الفصل الثامن: حريّة الله في خلقه للكون

الفصل الثامن:

حريّة الله في خلقه للكون

حين الكلام عن الكون، يقف الإنسان أمام مفترقين. إمّا الكون أزليّ على مثال الله وُجد »ساعة« وُجد الله. ويتواصل وجوده ما زال الله موجودًا، وإمّا الكون ابن القدَر الذي يتحكّم به كما يتحكّم بالآلهة. هناك قوّة سرّيّة ترتبط »بالقدرة« توجّه الآلهة والبشر، السماء والأرض. من هو هذا »القدر«؟ هل هو شخص من الأشخاص له الحرّيّة والإرادة؟ هذا ما لا يَدريه الناس. بل هم يقفون أمامه حائرين، خائفين، مرتعدين من ضرباته، من مقصّه الذي يقطع حياة الإنسان كما يقطع الخيّاط خيط بكرته. ومن منظار الإيمان، القدرُ قوّة غاشمة لا تُسأل عما تفعل. لهذا يجب الخضوع لها، بل الانصياع، حتّى ولو جعلت الناس في جهنّم. فما في اليد حيلة.

بين كون أزليّ يرافق الله، وكون »تعيس« يقوده قدرٌ يخبط بنا خبط عشواء، فلا يعود أمامنا سوى أن نستفيد من هذه الحياة فنأكل ونشرب لأنّا غدًا نموت، أعلن الكتاب المقدّس إيمانه العميق: في البدء، خلق الله السماوات والأرض. إن كان لديك هذا الإيمان، تابعْ قراءة الكتاب. وإلاّ فلا حاجة إلى مواصلة القراءة، لأنّك لن تستطيع أن تلتقي بذاك الذي دعاه المؤمن »الشخص الحيّ«، فقال فيه إيليّا: »حيّ هو الربّ الذي أعبده« (1مل 17: 1).

أجل، ذاك الحيّ الذي يهب الحياة ويستطيع أن يهب الموت. ذاك الشخص القدير، واسم الله ارتبط بالقدرة والثبات كالسنديانة التي اعتاد الناس القدماء أن يصلّوا بجانبها بعد أن يغتسلوا ببعض الماء، ذاك الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، فحباه العقل والفكر والحرّيّة والإرادة، هو الإله الذي خلق الكون من العدم، كما قال اليونان وتبعهم سفر المكابيّين (2مك 7: 28). هو الذي خلق كلَّ شيء من لا شيء، كما قال السريان وأوّلهم أفرام. أتُرى هذا الإله الذي خلق الفم لا يقدر أن يتكلّم (خر 4: 11)؟ ألا يقدر أن يعقل، أن يفكّر؟ والذي خلق الإنسان حرٌّا في خياراته، هل نقصته الحرّيّة ليحدّد المكان والزمان؟ في البدء. هو الذي حدّد بداية الزمان وسوف يحدّد نهايته. وخلق. ماذا خلق؟ السماوات والأرض. الكون بوسعه العلويّ وعلى الأرض وتحت الأرض. كلُّ ما في الوجود لمسة من يده، ولا صورة من الصور تستطيع الإحاطة به. ذاك هو الإله الخالق الذي يحدّثنا عنه أكثر ما يحدّث أشعيا النبيّ في قسمه الثاني.

1- الخالق

تفنّن أشعيا النبيّ لكي يجد الكلمات التي تتحدّث عن هذا الخالق. أو بالأحرى توسّع تلاميذه، في زمن المنفى، في هذه العقيدة، حين رأوا أنّ »الأرض« ليست فقط أرض فلسطين. هناك بلاد الرافدين، في الشمال، مع نهري دجلة والفرات. وفي الجنوب، النيل الذي لا تتوقّف مياهه في الصيف والشتاء، عكس ما عرفوا في فلسطين حيث القحط يهدّد بالمجاعة، والجفاف بموت الماشية.

الله »خلق« يعقوب. خلق بني إسرائيل، وخلق الله الظروف التي جاءت بهم من مصر إلى فلسطين، عبر برّيّة سيناء. في هذا المجال نقرأ إش 43: 1:

الآن، هذا ما قال الربّ:

»أنا خلقتُك يا يعقوب،

يا إسرائيل أنا جبلتك.

لا تخف فأنا افتديتك،

سمّيتك وجعلتك لي.

وتبقى الأرض ضيّقة إن حُصرت في المجال الذي عرفه الشعب العبرانيّ. فالأرض أوسع من ذلك . أتُرى اللهُ الواحد خلقها؟ فالموآبيّون يعتبرون أنّ كموش كوّنهم فتعبّدوا له (عد 21: 29)، وقدّموا له الذبائح البشريّة (2مل 3: 27). وملكوم هو إله العمونيّين، وبعل خلق عالم كنعان سنة بعد سنة، بل يقيم الطبيعة من سباتها، في الربيع. فهو إله المطر والخصب. أمّا يهوه، فهو ابن البرّيّة، برّيّة سيناء. ولا نتحدّث عن مردوك الذي يعيّد له البابليّون كلّ سنة، فيسيرون في تطواف إلى الريف، إلى أكيتو، في السنة الجديدة، ويسمعون ملحمة الخلق، إنوما إليش، لما في العلاء. عيد يمتدّ اثني عشر يومًا، من الأوّل من نيزان (آذار - نيسان) حتّى الثاني عشر.

هذا ما رأى المؤمنون في المنفى البابليّ، فاحتاروا. في فلسطين، ضاعوا بين بعل ويهوه، فعرجوا بين الجنبين. تارة إلى معبد بعل، وطورًا إلى معبد يهوه. وفي بلاد الرافدين فضّلوا مردوك بأعياده الرائعة، على صلاتهم الفقيرة عند أنهار بابل (مز 137)

1     على أنهار بابل هناك،

جلسنا وبكينا

عندما تذكّرنا صهيون

2     على الصفصاف في وسطها،

علّقنا كنّاراتنا.

ولكنّ النبيّ يعرف ماذا يختار. اختار إيليّا يهوه، الربّ القديرَ، الذي يحبس المطر ساعة يشاء ويرسله ساعة يشاء. ونبيّ المنفى تطلّع إلى الذي خلق الكون، السماء والأرض وكلّ ما فيهما. هو الذي نعيّد له سنة بعد سنة.

قالوا في بابل: مردوك قهر تيامات، تلك المياه المالحة، ثمّ أعاد ترتيب الكون وتنظيمه بعد أن سيطرت عليه الفوضى. وقال المؤمنون في بداية الكتاب المقدّس: كانت الأرض توه وبوه. كانت تائهة كخشبة على سطح الماء، تسير حيث تسيّرُها الريح. تنطلق في اتجاه ثمّ تعود إليه. تبوء إلى »العدم« إلى »الموت« وهي تنتظر أن تعود إلى الوجود، إلى الحياة. كيف لها أن تكتشف طريقها والظلام يلفّ الأصقاع، »الظلام على وجه تهوم« (تك 1: 2). تهوم هو تيامات ذاك الإله الأسطوريّ. فصار في الكتاب المقدّس المياه الداجنة، المياه العذبة تجاه المياه المالحة. وكانت المقابلة الرائعة: ظلمة على وجه »تهوم«، روح الله على وجه »هـ م ي م«، المياه. تبدّلت الحال تبدّلاً كلّيٌّا. والمياه التي هي أساس الموت، صارت منبع الحياة بعد أن حلّ روح الله عليها، رفّ بجناحيه فأخرج منها كلّ حياة، حتّى »الطيور التي تطير فوق الأرض وتتوجّه نحو السماء« (تك 1: 20).

وهكذا حلّ يهوه محلّ مردوك، وأخذ له صفاته. كما سبق له وحلّ محلّ بعل فأعلن أنّه هو الذي يعطي شعبه »القمح والخمر والزيت« (هو 2: 10). هو الذي يمنح الغنى للسماء والأرض (آ23).

في هذا الإطار، جاء الفصل الأوّل من سفر التكوين، لا خلقًا بالمعنى الحصريّ للكلمة، بل ترتيبًا للكون الذي امتزج فيه الضدّان، النور والظلمة، المياه الفوقيّة والمياه التحتيّة، البحر واليابسة. وبعد أن عاد كلُّ شيء إلى مكانه، تزيّن بقدرة الله. على اليابسة النبات، وفي السماء النيّرات. بعد الظلمة النور، وبعد الموت الحياة. ورأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جدٌّا (تك 1: 31). خلق الله مرّة واحدة، وأتمّ عمله (تك 2: 21 ي ك ل و): السماوات والأرض وكلّ جنودها. بدا الله ملكًا محاربًا، مثل مردوك، مع جنوده، مع خلائق تأتمر بأمره. ولمّا انتهت المعركة في اليوم السابع، استراح، وطلب من الجميع أن يستريحوا.

وفي هذا الفصل الأوّل من سفر التكوين، هو نشيد الله الخالق، بعد أن جُعلت الآية الأولى في رأس النشيد، والذي هو أبعد ما يكون عن »قصّة الخلق الأولى« على أن تتبعها »قصّة ثانية« نقرأها في الفصل الثاني من سفر التكوين. هذا النشيد الذي يُتلى في الهيكل، هذا العالم الصغير، ومنه يتطلّع المرتّل إلى العالم الذي هو هيكل كبير بعواميده الأربعة وقبّته، هذا النشيد الذي ينطلق من سراجَين في الهيكل، واحد للنهار، وآخر لليل، فيرى سراجين في الكون، الشمس والقمر، وما يمكن أن تضيفه الكواكب. هذا النشيد جاء في عشر كلمات. ولا حاجة بنا لأن نذكر أهمّيّة الرقم 10 في حضارة بلاد الرافدين، وذلك منذ الألف الرابع على الأقلّ.

في تك 1: 3، نقرأ: »وقال الله. وي ا م ر. ا ل هـ ي م. وتعود العبارة في آ6، 9، 11، ..14. عشر مرّات. وهكذا تكوّن العالم. وقيل أيضًا تكوّن الشعب المجتمع حول جبل سيناء في عشر كلمات، أو كما في طريقة كلامنا، في عشر وصايا، أنا هو الربّ إلهك. وهكذا برز هنا العدد عشرة تجاه السبعة والاثني عشر، رقمَي الكمال والتمام.

منذ البداية أنشد الكتاب الإله الخالق، وجعل مردوك في خانة المقاتل لهذا الإله الجديد، يهوه، الذي جاء يحتلّ مكانه. صار »ن م ر و د« (تك 10: 8-9). فالمارد هو العاتي، العاصي. تمرّد على الربّ بعد حادثة الطوفان، وعودة الحياة إلى الأرض »مع الزرع والحصاد، البرد والحرّ، الصيف والشتاء، الليل والنهار« (تك 8: 22). بعد ذلك، جمع الناس لكي يهاجموا الله في عقر داره. إذ كان يهوه يقيم في السماء، طلب أهل بابل أن يبنوا برجًا رفيعًا به يحاصرون الله في عليائه. يتغلّبون عليه. فنزل الله من السماء وشتّتهم. تلك هي الانطلاقة الأولى لبناء برج بابل تجاه برج أورشليم حيث يقيم الله.

2- صنع، جبل، خلق

ثلاثة ألفاظ نقرأها في بداية سفر التكوين.

أ- صنع

اللفظ الأوّل، صنع »ع س ه«. في 1: 7: »وصنع الله الجلد« (ر ق ي ع)، كما الرجل يصنع سطحًا لبيته. وفي آ16: »وصنع الله النيّرين العظيمين«. وفي آ25 »صنع وحوش الأرض«. وفي آ26، استعدّ فقال: »نصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا«. وانتهى الفصل الأوّل من سفر التكوين: »ونظر الله إلى كلّ ما صنعه« (آ31).

يرد هذا الفعل مرارًا في سفر الخروج للكلام عن أهل الصنعة، الذين طلب منهم الربّ أن يصنعوا »تابوتًا من خشب السنط« (خر 25: 10)، ثمّ حلية (آ11)، وقضيبين من خشب (آ13) وكروبين (آ18). ويتواصل الكلام عن صنع المائدة (آ23) والمنارة (آ31). وفي ف 31 نقرأ: »تصنع المسكن ذاته« (آ1)... »وتصنع خيمة على المسكن« (آ7).

إذا كان النصّ الكتابيّ قال إنّ ما خلقه الله حسن، بل حسن جدٌّا، فهذا يعني أنّ الذي قام بالعمل هو فنّان الفنّانين وأعظم من أمسك صنعة بيده. وفي أيّ حال، ما تحلّى به هؤلاء الصنّاع من فنٍّ يرتبط بحكمة آتية من عند الله. نقرأ في خر 28: 3: »وقل (= يا موسى) لكلِّ حكيم ممّن ملأتُ قلوبهم بروح الحكمة، أن يصنعوا ثياب هرون لتكريسه كاهنًا لي«. وتحدّث سفر الخروج أيضًا عن بصلئيل، وفيه قال الله: »ملأتُه من روحي، أنا الله، حكمة وفهمًا ومعرفة بجميع الصنائع« (31: 3).

هؤلاء »الحكماء« الذين أعطوا »التفنّن في صناعة الذهب والفضّة والنحاس« (آ4)، علّمونا أن نتطلّع إلى ذلك الذي صنع السماوات والأرض. هنا نتعرّف إلى غنى فعل »ع س ه« عند أشعيا النبيّ.

الله »عمل« هذه الأعمال، حقّق المشاريع، نفّذها. ومن هذه المشاريع، الخروج الجديد من بلاد الرافدين، على مثال القديم من مصر. »يدُ الربّ صنعت ذلك« (آ20). والربّ حين يعمل، لا يكرّر ما عمله في الماضي، وكأنّ لا شيء جديدًا لديه. قال: »أنا صانع جديدًا فينشأ الآن، أفلا تعرفونه؟« (43: 19). وما هو هذا الجديد؟ »في الصحراء أشقّ طريقًا، وفي القفر أجري الأنهار«.

هذا الإله يعلن في أش 46:

10    مشورتي هي التي تثبت

وأنا أفعل (أصنع، أنفّذ) كلّ ما أشاء

11    من المشرق أدعو الطيرَ الكاسر،

ومن الأرض البعيدة رجلَ مقاصدي

قلتُ ذلك وسآتي به

تصوّرتُه وسوف أفعله.

ب- جبل

والفعل الثاني: جبل، ي ص ر. نقرأ في الفصل الثاني من سفر التكوين: »وجبل الربّ الإله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ فيه نسمة حياة« (آ7). إذا أراد الفخاريّ أن يصنع إناء، يأخذ التراب، يمزجه بالماء ويجعل فيه الصورة التي يريد. هكذا خُلق الإنسان. كُوّن الإنسان.

هي صورة بعيدة آتية من مصر، حيث الإله خنوم جبل الإنسان من التراب. هو الإله الخزّاف. عاد إرميا إلى ما عرفه في بيت الخزّاف فرآه »يعمل عملاً على الدولاب« (18: 2). وفي هذا المجال، قال الربّ للذين رافقوا النبيّ: »أنتم في يدي مثل الطين في يد الخزّاف«.

وكما جبل الربّ الإنسان، كذلك »جبل من الأرض جميع حيوانات البرّيّة، وجميع طير السماء« (تك 2: 19). ويأتي فعل »ي ص ر« مع عدد من الأفعال فيجعلنا في إطار إلهيّ: »من يصنع الإنسان يرحمه، ومن يجبله يتحنّن عليه« (أش 27: 11). ويطرح أشعيا السؤال: ألا ترون الفرق بين الجابل والطين؟ أيقول المصنوع لصانعه: ما صنعتني؟ والمجبول يقول لجابله: أنت لا تتبيّن الأمور (29: 16).

وهكذا ارتبط فعل »جبل« بعمل الله الخالق. وتحدّث إرميا عن حرّيّة الله التامّة في عمله كخزّاف. روى النبيّ ما رآه بعينيه: »فلمّا لم يصلح الوعاء الذي كان يصنعه من الطين في يده، عاد وصنع آخر كما رأى أن يصنعه«. (إر 18:4) ما الذي يدفعه إلى العمل؟ ما يقوله الإنسان. »ومتى يقول المصنوع لصانعه: لماذا صنعتني هكذا؟« (رو 9: 20). ويتابع بولس الرسول الذي أورد نصّ أشعيا: »أما يحقّ للخزّاف أن يستعمل طينه كما يشاء. فيصنع من جبلةِ الطين نفسها إناء للكرامة، وإناء للهوان؟« (آ21). الله حرّ في عمل الخلق. والله حرّ في مشروع الخلاص. والإنسان مهما أصابه، يستطيع أن يقول مع أيّوب (ف 10):

8     يداك كوّنتاني وصنعتاني،

فلماذا تلتفت وتمحقني؟

9     من الطين جبلتَني، تذكّرْ!

والآن، إلى التراب تعيدني؟

ويتساءل الإنسان: إن كان الله حرٌّا في ما يعمل، بحيث لا يسمح لأحد أن يسأله، فلماذا يلوم البشر؟ »من يقدر أن يقاوم مشيئته؟« (رو 9: 19). في الواقع، نظر الرسول إلى الأمور في خطّ الأنبياء، من وجهة الله. وما توقّف هنا عند تجاوب الإنسان. نتذكّر هنا أنّ الله يدعو جميع البشر، وتصبح دعوته اختيارًا، حين يقبل الإنسان، حين يدعو اللهَ بدوره. لأنّ كلّ من يدعو باسم الله يحيا. وحين يؤمن الإنسان على مثال إبراهيم، يبرّره الله لإيمانه. ولكن إذا رفض، يكون هو المسؤول عن النتيجة التي يمكن أن يصل إليها.

وهنا نعود إلى أشعيا في قسمه الثاني. هو يخبرنا عن الله الذي جبل الكون. قال باسم الله في ف 45:

7     جابلُ النور وبارئ الظلمة

صانع السلام وخالق الخير

أنا يهوه صانع كلّ هذا

18    هذا ما قال يهوه:

بارئ السماوات هو الله،

جابل الأرض وصانعها

وهو الذي كوّنها.

لاحظنا هنا »ب ر ا«، برأ، خلق. وهو ما نعود إليه. ثمّ »ك و ن«، كوّن، ثبّت. وقرأنا أيضًا عرف. ونقرأ هنا جدالاً بين الله وشعبه، يدلّ على حرّيّته في ما فعل. أعلن الربّ (ف 45):

8     أنا يهوه برأتُه (خلقته)

ولكنّ الإنسان ليس براضٍ. هو يتصرّف مثل العبرانيّين في البرّيّة. يسأل، يجادل، وفي النهاية يخاصم. فيردّ عليه النبيّ:

9     ويلٌ لمن يخاصم جابله

وهو خزفة من خزف الأديم!

أيقول الطين لجابله:

ماذا تصنع؟

أو يقول له:

عملُك تعوزه يدان!

وتنتقل الصورة من الخالق إلى الجابل. والآن، من الجابل إلى الأب:

10    ويلٌ لمن يقول لأب:

ماذا تلد؟

ولامرأة:

ماذا تلدين؟

ويتكلّم الربّ القدير ويعلن هويّته:

11    هذا ما قال يهوه،

قدّوسُ إسرائيل وجابله:

أتيتم تسألوني عن بنيّ،

وتوصوني في ما تفعل (ف ع ل) يدي

12    أنا صنعتُ الأرض

وبرأتُ البشر عليها

نشرتْ يداي السماوات،

وأضأتُ (ص و ي ت ي) جميع نجومها.

ج- برأ، خلق

ونصل إلى الفعل الأساسي »ب ر ا« الذي لا يُقال إلاّ في الله وفي عمله. قرّبه بعض البحّاثة من فعل ساميّ آخر يعني قطع، شذّب (تبارأ الزوجان: تفارقا، انفصلا)، أو من فعل »برى« الذي يعني نحت السهم والقلم. أمّا المضمون العبريّ فيدلّ على قدرة الله التي لا تجاريها قدرة، وعلى ما تعمله من أعمال ما سمع بها أحدٌ من قبل. ورفيقنا هنا أيضًا سفر أشعيا مع ما دُعي »كتاب التعزية« الذي يبدأ في ف 40: »عزّوا، عزّوا شعبي«.

ماذا خلق، برأ، الربُّ القدّوس؟ الكون. وطُرح السؤال:

26  إرفعوا عيونكم وانظروا!

من خلق السماوات هذه؟

من يعدّ نجومها واحدة واحدة؟

ويدعوها جميعًا بأسماء؟

ولِفَائق قدرته وجبروته،

لا يُفقَد واحد منها.

ويأتي الجواب لشعب يُقيم في المنفى، في بلاد الرافدين: هي تُمجّد مردوك، الذي بنى مدينة بابل، أجمل المدائن في الكون. من خلق؟

28    أما عرفتَ؟ أما سمعتَ؟

الربّ الإله السرمديّ

خلق أقاصي الأرض

لا يتعب ولا يكلّ أبدًا،

وفهمه يعصى عن الإدراك.

ويتواصل كلام النبيّ ليسند عابد الربّ في رسالته، فيحرّك فيه الإيمان بمن هو الإله القدير. هذا العابد ضعيف تجاه البلاد التي يقيم فيها، والشعب بات يائسًا من المستقبل. لا، أنت قويّ. أتعرف من دعاك؟

خالق السماء وناشرها،

باسط الأرض مع خيراتها

وواهب شعبها نسمة الحياة

روحًا للسائرين فيها (42: 5).

ويتواصل الكلام في الخطّ عينه مع ف 45 الذي سبق وذكرناه، وفيه ما فيه من ارتباط بالفصل الأوّل من سفر التكوين مع خلقٍ يبدأ بالنور، ولا يحصر الله في النور وكأنّ الظلام يفلت من يده. هو خالق الظلمة. هو خالق الشرّ. يعني كلّ هذا أنّه سيّد التاريخ، وما يحسبه الناس شرٌّا، يوجّهه الله لخير أبنائه.

ومع برأ، خلق، الألفاظ عديدة مثل أسَّس »ي س د« (أش 40: 21؛ 48: 13)، ف ع ل (فعلَ، ذكرناه)، »ح د ش«، حدّث، جدّد (65: 17؛ 66: 22). هي أفعال تدلّ على عمل الخلق في شكل أو في آخر. وفي امتدادها، يرد مثلاً فعل »دعا« (ق ر ا): الله يدعو الكواكب بأسمائها كما يدعو الأب ابنه (40: 26)، وإن دعاها قالت: هاءنذا (48: 13). تكون نائمة فيوقظها كما من سبات الموت (ع و ر، 41: 2، 25). يأتي بها، يرسلها، يسندها، يحملها. هذا الإله الذي يقوم بهذه الأعمال، من يدفعه؟ من يوجّهه؟ هل هناك قدَر أقدر منه؟ أما هو الإله القدير، سيّد الطبيعة والخلائق؟ أما هو إله الآلهة وربّ الأرباب، بحيث تبدو الآلهة كلا شيء أمامه؟ هذه الآلهة ما اعتبرها المؤمن موجودة، وما فرّقها عن الحجر والخشب.

3- الخالق القدير

حين يتحدّث الكاتب عن الله، لا يستطيع أن يسمّيه. فإن استطاع سيطر عليه. الوالد يعطي اسمًا لابنه، لابنته، لا العكس. والاسم الذي قدّمه موسى في أرض مديان، يهوه، يعني: هو. أنا. أنا هنا. أنا الكائن. في النظرة البشريّة: كنتُ في الماضي، أنا كائن الآن. أنا أكون في السمتقبل. »ع و ل م«. إله العوالم، إله الآباد. هذا الإله الذي لا نعرف اسمه لا نقدر أن »ننصحه، نعلّمه« ماذا يفعل. لا نقدر أن نوجّهه كما نوجّه صنمًا نحمله على أكتافنا. فلفظ »إيل« يرتبط بالقوّة، وشدّاي يرتبط بالقوّة التي تناقض اللين، وبالصلابة التي تناقض الضعف والرخاوة. وهو »ع ل ي و ن« العليّ، الذي لا يصل إليه أحد. والفاصل كبير كما يقول المزمور 115:

15    مباركون أنتم من الربّ،

صانع السماوات والأرض.

16    سماوات السماوات للربّ،

والأرض منحها للبشر.

الله ملك، كما رآه أشعيا بأذياله التي تملأ الهيكل. بل يملأ السماء والأرض بحضوره. عنده جيش كبير، لهذا يُدعى: ي هـ و ه. ص ب ا و ت. إنّ الاسم »ص ب ا« يعني الجيش. وهنا في الجمع المؤنّث السالم. جيوشُ جيوشٍ في خدمته. كواكب السماء جيوشه، قوى الطبيعة جيوشه. نلاحظ كيف وجّهها على الفرعون في مصر، فسيطر على أقوى ملك في ذلك الزمان. فلا إله إلاّ هو. ولا قدير سواه. وحين تَطاولَ ملكُ صور وتكبّر فقال: »أنا إله، وعلى عرش إله جلستُ في قلب البحار«، قال له النبيّ حزقيال بفم الربّ: »أنت بشر لا إله« (حز 28: 1). أنت من لحم ودم. كائن متلبّس الضعف. والآن، أنت مطروح كشيء نجس، مطروح على الأرض وسخرية الأمم (آ16-17).

فمثل هذا الله القدير، من يمسك بيده ليفعل. بل هو يمسك بيد الأقوياء في هذا العالم، فيبدون أدوات يحرّكها هو كما يشاء. تعجّب المؤمنون من كورش ذلك الملك العظيم، الآتي من المشرق. الذي سيطر على بابل، بانتظار أن يدمّرها. ولكن جاء جواب النبيّ أشعيا: الربّ أخذه بيمينه، مسحه، فتح أمامه الأبواب، سار قدّامه (45: 1ي). وهكذا »يعلم البشر من مشرق الشمس إلى مغربها، أن لا إله غيري، أنا الربّ ولا آخر« (آ6).

وطمح قلب ملك أشور. فدعاه أشعيا قضيبًا في يد الربّ وعصا (10: 5). وافتخر الأشوريّ فقال: »بقوّة يدي عملتُ، وبحكمتي لأنّي بصير، فأزلتُ الحدود بين الشعوب، ونهبتُ كنوزهم، وأنزلتُ بجبروتي الجالسين على العروش« (آ13). هذا قول يجعل البشر يرتجفون كما حصل لشيوخ أورشليم حين كلّمهم القائد من تحت الأسوار. أمّا أشعيا فقال لذاك المتكبّر: »أتفتخر الفأس على من يقطع بها؟ أو يتكبّر المنشار على من يحرّكه؟ أيحرّكُ القضيبُ رافعَه. أو ترفع العصا حاملَها؟« (آ15).

أجل، الربّ هو الخالق القدير، الذي لا تقف في وجهه قوّة. فما يكون الذين اعتبرهم الناسُ شيئًا تجاهه؟ هنا ندخل في توصيف إيمانيّ يرينا ضعف »العاملين« في العالم. هم لا شيء. هم عدم. الشعوب، الآلهة، البشر، كلّهم كالهباء والهشيم.

الإله صنم. لا يسمع ولا يرى. له يد ولا تفعل. ورجل ولا تتحرّك. »سكبه صانع، غشّاه بالذهب، زيّنه بسلاسل من الفضّة« (أش 40: 19). ويُوجد من ينشد له الأناشيد، ويرسل إليه القبلات! (42: 8). وكان جواب النبيّ في آ17:

أمّا المتّكلون على تماثيلهم،

القائلون للأصنام أنتِ إلهتنا،

فإلى الوراء يرتدّون ويخزون.

هذه الآلهة« هي »ت هـ و« »تيهان«، فوضى، فراغ، لا شيء. الأصنام هباء، وأعمال البشر عدم، باطل، ما لا نفع فيه.

وترد أداة »إ ي ن« ليس. عكس اللفظ القديم: أيس. أي ما هو موجود. »ا ي ن« أي لا شيء. الآلهة، العظماء هم كلا شيء. أعمالهم كالعدم (41: 24). ولكنّ المؤسف هو أنّ بعضهم وجد مخلّصًا في غير الله، بل اعتبر يهوه إلهًا غريبًا، وهو في أرض ليست أرضه. أرضه فلسطين. فماذا جاء يفعل في بلاد الرافدين حيث يملك مردوك. فأين الشهود الذين اختارهم لا يردّدون ما أقول لهم (ف 43):

10    ما كان من قبلي إله،

ولن يكون من بعدي!

فأنا، أنا الربّ،

ولا مخلّص غيري.

12    أنا أخبرتُ وخلّصتُ وأسمعتُ،

وما أنا فيكم غريب.

في ف 45 من نبوءة أشعيا يتكرّر لفظ »ا ي ن«، لا شيء، وماذا يستطيع أن يفعل »اللاشيء« تجاه من هو الوجود بالذات. في آ 5: أنا يهوه وليس بعد. أي بعدي، لا شيء. إذا وضعتموني جانبًا، كما تفعلون، »ا ي ن. ا ل هـ ي م«، لا يبقى إله. إلهكم الذي تحتفظون به يكون »لا شيء«. وفي آ6: »أنا يهوه وليس (ا ي ن) بعد«. بعدي لا يُذكَر إله. ممنوع أن تسمّوا الصنم إلهًا. اسم بعل لا يردُ بعد في أفواهكم. قال مز 16: 4:

كثرت أوجاعُ المتهافتين

وراء آلهة أخرى.

أمّا أنا فلا أسكب ذبائحها،

ولا أذكر أسماءها بشفتيّ.

ويتابع أشعيا ويكرّر في آ14: الله هو عندك. وا ي ن. ع و د. ما بعده إله. أمّا الآلهة فعدم، لا شيء. الغرباء يقولون هذا الكلام لسكّان أورشليم أو للمنفيّين في بابل.

الملوك هم أداة في يد الله، يحرّكهم كما يشاء. الآلهة، فراغ وعدم. والأمم الكبيرة، الغازية، يصفها النبيّ في ف 40:

15    ها الأمم كنقطة من دلو،

وكغبار في ميزان.

وجزر البحر وكلّ ما فيها،

كذرّة من التراب تُنفض.

16    ولبنان (بغاباته) غير كاف للوقود،

ولا حيوانه للمحرقة.

17    جميع الشعوب عنده كلا شيء،

وفي حسبانه عدمٌ وفراغ.

ذكرَ الأمم، الشعوب، جزر البحر أي البلدان البعيدة التي لم يصل إليها، وبماذا شبّهها؟ بلا شيء. ما نقطة الماء تجاه البحار؟ وما الغبار تجاه الأرض؟ هو لا يحرّك الميزان. أتراه يحرّك الله؟ والذرّة؟ هي أصغر من الغبار. وفي النهاية »ا ي ن« لا شيء. ليسوا بموجودين. لا يُحسَب لهم حساب. ثمّ لفظان آخران. »ت هـ و«، الضياع، العدم. ثمّ: ا ف س. في الأصل، نهاية كلّ شيء بحيث لا يبقى شيء. نستطيع أن نقول في لغتنا الحديثة: صفر. جميع الشعوب صفر. ويتردّد هذا الصفر أكثر من مرّة: أعمالكم صفر (41: 24) مثل أصنامكم. الآلهة صفر (45: 14)، الأمم صفر، الأعداء صفر (41: 12). ماذا يستطيع كلّ هؤلاء أن يفعلوا؟ لا شيء. إلاّ إذا أمسكتْهم يدُ الربّ. وما يكون هؤلاء في نظر المؤمن؟ عدم وفراغ. إلاّ إذا أتى بها الله إلى الوجود، وملأ العالم نورًا وحياة.

الخاتمة

تلك كانت مسيرتنا لنتعرّف إلى الإله الخالق، الذي عمل ما عمل بحرّيّة مطلقة. فمن يمنعه أن يكون حرٌّا؟ أهناك قدرة فوق قدرته؟ كلاّ. هل هناك إله يجاريه؟ ولكنّ الآلهة عدم. هي أصنام من خشب وذهب. وهل الإنسان يقف بجانب الله وقفة الندّ للندّ فيساعده في خلق السماء والأرض؟ أننسى أنّ الله نار محرقة فمن يجسر على الاقتراب إن هو ما نادانا باسمنا؟ ويبقى السؤال: إن لم يدفع أحد الله لكي يخلق، فلماذا خلق؟ والجواب: أنقول للنور لماذا تشرق؟ أنقول للحياة لماذا تمتدّ؟ أنقول للخير: توقّف حيث أنت؟ ويُطرَح سؤال آخر: هل لبّى الله حاجة في نفسه حين خلق؟ أتراه احتاج إلى بعض الفارّين من مصر ليكون له شعبًا؟ فشعوب الأرض كلّها له. أتراه احتاج إلى ذبيحة من أيدينا، وله كلّ وحوش الغابة، كما قال المزمور؟ فمن لا ينقصه شيء لا يحتاج شيئًا. يبقى علينا أن ندخل في سرّ الله، تاركين الأبحاث العقليّة والجدليّة جانبًا بعد أن أوصلتْنا إلى الحائط المسدود. الله حبّ، الله عطاء، الله خير، الله رحمة، رحم أم، يرغب في أن يلد. تلك هي مشيئته. ونحن نأخذ بها. ذاك هو مشروعه ونحن ندخل فيه. لا كالعبيد المجبَرين على حياة فُرضت عليهم، بل كالأبناء، على ما قال بولس بولس الرسول: »اقتدوا بالله كأبناء أحبّاء، وسيروا في المحبّة سيرة المسيح الذي أحبّنا وضحّى بنفسه لأجلنا« (أف 5: 1-2).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM