعدته على صياغة تعبير جديد وشامل لذاك الإيمان الذي وُلد في زمن الخروج

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM