الفصل التاسع: شخص ابراهيم في سفر التكوين

الفصل التاسع:

شخص ابراهيم في سفر التكوين

حين نقرأ سفر التكوين، نجد أكثر من دورة إخباريّة. هناك دورة يعقوب وموقعها في تأسيس الشعب العبرانيّ بأسباطه الاثني عشر. وهناك دورة يوسف التي بدت صلة الوصل بين سفر التكوين وسفر الخروج، بين حياة الآباء في فلسطين وحياة الشعب العبرانيّ في مصر. أمّا نحن فنتوقّف هنا عند دورة إبراهيم التي تبدأ في دعوة الله له (12: 1ي)، بل قبل تلك الدعوة: مع مواليد تارح (11: 27) الذي هو أبو أبرام أو إبراهيم.

أمّا دراستنا الإجماليّة فتتوقّف عند أربع محطّات: الأولى، معطيات المكان والزمان. الثانية، مسيرة إبراهيم. الثالثة: سلالة إبراهيم الروحيّة. الرابعة: السياق التاريخيّ لدورة إبراهيم.

1- معطيات المكان والزمان

أ- على مستوى المكان

نبدأ بدراسة الإطار المكانيّ لدورة إبراهيم، لأنّها تتيح لنا أن نكتشف حالاً الأماكنَ التي توقّفتْ عندها حياةُ أبي الآباء. فإطارُ معظم الأحداث هو حبرون مع بلّوطة (= سنديانة) ممرا، حيث وصل إبراهيم في تك 13: 18، وظلّ هناك حتّى أقام في جرار ثمّ في بئر سبع. غير أنّ خبر موت سارة (تك 23) يفترض أنّ إبراهيم ظلّ يقيم في حبرون. حيث نقرأ: »وماتت (سارة) في قرية أربع، وهي حبرون، في أرض كنعان« (آ2). إذن حبرون هي المكان الأهمّ في كلّ هذه الدورة، لأنّها إطار ستّة فصول من أصل أربعة عشر تشكّلها دورةُ إبراهيم. ففي حبرون أقام إبراهيم أكثر ما أقام. وهناك دُفنت سارة ثمّ دُفن هو. فهل نعجب بعد ذلك أن تهتمّ الديانات السماويّة الثلاث بهذه المدينة؟

ومع إقامة إبراهيم في حبرون، نذكر الأسفار العديدة التي قام بها أبو الآباء، من أور في كلداي إلى حاران (11: 31). ثمّ من حاران إلى أرض كنعان (12: 5). هذا السفَر الدائريّ عرف مراحل رئيسيّة: شكيم (12: 6)، بيت إيل (12: 8)، النقب (13: 9) في الجنوب، ثمّ مصر (12: 10-20) بسبب المجاعة. بعد ذلك، عاد إبراهيم إلى النقب (13: 1) ومنه إلى بيت إيل (13: 3-4). ونضيف إلى ذلك، المعركة الحربيّة في تك 14 التي هي في الواقع معركة روحيّة: تغلّب إبراهيم على ملوك أربعة، أي على ملوك الأرض، لا بسيفه، بل بإيمانه. نشير هنا إلى أنّ المخبر يقدّم حاشية قصيرة ولا يطيل إلاّ في ما يتعلَّق بخبر الإقامة في مصر (12: 10-20).

أمّا سائر الأماكن المرتبطة بدورة إبراهيم، فأهمّيّتها نسبيّة. إذا وضعنا جانبًا الإقامة لدى الفلسطيّين التي طالت، لم يصل إلينا سوى بضعة أحداث. وهي تشكّل مضمون ف 20-21. أمّا تك 22، فيصوّر رحلةً قادت إبراهيم إلى جبل موريّا (22: 2)، جبل محنة إبراهيم و»ذبيحة إسحق«. بعد ذلك، مضى إبراهيم فأقام في بئر سبع (22: 9). ثمّ صارت الإشارات المكانيّة غامضة. فإذا افترضنا أنّ إبراهيم أقام في بئر سبع بعد 22: 19، ففي الواقع لم يعرف هذا الإطارُ سوى أحداث قليلة. ماتت سارة في حبرون (23: 2)، وتمّ زواج إسحق بقِسْمه الأكبر، في حبرون (تك 24).

ماذا نستنتج من هذا التحليل القصير؟ تغلّبت أرض كنعان على كلّ أرض أقام فيها إبراهيم، من بلاد الرافدين إلى مصر وأرض الفلسطيّين. وكان المكان الأهمّ في أرض كنعان هو حبرون أو بالأحرى منطقة حبرون (13: 18؛ 14: 13؛ 18: 1)، أي القسم الجنوبيّ من كنعان، مع جرار (20: 1)، وبئر سبع (22: 19)، ولحي رائي (24: 62) أو بئر الحيّ الرائي.

ب- على مستوى الزمان

تبدو دراسة الزمان أكثر إثارة من دراسة المكان. وهي تتيح لنا أن نضيف عنصرًا جوهريٌّا على تحليل دورة إبراهيم. فالمقابلة بين »الزمن الذي يروي« و»الزمن الذي يُروى« تقدّم لنا هنا تعليمًا هامٌّا.

أوّلاً: أرض كنعان

قدّم لنا الكاتب الكهنوتيّ أهمّ المعطيات حول تسلسل الأحداث التي يرويها تك 12: 25. وقد أخذ الكاتب الأخير للنصّ بهذه الكرونولوجيا التي أعطت النصّ القانونيّ شكلَه الحاليّ. وبحسب هذه الكرونولوجيا، بدأت مسيرة إبراهيم، لا في ولادته، كما هو الأمر بالنسبة إلى يعقوب أو موسى أو سليمان أو شمشون، بل ساعة انطلاقته من أرضه وعشيرته وبيت أبيه (12: 1). وذُكرت ولادته بشكل عابر جدٌّا (11: 27). أجل، حين كان إبراهيم في حاران، وبعد مجيء أبيه من أور الكلدانيّين (11: 31)، تعرّفنا إلى ذاك الذي يأتي ويقيم في أرض كنعان وهو ابن خمس وسبعين سنة (12: 4). وكانت تلك رحلة طويلة برفقة الله، ستحوّل حياته تحوّلاً جذريٌّا.

وشدّد النصّ الكتابيّ تشديدًا خاصٌّا على أهمّيّة هذه »البداية«. إذا قرأنا 11: 32 نعرف أن تارح مات، وأنّ موته سبق نداء الربّ لإبراهيم (12: 1-3). فالكاتب يتبع الشخص الذي يتكلّم عنه، قبل أن ينتقل إلى شخص آخر. وهذا هو الأمر بالنسبة إلى الخبر هنا: يبدو أن تارح، والد إبراهيم، أقام في حاران، ولبث في هذه المدينة زمنًا طويلاً بعد انطلاقة إبراهيم. إذن، إبراهيم ترك حقٌّا »بيت أبيه« ليطيع الأمر الإلهيّ. توفّي تارح وهو ابن 205 سنوات (11: 32). وكان عمره 65 سنة يوم وُلد إبراهيم، و140 سنة حين مضى إبراهيم إلى أرض كنعان (12: 4). هذا يعني أنّه عاش أيضًا 65 سنة بعد ذهاب إبراهيم من حاران. وهكذا تتضمّن حياة تارح ثلاث مراحل: 65 سنة حتّى ولادة إبراهيم، 75 سنة بين ولادة إبراهيم وانطلاقه إلى أرض كنعان؛ 65 سنة بعد انطلاق إبراهيم. هذه الموازاة التي جعلها الكاتب عمدًا والتي لم نكتشف بعد مضمونها، تقسم حياةَ تارح على أساس الأحداث التي تعني ابنه إبراهيم، وبالأخصّ انطلاقه إلى أرض كنعان (12: 1-5). ويشير النصّ إلى موت تارح قبل ذلك الوقت الحاسم، ليقول لنا إنّه ترك »المسرح« كلَّه من أجل ابنه.

إذن، بدأ إبراهيم يلفت نظر الراوي حين مضى إلى أرض كنعان. والخبر ينتهي بموته وهو ابن 175 سنة (25: 7). فالزمن المرويّ (= الذي يُروى) هو بالضبط مئة سنة: رقم آخر له أهميّة رمزيّة أكيدة. في هذه الحياة التي امتدّت سحابة مئة سنة، اهتمّ الكاتب اهتمامًا خاصٌّا بالسنوات الأولى، أي 25 سنة تفصل المجيء إلى كنعان عن مولد إسحق (21: 1-7)، ساعة بلغ إبراهيم مئة سنة (21: 5). وعلى 14 فصلاً من الزمن المرويّ التي نجدها في دورة إبراهيم، خُصِّصت عشرة فصول لهذه الحقبة. أمّا الفصول الأخيرة فتصوِّر الأحداث التي تمتدّ على السنوات التي تلي مولد إسحق: المحنة (ف 22) وفيها كان إسحق بعدُ فتًى. موت سارة عن عمر 127 سنة. زواج إسحق الذي كان في ذلك الوقت ابن 40 سنة، حسب النصّ الكهنوتيّ في 25: 20. كان إبراهيم في ذلك الوقت ابن 140 سنة. وقد مرّ على وفاة سارة 13 سنة.

كلّ هذا يبيّن أنّ الأخبار التي لفتت انتباه الراويّ هي التي حصلت يوم كان عمر إبراهيم بين 75 و100 سنة، ويوم كان عائشًا في أرض كنعان.

ثانيًا: النسل والعهد

ذكرنا الدخول إلى أرض كنعان (12: 5؛ رج 16: 3). وهناك أحداث أخرى ذُكر تاريخُها بدقّة: قرار سارة بأن تعطي أمتها هاجر »زوجة« لإبراهيم (16: 3). مولد إسماعيل (16: 16). ظهور الربّ لإبراهيم (17: 1) وختانة أبي الآباء وابنه إسماعيل (17: 24-25). مولد إسحق (21: 5). إذن، أشار الخبر إلى عمر إبراهيم يوم مولد ابنيه إسماعيل وإسحق، ويوم تراءى له الربّ (ف 17). في هذا الفصل الذي فيه يسمَّى يهوه »إيل شدّاي« (الإله الشديد) (17: 11)، يعد الربّ إبراهيم بنسل وأرض، ويعلن له مولد إسحق، ويعقد معه »عهدًا« علامته الختان (17: 24-25).

إنّ هذه الملاحظات تؤكّد ما قيل من قبل: فالأخبار تتوخّى أوّلاً أن تُبرز أحداثَ حياة إبراهيم التي تتعلّق بالنسل في الأرض. وكان العهد (ف 17) جزءًا من هذا التركيب لأنّه يختم ختمًا إلهيٌّا على قسَم الله بالنسبة إلى هذه المواعيد. هذه أمور نعرفها. ولكن يبقى أن نعرف كيف تلتحم هذه الأحداث في مسيرة الخبر.

2- مسيرة الخبر في تك 11: 27-25: 11

أ- لحمة الأحداث

لا تبدو لحمة الأحداث في دورة إبراهيم موحّدة. فهي تختلف عن دورة يعقوب كما تختلف عن دورة يوسف. فإنّ تك 11: 25 لا يتركّز على حدَث واحد، على صراع يجد حلّه أو يصبح مشكلة. فالرباط بين مختلف عناصر دورة إبراهيم متراخٍ والأمور لا تسير مسيرة منطقيّة. وهكذا لا نحتاج كما في لحمة موحّدة، إلى أن نقرأ جميعَ الأحداث على التوالي دون أن نهمل حدثًا واحدًا.

ب- أرض من أجل النسل

ومع ذلك، فنحن نجد بعض العناصر التي توحّد هذه الفصول. هناك أوّلاً شخص إبراهيم الحاضر في الخبر كلّه. الاستثناء الوحيد هو ف 19 الذي يتحدّث عن خراب سدوم وهرب لوط منها. ولكنّ أبا الآباء سيأتي في النهاية ليرى نهاية سدوم (19: 27-28). فإن لم يكن إبراهيم فاعلاً فهو شاهد. ثمّ لا ننسى أنّه تدخّل من أجل ابن أخيه لوط في 18: 22-33.

بالإضافة إلى ذلك، يتوحّد القسم الأكبر من الخبر حول إخباريّة نجدها في بداية الخبر (11: 27-31؛ 12: 1-3)، وهي تتعلّق بالموضوعين الرئيسيّين في هذا الخبر: النسل والأرض. والمسألة الأولى هي مسألة سارة العاقر (11: 31) التي ستجد حلاٌّ لها في ف 21. ثمّ يأتي البرنامج الإخباريّ في تك 12: 1-3: تلقّى إبراهيم أمرًا بأن ينطلق إلى أرض سيدلّه الربّ عليها. وارتبط وعدٌ بهذا الأمر. غير أنّ الموضوعين ليسا على المستوى الواحد من الأهمّيّة. فمسألة النسل هي التي تحتلّ الحيّز الأكبر في هذه الفصول، والإشارات عديدة:

أوّلاً، وصل إبراهيم سريعًا إلى الأرض التي يريه الله إيّاها (12: 4). وما إن وصل إلى أرض كنعان حتّى وعده الله بها وعدًا واضحًا (12: 7)، ثمّ أراه إيّاها كلّها بعد أن انفصل عن أبن أخيه لوط. لهذا، لا يحتاج القارئ إلى وقت طويل، كما لا يحتاج إبراهيم، كي يفهم أنّ أرض الوعد هي أرض كنعان. وإن تواصل الخبرُ بعد وصول إبراهيم إلى الأرض، فلأنّ هناك مسائل تطلب حلاٌّ: فالأرض يحتلّها الكنعانيّون (12: 6أ). إذن، لا يكون امتلاكها في الحال. لهذا السبب يدخل الخبر منذ 12: 7 في موضوع النسل. فهذا النسل هو الذي يرث الأرض: »لنسلك أعطي هذه الأرض«.

من يكون هذا النسل؟ المرشّح الأوّل هو لوط. ولكنّه قام باختيار رديء. فضّل سدوم وما فيها من خطيئة على الحياة مع عمّه (13: 10). والمرشّح الثاني هو أليعازر (ف 15). ولكنّ الله استبعده. »لا يرثك أليعازر« (آ4). والمرشّح الثالث هو إسماعيل. ولكنّ الصراع بين سارة وهاجر صار صراعًا بين الولدين، وسيبيّن التاريخ أنّ إسماعيل أقام في الصحراء.

مسألة النسل هي محنة إبراهيم، وهي تتكرّر أكثر من مرّة. لا شكّ في أنّ نصوصًا تقول إنّ الأرض أِعطيَت منذ الآن لإبراهيم نفسه. إلاّ أنّه يبقى أنّ الوعد الأوّل بالأرض يتوجّه إلى نسل إبراهيم لا إليه هو نفسه. هذا الخيار مهمّ. فمن يكون نسل إبراهيم؟ هذا هو الموضوع الذي يربط عناصرَ دورة إبراهيم. كان هناك أكثر من مرشَّح لتقبّل هذا النسل من أبي الآباء. أُبعِدوا كلّهم ما عدا إسحق ابن سارة. فهو يكون الوارث الحقيقيّ مع أنّه جاء في النهاية. و21: 1-7 يروي مولده.

ولكن يُطرح سؤال جديد: لماذا لم تنتهِ دورة إبراهيم مع ولادة إسحق؟ فماذا تضيف ف 22-25؟ أو هل تدفعنا هذه الفصول إلى تبديل تحديدنا للّحمة التي تُوحّد فصولَ خبر إبراهيم؟

ج- مستقبل النسل

إنّ الفصول الأخيرة في دورة إبراهيم (22: 1-25: 11) ترتبط أيضًا بالموضوع الرئيسيّ للخبر، وهو الميراث الموعود به للنسل. وُلد إسحق. ولكنّ المحنة في ف 22 تطرح السؤال من جديد حول المواعيد التي أعطيَت حتّى الساعة. لهذا، لا ندهش بعد هذه المحنة أن يكون قولٌ إلهيٌّ جاء يثبت ما قيل من قبل. في 22: 20-24 نستعدّ لزواج إسحق. ويروي ف 23 موت سارة ودفنها. يلعب هذا الخبر دورين، يدلّ أوّلاً على أنّ جيلاً مضى. فلا بدّ من التطلّع إلى الجيل التابع. ويدلّ ثانيًا على أنّ إبراهيم بدأ يمتلك الأرض. فامتلاك قبر في أرضٍ، يشير إلى حقوق بالإقامة في هذه الأرض. هنا نفهم أنّه لم يكن جذور للعبرانيّين في مصر حيث طلب يوسف بوضوح من إخوته: »حين يذكركم الله بالخير، خذوا عظامي معكم من هنا« (تك 50: 25). وأخيرًا، يأتي زواج إسحق فيحلّ مسألة هامّة جدٌّا، مسألة الجيل الثاني، جيل إسحق بعد إبراهيم. فقبل أن يموت إبراهيم، أراد أن يتأكّد أنّ زوجة ابنه تنتمي إلى عشيرته، فاستبعد أن تكون كنعانيّة (تك 24: 3). فالميراث يجب أن يبقى داخل العائلة الموسّعة، فلا يكون حقّ للغريب. وكرّست ترتيباتُ إبراهيم الأخيرة حقوقَ إسحق تجاه الذين وُلدوا من قطّورة (25: 1-6). فهو الذي تسلَّم »جميع ما يملكه« (25: 5) إبراهيم. أمّا سائر الأبناء فنالوا »عطايا« (25: 6). بعد هذا، يستطيع إبراهيم أن يَرقد بسلام (25: 7-11).

وهكذا ارتبطت الفصول الأخيرة من دورة إبراهيم رباطًا منطقيٌّا بالموضوع الأساسيّ، فأكّدت أمرين: من يكون الوارث؟ ما يكون الميراث؟ وأوضحت أيضًا سلسلة من النقاط التي ظلّت عالقة. أجل أوضحت هذه الفصول بكلّ وضوح (رج 12: 7) النسل الذي له الأرض التي جاء إبراهيم يقيم بها.

ولكن لماذا يشدّد الخبر كلّ التشديد على هذه الوجهة؟ ولماذا كلّ هذا الاهتمام بالمستقبل؟ حين نقرأ بتمعّن تك 12-25 نفهم وجود هذا الاهتمام في كلّ الخبر.

3- سلالة إبراهيم الروحيّة

أ- إبراهيم ومقصد الخبر

إلى من يتوجّه الخبر؟ من يقصد؟ عادة، لا نتطلّع في الدرجة الأولى إلى الشخص، بل إلى العمل. فالشخص ثانويّ، وهو يظهر ساعة نحتاج إليه. ولكنّ شخص إبراهيم هو مهمّ بما هو وبما يعمل. فهناك وجهة لافتة في دورة إبراهيم حين نقرأها في إطار التحليل السرديّ: المسيرة »مفتوحة«، أيّ إنّها تتضمّن سلسلة من العناصر تمتدّ أبعد من خاتمة الخبر الطبيعيّة، التي هي موت إبراهيم (25: 7-11). فإذا كانت المسألة التي طُرحت حول سارة العاقر، وجدَت حلاٌّ لها في 21: 1-7، فهناك برامج إخباريّة أخرى تتجاوز تجاوزًا واسعًا إطار حياة إبراهيم، أي حقبة 25 سنة أقام خلالها في أرض كنعان. في هذه النقطة، تختلف دورة إبراهيم اختلافًا عميقًا عن دورة يعقوب أو دورة يوسف.

من أجل هذا نقابل بين هاتين الدورتين ونصّ تك 12: 1-3. يتضمّن 12: 1-3 وعدًا يتحقّق بصعوبة خلال حياة إبراهيم: »أجعل منك أمّة عظيمة« (12: 2أ). ومن الواضح أيضًا أنّ الأرض لا يمكن أن تُعطَى لنسل إبراهيم (12: 7) داخل دورة إبراهيم. أجل، لا يجد الوعد تمامه في تك 12-25. والمرّة الأولى التي فيها يعد الله بالأرض، هي التي يعد بها من أجل النسل. وهكذا تطلب دورةُ إبراهيم امتدادًا لها. لهذا نقرأ سفر التكوين كلّه، كما نقرأ سفر الخروج. بل نصل إلى زمن يشوع ساعة امتلك الشعب الأرض... ولكنّه سيخسرها في زمن المنفى يوم دوِّنت هذه الآيات.

إنّ الوعد بنسل كبير يفترض مستقبلاً سرديٌّا يتواصل أبعد من خاتمة ف 25. ونقول الشيء عينه عن إبراهيم الذي لا يستطيع أن يرى بعدُ نسلَه ملوكًا (17: 6) يحتلّون أبواب مدن أعدائهم (22: 17). فإذا جعلنا جانبًا الوعد بابن، كانت سائر المواعيد جزءًا من برنامج يدفع القارئ إلى أن يمضي صُعُدًا في الخبر. في بعض الحالات، يكون الوعد »إلى الأبد«. إذن، دورة إبراهيم خبرٌ يُطلقنا إلى أبعد من حدوده الخاصّة، إلى زمن القارئ، بل إلى زمن لا حدود له، إلى الأبد.

وتتضمّن دورةُ يعقوب أيضًا عددًا من العناصر من هذا النمط. فموضوع القول البديئيّ (25: 11-12) هو مصير شعبين، لا مصير شقيقين فقط سيكونان أبوين لهذين الشعبين: الشعب العبرانيّ والشعب الأدوميّ. غير أنّ لهذا القول النبويّ بُعدًا مباشرًا على الصراع الذي يجعل التوأمين وجهًا لوجه، والذي سيجد حلّه في ف 33. وبركات إسحق تلعب هي أيضًا دورين: واحد يتعلّق بإسحق (27: 28-29)، وواحد بعيسو (27: 39-40). والقول الثاني المهمّ في دورة يعقوب (28: 13-15)، يتضمّن قسمين متميّزين: تُسيطر في القسم الأوّل مواعيدُ من أجل مستقبل بعيد: »الأرض التي أنت نائم عليها، أعطيها لك ولنسلك ويكون نسلك مثل تراب الأرض، فتتوسّع إلى الغرب وإلى الشرق وإلى الشمال وإلى الجنوب. بك تتبارك كلّ عشائر الأرض، بك وبنسلك« (28: 13ب-14). أمّا أفقُ القسم الثاني فمصير يعقوب في المعنى الحصريّ: »أنا أكون معك. أحفظك حيث تذهب، وأعيدك إلى هذه الأرض لأني لن أتركك إلى أن أُتمّ كلَّ ما وعدتُك به« (28: 15). يتضمّن هذا القسم الثاني برنامجَ ما تبقّى من الخبر، منذ انطلاق يعقوب (28: 10) حتّى عودته إلى الأرض التي وُلد فيها (33: 18-19؛ 35: 1-8). في هذا المعنى، تبدو دورة يعقوب موحّدة توحيدًا، فيتحقّق جزءٌ كبير من البرنامج الإخباريّ في حدود الخبر.

وفي خبر يوسف، يتحقّق البرنامج كلُّه داخل الخبر نفسه. فأحلام يوسف تعنيه وحده مع عائلته (37: 5-11). والصراع الذي يجعله وجهًا لوجه مع إخوته، ينحلّ في حدود الخبر. فلا يبقى سوى نصوص معزولة تتطلّع إلى المستقبل البعيد، تتطلّع إلى العودة إلى الأرض. النصّ الأوّل قول إلهيّ يتوجّه، لا إلى يوسف، بل إلى يعقوب (46: 2-5). وعدَهُ الله بأنّه يرافقه إلى مصر، ثمّ يُصعده من هناك. ونجد نصّين أخيرين في نهاية ف 50. أعلن يوسف لإخوته أنّ الله يعيدهم يومًا إلى الأرض التي وُعد بها آباؤهم (50: 24). وجعلهم يُقسمون أنّهم يحملون عظامه من مصر ويدفنونها في هذه الأرض التي يعطيهم الله إيّاها (50: 25).

بدا التطوّر واضحًا: فمن دورة إبراهيم إلى دورة يعقوب ودورة يوسف، توحّدت الأخبار أكثر فأكثر، وتحقّق البرنامجُ بشكل متدرّج داخل الخبر نفسه. ففي ما يخصّ دورة إبراهيم، تجعلنا هذه الملاحظةُ نفهم أنّ للخبر وظيفة تردّ على  كلّ اعتراض متوقّع بالنسبة إلى مستقبل الشعب العبرانيّ. فما يهمّ القارئ ليس خبر إبراهيم، بقدر ما يهمّه بُعد هذا الخبر بالنسبة إلى مصير شعب كان إبراهيم أباه. وبجانب هذه الوجهة الجوهريّة الأولى، هناك وجهة تستحقّ أن تلفت انتباهنا: وجه إبراهيم كمثال لنا.

ب- إبراهيم كحافظ أمين للشريعة

قُدِّم إبراهيم مرارًا وبشكل واضح على أنّه حافظ أمين للشريعة، وإن لم تُعلَن هذه الشريعةُ بعد، بل هي تنتظر موسى وخبرة سيناء. ولاحظ الشرّاح لدى دراسة النصوص طاعة إبراهيم. ونلاحظ نحن الرباط بين النصوص التي تؤكّد أمانة إبراهيم وطاعته، وأخرى ترينا هاتين المزيّتين داخل الخبر.

أوّلاً: نصوص تؤكّد أمانة إبراهيم

تبرز طاعة إبراهيم للمرّة الأولى في خطاب الله في ف 18. قال الربّ: »هل أخفي عن إبراهيم ما عزمتُ أن أفعله؟ فإبراهيم يصير أمّة عظيمة وقديرة، وفيه تتبارك كلّ أمم الأرض. وأنا اخترتُه ليوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا (يكونوا أمناء لـ) طريق الربّ ليعملوا بالبرّ والعدل، حتّى يُنجز الربُّ لإبراهيم ما وعد به« (18: 16-19).

نصٌّ كُتب في حقبة متأخّرة، وجاءت آ19 إضافة إلى النصّ الأوّل، وهو جزء من مقطع أُدرج بين نهاية زيارة الرجال الثلاثة إلى إبراهيم (18: 1-6)، وزيارتهم إلى لوط (19: 1-26). لا يكتفي هذا القولُ الإلهيّ بالتشديد على طاعة إبراهيم. بل يضيف نقطتين تلفتان انتباهنا. الأولى: جعل الربّ من أبي الآباء مثالاً يُقتدى به، ومربّيًا للأجيال الآتية. الثانية: طاعة إبراهيم هي شرط مسبَّق لتتمّة المواعيد. بما أنّ إبراهيم سمع وأطاع، استطاع الله أن يحقّق لأبي الآباء ما وعد به. في هذا المعنى كان إبراهيم سابقًا لموسى. فقبل الظهور الإلهيّ على سيناء، علّم إبراهيمُ الشريعةَ لنسله. وقدّم 18: 19 صورة مثاليّة عن إبراهيم ذاك »الأب المثاليّ« الذي يعمل حسب فرائض سفر التثنية حيث يُطلَب من الوالدين أن يعلّموا الشريعة لأولادهم (تث 6: 1-3، 6-7، 20-25؛ رج خر 12: 25-27).

وهناك نصٌّ آخرُ كُتب بعد المنفى. »ونادى ملاك الربّ إبراهيم ثانية من السماء وقال: بنفسي حلفتُ، يقول الربّ، بما أنّك فعلت هذا الأمر ولم تمسك عنّي ابنك وحيدك، أباركك وأكثِّر نسلك كنجوم السماء والرمل على شاطئ البحر، ويرث نسلك مدن أعدائه. ويتبارك بنسلك جميع أمم الأرض، لأنّك سمعت قولي« (2: 15-18).

يجعل القول الإلهيّ (كما في النصّ السابق) علاقةً بين الطاعة للشريعة والوعد. ولكنّ الطاعة هنا هي أمر مفروغ منه: أطاع إبراهيم الله واستعدّ للتضحية بابنه، فوعد الربّ »لأنّ« إبراهيم سمع، أطاع. فالوعد يتبع عمل إبراهيم ولا يسبقه. وهكذا صارت طاعة أبي الآباء كفالة للمستقبل. وهكذا صار إبراهيم، بخضوعه لصوت الله، الأساسَ المتين الذي عليه يُبنى مستقبل الشعب العبرانيّ.

ونقرأ النصّ الثالث في ف 26، في قول إلهيّ وُجِّه إلى إسحق، ساعة هاجَرَ إلى أرض أبيمالك على أثر مجاعة. تراءى له الربّ وقال له: »لا تنزل إلى مصر، بل أقمْ في الأرض التي أدلّك عليها. أقمْ في هذه الأرض، فأنا أكون معك وأباركك لأنّ لك ولنسلك أعطي كلَّ هذه الأرض، وأفي بالقسم الذي أقسمته لإبراهيم أبيك. وأكثّر نسلك كنجوم السماء، وأعطي نسلك هذه الأرض كلّها، وتتبارك بنسلك جميع أمم الأرض، من أجل أنّ إبراهيم أصغى إلى صوتي وحفظ أوامري ووصاياي وفرائضي وشعائري« (آ2-5).

أقام القولُ الإلهيّ أيضًا علاقةً بين طاعة إبراهيم وتتمّة المواعيد. غير أنّها تتمّ هذه المرّة من أجل إسحق، وهذا أمر جديد. كان إسحق أوّل من نعِمَ »باستحقاقات« إبراهيم، وهذا ما يشكّل ضمانة لكلّ نسل أبي الآباء. وبصريح العبارة، يستطيع نسل إبراهيم الآتي أن يستند، شأنه شأن إسحق، إلى أمانة الله لمواعيده بالنظر إلى طاعة إبراهيم. فالخيانة (أو: اللاأمانة) الممكنة لدى الأجيال الآتية، لا يمكنها أن تهدّد ما حصل عليه أبو الآباء في موقفه الإيجابيّ من شريعة الله التي أصغى إليها وعمل بها.

عادت هذه الأقوال الإلهيّة مرّتين إلى خبر محنة إبراهيم، إلى ذبيحة إسحق (22: 1-14، 19). فإنّ 22: 18 يشير إلى الحدث الذي سبق بشكل مباشر (22: 1-14) حين برّر الملاك الوعد بهذه الكلمات: »لأنّك سمعت صوتي« (22: 18ب). وتظهر العبارة عينها أيضًا في 26: 5أ، في ألفاظ مشابهة، حين يوجِّه الله كلامه إلى إسحق ويعده بأن يُتمّ مواعيده »لأنّ إبراهيم سمع صوتي«. استعاد 26: 5أ نصّ 22: 18ب، فدلّ على أنّه يلمّح إلى 22: 1-14، 19.

وجاءت بقيّة الجملة في صيغة عامّة، لأنّها عادت إلى تصرّف إبراهيم تجاه جميع فرائض الله بدون تمييز: »حفظ أوامري ووصاياي وفرائضي وشرائعي« (26: 5ب). ولكن يبقى أنّ 22: 18ب و26: 5أ يشدّدان على البعد الفريد الذي اتّخذه تك 22 في تقليد الشعب اللاحق: بما أنّ إبراهيم تجاوز هذه المحنة، استطاع أبناؤه أن ينظروا إلى المستقبل بثقة، وهم متأكّدون أنّ الربّ يُتمّ مواعيدَه لهم.

ارتبطت هذه النصوص الثلاثة بعضها ببعض على أنّها تعود إلى ما بعد المنفى. وهي تعود إلى الأسلوب الاشتراعيّ. ونحن نستطيع أن نقتلعها من السياق الذي تقع فيه. فأيّ رباط مثلاً بين 18: 19 و18: 17-18؟ في آ17-18 كشف الله لأبي الآباء عن قصده في تدبير سدوم. فأيّة علاقة بين هذا القرار ومهمّة إبراهيم المقبلة في أنّ يعلّم نسله طريق الربّ (آ19)؟ تفترض آ18 وعدًا لامشروطًا. ولكنّه مشروط في آ19. وأخيرًا في آ19 يتكلّم يهوه عن نفسه في صيغة الغائب (ليُنجز الربّ) وكّأنّ آخر يتكلّم عنه. أمّا 22: 15-18 فهي إضافة ثانويّة على خبر محنة إبراهيم.

تلك هي نصوص متأخّرة (أي دوِّنت بعد المنفى) تؤكّد أنّ إبراهيم كان حافظًا أمينًا للشريعة، فسلِّم إليه مهمّة تعليمها. وهناك نصوص أخرى ترسمه وتبيّنه موافقًا لهذه الصورة. وهذا ما نتوقّف عنده.

ثانيًا: نصوص تصوِّر أمانة إبراهيم

هي نصوص تعلن أنّه أتمّ الشريعة في حياته اليوميّة. مثل هذه النصوص هي آخر ما دوِّن في ف 12-25. فصورة إبراهيم الأمين والطائع، إبراهيم الذي يحفظ الشريعة ويعلّمها أبناءه كلَّهم، تعود إلى ما بعد المنفى.

نقرأ في 18: 6 أنّ إبراهيم طلب من سارة أن تأخذ ثلاثة أكيال من الدقيق وتهيّئها فطيرًا لضيوفه. تتضمّن الآية لفظتين في العبريّة. والثانية تدلّ على الدقيق الذي يُستعمل في الطقوس حسب سفر اللاويّين وسفر العدد. فالكاتب الأخير أراد أن يبيّن أنّ إبراهيم راعى فرائض الطقوس حين هيّأ الطعام. وهذا مهمّ جدٌّا، ولا سيّما أنّ الربّ نفسه هو الذي تراءى لإبراهيم (رج 18: 1 و18: 2، 16، 22).

والخبر الطويل الذي يروي زواج إسحق (ف 24)، يدلّ بلا شكّ على أنّ إبراهيم أراد أن يراعي الفرائض التي تمنع الزواج بالغرباء، ولا سيّما بالكنعانيّين الذين يقيمون في الأرض. وهكذا حافظ على شرائع سفر التثنية وأوامر عزرا ونحميا، فبدا جدُّ العبرانيّين الحافظَ الأمين للشريعة.

ونضيف نصٌّا ثالثًا (تك 14: 18-20) فيه يرفع إبراهيم العشور لملكيصادق، ملك ساليم وكاهن الله العليّ. ساليم هي أورشليم، وملكيصادق يمثّل كهنوت هيكل أورشليم. أضيف 14: 18-20 على خبر الحملة العسكريّة واقتسام الأسلاب (18: 13-17، 21-24)، فجاء ملك سدوم إلى إبراهيم في آ17، ولكنّه لم يكلّمه إلاّ في آ21 التي تبدو التتمّة المنطقيّة للخبر. ثمّ إنّ هناك تناقضًا بين ما يقال في آ20 (أعطاه إبراهيم العشر) وما في آ22-23. إذا كان إبراهيم دفع لملكيصادق العشر ممّا معه، وبالتالي من الأسلاب، فهو لا يقدر أن يقول لملك سدوم: »ما أخذتُ شيئًا ممّا لك«.

تصرُّفُ إبراهيم في هذا النصّ (14: 20) نموذجٌ ومثال. فالخبر يدعو أبناء إبراهيم إلى الاقتداء بأبيهم فيخضعون لكهنوت أورشليم ويدفعون له العشور. مقابل هذا، على الكهنة أن »يباركوا« إبراهيم ونسله. مثلُ هذا النصّ له معناه، لأنّه يفترض أنّ إبراهيم وملكيصادق ليسا من شعب واحد. فربّما نكون هنا أمام أثر للجدالات في زمن المنفى وما بعد المنفى، تَقابلَ فيه »شعبُ الأرض« مع الكهنة الذين عادوا من بابل (رج حز 33: 24). ومهما يكن من أمر، يبدو تصرّف إبراهيم تجاه ملكيصادق في هذه الظروف المثالَ الذي يُقتدى به.

ونقرأ نصّين يقدّمان تعارضًا بين موقف إبراهيم وموقف إسرائيل في الصحراء. في 15: 6، يقابل إيمانُ إبراهيم لاإيمانَ الشعب في الصحراء. وفي 22: 1-14، 19، تجاوز إبراهيم المحنة التي أخضعه الله لها (22: 1، 12)، أمّا إسرائيل فلا. واللافت هو أنّ دورة إبراهيم تتضمّن موضوعين هامّين من لاهوت الأخبار حول إقامة إسرائيل في الصحراء، موضوع الإيمان وموضوع المحنة. يبدو هذان الموضوعان منعزلين في سفر التكوين، ولا يرِدان إلاّ في دورة إبراهيم.

نجد موضوع الإيمان في نصّ شهير، في 15: 6: »آمن بالربّ، فحُسب له ذلك برٌّا«. فالرباط بين هذا المقطع وسائر النصوص حول الإيمان، دُرس مرارًا. يكفي أن نذكّر أنّ أسفار موسى الخمسة (أو البنتاتوكُس) تُميّز في هذا المجال حقيقتين: قبل المجيء إلى الصحراء وبعد المجيء. الحقبة الأولى هي حقبة الإيمان، إيمان إبراهيم (15: 6) وإيمان الشعب (خر 4: 31؛ 14: 31). والحقبة الثانية هي حقبة اللاإيمان التي تقود إلى حكم على الجيل الذي خرج من مصر. أمّا إبراهيم فكان من الحقبة الأولى، وبدا شخصًا يمثّل الإيمان في عصره الذهبيّ.

إنّ تك 15، في تأليفه الحاليّ، متأخّر، فجاء بعد التقليد الكهنوتيّ. فهو يتضمّن تلميحات إلى نصوص أخرى. هذا يعني أنّه أخذ عنها. وهي تلميحات على المستوى الأدبيّ وعلى مستوى المضمون. فهناك كلام نبويّ (15: 1) وكلام عباديّ (15: 9) وإشارة إلى العهد (15: 18) وتلميحات إلى هجرة الآباء (15: 7)، إلى الإقامة في مصر في زمن الخروج (15: 13-16) إلى ظهور سيناء (15: 17-18) وإلى الدخول إلى أرض الموعد (15: 16). وهكذا تكون صورة إبراهيم المؤمن صورة متأخّرة في تاريخ التدوين الكتابيّ.

ولكنّنا لا نجد صورة واحدة لإبراهيم. كما نفهم أنّ الشعب العائد إلى أرضه من المنفى كان أكثر علمًا وأكثر غنى، ففرض فكره على الذين ظلّوا في فلسطين فتسمّوا »شعب الأرض«.

وهكذا نصل إلى ف 22 الذي يتضمّن الموضوع الثاني، موضوع المحنة، الذي دوِّن بعد العودة من المنفى. ولهذا أسباب: (1) موضوع المحنة (22: 21) لا يظهر قبل سفر التثنية. فمحنةُ فردٍ منعزل موضوعٌ نجده في نصوص مثل 2أخ 32: 31؛ مز 26: 2. (2) موضوع مخافة الله كطاعة في وقت تظهر فيه محنةٌ لا يفهمها الإنسان ولا تبرَّر على المستوى البشريّ، لا تجد ما يقابلها سوى مطلع سفر أيّوب. فالقرابة بين النصّين تمنعنا أن نجعل مسافة بين نصّ وآخر. (3) هناك قرابة بين تك 22: 2 و12: 1. هذا يعني أنّه إن كان 12: 1 متأخّرًا، فكذلك هو الأمر بالنسبة إلى 22: 2.

في هذا النصّ تجاوز إبراهيمُ المحنة التي أخضعه الربّ لها (22: 1). وإسرائيل، في ما بعد، سيخضع هو أيضًا للمحنة. وفي سفر القضاة بشكل خاصّ، نرى أنّ إسرائيل لم يتجاوز المحنة. فهذه المحنة توخّت أن تعرف هل يتبع إسرائيل شريعة الربّ. وجاء جواب واضحًا في 2مل 17: 7-23. أمّا تك 22 فدلّ في بداية تاريخ الشعب العبرانيّ، على أنّ إبراهيم استبق محن نسله، وأنّ نجاحه الذي اعترف به ملاك الربّ في 22: 12، ثمّ في 22: 15-18، هو عربون من أجل مستقبل الشعب كلّه.

وأخيرًا يقدِّم نصّ البداية (12: 1-4أ) إبراهيمَ كذلك الخاضع والطائع، الذي نفّذ حالاً أمر الله (12: 4أ). جاء النصّ في حقبة ما بعد المنفى، فدلّ على أنّ بداية مسيرة إبراهيم، كأب للشعب العبرانيّ، هي فعل طاعة. وفي عبارة أخرى صار إبراهيم أبا الشعب بواسطة الطاعة. وهكذا ارتبط الوعدُ بهذه الطاعة. »انطلقْ من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، وأنا أجعلك أمّة كبيرة وأباركك وأعظّم اسمك وتكون بركة«. ففي الأرض، يدلّ الله أنّ الوعد يتمّ. أطاع إبراهيم (انطلق أبرام كما قال له الربّ)، وانتظر القارئ أن يتحقّق الشقِّ الثاني من كلام الله الذي يصوِّر البركة الآتية. وهكذا يُبرز انفتاحُ النصّ طاعة إبراهيم ويجعلها كفالةً من أجل الشعب الذي هو أبوه.

ربّما لا تكون يدٌ واحدة دوَّنت هذه النصوص. ولكنّها تعود إلى حقبة واحدة. حقبة ما بعد المنفى والعودة إلى الأرض، كما تدلّ على الاتّجاه الواحد. وهي ما توخّت فقط أن تبيّن أنّ إبراهيم حفظ الشريعة بأمانة، بل أرادت أن تقول أيضًا: ثبّت إبراهيم، بأمانته وطاعته، مستقبلَ شعبه.

4- السياق التاريخيّ لدورة إبراهيم

وتبقى نقطة أخيرة نودّ أن نوضحها: من قرأ دورة إبراهيم (تك 12-25) بهذه الطريقة؟ ما هي الفئة التي تجد نفسها في هذا »الإبراهيم« الذي يحفظ الشريعة فيحصل على تتمّة المواعيد؟

إبراهيم هذا جاء من بلاد الرافدين (15: 7). ترك كلَّ شيء بناءً على نداء من الله، ومضى يقيم في أرض كنعان (12: 1-3). هناك عاش حسب فرائض الشريعة. وراعى متطلّبات العبادة (18: 6)، كما راعى تلك المتعلّقة بالزواجات المختلطة (تك 24). ودفع العُشر لملك أورشليم وكاهنها (ف 14). سمع صوت الله بشكل مثاليّ (12: 4أ)، حتّى ساعة طلب منه هذا الصوت أمرًا لم يستطع فهمه.

رسم هذه الصورةَ الكاتبُ الكهنوتيّ الذي رأى هو أيضًا إبراهيم آتيًا من بلاد الرافدين (11: 28-31). ورآه يُتمّ بأمانة ما يتعلّق بالختان (تك 17: 23-27). إذن، جاء إبراهيم من أرض بعيدة، ومارس الشريعة بأمانة. وجاءت إضافات لاحقة فكمّلت هذه الرسمة الأولى.

استعادت هذه الرسمة لوجه إبراهيم أمورًا عديدة ممّا عاشه الشعب العبرانيّ في المنفى. فالشرائع التي يعمل بها إبراهيم، عزيزة على قلب المنفيّين الذين عادوا إلى أورشليم وفرضوا نظرتهم على »شعب الأرض«. في زمن أوّل، تطلّعتْ هذه المجموعة إلى الخروج من مصر على أنّه الحدث المؤسِّس، لتبرّر متطلِّباتها. ولكن حين رأت معارضة »شعب الأرض«، أعادت تفسير صورة إبراهيم، فجعلت منه أوّل الحجّاج الآتين من بلاد الرافدين، وهو حجّ يشبه مسيرة العائدين من المنفى منذ سنة 538 ق.م. وهكذا انتزع أهلُ الجلاء من خصومهم برهانًا قويٌّا. فإبراهيم هو أبو المنفيّين العائدين قبل أن يكون أبا الذين ظلّوا في الأرض وما ذهبوا إلى المنفى.

النصّ الأوّل: حز 33: 24. أشار النبيّ حزقيال إلى جدال بين المنفيّين والذين ظلّوا في الأرض بعد دمار أورشليم سنة 587 ق.م. فكانت إليه كلمة الربّ: »يا ابن الإنسان، إنّ سكّان تلك الأخربة في أرض إسرائيل يتكلّمون قائلين: كان إبراهيم وحده وورث الأرض، ونحن كثيرون، ولنا أعطيت الأرض ميراثًا«. يفترض النصّ أنّ سكّان أورشليم أسّسوا حقّهم على مسيرة إبراهيم.

رفض النبيّ هذا القول، وعاد إلى الشريعة: »تأكلون على الدم، ترفعون عيونكم إلى أوثانكم القذرة، وتسفكون الدم. أفترثون الأرض؟ اعتمدتم على سيوفكم. النساء صنعن القبائح. ونجّس كلّ رجل امرأة قريبه. أفترثون الأرض« (حز 33: 26-27)؟ يرى هذا القول أنّ الحقّ بالأرض يرتبط بالحفاظ على الشريعة. وهكذا يعارض حز 33: 23-29 بشكل واضح، نظرتين متناقضتين إلى الحقّ بالأرض: أن يكون الواحد من نسل إبراهيم. وأن يحفظ الشريعة. عاد الباقون في الأرض إلى وجه إبراهيم تجاه المسبيّين إلى بابل. أمّا المنفيّون فعادوا إلى الشريعة، وبالتالي إلى وعد مشروط: إن حفظتم الشريعة تُعطَى لكم الأرض. نصّ واضح صريح.

ويعود أشعيا 51: 1-2 إلى المحيط عينه. من المؤكّد أنّ النبيّ وجّه كلامه إلى سكّان أورشليم (51: 3)، فرغب في إنعاش الأمل عندهم بمستقبل أفضل. لهذا، استعمل صورة إبراهيم وسارة اللذين كانا شعبيّين في هذا المحيط، في ذاك العصر. وبدت قرابة نصّ أشعيا من حز 33: 24 واضحة. قال: »اسمعوا لي يا من تطلبون البرّ، يا من تلتمسون الربّ: أنظروا إلى الصخر الذي نُحتّم منه، وإلى المقلع الذي منه اقتُلعتم. أنظروا إلى إبراهيم أبيكم وإلى سارة التي ولدتكم. كان وحيدًا حين دعوتُه وباركُته وكثّرته«. يقابل أش 51: 2، شأنه شأن حز 33: 24، بين الماضي والحاضر، بين إبراهيم الذي كان وحيدًا ونسله الكثير، فيكفي من أجل موضوعنا أن نلاحظ أنّ صورة إبراهيم وسارة ترتبط بالتقليد الشعبيّ في أورشليم.

وجاء أش 63: 16 أكثر وضوحًا في ما يتعلّق بالصراع الذي يقسم محتلّي الأرض وأعضاء الجلاء الذين عادوا ليقيموا في البلاد. هذا القول النبويّ يُنكر أن يكون إبراهيم أبا إسرائيل. وحده يهوه يستحقّ هذا اللقب. »فأنت أبونا (يا ربّ)، وإبراهيم لا يعرفنا، وإسرائيل (= يعقوب) لايعترف بنا. أنت يا ربُّ أبونا، منذ الأزل اسمُك فادينا«. ويعلن القول في ما بعد أنّ بداية تاريخ إسرائيل هي زمن الخروج، لا زمن الآباء.

إذا قابلنا بين أش 63: 16 وحز 33: 34 وأش 51: 2، نفهم أنّ خصوم النبيّ في 63: 16 هم سكّان الأرض الذين لم يذهبوا إلى المنفى. وبحث الشرّاح في »شعب الأرض« هذا المُحبَط الذي فيه توسّعت تقاليد الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، فبدا وجهُ إبراهيم ساطعًا وسط الملاّكين الكبار في أرض يهوذا، فأسند وبرّر (حسب حز 33: 24) مطالبات هذا الجزء من السكّان الذي (حسب عزرا ونحميا) عارض عودة المنفيّين وإقامتهم في البلاد.

أمّا في تك 12-25، فتجاوزنا هذه الحرب بين الفئتين. لم يعد إبراهيم موضوع انتقاد. بل صار أبًا لجميع الذين جاؤوا من بلاد الرافدين ليقيموا في البلاد. وهكذا أتمّ إبراهيم خروجًا قبل الخروج (تك 15: 7) من مصر. ثمّ صار مثالاً يُقتدى به لأنّه حافظٌ أمينٌ للشريعة، وهذا ما لم يكُنه »سكّان هذه الأخربة«، كما قال حزقيال. إذن، أعيد »رسمُ« وجه إبراهيم بالنظر إلى اهتمامات أهل الجلاء. »استُلب« إبراهيم من أهل الأرض وصار خصمًا لهم. فاختلف عنهم كلَّ الاختلاف: جاء من بلاد الرافدين وحفظَ الشريعة. أمّا هم فلا. إلاّ إذا كان شعب الأرض استطاع أن يحصل على بعض المنافع، فتوصّل إلى تسوية مع السلطات الدينيّة والدنيويّة في أورشليم.

وجهُ إبراهيم هذا، هو الذي يرسمه نح 9: 7-8. وهذا ما يؤكّد مرّة أخرى أنّه يجب أن ننتظر الحقبة الفارسيّة لنكتشف المحيط الذي فيه وَجد تك 12-25 الشكلَ الذي نعرفه له الآن. إنّ نح 9: 7-8 يشدّد بشكل خاصّ على عودة إبراهيم وأمانته: »أنت أيّها الربّ الإله، اخترتَ إبراهيم، وأخرجتَه من أور الكلدانيّين وجعلت اسمه إبراهيم. وجدتَ قلبه أمينًا أمامك، وقطعتَ معه عهدًا، ووعدت بأن تعطيه أرض الكنعانيّين... وتعطيها لنسله. وقد حقّقتَ وعدك لأنّك صادق«. صِدقُ إبراهيم صفة أبرزتْها النصوصُ المتأخّرة في تك 12-25. ومع نح 9 دخل إبراهيم في تاريخ إسرائيل، فشكّل فيه الحلقة الأولى المتينة. هذا هو إبراهيم الذي نجده منذ الآن في سفر التكوين.

خاتمة

وهكذا فهمنا من خلال قراءة النصوص، أنّ اختيار الأحداث وتنظيم المجموعة يخضع لعوامل لاهوتيّة وإيديولوجيّة. أعيدت قراءة النصوص القديمة حول إبراهيم لدى الكتّاب الكهنوتيّين، ثمّ في محيط الهيكل الثاني، بحيث صار أبو الشعب العبرانيّ المثالَ الذي يرفعه أهل الجلاء رايةً أمامهم. فالوجه التقليديّ الذي كان شعبيٌّا وسط الناس الذين ظلّوا في البلاد خلال منفى بابل، استعاده أهل الجلاء خلال الحقبة الفارسيّة وأعادوا رسمه بالنظر إلى مسلّماتهم اللاهوتيّة الخاصّة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM