الفصل السابع: نوح وابنه حام

الفصل السابع:

نوح وابنه حام

بعد الطوفان استعادت الحياة البشريّة مسيرتها مع نوح وعياله، الذين لبثوا وحدهم على قيد الحياة بعد الكارثة. وأوّل حدث يرويه الكاتب اليهوهيّ يورد خبرًا من أخبار العائلة. غرس نوح كرمة، صنع عنبًا. شرب، سكر، وتصرّف أولاده الثلاثة تصرّفًا يحمل إليهم البركة أو اللعنة. وها نحن نورد النصّ الكتابيّ كما في الترجمة المشتركة (تك 9: 20-27):

20    وكان نوح أوّل فلاّح غرس كرمًا.

21    وشرب نوح من الخمر، فسكر وتعرّى في خيمته.

22    فرأى حام أبو كنعان عورة أبيه، فأخبر أخويه وهما خارجًا

23    فأخذ سام ويافث ثوبًا، وألقياه على أكتافهما. ومشيا إلى الوراء ليسترا        عورة أبيهما. وكان وجهاهما إلى الخلف، فما أبصرا عورة أبيهما.

24    فلمّا أفاق نوح من سكره، علم بما فعله ابنه الصغير.

25    فقال:

»ملعون كنعان! عبدًا ذليلاً يكون لإخويه«.

26    وقال:

»تبارك الربّ إله سام، ويكون كنعان عبدًا لسام،

27    ويزيد الله يافث، فيسكن في خيام سام، ويكون كنعان عبدًا له«.

بين الصعوبات التي نجد في هذه الآيات، اثنتان شغلتا الشرّاح. تساءلوا أوّلاً عن هويّة الذي اقترف الشرّ(2). تحدّث النصّ عن »حام أبي كنعان« الذي رأى عُريَ أبيه (آ22). ثمّ »كنعان« هو الذي لُعن، لا »حام« (آ25). في هذه القطعة، دُعيَ حام »الابن الصغير«، الأصغر (آ24). ولكن في نصوص أخرى، هو الابن الثاني لنوح(3). ويُطرح السؤال أيضًا: من هي الشعوب الذين يمثّلهم هؤلاء »الأبناء الثلاثة«، حام (كنعان)، سام، يافث؟

لن نتوقّف عند هذه المسائل، بل نحدّد دراستنا في إطار طبيعة ذَنْب حام (كنعان). نبدأ فنقدّم ما قاله الباحثون الذين اعتقدوا بأنّ النصّ يُخفي ما حصل، فحاولوا أن يكشفوا الواقع. بعد ذلك، نسمع النصّ الكتابيّ كما وصل إلينا ونحاول أن نفهم ما يقوله لنا.

1- خفايا النصّ

اعتقد عدد من الشرّاح أنّ النصّ الحاليّ يُخفي ما حصل حقٌّا في خيمة نوح: »فلمّا أفاق نوح من خمره وعلم ما فعله ابنه الصغير« (آ24). استشفّ نوح أنّ حامًا »فعل« شيئًا ما. وما يقوله النصّ عن ذنب حام هو أنّ »حامًا أبا كنعان رأى عريَ أبيه، فأخبر أخويه خارجًا« (آ22). يرى الشرّاح أنّ »رأى« و»أخبر« لا يعنيان »عمل«. ويعتبرون أنّ اللعنة التي بها عاقب نوح الذنب، جاءت قاسية وتجاوزت الحدّ (آ25). كلّ ما في الأمر، هو أنّ نوحًا »رأى«. إذًا، عمل حام أمرًا خطيرًا يجعلنا النصّ نستشفّه. أراد المدوّن البيبليّ أن يخفي هذه البشاعة من أسرة نوح، الذي نجا من الطوفان لأنّه كان وحده »بارٌّا«. وفعلُ »رأى« هو تلطيف الكلام. أمّا عن طبيعة هذا الذنب الخطير، فالفرضيّات جاءت عديدة.

أ- عرّى حام أباه

نقرأ في آ23 عن أخوي حام، سام ويافث: »غطّيا عري أبيهما... ما رأيا عريَ أبيهما«. تحدّث النصّ عمّا »عملا« (غطّيا) وأنّهما »لم يريا«، لهذا نالا البركة. أمّا حام ففعل عكس أخويه. هو أيضًا»عمل« شيئًا (آ24). ولكنّه »رأى« (آ22). ولهذا لُعن. فما يقابل »غطّى« هو »عرّى« أو كشف. وشدّد النصّ على أنّ »سامًا ويافث أخذا الثوب«(4) (آ23). هذا اللفظ مع أل التعريف، يدلّ على ثوب معروفٍ في الخبر، ثوب نوح. وبما أنّ سامًا ويافث هما »في الخارج« (آ22)، فهذا يعني أنّ أحدًا أخرج ثوب نوح من خيمته(5).

وهكذا يُعاد بناء ذنب حام: دخل إلى خيمة نوح، فرأى أباه سكرانًا، فعرّاه وأخرج الثوب معه(6). هزئ حام بأبيه. أذلّه، واستخفّ به. وراح بعض الشرّاح أبعد من ذلك. بما أنّ الخمرة، كما قالوا، تقود إلى الفجور، فهذه الخمرة حرّكت الرغبة الشهوانيّة عند نوح(7). انتزع حام الثوب ساعة كان نوح نائمًا مع امرأته، واعتبر آخرون أنّ نوحًا كان في خيمة امرأته، مستندين إلى الطريقة التي بها كُتب الضمير مع »خيمته« (ا هـ ل ه). فلو أراد النصّ أن يتحدّث عن خيمة رجل لقال »ا هـ ل و«: خيمته هو. فإذا أخذنا بالطريقة التي بها وضع الماسوريون التشكيل على الحروف، نستطيع أن نتحدّث عن خيمة امرأة (خيمتها)، عن خيمة امرأة نوح(8). إنّ قراءة النصّ بهذا الشكل، تتضمّن بالحقيقة عددًا من الفرضيّات.

ب- خصاء نوح

هناك تقليد قديم يرى أنّ حامًا خصى أباه(9). وأشار تيوفيل الأنطاكيّ (نهاية القرن الثاني ب. م.)، إلى هذه الفرضيّة. وراحت بعض الكتابات اليهوديّة في هذا الخطّ، وهذا ما يشهد عليه الجدال بين »راب« و»صموئيل« في بداية القرن الثاني ب.م. اعتبر الأوّل أنّ حامًا خصى أباه. والثاني أنّه أقام علاقات جنسيّة مثليّة معه. نحن لا نرى بوضوح من أخذ بهذا الرأي أو بذاك. ونظريّة الخصاء نجدها في عدد من النصوص المدراشيّة. وبعض المرّات يقال إنّ المخطئ ليس حامًا بل ابنه كنعان. ويقدّمون واقعًا يبدو غريبًا: لنوح ثلاثة بنين، وهو عدد قليل بالنسبة إلى الآباء في البيبليا، ولا سيّما أنّه لم يكن له أولاد بعد الطوفان. إذًا، منح حام أباه بأن يكون له ابن رابع. ولهذا، ما لعن نوح حامًا، بل كنعان (آ25) الابن الرابع لحام(10).

إنّ موضوع الابن الذي يخصي أباه، يُقرأ في الميتولوجيا(11). ولعلّ بعضهم ظنّ أنّ هذه المدارش اليونانيّة احتفظت بسطرة (ميتوس) قديمة أُلغيت من الكتاب المقدّس.

بالإضافة إلى ذلك، لا نجد موضوع الخصاء في أخبار الشرق الأوسط التي تجعل البشر على »المسرح«، بل هي دومًا سُطُر تتحدّث عن الآلهة: أراد ابن أن ينتقم لأمّه أو يزيح أباه عن العرش(12). لا نقرأ موضوعًا من هذين الموضوعين في الكتاب المقدّس، يتحدّث عن البشر. وكان الاختلاف واضحًا مع النصوص اللابيبليّة حيث البطل يرتفع إلى العالم الإلهيّ: يبقى نوح إنسانًا من البشر، وأولاده أيضًا، »ومنهم انتشر كلُّ سكّان الأرض« (تك 9: 19). وكانت الخلاصة: لا وجود لتقليد الخصاء في خلفيّة النصّ البيبليّ. هذه النظريّة مدراش وُلد في القرن الثاني المسيحيّ.

ج- علاقات جنسيّة مثليّة

سبق وقرأنا عن الجدال بين »راب« و»صموئيل«، حيث أشار أحدهما إلى علاقات مثليّة بين حام ونوح، وهذه الفرضيّة ما زالت حاضرة لدى بعض الكتّاب المعاصرين(13). إنّهم يظنّون أنّ النصّ يتكلّم بوضوح عن علاقات جنسيّة، بل استعملوا لفظ لواط مع أولاد أو لواطيّة(14). ثمّ إنّ حامًا لم يعد ولدًا. ففي زمن الطوفان، كان أبناء نوح متزوّجين: »دخل إلى السفينة نوحٌ مع بنيه وامرأته ونساء بنيه« (تك 7: 7). إذًا نحن بالأحرى أمام علاقات مثليّة سفاحيّة. وعودة إلى شرائع نقرأها في سفر اللاويّين (ف 18، 20) مع اللازمة التي تتكرّر: »لا تكشف عورة...« (لا 18: 7، 8، 9، 10، 11، ..12.). تشير هذه العبارة إلى علاقات الفجور، وهذا ظاهر في مقابلة مع تعابير أخرى في هذين الفصلين: »لا تأخذ امرأة مع أختها« (لا 18: 18). »لا تضاجع زوجة أحد« (لا 18: 20). »لا تضاجع الذكرَ مضاجعةَ النساء« (لا 18: 23). »لا تضاجع أيّة بهيمة« (لا 18: 23).

تعود هذه التعابير في ف 20. وتردُ آيةٌ خاصّة كصورة عن المقطع المتعلّق بنوح: »وإن أخذ أحد أخته، ابنة أبيه أو ابنة أمّه، ورأى عورتها (رآها عارية) ورأت عورته، فهذا عار، فليُقطعا من بين شعبهما أمام عيون بني شعبهما. هو كشفَ عورةَ أخته فيحمل عاقبة إثمه« (لا 20: 17). بحسب هؤلاء الباحثين، »رؤية العورة« في هذه الآية توازي »كشف العري«، وتعني بالتالي علاقات فجور(15). فعبارة »حام، أبو كنعان، رأى عورة (عري) أبيه« تعني أنّ حامًا ضاجع أباه.

د- علاقات جنسيّة غيريّة(16)

وأخيرًا جاء من يقول إنّه وإن تحدّث النصّ عن رجل يرى عورة رجل آخر، فنحن لسنا أمام علاقات فجور مثليّة، بل غيريّة. »رؤية عري رجل« تعني مضاجعة امرأة ذاك الرجل(17). ووُجد البرهان على ذلك في لا 18: 8: »لا تكشف عورة امرأة أبيك. هي عورة أبيك« (رج لا 18: 14، 16؛ 20: 20-21). أن يكون حام رأى عري أبيه، يعني أنّه أقام علاقات زواجيّة مع امرأة نوح. وهذا ما يشرح سبب لعنة نوح لكنعان. فقد يكون كنعان ابن زنى الأقارب، زنى حام مع أمّه، ولهذا نال اللعنة. ورأى آخرون أنّه ليس بالضرورة أن تكون والدته نفسها. فقد يكون حام ضاجع امرأة أخرى لأبيه. ولكن ما من نصّ بيبليّ يتحدّث عن نساء نوح، بل عن امرأته في صيغة المفرد: »تدخل إلى السفينة، أنت وأبناؤك، وامرأتك ونساء أبنائك« (تك 6: 19؛ 7: 7؛ 8: 15، 18). إذًا، يكون ذنب حام أنه مارس علاقة غيريّة محرّمة.

مثلُ هذا العمل يتّخذ بُعدًا كبيرًا، ويتجاوز الفوضى الخلقيّة البحتة. فالابن الذي ينام مع أمّه أو مع إحدى نساء أبيه، يكون متمرّدًا على أبيه، لأنّه تجاوز سلطة أبيه وسيادته. فهذا العمل يرمز إلى رغبة في أن يحلّ الابن محلَّ أبيه. هذا ما نلاحظه في وضع أبشالوم تجاه أبيه داود(18). كلّ هذا يشرح خطورة ذنب حام، ويبرّر لعنة أبيه نوح القاسية(19). ونستطيع أن نقابل هذا الخبر مع خبر رأوبين، الذي ضاجع بلهة جارية أبيه يعقوب (تك 35: 22). وبسبب زنى الأقارب هذا، حُرم من حقّ البكوريّة (تك 49: 3-4: علوتَ فراش أبيك).

وقال آخرون: اسم نوح كان في الأصل اسم امرأة(20). وقد أشارت أقدم النصوص البيبليّة إلى نهج أموميّ(21). فبما أنّ نوحًا هو في أصل بشريّة جديدة، فقد يكون (أو: تكون) الأمّ، على مثال حوّاء »أمّ جميع الأحياء« (تك 3: 20). وحين سيطر النهج الأربابيّ، تبدّل النصّ وصار نوح الأب، لا الأمّ. فاحتفظ النصّ الحاليّ بآثار تلك البدايات. وإذا تركنا التشكيل جانبًا، »أ هـ ل ه« تدلّ على امرأة (خيمتها)، أي إلى نوح الذي يُعتبَر كامرأة. وهكذا تكون العلاقات الجنسيّة التي أقامها حام مع المرأة نوح، علاقات حام مع أمّه. وكنعان يكون ملعونًا، لأنّه ثمرة هذا الاتّحاد المحرّم، الذي هو زنى القربى.

ولكي يتثبّت الرأيُ الذي يرى في خبر نوح وبنيه فوضى الفجور، يُقابَل الخبر مع خبر لوط وبنتيه (تك 19: 30-38). اقترح لوكي أن يكون حام سقى أباه حتّى سكر، كما فعلت ابنتا لوط مع أبيهما. استفادت البنتان من سكر والدهما فضاجعتاه. ولكنّ الخلافات الأساسيّة بين الخبرين لافتة للنظر. ما وجدت البنتان رجلاً ينامان معه، فأسكرتا الوالد. ولفظ »نام« لا يترك أيّ شكّ لطبيعة العمل: »تعالَي نسقي أبانا من الخمر وننام معه. وهكذا نقيم نسلاً من والدنا« (آ32). وفي الواقع، وَلدت كلُّ واحدة منهما ابنًا (آ 36-38).

فالذين يقرأون في خبر نوح رواية عن علاقات جنسيّة، فجوريّة، سواء على مستوى القربيّة، أو المثليّة، أو الغيريّة، يرتكزون على براهين ضعيفة. فجميع النصوص التي أُخذت من سفر اللاويّين تستعمل فعل »كشف« (ج ل ه في العبريّة. جلا في العربيّة). وفاعل الفعل يتّخذ المبادرة في العلاقات الجنسيّة: »لا تكشف عورة...«. أمّا النصّ الذي نقرأ فلا يقول في أيّ مكان، إنّ حامًا كشف عورة أبيه. بل: نوح نفسه تعرّى. فرأى حام فقط عورة أبيه. رآه عريانًا. فمن يقول إنّ فعل »رأى« يساوي فعل »كشف«، لا يستطيع أنّ يستند سوى إلى مقطع واحد سبق وأوردناه (لا 20: 17)، فبان التوازي صريحًا. ولكن في أيّ موضع آخر من البيبليا، لا يكون هذا المدلول لعبارة »رأى عري«. إذًا، أن نقول: رأى عري أبيه، يعني »أقام علاقات جنسيّة مع امرأة هذا الرجل«، وبالتالي نام حام مع امرأته، مثل هذا القول لا يجد له أيّ سند. لا شكّ في أنّه في بعض الحالات المحدودة والصريحة في سفر اللاويّين »كشف عري رجل« يعني أقام علاقات جنسيّة مع امرأة هذا الرجل. ولكنّنا لا نجد حالة واحدة حيث يكون مثل هذا المعنى لعبارة »رأى عريَ رجل«. فمثلُ هذا التفسير يقودنا إلى قراءات غريبة عجيبة. »فرؤية عري شخص« يتضمّن في الواقع معنى مختلفًا جدٌّا، سوف نعود إليه. ونلاحظ أيضًا ما ورد عن أبناء ينامون مع زوجة أبيهم كعلامة وضع يد على سلطتهم، فهذا يتمّ في البلاط الملكيّ. أمّا وضع رأوبين فلا يدلّ على أنّه أراد أن يتعدّى على سلطة أبيه. وأخيرًا، نوح وبنوه ليسوا من السلالة الملكيّة(22).

ولكنّ الاعتراض الرئيسيّ على الشروح التي تكتشف في »رأى« حام، أكثر من »رأى« فقط، فهي تعود إلى موقف سام ويافث. فالنصّ يصف بأيّة دقّة ونعومة مشيا إلى الوراء، وغطّيا عورة أبيهما. وما رأياه عريانًا (آ23). نحن هنا، بلا شكّ، أمام »ما رأى« لدى سام ويافث، تجاه »رأى« لدى حام. حينئذٍ اعتبر بعضُهم أنّ المدوِّن أو الناشر لم يفهم المعنى الخفيّ لعبارة »رأى عورة«، فأضاف آ23 ليروي ما فعله الأخوان حين غطّيا عريَ أبيهما. ونحن نجيب: بما أنّ هذا المدلول ثابت في سفر اللاويّين، نعجب أن لا يكون الكاتب فقَهَ هذا المعنى، وهو العارف بالكتاب المقدّس ودقائقه.

جميع الحلول السابقة ميّزت تقاربًا دياكرونيٌّا، تطوّريٌّا(23)، للكتاب المقدّس. بحثت عمّا وراء النصّ، عمّا سبق النصّ. قرأت ما كان قبل النصّ. فالشارح يُدرك إدراكًا أفضل معنى الخبر الذي أراده المدوِّن أو الناشر، ولو وجب عليه أن يقتطع النصّ ويعتبر الآية المشكلة، إضافةً لاحقة.

نستطيع أن ننهي هنا هذه النظرة السريعة إلى الفرضيّات التي يُخفيها النصّ. مثل هؤلاء الشرّاح يفعلون كما يفعل حام نفسه. فالفضول عندهم عرّى الشكّ الذي وُجد في أسرة نوح. أمّا النصّ في وضعه الحاليّ، فيسعى إلى إخفائه وسَتْرهِ. وكما أخبر حام أخويه بما فعل، شارك الباحثون القرّاء في ما اكتشفوه من جرأة ووقاحة.

2- مضمون النصّ الكتابيّ

نستطيع أن ندرس بشكل مختلف هذا النصّ الكتابيّ، ولا سيّما في مقاربة سنكرونيّة(24) إجماليّة، متواقتة، متزامنة. نأخذ النصّ كما هو، ولا نقتطع منه شيئًا. فالنصّ كما ألّفه وقدّمه المدوِّن الأخير، وكما قرأته الأجيال العديدة، يَحمل معنى في ذاته. وهذا ما نحاول أن نكتشفه.

هناك تعارض واضح بين حام الذي رأى، وسام ويافث اللذين ما رأيا. وقد اعتبر كتّابٌ كثيرون، ومنذ زمن طويل، جرمَ حام على أنّه »رأى« لا أكثر. ولكنّهم حين جمعوا العريَ إلى الفجور، استنتجوا أنّ حامًا تجاوز الحشمة تجاوزًا كبيرًا، وأضافوا: مثلُ هذا التصرّف لا يُقبَل إطلاقًا لدى العبرانيّين المؤمنين(25).

وكانت فرضيّة أخرى: لا ينظر أحدٌ إلى العضو التناسليّ لدى رجل دون أن يستجلب الأذى بالسحر على قوّة الإنجاب عند هذا الرجل(26). وهكذا يكون عمل حام شكلاً من الخصاء خفيٌّا.

إنّ تنوّع هذه الشروح يبيّن الحاجة إلى إعادة النظر في النصّ. وبما أنّ الكلام يدور حول العري، ندرس هذا المفهوم. ثمّ نحلّل الآيات التي تَعنينا، ونُنهي فنحدّد موقع القطعة في مجمل سفر التكوين، ف 1-11.

أ- مفهوم العري

العري في مجتمعنا، يجعلنا نربطه حالاً بالعلاقات الجنسيّة. لهذا، لا نعجب أن تكون الفرضيّات السابقة بحثَتْ عن ذنب حام في هذا المجال. إذًا، ندرس هذا المضمون(27). أورد النصّ ثلاث مرّات لفظ »عورة ، عري« (ع ر و ه)، في آ22 مرّة واحدة، وفي آ23 مرّتين. ذاك هو الموصوف. والصفة »ع ر و م«، عار. نبدأ فنلاحظ أنّ الصفة والموصوف لا يظهران مرارًا عديدة جدٌّا في الكتاب المقدّس، كما يمكن أن نلاحظ في الفهرس العبريّ(28).

أوّلاً: اللفظ عورة (ع ر و ه)

إذا تركنا جانبًا القطعة التي ندرس، تعود اللفظة في سياق محدّد، في الشرائع التي تتحدّث عن العلاقات الجنسيّة، في سفر اللاويّين (ف 18 و20)(29). تتكرّر العبارة: »لا تكشف عورة...«. هذه الآيات لا تطرح أيّ شكّ في أنّنا أمام علاقات جنسيّة، غيريّة أو مثليّة. ويتحدّث نصّان قانونيّان آخران عن الإجراءات المتّخذة لئلاّ يُظهر الكهنةُ عورتهم، أي الأعضاء التناسليّة، خلال الخدمة العباديّة في الهيكل (خر 20: 26؛ 28: 42). لا فجور هنا، بل احترام موظّفين يقومون بشعائر العبادة.

وقرأنا لفظ »ع ر و ه« أكثر من مرّة لدى النبيّ حزقيال. والعلاقة بين حزقيال وسفر اللاويّين معروفة. لهذا لا ندهش إن وجدنا لدى النبيّ الاستعمالَ عينَه الذي نجده في شرائع سفر اللاويّين: »فيك من يكشف عورة أبيه« (حز 22: 10= لا18: 7). وقابل النبيّ إسرائيلَ الخائن بالزانية، فتحدّث عن العري وصوّر العلاقة بين إسرائيل وعشّاقه (حز 16: 36؛ 23: 18). غير أنّ العري يتّخذ معنى أوسع في نصوص أخرى، فيرمز إلى فقر إسرائيل. هذا ما نجده في الفصول التي تتحدّث عن تاريخ إسرائيل: »فنمَوْتِ وكبرت وبلغتِ سنّ الزواج. فنهد ثدياك ونبت شعرك وأنت عريانة متعرّية. ومررتُ بك ثانية، ورأيتُك ناضجة للحبّ. فبسطتُ طرف ثوبي عليك وسترتُ عورتك، وحلفت لك ودخلتُ معكِ في عهد فصرتِ لي« (حز 16: 7-8).

ويتواصل النصّ فيصف غنى اللباس الذي أعطاه الله لشعبه (آ9ي). ويُنهي: »فذاع صيتُكِ في الأمم لجمالك الذي اكتمل ببهائي الذي ألبستُك إيّاه« (آ14). في هذا النصّ، لا علاقة للعري بالعلاقات الجنسيّة، بل صورة عن الفقر الذي غطّاه الربّ بعطاياه. ومقابل ذلك يُعرَّى إسرائيل بسبب خياناته (حز 23: 10، 29). الله نفسُه يعرّيه: »فسأجمع كلَّ عشاقك الذين تلذذتِ بهم، من أحببتِهم أو أبغضتِهم، أجمعُهم عليك من كلّ صوب، وأكشف عورتك لهم فيرون عورتك كلّها« (آ37).

وفي سائر النصوص حيث يظهر اللفظ »ع و ر ه«، نجد تلميحًا إلى العار والفقر والشقاء والإذلال. قال مرا 1: 8: »جميع مكرِّميها ازدروها، لأنّها رأوا عورتها«. واحتقر ملكُ أشور أيضًا أسرى مصر ومسبيّي كوش، من شباب وشيوخ »عراة، حفاة، مكشوفة مؤخّراتهم، عورة مصر« (أش 20: 4؛ رج هو 2: 11). وترد »ع و ر ه« بعض المرّات في توازٍ مع »عار« (ح ر ف ت؛ 1صم 20: 30؛ أش 47: 3). وفي أيّ حال، الجذر واحد في اللغة العربيّة. لهذا نستطيع أن نترجم »ع و ر ه« بعارٍ وعيب وقرف. »إذا تزوّج رجل بامرأة، ولم تعد تجد حظوة في عينيه لعيبٍ (ع ر و ه) أنكره عليها« (تث 24: 51؛ رج 23: 5). وبقي مقطع يلقي الضوء على هذا اللفظ. قال يوسف لإخوته الذين لم يعرفوه: »أنتم جواسيس، جئتم لتروا »ع ر و ه« (مواطن الضعف) الأرض« (تك 42: 9، 12).

إذًا، للفظ »ع و ر ه« معنى يرتبط بالعلاقات الجنسيّة في عدد من الحالات الصريحة والمحدّدة(30). وله معنى آخر: الفقر، الضعف، الذلّ، غياب الكرامة.

ثانية: الصفة »ع ر و م« عارٍ

استعمال الصفة محدود، ولا يعود بنا إلى عالم الجنس، هذا إذا جعلنا تك 2: 25 جانبًا. يدلّ اللفظ على الفقر والضعف والذلّ. هي حالة الإنسان عند ولادته وموته: »عريانًا خرجتُ من بطن أمّي، وعريانًا أعود إلى هناك« (أي 1: 21؛ رج جا5: 14). والفقير هو عريان: »إن رأيتَ عريانًا كسوتَه« (أش 58: 7؛ رج أي 22: 6؛ 24: 7، 10). وتعريةُ الإنسان عقابُ المرأة الخائنة، كما قال هو 2: 5: »لئلاّ أجعلها عريانة (ع ر م ه) وأردّها إلى ما كانت عليه في يوم ولادتها (هـ و ل د ه)«. والرجل يهرب عاريًا في الحرب، لأنّ عليه أن يتخلَّى عن كلّ شيء. قال عا 2: 16: »والقويّ القلب بين الجبابرة يهرب عريانًا في ذلك اليوم«. وقد يكون العري طقسًا من طقوس الحداد. قال مي 1: 8: »ها أنا أندبُ وأولول، وأمشي حافيًا، عريانًا«. بل صار العري رمزًا لدى النبيّ أشعيا. »فقال الربّ: كما مشى عبدي أشعيا عاريًا، حافيًا، مدّة ثلاث سنين، كآية وأعجوبة لمصر وكوش، كذلك يسوق ملك أشور سبايا مصر وأسرى كوش« (20: 3-4). وإذ انضمّ شاول إلى بني الأنبياء، أخذه الانخطاف فتعرّى: »ونزع هو أيضًا ثيابه وتنبّأ أمام صموئيل، وانطرح عاريًا كلَّ ذلك النهار وليله. لذلك يُقال: ''أشاولُ أيضًا من الأنبياء''«؟ وأخيرًا نقرأ أي 26: 6: »أمام الربّ الشيول (مثوى الأموات) عريانة والهوّة مكشوفة«. يعني يراها، ويعرفها ملء المعرفة.

إذًا، لا علاقة للصفة »ع ر و م« بالعالم الجنسيّ(31). أمّا »ع ر و ه« فترتبط بالعلاقة الجنسيّة إذا كان السياق صريحًا. وفي مواضع أخرى، تعني الفقر والمحدوديّة والضعف والذلّ(32). وها نحن نعود إلى بُعد العري في خبر نوح.

ب- تحليل تك 9: 20-27

جاءت بنيةُ النصّ واضحة:

أ- آ20-21 سكر نوح،

ب- آ22      تصرّف حام تجاه أبيه.

ج- آ23            تجاه ذلك، تصرّف سام ويافث.

أأ- آ24           ردّة فعل نوح بعد معرفة ما جرى.

ب ب-آ25           لعنة كنعان

ج ج-آ26-27  بركة سام ويافث.

وهكذا انقسمت القطعة جزئين. الأوّل يصوّر كيف أنّ نوحًا أضاع وعيَه. وكيف تصرّف الأبناء الثلاثة تجاه والدهم حين كان سكرانًا (أ- ب - ج). في الجزء الثاني، استعاد نوح وعيه (أأ- ب ب - ج ج) وفعل ما فعل. أمّا هدفُ هذه الدراسة، فاكتشاف ذنب حام. وهكذا يتمركز التحليل قبل كلّ شيء على الجزء الأوّل في القطعة.

أوّلاً: سكر نوح (آ20-21)

كان نوح فلاّحًا. وقيل لنا عنه أنّه »غرس كرمة«. »شرب من خمرها« و»سكر«. اندهش بعضُ الشرّاح من مثل هذا التصّرف لدى نوح البارّ، فحاولوا أن يَعذروه. كان أوّل من غرس كرمًا، وما كان يعرف نتائج الخمر. والنصّ لا يتلفّظ بحكم خُلقيّ على نوح. ثمّ إنّ السكر لا يُعتبر خطيئة في العالم الساميّ(33). ويواصل النصّ: »وي ت ج ل« (جلا في العربيّة): تكشّف داخل خيمته. هو عمل قام به على نفسه. لا، كما قالت بعض الترجمات »وجد نفسه مكشّفًا في خيمته«. أجل، هو تعرّى، وما عرّاه أحد. ونتذكّر أنّ فعل »ج ل ه«. عاد بشكل لازمة في سفر اللاويّين (ف 18 و20) وفي نبوءة حزقيال (22: 10): »لا تكشف عورة«. هي إشارة إلى المضاجعة والعلاقات الجنسيّة، ولكن مع بنية مختلفة: واحد يعرّي شخصًا آخر. والموضوع هو العري. مع العلم أنّ العبارة قد تعني »أذلّ« (أش 47: 3). وفي حالات أخرى: »إنسان يكشف عورته بيده«. نقرأ في حز 23: 18: »وأظهرت فواحشَها وتعرّت«. فإن وجدنا هنا تلميحًا إلى العلاقات الجنسيّة، فالنصّ يُبرز قبل كلّ شيء أنّ أورشليم دلّت على طبيعتها الحقيقيّة، على هويّتها: هي ما عادت تحترم نفسها. ويُطلب أيضًا من الكاهن بأن لا يكشف عورته كرامة لشعائر العبادة (حز 20: 26). بل قال حز 16: 37 إنّ الله كشف عورة أورشليم. هذا لا يعني أنّ الله تجامع مع أورشليم.

وفي وضع نوح، فعلُ »كشف« (ج ل ه) بقي وحده دون إشارة إلى العري. ما تعدّى أحد على نوح، بل هو تكشّف، »كشف عريه«. إذًا لسنا أمام عمل مجامعة. وقيل إنّ الخمر تحرّك الرغبة الجنسيّة، وإنّ نوحًا تكشّف من أجل هدف آخر. غير أنّ النصّ كما نقرأه لا يشير إطلاقًا إلى مثل هذا التفسير. وقيل أيضًا إنّ نوحًا تجاوز الحشمة. لهذا حاولوا أيضًا أن يبرّروه وهو البارّ، ولهذا أعلنوا أنّه كان وحده في خيمته بعيدًا عن عيون الفضوليّين. ولفت آخرون الانتباه إلى شكل اللفظ »ا هـ ل ه« الذي يعني خيمة امرأته. وقال آخرون: هي خيمة يهوه، كما قال أحد الشرّاح اليهود. وهكذا، ما تكشّف نوح في خيمته، بل في »خيمة يهوه«، وفيها حصل ما حصل. لهذا كانت الخطورة في الذنب. وهذا إذا أخذنا بعين الاعتبار الحشمة المطلوبة من الكهنة في الهيكل (خر 20: 26؛ 28: 42). غير أنّه يصعب القبول بهذا التفسير. فخبرُ نوح جزء من تاريخ البدايات، ولا حديث بعدُ عن خيمة يهوه.

فعل »ج ل ه« يعني: كشف، بيّن، جلا. والصيغة هنا تعني: كشف الإنسان شيئًا من ذاته. وبالتالي تعرّى. هنا نقرأ كلامًا له مدلوله في أم 18: 2: »البليد لا يحتفظ بما يتبيّن له، بل يكشف كلَّ ما في قلبه«. لا يترك سرٌّا له. ونوح سكر، فما عاد يتمالك نفسه. أن يكون الإنسان في مثل هذه الحالة، نشفق عليه. ما عاد إنسانًا في كلّ معنى الكلمة. في هذه الحالة، تعرّى نوح. هنا قال سفر المراثي: »عليكِ أيضًا تمرّ الناس، فتَسكرين وتُظهرين عريك« (4: 21). وقال حب 2: 15: »ويل لمن يسقي جيرانه من كأس غضبه ويُسكرهم لينظر إلى عوراتهم«. وهكذا يدلّ العري قبل كلّ شيء على الفقر، والضعف والذلّ. وهكذا بيّن الكاتب أنّ نوحًا، وإن كان بارٌّا، لم يصِر إلهًا مثل بطل الطوفان في جلجامش. بل هو محدود، ضعيف، ومرآه يثير الشفقة بعد أن انحدر إلى هذا الدرك.

ثانيًا: تصرّف حام (آ22)

فعلان صوَّرا ما فعله حام أبو كنعان: تصرّفٌ سلبيّ كانت نتيجته لعنة من عند نوح. أعلن النصّ أوّلاً أنّ »حامًا، والد كنعان، رأى عورة أبيه«. (فعل أوّل) واعتبر شرّاحٌ سبقَ وذكرناهم أن »رأى عورة« تدلّ على أكثر من رؤية. تدلّ على عمل مضاجعة. ويستندون في ذلك إلى آية بيبليّة واحدة (لا20: 17) حيث »رأى عورة« تتوازى مع »كشف عورة«. كما تتوازى »كشف عورة« مع »ضاجع« في آ18. أمّا في سائر الحالات كلّها، فعبارة »رأى عورة« لا تتضمّن فعل المجامعة، بل تشير إلى الفقر والضعف. يُعرَّى شخص لكي يُذلّ. هذا ما قيل عن بابل »يُكشَف عريُك، يُكشف عارك«. وعن إسرائيل: »كشف عريَك أمامهم لكي يروا عريَك« (حز 16: 37). ويوسف اتّهم إخوته بأنّهم جاؤوا ليروا عورة البلاد، أي نقاط الضعف فيها (تك 42: 9، 12).

وهكذا لا نجد في ما قيل عن حام »رأى عري أبيه« أنّه يدلّ على فعل مجامعة. ثمّ، ليس هناك ما يشكّك في أنّ يُرى عريُ إنسانٍ من الناس. هذا ما لا يشجبه الكتاب المقدّس في أيّ نصّ من نصوصه. أمّا إذا كان العري يمثّل الضعف والفقر، فقد ذُلَّ نوح لأنّه كشف ضعفَه ومحدوديّته، ورأى حام والدَه في هذه الحالة. هذا يعني أنّه رآه صدفة. فللابن فكرة رفيعة عن والده. وهو يرى فيه مثالاً يُحتذى. والشابّ يبني حياته وهو ينتظر موافقة أبيه. وهنا نحن أمام »الابن الأصغر« (آ24)، وهذا أمرٌ له أهمّيّته. ولكن يأتي وقتٌ يكتشف فيه الابن أنّ أباه إنسان من الناس، وهو متلبّس الضعف. هذه الخبرة اختبرها حام حين رأى أباه سكرانًا في خيمته. في ذلك اليوم، اكتشف حام محدوديّة أبيه، نوح البارّ. لو توقّف الخبر هنا، لما كان حام نال أيّ توبيخ. فما على نوح إلاّ أن يتحمّل نتائج فعلته. وكلّ واحد يكتشف عاجلاً أو آجلاً في حياته، محدوديّة والديه.

ولكن يتواصل النصّ: »فأخبر أخويه خارجًا«. (فعل ثانٍ) ذاك خطأ حام. فالأدب الحكميّ يتكلّم مرارًا عن إفراط اللسان في الكلام، فنكشف للآخرين ضعفَ شخص أو مزاياه. اكتشف حام محدوديّة أبيه، فكان بإمكانه أن يغطّي عورته ولا يكشف لأحد ما اكتشفه هو. ولكنّه فضّل أنّ »يعرّي« أباه، أن »يكشفه« ويكشف لأخويه الحالة التي وُجد فيها نوح.

ثالثًا: تصرّف سام ويافث (آ23)

وصوَّرت أفعالٌ أخرى تصرّفَ سام ويافث، الذي اختلف عن تصرّف أخيهما حام. فكانت النتيجة البركة وما يرافقها من مديح (آ26-27): »فأخذ سام ويافث الثوب (مع أل التعريف، ربّما المعطف)، وألقياه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء ليسترا عورة أبيهما«. الثوب ثوب من؟ قالت بعض الترجمات: »ثوب نوح«. هذا يعني أنّ حامًا أخذه معه إلى الخارج. ولكنّ النصّ لا يقول شيئًا في هذا المجال. أهو ثوب سام أو يافث، الذي يلبسه الإنسان وينام فيه؟ قالت الشريعة: »إن رَهنَ الفقير ثوبَه، يُعطى له عند المغيب«. هو كساؤه (ك س ه، كسا في العربيّة) الوحيد، كساء جسده. ففي أيّ شيء ينام (إن أخذتَه وما استرددتَه)؟ فهم الأخوان أنّ أباهما مسكين في ذلك، يشبه الفقير الذي يحتاج إلى ثوب يكسوه (ك س ه). قال النصّ: »ليسترا، ليكسيا، عورة (ع ر و ه) أبيهما«.

نقرأ هذه العبارة عند النبيّ حزقيال، حيث يصف بداية العلاقات بين شعب إسرائيل والربّ: »كبرتِ، نموتِ، ولكنّك كنتِ عريانة« (حز 16: 7). فجاء الربّ وغطّى عريَها (آ8). انحنى على شعبه الفقير. وقال أشعيا واصفًا كيف يكون الصوم الحقيقيّ: »أن تفرش للجائع خبزك، وتُدخل المسكينَ الطريد بيتَك، أن ترى العريان فتكسوه، ولا تتهرّب من مساعدة قريبك« (أش 58: 7).

ويتواصل الخبر: »كان وجهاهما إلى الوراء، فما رأيا عريَ أبيهما«. وهذا عكس حام الذي رأى ذاك العريّ. وهكذا لعب فعل »رأى« دورًا كبيرًا في خبر نوح. الله »رأى« شرّ البشر (تك 6: 5). وفي 7: 1: »رأى« الله »برّ نوح«(34).

إنّ تصرّف الأخوين، سام ويافث، يعارض تصرّف حام. كشف حام حدودَ أبيه حين رآه في وضعه المذلّ. وخرج من الخيمة إلى الخارج ليكشف لأخويه مسكنة أبيه. وهكذا زاد فعرّى أباه أيضًا. واختلف عنه سام ويافث. من الخارج أتوا إلى داخل الخيمة، وبأيّ نحافة أتوا. مشيا وهما يرجعان إلى الوراء، وغطّيا مسكنةَ أبيهما. عرفا أنّ أباهما محدود. أنّه ليس بكامل، ولكنّهما لم يُسَرّا بذلك. »غطّيا« عريَ أبيهما، وبالتالي »لم يريا«. فهِما، عَذرا، وما توقّفا عند هذا الأمر(35). واللافت هو أنّ فعل »كسا« (ك س ه) يُستعمَل في سياق يغطّي الله خطايا الإنسان. »رفعتَ عن شعبك آثامهم، وسترتَ جميع خطاياهم« (مز 58: 3).

ومجمل الكلام، يتكلّم النصّ عن العلاقات بين الأب وابنه. »أكرم أباك وأمّك«(36). وما يلاحَظ هو أنّ لفظ »الأب« ولفظ »الابن« يُستَعملان أكثر من مرّة. مرّتين في آ23، مرّة في آ24. وقال أش 51: 17-18: »أفيقي أيّتها التي شربتْ... وما من أحد يقودها من كلّ البنين الذين ربّتهم«. وتحدّثت رواية أقهات (أوغاريت): »أمسِكْ (أباك) بيده حين يكون سكرانًا، إحمله حين يمتلئ خمرًا«.

* استيقظ نوح (آ24)

حين استيقظ، عرف (ي د ع). فللفعل معنى أعمق من »علم«. شعر نوح في أعماقه بما حصل. وعى أنّ علاقته مع ابنه تبدّلت. قال النصّ: »فعل« حام، فرأى بعضهم أنّه »فعلَ« المكروهَ. وما اكتفى بأن يرى. أمّا »فعلَ« فيجعلنا على مستوى الكلام: أخبر أخويه بما اكتشف. ونحن نعرف أنّ لفظ »د ب ر« يعني الكلمة ويعني الشيء. فمن تكلّم فعل. وما فعله حام هو أنّه كشف محدوديّة أبيه. وبهذه الطريقة عرّاه فأضاف. أمّا سام ويافث فغطّياه.

* لعنة كنعان (آ25)

لماذا لعن نوح كنعان وما لعن حامًا؟ عُرض أكثر من حلّ(37)

* مباركة سام ويافث (آ26-27)

حين نفهم بهذا الشكل، تصرّف حام وسام ويافث، نبرّر لعنة نوح على كنعان بن حام، وبركته على سام ويافث.

ج- تك 9: 20-27 في تاريخ البدايات

إنّ تفسير هذه القطعة كما قدّمناه لا يربط العري بالعمل الجنسيّ، بل يرى فيه علامة فقر وإذلال. إذًا، لا كلام عن الخصاء، ولا عن علاقات جنسيّة، مثليّة أو غيريّة. ولا كلام عن الحشمة بالنظر إلى الفجور. بل تحدّث النصّ فقط عن ابن يكشف محدوديّة أبيه. مثلُ هذا التفسير الذي يمكننا أن ندعوه »رمزيٌّا«(38)، يتوافق مع تك 1-11 ومعانيه الرمزيّة. وخبر الفردوس (ف 2-3) يتحدّث عن عري، وهذا ما يُثبت التفسير الذي طرحناه(39).

بعد الكلام عن خلق الرجل والمرأة، يضيف النصّ: »كانا كلاهما عريانين (ع ر و م ي م)، الرجل وامرأته، وما خجل الواحد من الآخر«. فُسِّرت هذه الآية مرارًا في خطّ الحياة الجنسيّة والحشمة، ولا سيّما إذا ربطناها بالآية السابقة حيث الكلامُ عن اتّحاد الرجل بالمرأة (2: 24). نشير هنا إلى أنّ 2: 25 هو بداية خبر صغير يجد خاتمته في 3: 7. كان الرجل والمرأة عريانين. هو الفقر والضعف والمحدوديّة(40). ليسا آلهة (2: 8-17). ثمّ أن يكون الإنسان رجلاً أو امرأة، محدوديّة جديدة. أنت نصف إنسان. رجل لا امرأة، امرأة لا رجل (2: 18-24). الإنسان محدود، ولكنّه سعيد في محدوديّته، فقبلَ ذاته كما هو، وما خجل.

ولكن تبدّل الوضعُ مع الخطيئة: اكتشف الواحد محدوديّته فخاب أمله، وأراد أن يُخفي ذاته تجاه الآخر. »انفتحت أعينهما وعرفا أنّها عريانان. فخاطا أوراق التين وصنعا لهما مئزرين« (3: 7). قبل ذلك الوقت، عرفا أنّهما عريانان، وقبلا بهذا الوضع. أمّا الآن، فاكتشفا هذا الفقر في العمق، و»عرفا« (ي د ع) مثلَ نوح، ما حصل لهما.

ثمّ اختبأ الإنسان وأجاب اللهَ الذي يناديه: »سمعتُ صوتك في الجنّة فخفتُ. وبما أنّي عريان اختبأت« (3: 10). مع أنّه »لبس« ورق التين، رأى نفسه »عريانًا« في حضرة الله. كلّ هذا يعني أنّ العري لا يعني مستوى الجنس، بل الفقر والمحدوديّة. حين يكون الإنسان تجاه إنسان آخر، يحسّ أنّه محدود. وبالأحرى حين يكون أمام الله. إذ أكل الإنسان من ثمرة الشجرة، وعى وعيًا عميقًا محدوديّته: »ومن أعلمك أنّك عريان؟ إذًا، أكلت من الشجرة التي منعتُك أن تأكل منها!« (3: 11).

وقدّم النصّ بعد ذلك لائحة بالعذابات البشريّة. سُجن الإنسان في كلّ حدوده التي أراد أن يتجاوزها، ففشل في محاولته التفلّت منها. أراد أن يختبئ عن الله، ولكنّه ما استطاع رغم مجهوداته. ربّما يجعل الإنسان عليه لباسًا، يستر (يغطّي) نقائصه أمام إنسان آخر، لا أمام الله الذي يقدر وحده أن يغطّي له عمق عريه. »فصنع الله للرجل وامرأته مآزر من جلد وكساهما« (3: 21). وها هو الآن الإنسان يتعب بعد أن كساه الله: حدوده الحقيقيّة ما زالت هنا. ولكنّ الله سترها. وحلّت الثقة محلّ الخوف الذي شعر به أمام الله، في البداية (3: 10).

استُعمل خبرُ الرجل والمرأة، خبرُ آدم وحوّاء، صورةَ العري للتكلّم عن المحدوديّة، التي تؤثّر على العلاقة بين الزوج وزوجته.

الخاتمة

كان الطوفان نهاية عالم وبداية عالم جديد. بدأ العالم الأوّل مع آدم وحوّاء. والعالم الجديد مع نوح وأسرته. والتوازي بين آدم ونوح تُوضحه النصوص. فالإنسان (آدم) أُخذ من الأديم (أ د م ه) (2: 7). ينبغي عليه أن يفلح الأرض. ولكنّها ملعونة وتقاومه في عمله: »ملعونة الأرض بسببك! بمشقّة تستخرج منها قوتك كلّ أيّام حياتك. تعطيك شوكًا وقطربًا« (3: 17-18). وقال النصّ عن نوح الفلاّح (9: 20: إ ي ش. هـ. أ د م ه: إنسان الأديم، إنسان الأرض): »هذا يريحنا عن أعمالنا وعن تعب أيدينا في الأرض التي لعنها الربّ« (5: 29). وفي الواقع »غرس كرمًا« (9: 20). جاء العالم الجديد مليئًا بالمواعيد. وفي العالمين، عالم آدم وعالم نوح، برز موضوعْ العري والمحدوديّة البشريّة. اكتسى آدم وحوّاء، والله كساهما. ونوح أضاع وعيَه فتعرّى، فجاء من كساه. ما فعله الله لآدم وحوّاء، فعله سام ويافث لأبيهما.

نصّان يتحدّثان عن نمطين هامّين من العلاقات البشريّة: علاقة الرجل بامرأته. علاقة الولد بوالديه. كلّ هذا يتمّ في محدوديّة الإنسان. فينبغي عليه أن يعي محدوديّته ومحدوديّة الآخرين. نقبل هذا »العري«، نفهمه، نراعيه، نغطّيه، نعذره. أو ننشره، نشهّره، نسخر منه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM